فلم يهبط عقله إلى البلادة والغباء ولم يعل للنبوغ فضلا عن العبقرية، ولكن خدعه عن حقيقة نفسه طموحه للمجد وهيامه بالعبقرية، فضل ضلالا بعيدا، وزاد من أسباب تعاسته ما فطر عليه من حساسية مرهفة مضطربة، فقتلت فيه روح الصبر والمثابرة، والتأمل والتفكير، فصار دماغه وعاء لخليط من معارف شتى بدل من أن يكون رأسا مفكرا، ولا شك أن الأرق الذي مرض به نصف عام من حياته كان من جملة الأسباب التي عقم به عقله، وقد أشفى به على الجنون والموت، وسهر الليالي ذاهلا أو هاذيا، ثم أدركته رحمة الله فتعافى بعد يأس، ويرجع السبب المباشر لمرضه إلى تجربة خطيرة خاض غمارها غير حافل بعواقبها، ذلك أنه كان يؤمن بالسحر ولا يشك فيما يلقى على سمعه من أساطير، وعثر يوما بموظف قديم راسخ الاعتقاد في السحر والشياطين فأقبل عليه بشغف واهتمام، وبعد أن توطدت الصداقة بين الاثنين أعاره الرجل بعض كتب قديمة عن السحر وتحضير الشياطين ككتاب خاتم سليمان، والقمقم، ويا أسيادي. وطار بها الشاب سرورا وعدها أجل ما بلغته يداه من زبد العلم والحقيقة، وعكف عليها بحماس ويقين يحل رموزها ويفقه أسرارها، ويتحرق شوقا إلى وقت يتاح له فيه السيطرة على القوى الكونية والاستئثار بمفاتيح المعرفة والقوة والسلطان! أوشك أن يجن لهفة وأن يذوب هياما، متى يدين له عرش النفوذ اللانهائي فيأخذ ما يشاء، ويدع ما يشاء، ويعبث بمن يشاء، فيرفع ويخفض ويغني ويفقر ويحيي ويميت؟ ولكن لم تحتمل أعصابه الجهاد طويلا ولا قدر على قضاء الليالي الطوال مختليا بأرواح الشياطين، فاضطرب حبل أمنه وأرهقت أعصابه وصرعه الخوف والوهم، فتلقفه المرض وأوشك أن يسلمه للجنون أو الموت! ولم ير بدا من العدول عن سعيه والنزول عن أطماعه، فأعاد الكتب إلى صاحبها، ويئس من المجد للمرة الأخيرة بعد أن جرب جميع السبل والمسالك المفضية إليه، وجعل يتساءل في حزن بالغ: ماذا بي؟ هل حل في روح نجس ؟ لماذا أصرع دائما إذ لا يفصل بيني وبين ما أريد سوى ذراع؟! وسقط تحت أنقاض المحاولات الفاشلة والآمال الخائبة والأوهام الضائعة! واطرد مجرى الأيام وتقدم به العمر وشعوره العميق بالظلم لا يسكن ولا يهدأ، بل جعل يجد لألمه لذة غامضة، وكان يتوهم حدوث الظلم بداع وبغير داع ويتلقى ما يقضي به عليه من ألم ممتزج بتلك اللذة الخفية، وعسى أن يتساءل متحديا ساخرا: أليس جليلا أن ينهض العالم جميعه لمقاتلة إنسان فرد؟! .. أليس مما يطيب به الغرور أن يتوفر له ذلك التوفر الذي إن دل على شيء فعلى الحسد والخوف؟! بلى فقد قضى لحكمة سلفت أن يكون الشقاء نصيب العقول الفذة في هذه الدنيا!
وقد كان لالتذاذه بالألم هذا أثر في توجيه ميوله السياسية المتقلبة، فمال دائما إلى الحزب المغلوب على أمره بصرف النظر عن مبادئه السياسية، وسرعان ما يتمثل نفسه في موقف زعيمه يتلقى ما يتلقى من ضروب الاضطهاد والاعتداء وينوء بما ينوء به من ألوان التبعات والواجبات، يجد في هذا وذاك ألما لا حصر له ولذة لا شبهة فيها.
والواقع أن خلقه هذا لم يكن اتفاقا ولا تحت تأثير الإخفاق فحسب، ولكن له أصول بعيدة ترجع إلى عهد نشأته الأولى، حين كان الطفل الأول لوالديه، فدرج على الرعاية والحب والتدليل، ولكنه كان - كذلك - الطفل الذي ادخره حظه لكي ينهض بأعباء أسرة محطمة وهو دون العشرين، فلم تتلطف معه الدنيا فضلا عن أن تدلله .. ساعة واحدة! •••
لبث مستلقيا في الفراش دون أن يغمض له جفن، وجعل يقلب عينيه في سقف الحجرة وجدرانها وأرضها، وتساءل قلقا ترى هل تطيب له الحياة في هذا الحي العجيب؟! ونازعه الحنين إلى شارع قمر وحي السكاكيني والبيت القديم، وعلى أنه لم يفارقه كذلك، ذاك الشعور المشرق بالأمل الوضاء بالتطلع، ثم ملأت البيت حركة متصلة وأتاه صوتا أمه والخادم فأدرك أنهما يستأنفان نشاطهما لفرش الشقة وإعداد الحجرات، وتصاعدت إليه من الطريق ضجة مزعجة وضوضاء فظيعة، فأنكرها وأصغى إليها بانتباه فتبين له أنها أصوات أطفال يلعبون ويغنون، وكأنه ضاق برقاده ذرعا فنهض إلى النافذة المطلة على العمارات وفتحها وراح ينظر منها إلى الطريق، فرأى جماعات من الصبيان والبنات يملئون الطريق متصايحين متضاحكين وقد انقسموا فرقا، أكب كل فريق على رياضة، فبدا الطريق وكأنه ناد رياضي ساذج فهذه جماعة تلعب بالجديد وتلهب الأكف بالطرة، وهذه جماعة تلعب بالبلي، وتلك عصبة تحجل وتلك أخرى تتصارع، واقتعد الصغار الطوار يرقصون ويغنون ويصفقون. اضطربت الأرض وضج الجو وثار الغبار فأيقن أن لا قيلولة منذ اليوم! وسمع أناشيد عجيبة «يا عم يا جمال ...» و«يا أولاد حارتنا توت توت» و«الجبل ده عالي يا عمي» ... إلخ إلخ، فحار بين الدهشة والحنق والسرور! ثم تصاعد صوت جهوري أجش غليظ السرات يصيح كالرعد القاصف «ملعون أبو الدنيا!» وكرر صياحه بصوت منغوم على إيقاع كفين شديدتين! .. وكان الصوت صاعدا على الأرجح من دكان تحت النافذة مباشرة ولكن من داخلها فلم يستطع رؤية ذلك الذي يتغنى بسب الدنيا، ولكنه لم يتمالك نفسه فأغرق في الضحك حتى تورد وجهه الشاحب، واشرأب بعنقه النافذة فاستطاع أن يرى لافتة الدكان وقد نقش عليها بخط جميل «نونو الخطاط» .. ترى هل يكتب الرجل لوحات في سب الدنيا ويبيعها للمتذمرين والساخطين؟ .. ألا ما أجدر أن يبتاع منها ما يشفي غليله!
3
واختفى شعاع الشمس المنعكس على زجاج النافذة العليا من العمارات التي تواجه نافذته، فأدرك أن الشمس تغيب وراء قباب القاهرة المعزية بالجهة الخلفية، وصعد بصره إلى مئذنة الحسين السامقة تنطلق بجلال في غلالة من ظلال المغيب فهزت مشاعره وأيقظت قلبه، ثم ارتفق حافة النافذة يردد ناظريه ما بين أسطح الدكاكين التي تتوسط العمارات، والنوافذ والشرفات المطلة من واجهات المباني، والممرات المتقاطعة، رأى نوافذ مغلقة وأخرى شبه مفتوحة وشرفات تسعى فيها ربات البيوت يجمعن الغسيل أو يملأن القلل، وقد أوشك الطريق أن يخلو من الصبية كأنما أفزعها دنو الليل، وكان يرغب أن ينطلق إلى الخارج ليرى عن كثب مشاهد الحي الجديد، ويكتشف طرقاته ومسالكه، ولكن غلبه التعب على رغبته لما بذل من جهد في تنظيم مكتبته، هذا إلى تعوده لزوم البيت حتى ندر أن يفارقه بعد عودته من الوزارة، فأجل تنفيذ رغبته، وترك النافذة فتربع على شلتة - وهي جلسته المختارة إذا تهيأ للقراءة - واستخرج من المكتبة كتابا يقرأ فيه حتى يأزف ميعاد النوم.
وكان والده في تلك الأثناء يتربع على سجادة الصلاة والمصحف بين يديه يتلو ما تيسر منه في صوت مسموع، غير منتبه إلى أخطاء القراءة العديدة التي يتتابع عثوره بها، كان عاكف أفندي أحمد في الستين من عمره، وقد أرسل لحية بيضاء أكسبت وجهه النحيل وقارا، وفرض على نفسه عزلة قاسية عقب إحالته على المعاش وهو في أواسط العمر ومشرق الآمال وبدا كأنه كرس حياته للعبادة وتلاوة القرآن، ولم يكن يفارق البيت إلا فترات متباعدة للتريض المنفرد أو زيادة الأضرحة، وربما كان لعسره المالي - إذ لم يجاوز معاشه ستة جنيهات - الأثر الأول فيما اتخذ في حياته من نظام، ولكنه رضي أخيرا عن طيب خاطر بحياته وألفها، بل وأحبها أيضا شاكرا حامدا، وكانت أقسى أيام حياته وآلمها تلك التي أعقبت إحالته على المعاش، فقد انقطع مورد رزقه أو كاد، وتهددت الفاقة أسرته البائسة، وأجبر على اعتزال العمل والنشاط، وأقصي عن الوظيفة وجاهها، وهب كالمجنون للذود عن كيانه، فسعى واستشفع بكل شفيع، ولكن ذهبت مساعيه أدراج الرياح، قدم العريضة تلو العريضة، والالتماس وراء الالتماس دون جدوى أو رجاء، حتى علم أخيرا بالحقيقة المحزنة وهي أن باب الحكومة قد أغلق دونه إلى الأبد، وكان في الحقيقة طاهر اليد، إلا أنه ثبت إهماله وجاء تطاوله على المحققين فزاد الطين بلة، ثم لم يسكت بعد ذلك عن شكوى الظلم والظالمين، واستنزال اللعنات عليهم أجمعين، وراح تحت تأثير الغضب والحنق واليأس يتهكم بالحكومة والموظفين، ويقول إنه أحيل على المعاش لأنه أبى أن تمس كرامته، وأن الوظيفة أضيق من أن تتسع لإنسان يحترم نفسه، وبعد أن كان ينكر تطاوله على هيئة المحققين، جعل يفاخر به ويبالغ فيه، ولم يعد له حديث سواه، فصار ضحكة المتغامزين، وفقد عطف الصحاب والأقارب، وحافظ بادئ الأمر على صلته بالناس، فتردد على قهوة فيتا بغمرة يلاعب بعض الصحاب النرد، ولكن خلقه ساء بعد فاجعته، فأصبح ضيق الصدر سريع الغضب، فاحتد يوما على لاعب فانفجر الآخر هائجا وصاح به: «يا طريد الحكومة!» فلم تطأ قدمه قهوة بعد ذلك، وانزوى بعيدا عن الناس والدنيا، واختار العبادة ملاذا وسكنا، ولم يعد للماضي أثر في نفسه، وسارع بالشفاء إليه نهوض ابنه أحمد بأعباء الأسرة، وكان الابن قد ورث عن أبيه تبعته ومرضه!
على أنه لا ينبغي أن نهمل عاملا هاما في شفاء الأب، وهو الأم. حوت منذ البدء مزايا لا يستهان بها في حساب السعادة العائلية، فتمتعت بنصيب موفور من الحسن الذي رمقته القاهرة على أيام شبابها بعين الإكبار والإعجاب، وما زالت - وقد شارفت الخامسة والخمسين - على وسامة وقسامة، وولع بالصبغ والألوان، وذوق في الأزياء، وما زالت لحيمة جسمية، وإن اعتورها الاسترخاء، خبيرة بوصفات السمن والتجميل، مشهورة بخفة الروح والدعابة اللطيفة والنادرة الحلوة، لا تضاهيها امرأة في قدرتها على أن تألف وتؤلف، فكثرت صويحباتها، وتعددت البيوت التي تزورها وتستزيرها، واستقبلها النسوة والأوانس بالسرور والغبطة شأن أعضاء الأسرة، ولذلك لم تتأثر بالضائقة التي نزلت ببيتها، فلما انقبضت يد بعلها عنها انبسطت لها أيادي الصديقات الحبيبات بالهدايا، فحافظت على مستواها المعهود من الأناقة والتجميل، وكانت لها على زوجها دالة، فمسحت عن صدره الحزن بلطفها ودعابتها وتفاؤلها، وكانت تقول له ضاحكة: «لقد انتهيت يا عاكف أفندي من الحكومة، فافرغ لي!» أو تداعب لحيته قائلة: «من أجل الورد ينسقي العليق!» ولكن كان صدرها يضيق إذا رأت بعلها مكبا على القرآن، وبكرها عاكفا على مكتبه، فتصيح بهما: «هلا علمتماني القراءة لأجاور معكما؟!» ولشد ما أحنقها أحمد بإهماله نفسه، فكانت تروح على خديها كأنها تلطمهما وتهتف مؤنبة: «كبرت أمك وجعلت سمعتها كالطين! هاك الكواء فما لبذلتك مسترخية متقبضة؟! .. وهاك الحلاق فما لذقنك مخضرا؟! .. والدنيا بالأفراح حافلة، فما انزواؤك بين الكتب الصفراء؟! كيف تركت رأسك يصلع وقذالك يشيب؟! .. كبرتني .. كبرتني .. كبرتني! ..» فكان أحمد يبتسم إليها ساخرا ويغيظها قائلا: «الطمي كيف شئت ألست في الأربعين؟!» فيهولها التصريح بالحقيقة الفظيعة، وتنهره قائلة: «اخرس قطع لسانك الطويل .. هل رأت الدنيا قبل اليوم ابنا يدعى عمر أمه؟!»
ومع ذلك فلم تخل حياتها من الحزن، كانت مريضة، أو هكذا توهمت، ولكن لم يأس على مرضها أحد ممن حولها، وقد اقتنعت على مر السنين بأن عليها أسيادا، وبأن لا شفاء لها إلا بالزار، وطالما توسلت إلى بعلها ليسمح لها بإقامة حفلة زار، ولكن الرجل لم يصغ إلى توسلاتها، واستقبح أحمد الفكرة وإن لم يساوره شك في وجود العفاريت، وكان قريب عهد - وقتذاك - بالتجربة التي أوشكت أن تنتهي بجنونه، فيئست المرأة من استمالتهما، وقنعت بشهود حفلات الزار إذا اتفقت في بيوت الصديقات، حتى قال أحمد يوما متعجبا: «حقا إن أسرتنا ضحية الشيطان .. ألم يغر والدي بتحد لكلب حقير من الموظفين ففقد وظيفته؟! .. وألم يحضني على تعلم السحر فأشفيت على الجنون؟! وها هو ذا يركب أمي ويهيئ لها خرابنا!»
ولكن الله سلم فقد غلب مرح الست دولت - أم أحمد - على حزنها، كما غلبت الحناء على ومضات المشيب بمفرقها. •••
نامعلوم صفحہ