وابتعدا قليلا عن جماعة المتحدثين فرأيا في نهاية الجناح الآخر من المخبأ على يمين الداخل صاحبهما كمال خليل وأسرته! ورمى عاكف نحوه بناظريه باهتمام شديد فرأى سيدة مفرطة في السمن، والغلام محمد في بيجامة، والفتاة السمراء ذات العينين النجلاوين الساذجتين، رأى جهرة ما جعله الشوق يلتمسه خطأ في غير موضعه، وجاءت الحقيقة مطابقة لما سر باكتشافه منذ ساعات معدودات، ولم يسعه إدامة النظر فرد الطرف متمليا ممتلئا، ثم سمع أحمد راشد يقول بصوت خافت: كمال خليل وأسرته!
فسأله: أهذه الفتاة كريمته؟ - نعم، له محمد ونوال وفتاة كبرى متزوجة!
واختلس منها نظرات ليملأ عينيه من النظرة الساذجة تقطر خفة، وكانت ملتفة في معطف شتوي وقد أرسلت شعرها الأسود في ضفيرة غليظة، ومضت تتثاءب مرسلة نظرة ناعسة، ورآهما كمال خليل فأقبل نحوهما مبتسما ووقفوا معا يتحدثون، وأدرك عاكف أن إقبال الرجل عليهم لا بد ملفت أعين أسرته إليهم وأنه لا يبعد أن تتفحصه العينان النجلاوان - إن لم تكونا تفحصتاه بالفعل - في جلبابه الفضفاض، وطاقيته البيضاء، فتورد وجهه حياء وقلقا وتساءل ترى هل تذكره؟ .. ولم يطل المطال بوقوفهم معا فانطلقت صفارة الأمان ودبت في المخبأ حركة عامة شاملة، فحيا عاكف صاحبيه ومضى إلى والديه، وانتهره أبوه قائلا بحدة: أتتخلى عنا ساعة الضرب وتهرع نحونا عند الأمان!
فقالت أمه ضاحكة: الله معنا في جميع الأوقات.
واندسوا في التيار المتجه نحو الباب يسيرون في بطء شديد حتى ارتقوا السلم إلى الطريق، وعادوا إلى عماراتهم وقد أضاء الطرقات ما انبعث إليها من نور النوافذ. وصعدوا إلى شقتهم في جمع من السكان، عرف أحمد صوت كمال خليل بين أصواتهم، وسارع الرجل إلى فراشه يراود النوم كرة أخرى، ولكن فرقت بينهما طويلا صورة ذات العينين النجلاوين والنظرة الحلوة.
9
واقترب رمضان فلم يعد يفصل بين هلاله وبين الطلوع سوى أيام قلائل، ولكن رمضان لا يأتي على غرة أبدا، وتسبقه عادة أهبة تليق بمكانته المقدسة، ولم تغفل أم أحمد عن ذلك - وكانت في الواقع المسئولة الأولى عن جلال الشهر وجماله - فجعلت منه يوما حديث الأسرة قائلة: إنه شهر له حقوقه كما له واجباته، وكان قولها موجها لأحمد فأدرك مغزاه وقال مدافعا عن نفسه: رمضان له حقوقه ما في ذلك من شك، ولكن الحرب ضرورة قاسية جارت على جميع الحقوق!
فقالت الأم بلهجة دلت على عدم الارتياح: لا قطع الله لنا من عادة!
فاستيقظ بخله وقال بشيء من الحدة: ليمض رمضان كما مضى غيره من الشهور، وسنعوض ما فاتنا منه فيما يقبل من أيام السلم! - والنقل والكنافة والقطايف؟!
ووقعت هذه الأسماء من نفسه موقعا ساحرا - على استيائه - لا لاشتهائها فحسب، ولكن لما دعته من ذكريات الشهر المحبوب وعهود الصبا خاصة، بيد أن الذكريات الحنونة لم تغن عن حقيقة الغلاء الواقعة ولم تلطف من حدة حرصه. فقال بلهجة حازمة رغم تحرك الحنان في قلبه: لندع الكماليات في ظروفنا الحاضرة القاسية ولندع الله الكريم أن يعيننا على ضروريات الحياة.
نامعلوم صفحہ