أجل، ها هي السعادة، دسمة متينة ذات وزن وكينونة، راسخة كقوة مطلقة، ذائعة كالهواء، عنيفة كالشعلة، ساحرة كالشذا، خارقة للطبيعة فلا يمكن أن تدوم.
وآنس الآخر إلى تودده، فاستنام إليه، وقال: الحق أني أتصورك دائما إنسانا ذا طبيعة حادة عنيفة، من شأنها أن تشقي صاحبها، وأن يشقى بها. - حقا؟! - لا تعرف المهادنة ولا الحلول الوسطى، تعمل بأعصابك، بنخاع عظامك، تقاتل قتالا عنيفا؛ كأن أي مسألة إنما هي مسألة حياة أو موت! - أجل، هذا حق.
تقبل النقد ببساطة، بصدر واسع، انداحت موجته في محيط من السعادة لا محدود، وغالب ضحكة صافية بريئة، حتى غلبها أن يفسرها الآخر تفسيرا بعيدا عن بواعثها النقية، وتساءل: إذن، فأنت ترى أنه لا بد من قدر من التوازن أمام الأحداث؟ - طبعا، أذكر على سبيل المثال مناقشتك أول أمس عن العنصرية، إن رأينا فيها واحد، وهي جديرة بالحماس لحد الغضب، ولكن أي نوع من الغضب؟ غضب فكري، غضب تجريدي لدرجة ما، وليس الغضب الذي يزلزل الأعصاب، ويفسد الهضم، ويهبط بنبض القلب، أليس كذلك؟ - واضح ومفهوم.
وغالب ضحكة ثانية حتى غلبها، قلبه يأبى أن يفرط في قطرة واحدة من أفراحه. العنصرية .. فيتنام .. أنجولا .. فلسطين .. أي مشكلة .. عجزت جميعا عن اقتحام حصن السعادة الذي يطوق قلبه، لدى تذكر أي مشكلة يقهقه قلبه. إنه سعيد سعادة جبارة، مستهينة بكل تعاسة، باسمة لأي شقاء، تريد أن تضحك، أن ترقص، أن تغني، وأن توزع ضحكاتها ورقصاتها وأغنياتها على مشكلات العالم.
وضاق بحجرته في الجريدة، ولم يجد أي رغبة في العمل، عاف مجرد التفكير في يومياته، وعجز عجزا تاما عن استنزال عقله من معتصمه في ملكوت السعادة. وكيف يتأتى له أن يكتب عن غرق التروللي باس في النيل، وهو ثمل بهذه السعادة المخيفة؟ أجل، إنها لمخيفة، كيف لا وهي بلا سبب، عنيفة لدرجة الإنهاك، مشلة للإرادة، فضلا عن أنها ما زالت تصاحبه نصف نهار دون أن تخف حدتها درجة واحدة؟! ترك الأوراق بيضاء، وراح يقطع الحجرة ذهابا وإيابا وهو يضحك ويفرقع بأصابعه.
وساوره شيء من القلق، لم يغص القلق في أعماقه فيفسد سعادته، ولكنه تردد فوق سطح العقل كفكرة مجردة، وخطر له أن يستحضر مآسي حياته ليمتحن أثرها في سعادته؛ لعلها تعيده إلى توازنه أو تطمئنه في الأقل إلى أن سعادته قابلة للفتور. تذكر على سبيل المثال وفاة زوجه، بكافة ظروفها وملابساتها، فماذا حدث؟ تراءى له الحدث سلسلة من الحركات بلا معنى ولا تأثير؛ كأنه حدث امرأة أخرى، زوج رجل آخر، وقع في عصر من عصور التاريخ البعيدة، بل لم يخل من أثر سار، داع للابتسام، بل مثير للضحك، وما تمالك أن ضحك، وإذا به يقهقه ها .. ها .. ها.
تكرر ذلك، وهو يتذكر أول خطاب جاءه من ابنه معلنا عن رغبته في الهجرة إلى كندا، أما عن قهقهاته وهو يستعرض مآسي العالم الدامية، فلولا سمك جدران حجرته، لجذبت إليه العاملين في الجريدة والسائرين في الطريق. لم ينل شيء من مناعة سعادته. لاطمته ذكريات الأحزان كما تلاطم أمواج البحر المستلقي فوق رمال الشاطئ تحت الشعاع الذهبي، وغادر الجريدة دون أن يكتب كلمة، معتذرا في ذات الوقت من عدم حضور مجلس الإدراة. وهجع إلى فراشه - كالعادة - عقب الغداء، ولكنه لم ينم، بل شعر أن النوم مستحيل، ليس ثمة ما يبشر باقترابه ولو على مهل، إنه يثوي في مقام مشتعل متوهج يضج باليقظة والأفراح، لا بد له من هدوء وسكينة وشيء من فتور الحواس والأعضاء، وأين منه ذلك؟ وضاق بالرقاد فغادر فراشه وراح يدندن وهو يتمشى في مسكنه، وقال لنفسه إنه إذا استمرت هذه الحال، فسيتعذر عليه النوم كما تعذر عليه العمل أو الحزن. وأزف موعد ذهابه إلى النادي، ولكنه رغب عن لقاء أي صاحب. ماذا يعني تبادل الرأي في الأمور العامة والهموم الشخصية؟! وكيف يكون الرأي فيه إذا وجدوه يضحك من كل كبيرة وصغيرة؟ ماذا يقولون؟ كيف يتصورون الأمر؟ كيف يفسرونه؟ كلا، لا حاجة به إلى أحد، ولا رغبة عنده للسمر، عليه أن يخلو إلى نفسه، أن يمشي طويلا ليتخلص من بعض فائض حيويته، وأن يفكر في أمره، ماذا حل به، كيف دهمته هذه السعادة العجيبة، وحتى متى يحملها فوق كتفيه، وهل تصر طويلا على حرمانه من عمله وأصحابه ونومه وراحة باله؟! هل يستسلم لها؟ هل يترك نفسه للتيار يعبث به كيف شاء هواه؟ أو أن عليه أن يلتمس لنفسه مخرجا، بالفكر أو بالعمل أو بالمشورة؟ •••
وقد شعر بالحرج وهو يدعى إلى حجرة الكشف بعيادة صديقه الباطني الكبير، وشمله الطبيب بنظرة باسمة، ثم قال: لا يبدو عليك أنك تشكو المرض؟!
فقال له بصوت متردد: لقد جئتك لا لأني مريض، ولكن لأنني سعيد!
فنظر في أعماق عينيه متسائلا، فقال مؤكدا: أجل، لأنني سعيد!
نامعلوم صفحہ