فقال وهو يهز رأسه: كنت تتعامل مع تفاصيل الحياة، وآن لك أن تتعامل مع خلاصتها. - الحق أني وجدت نفسي لا شيء! - هكذا تكلمت يوما عن الشباب. - لم يعد أحد معي إلا المدام، ولولا الشعور بالواجب ما زارني أحد من الأبناء! - اهتم بأمر واحد، هو كيف تستمتع بالحياة بعد الستين. - وهل بقي من الحياة شيء؟ - الحياة القديمة انتهت، أما الجديدة فلم تبدأ بعد .
فقلت واجما: أصاب أحيانا بالدوار، فيخيل إلي أن كل شيء لا شيء. - صحتك حسنة، ولك أصدقاء، والحياة في البلد لم تعد تسير على وتيرة واحدة. - في أعماقنا حزن دفين، ينتهز الفرص غير المواتية؛ ليطفو فوق السطح. - ولكنه لا يستطيع أن يمحو أفراح الحياة الماضية والراهنة. - المسألة أن لسانك لا ينطق إلا بالشهد. - ما زال أمامنا أيام كثيرة للقاء والحديث وتبادل المودة. - لتكن مشيئة الله. - وزر من جديد حديقة الحيوان والأسماك والآثار .. خذ.
وملأ الكأس فعجبت أي كنز هو فاسيليادس!
ويوما، وأنا أتأهب لاستقبال شهر رمضان، هاجمني مرض الكلى، وعادني الأبناء، وعادني الأصدقاء فتسلينا بأحاديث الأمراض والسياسة. وذات صباح، جاءت زوجتي لتخبرني بأن «خواجا» يرغب في مقابلتي، وما هي إلا دقيقة حتى كان فاسيليادس يعانقني بحرارة وشاربه الكث ينهش فمي وخدي. رأيته بالبدلة الكاملة والقبعة لأول مرة، وقال ضاحكا: ما أوحش البار من غير ضحكتك!
فقلت وأنا أتحسس أسفل الظهر: المغص! أجارك الله يا فاسيليادس. - دعابة سخيفة، ولا بد أن تنتهي، وأعترف لك أن فاسيليادس لا يساوي شيئا بدونك. - وماذا أساوي أنا بدونك يا عزيزي؟ - ومتى ترجع لنا؟ - ربما في نهاية الأسبوع، أين الشباب أين؟ - قلت إنها دعابة سخيفة، ثم نواصل حياتنا الطيبة.
الحق أن زيارته أنعشت روحي أكثر من الأبناء أنفسهم، وليلة عدت إلى «أفريقيا» تعانقنا أمام الجميع، ورفعت الكأس وأنا أقول: في صحة فاسيليادس، رمز الحب والوفاء.
وقصصت عليه حلما زارني فيه الموت، فقال: لا تصدق، الموت لا يجيء إلا مرة واحدة، وإذا جاء أعقبته سعادة كبرى. - ها أنت تتحدث عما وراء الموت.
فقال بثقة: من أين أتيت؟ ألا يشبه الظلام الذي أتيت منه الظلام الذي ستذهب إليه بعد عمر طويل؟ وقد أمكن أن خرج من الظلام الأول حياة، فما يمنع من أن تستمر الحياة في الظلام الثاني؟!
فصحت وأنا ثمل: برافو فاسيليادس .. يا صوت القديسين.
وقمت بجولة طويلة بين الحدائق والآثار، وجلست في الخلوات تحت أشعة الشمس المشرقة، ولكن شيئا لم يمنع الواقعة، وغبت عن الوجود زمنا لم أدره، ولما عدت إلى الوعي، وجدتني ممددا فوق الفراش كميت، وخطر لي أنها النهاية، ولكن تعلقي بالحياة لم يهن، وقال صديق من العواد: فاسيليادس يبلغك تحياته.
نامعلوم صفحہ