لم يسق مجاعة توجعه لقومه ولا استهواه حب الانتقام فطاش حتى يدع بني جلدته يلقون أنفسهم في مهاوي الهلاك؛ بل كان مخلصا في قضيته، وعمد مجاعة إلى الحيلة الواسعة فصان بقية قومه من أشراك الهلاك، وخفف عنهم وطأة الانكسار الهائل، فكان في تلك السياسة مصلحة بني حنيفة.
المنقبة الثالثة: العصبية القومية
كان سلمة بن عمير يشجع الناس على المقاومة، وقد رأى من الذل أن يتحكم المسلمون في بني قومه بعد أن قاتلوا قتال الأبطال منعا لحوزتهم، ودفاعا عن نسائهم. وكان يرى الموت ولا يرى النساء تستردف غير رضيات، وينكحن غير حظيات، وقد قتل مسيلمة وابنه شرحبيل وصرع محكم اليمامة بن طفيل.
أبعد كل هذا يرضى بالهوان؟ بل الموت أهون دون التسليم بالشروط التي يشترطها خالد، فيصرخ في أصحابه: «قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء.» ثم يعود فيشجعهم على المقاومة قائلا: «فإن الحصن حصين والطعام كثير، وقد حضر الشتاء.» لقد قارن بنو حنيفة بين ما قاله سلمة وما قاله مجاعة، ورأوا أن لا قبل لهم بالمسلمين، فلم يروا بدا من التسليم بشروط الصلح، ولا سيما أن مجاعة دبر الحيلة ليموه على المسلمين بقوة الحنفيين للدفاع ويخفف من وطأة الصلح، فلم يحفل سلمة بكل ذلك؛ بل أضمر سوءا لخالد ولم يحتمل إهانة الغلبة لقومه فأجمع على أن يفتك به. ولما حشر بنو حنيفة إلى البيعة والبراءة طلب سلمة من مجاعة أن يستأذن له في الدخول على خالد ليكلمه في حاجة له، فأقبل سلمة مع بني قومه مخبئا سيفه تحت العباءة، فلما رآه خالد لم يقبله، ولعله كان يعلم كرهه له فأخرجوه عنه وفتشوه، فوجدوا معه السيف؛ فثار ثائر الحنفيين فأخذوا في سبه ولعنه صارخين في وجهه: أتريد أن تهلك قومك وتستأصل بني حنيفة وتسبي الذرية والنساء؟ فأوثقوه ووضعوه في الحصن ، غير أن سلمة أقسم أن يثأر لبني قومه؛ لذلك يعاهدهم على ألا يحدث حدثا فيعفون عنه، فلم يصدقوه ولم يقبلوا منه عهدا. أعيته الحيلة ولم ير بدا من الإفلات ليفتك بخالد مهما كلفه الأمر.
فيهرب من الحصن ليلا ويعمد إلى معسكر خالد ويصيح في وجه الحرس فيفزع بنو حنيفة فيتبعونه حتى يدركوه في إحدى الحدائق المسورة، فيقاومهم بالسيف فيكتنفونه بالحجارة، فيرى أن جميع الأبواب موصدة في وجهه، وأنه غير قاتل خالدا، فالأولى أن ينتحر ولا يرى المسلمين يسبون الذراري فيضرب نفسه بالسيف ويسقط في البئر فيموت. (38) مبادئ خالد الحربية
تنم الحركات التي قام بها خالد في قتاله أهل الردة على المبادئ الحربية التي نهجها، وفي هذه المبادئ أسس لا تختلف كثيرا عن الأسس التي اتخذها القواد العظام وأصبحت من المبادئ الحربية الخالدة، نذكر فيما يلي بعض تلك الأسس:
أولا: التوفيق بين القيادة والسياسة:
يبدو لنا من الخطط التي وضعها خالد للحركات على طليحة بن خويلد ومسيلمة الكذاب والتدابير التي اتخذها بعد الانتصار، أن خالدا من القواد الذين وفقوا دائما بين القيادة والسياسة، وأصبح هذا الاسم في عصرنا من أخطر عوامل الظفر، ويقينا أن من أكبر العوامل التي حالت دون استثمار الانتصارات الباهرة التي أحرزها نابليون في حروبه على الحلفاء عدم توفيقه بين السياسة والقيادة، وكذلك من العوامل التي أدت إلى خيبة الألمان في الحرب العامة، نظر قادتهم إلى الأمور من الوجهة الحربية فقط وعدم توفيقهم بين السياسة والقيادة.
فنرى خالد بن الوليد في الخطة التي وضعها للحركات على طليحة بن خويلد أنه وفق بين السياسة والقيادة، فلم يقدم جيشه إلى بزاخة إلا بعد أن مهد له سبيل الانتصار بجلب قبائل طيء إلى جانبه وفصل الفرقتين؛ جديلة وغوث عن بني أسد، والاستفادة فعلا من القوة التي أمدت قبائل طيء بها جيش المسلمين.
وبعد انتصاره في بزاخة نراه يفرض على القبائل تقديم عدد معين من السلاح، وفي ذلك تعزيز لجيشه وإضعاف لشأن خصمه.
نامعلوم صفحہ