وإزاء هذه الجهود المتضافرة والأمثلة المشجعة تمكن المسلمون من أن يزحزحوا الأعداء من مكانهم حتى أزاحوهم تماما، فأخذوا يطاردونهم، وفي مثل هذا الحين أخذ محكم بن الطفيل المدعو بمحكم اليمامة يشجع بني حنيفة مناديا: «يا معشر بني حنيفة، الآن والله تستحقب الكرائم غير رضيات، وينكحن غير حصينات، فما عندكم من حسب فأخرجوه.» فقاتل قتالا شديدا.
أما أهل اليمامة فلما رأوا المسلمين يركبونهم صرخوا في وجه مسيلمة قائلين له: «أين ما كنت تعدنا؟» فأجابهم قائلا: «قاتلوا عن أحسابكم.» ولما رأى المحكم أن الدائرة دارت على بني حنيفة صاح فيهم: الحديقة الحديقة! يريد بذلك أن يتحصنوا فيها ويقاوموا المسلمين، فانسحبوا إلى الحديقة واعتصموا بها. ويظهر أن المحكم لم يتمكن من الوصول إليها؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر رماه بسهم فقتله.
الصفحة الثالثة
جرى القتال في هذه الصفحة حول الحديقة، والحديقة تشمل بساتين القرية المسورة بالجدران، وهذه البساتين كثيرة في قرى اليمامة والكثير من قرى العارض والوشم والقصيم والسدير له بساتين، فبساتين القرية على ما يتراءى لنا واقعة في بطن الوادي، ولا يعقل أن تكون على صدفة لصعوبة استقاء الماء لإروائها؛ لأن الآبار على ما نعلم في بطن الوادي تتصرف إليها الأمطار.
ويذكر المستر فلبي عندما يبحث في الجبيلة أنها واقعة على الضفة اليمنى من الوادي، وأن قبور الصحابة الذين قتلوا في عقرباء موجودة في الضفة المقابلة لقرية الجبيلة، وعلى مسافة ربع ميل منها، وهذا مما يدل على أن الحديقة واقعة في الوادي تحيط بها الجدران المبنية بالحجر والطين وعلوها أكثر من قامة، كما هو شأن الجدران التي تحيط بالبساتين عندنا.
ولبى الحنفيون نداء المحكم فهجروا ميدان القتال تاركين قتلاهم فيه لدخول الحديقة واعتصموا بها مؤملين المقاومة فيها، وطارد المسلمون بني حنيفة إلى الحديقة فأحاطوا بها وتوقفوا مدة من الزمن مترددين، وكان التجاء الحنفيين إلى الحديقة وبالا عليهم.
ويظهر من أخبار الرواة أن مسيلمة قتل في أثناء الهزيمة إلى الحديقة برمية حربة. وقد ادعى عدة أناس قتله، وكل فرقة من فرق المسلمين أرادت الاشتراك في قتله. وكان للحديقة باب أغلقه المنهزمون بعد أن دخلوها وقرروا المقاومة فيها إلى اللحظة الأخيرة.
وبعد أن تريث المسلمون ردحا من الزمن، مترددين فيما يفعلون صرخ فيهم البراء بن مالك قائلا: «احملوني على الجدار حتى تطرحوني عليه.» فساعدوه على التسلق، ومع أن رواية ابن إسحاق تزعم أن البراء وحده تسلق الجدار فاقتحم الحديقة فقاتل الحنفيين على الباب حتى فتحه للمسلمين، إلا أننا نجزم أن رجالا آخرين تسلقوا معه الجدار، وكان بعضهم على الباب، وبعد أن دخل المسلمون الحديقة أوقعوا بالحنفيين إيقاعا ذريعا، وكانت مذبحة لم يشهد المسلمون مثلها، وقد سموها حديقة الموت، ومع أن روايات الطبري جميعا تروي أن المسلمين قتلوا جميع الحنفيين في الحديقة، إلا أن رواية ينقلها ابن حبيش تزعم أن بعض الحنفيين فر من الحديقة بعد أن دخلها المسلمون.
وفي رواية يذكرها ابن حبيش والبلاذري أن نساء المسلمين أيضا اشتركن في المعركة، ولقد كسب المسلمون المعركة بعد أن حاربوا من الصباح إلى العصر، ولم يعلموا بهول المصيبة إلا بعد أن توقفت رحى القتال وراحوا يكشفون عن القتلى في الميدان.
وفي رواية عن أبي سعيد الخدري الذي اشترك في القتال أن خالدا أمر السقاة بعد صلاة العصر أن يسقوا الجرحى، وكان أبو عقيل بين الجرحى فيه خمسة عشر جرحا، أما بشر بن عبد الله فكانت أمعاؤه خارجة من بطنه، وكل هذا يدل على شدة القتال! (34) الخسائر
نامعلوم صفحہ