في رواية نقلها ابن حبيش أن خالدا لما تثبت من عسكرة جيش مسيلمة في عقرباء شاور أصحابه في الأمر، فأشاروا عليه جميعهم أن يتقدم نحو عقرباء، وكانت الأخبار تنم على أن طليعة الحنفيين يقودها الرحال، وهو من رؤساء بني حذيفة، فتقدم خالد حينئذ بجيشه نحو العدو، فجعل أبا حذيفة على الميمنة، وشجاع بن وهب على الميسرة، وكان زيد بن الخطاب يحمل راية المهاجرين، وثابت بن قيس يحمل راية الأنصار، وعزل خالد بر بن مالك من قيادة الخيالة، وأحل محله أسامة بن زيد.
أما جيش مسيلمة فكان موليا وجهه شطر الشمال الغربي ومترقبا في سهل عقرباء بين جبل صلوخ ووادي حنيفة، فيستدل من ذلك على أن الأرض كانت صالحة لاتخاذ نظام القتال ولحركة الخيالة، وتنم الروايات على أن ريحا جنوبية مغبرة هبت في وجه المسلمين وزحزحتهم عن مكانهم في القتال؛ أي إن جبهة المسلمين كانت موجهة نحو الجنوب الشرقي، ويظهر أن قوة الرحال انسحبت لما رأت المسلمين قادمين نحوها، وكان جيش مسيلمة مرتبا على الأسلوب الشائع ومنقسما إلى ثلاثة أقسام: الميمنة والميسرة والقلب، ولم يكن الضعن خلفه؛ لأن قرى بني حنيفة كانت في الخلف على ما نعلم.
وكان محكم بن طفيل، وهو من أجل رؤساء بني حنيفة شأنا، على الميمنة والرحال على الميسرة وشرحبيل بن مسيلمة يقود القلب، فكان مسيلمة وراء القلب يراقب مجرى القتال.
وبعد أن قضى المسلمون ليلتهم في عقبة الحيسية - أي ثنية اليمامة - واستوثق خالد من أمر مجاعة، تحرك الجيش صباحا، وكانت الشقة بينه وبين عقرباء مسير يوم، وفي رواية نقلها الطبري أن الموقع الذي باغت المسلمون فيه مجاعة بن مرارة يبعد عن عسكر مسيلمة مسير ليلة، والحقيقة أن المسافة بين العقبة وعقرباء لا تزيد على خمسة وعشرين ميلا؛ أي مسير يوم في ذلك الزمن.
والظاهر أن خالدا قضى ليلته التي سبقت يوم المعركة قريبا من جيش مسيلمة؛ لأن المعركة بدأت صباحا، واستمرت إلى العصر، وكان الموقع الذي اختاره كثيبا مشرفا على اليمامة كما ينقله الطبري.
وسبق أن رأينا من وصف فلبي لرابية الأبكين أنها تشرف على وادي حنيفة وتتسلط على الأرض الممتدة إلى الجنوب، فالأرض في الشمال تتسلط على الأرض في الجنوب، وكان لوضع الأرض على هذه الصورة فائدة لجيش المسلمين.
وليس لدينا معلومات عن تعبئة المسلمين في ميدان القتال، وتدل الأخبار على أن أبا حذيفة كان يقود الميمنة، وشجاعا الميسرة، ويزيد بن الخطاب القلب، وأسامة بن زيد الخيالة. فهل كان كل من المهاجرين والأنصار على مجنبة من المجنبتين، وكانت القبائل في القلب؟ أو أن المهاجرين والأنصار كانوا في القلب، وكانت القبائل في المجنبتين ؟ أو أن المهاجرين كانوا في القلب مع قبائل الحجاز، وكان الأنصار على إحدى المجنبتين وكانت قبائل البادية في المجنبة الأخرى؟
هذه أسئلة تصعب الإجابة عنها، والواضح من مجرى القتال أن إحدى المجنبتين (ولعلها الميسرة) انهزمت فتلاها القلب، ووصل إلى الخيام في الضعن، وأن أهل القرى - المهاجرين والأنصار وأهل الحجاز - عزوا هذه الهزيمة التي كادت تقضي على المسلمين إلى أهل البادية. فلنا من ذلك أن أهل البادية كانوا في الميسرة، وكان المهاجرون مع بعض قبائل الحي في الميمنة، والأنصار مع البعض الآخر من قبائل الحجاز في القلب، ويظهر أن الخيالة كانت في الأمام، فانسحبت إلى الميسرة لتراقب الوادي، وكان الضعن وراء القلب وفيه الخيام والنساء، ووقف خالد بن الوليد وراء القلب يراقب سير القتال. (33) صفحات القتال
نشبت المعركة صباحا واستمرت إلى العصر، فبذل الفريقان قصاراهما لتغلب أحدهما على الآخر، واقتتلا اقتتالا شديدا، وكما يقول الطبري: كانت حربا لم يلق المسلمون مثلها قط.
وجرى القتال في ثلاث صفحات: تغلب الحنفيون في الصفحة الأولى على المسلمين وأزاحوهم إلى الضعن وكادوا ينتصرون عليهم، وفي الصفحة الثانية كر المسلمون راجعين فتغلبوا على أعدائهم فأزاحوهم من المحل الذي وصلوا إليه، وبعد أن تضافرت جهودهم استطاعوا أن يهزموا الحنفيين، وفي الصفحة الثالثة اعتصم الحنفيون في الحديقة فحاصرها المسلمون من كل صوب ودخلوها عنوة وقضوا على البقية الباقية من الحنفيين.
نامعلوم صفحہ