إنهم لا يوفرون لي الطعام ولا الشراب، ولا يقدمون أي تعزية فكرية أو روحية ... فالتوجهات المحافظة لا تؤدي إلى أي شيء؛ فهي لا تحقق أي مثل، ولا تتفق مع أي معيار فكري، وليست حتى آمنة أو حذرة بحيث يمكنها حماية ما وصلنا إليه من الحضارة مما قد يفسدها.
كان حزب المحافظين بالنسبة لجيل كينز من الليبراليين عدوا تاريخيا، وظل كذلك طوال سنوات ما بين الحربين رغم «سمو أخلاق» ستانلي بولدوين؛ فقد اعتبروا الحزب حزب الحماقة والخرافات والتحيز؛ حزب الحماية الاقتصادية والوطنية الجوفاء. وكان المحافظون أنصار القواعد الأخلاقية الرجعية التي ثار عليها جيل كينز. أدرج كينز ضمن أجندة الليبرالية «تحديد النسل واستخدام وسائل منع الحمل وقوانين الزواج ومواجهة الجرائم والتشوهات الجنسية والوضع الاقتصادي للمرأة والأسرة ... وقضايا المخدرات.» واتخذ المحافظون - على الأقل في العلن - من كل تلك القضايا التي كانت ذات أهمية خاصة لجماعتي بلومزبيري وهامبستيد موقفا طالما وصفه كينز بأنه متخلف يرجع للعصور الوسطى.
أرجع كينز حماقة التوجهات المحافظة لارتباطها بمبدأ التوريث. وفسر هذا أيضا عدم كفاءة العديد من الشركات البريطانية؛ فقد سيطر أفراد من الجيل الثالث على الرأسمالية البريطانية. واختفى احترام كينز الذي أظهره في البداية لقائد المحافظين ستانلي بولدوين سريعا؛ حيث كتب في عام 1925: «كنت أشعر في البداية أن السيد بولدوين لا يمكن ألا يكون بارعا. لكنه عندما وجدته دائما يستسلم لعواطفه ويتصرف بحماقة، زال هذا الشعور.» لكنه قال عنه في عام 1936 إنه «نموذج لرجل الدولة الذي يمكنه وضع نظام اشتراكي معدل إن سمح له حزبه بذلك.»
إذا كان حزب المحافظين هو الحزب الأحمق، فقد كان حزب العمال هو الحزب السخيف. لكن كانت معظم توجهاته على الأقل على الطريق الصحيح. وكان ما يحتاجه حزب العمال - حسبما أوضح كثيرا كينز - هو محركا يقوده نحو برنامج لإصلاح الليبرالية. انشغل كينز في معظم كتاباته السياسية بحوار مع ليبرالية حزب العمال. وتخلل ذلك أحيانا استخدام لغة شديدة الالتباس؛ حيث حاول أن يفصل موقفه عن موقف الاشتراكية، وأن يؤكد في الوقت ذاته على التوافق بين مجموعة من الطموحات الليبرالية والاشتراكية. ويجعل ذلك الالتباس - الذي بدا أن كينز رآه جزءا ضروريا من جهوده الإقناعية - من الصعب معرفة مدى استعداد كينز لأن يسلك طريق الاشتراكية. ولم يضطر كينز خلال حياته للاختيار الذي واجه الكثيرين في سبعينيات القرن العشرين.
رفض كينز بشكل قاطع الاشتراكية باعتبارها علاجا «اقتصاديا» لمشكلات الرأسمالية. وطالما قال إن الاقتصاديين الكلاسيكيين والاشتراكيين يؤمنون بقوانين الاقتصاد نفسها. لكن في الوقت الذي اعتبرها الفريق الأول صائبة وحتمية، رآها الفريق الثاني صائبة ولا يمكن تحملها. وحاول كينز أن يثبت خطأ تلك القوانين. وأضاف أن مجرد فكرة تحول الرأسمالية نحو الاشتراكية تجعل الملكية العامة غير ضرورية.
عارض كينز الجانب الثوري للاشتراكية. وأدرك أن السواد الأعظم من أعضاء حزب العمال لم يكونوا «بلشفيين يعقوبيين شيوعيين»، لكنه رأى أن مكر تلك المجموعات وحقدها أثر في الحزب بالكامل؛ حيث تم الجمع بين الخبيث «وما هو مثالي من أجل بناء جمهورية اشتراكية حقيقية.» وقال كينز في إحدى المناظرات مع الاشتراكي الاسكتلندي توماس جونستون عام 1929، إن حزب العمال يجب أن «يظهر بمظهر المعارض لكل من هو أكثر نجاحا أو مهارة أو اجتهادا أو أكثر نجاحا من المتوسط ... وذلك قمة الظلم والحمق؛ فهذا يدمر ما يجب أن يكون دائما هو القطاع الأقوى من المجتمع ويلقي به في المعسكر الرجعي.»
عارض كينز صراحة الأساس الطبقي الذي تقوم عليه السياسة الاشتراكية. وقال في إحدى ملاحظاته الأكثر اقتباسا: «حزب العمال هو حزب طبقي تختلف طبقته عن طبقتي. وإن سعيت يوما لتحقيق مصالح فئوية، فعلي أن أسعى لتحقيق مصالحي ... من الممكن أن أتأثر بما قد يبدو عدلا وحسن تقدير، لكن في «الحرب الطبقية» سأكون في جانب الطبقة البرجوازية «المستنيرة».» فقد كان من أنصار المساواة برفع مستويات الطبقات الدنيا، لا بخفض مستويات الطبقات العليا. وقال: «أريد أن أشجع كل الجهود والقدرات والشجاعة والشخصيات الاستثنائية. ولا أريد أن أستعدي كل ما هو ناجح واستثنائي.»
وأخيرا رفض كينز معارضة حزب العمال للنخبوية. وشعر بأن العناصر المفكرة في حزب العمال «لن تكون لديها أبدا السلطة الكافية، وسيتخذ من لا يفقهون شيئا على الإطلاق عما يتحدثون بشأنه جل القرارات.» كان المحافظون أفضل حالا في هذا الجانب؛ حيث إن «الدائرة الداخلية في الحزب يمكنها أن تحدد تفاصيل سياسة الحزب وآلياتها.» آمن كينز - كما تبين كتاباته الأولى - بحكم الطبقة الأفلاطونية الحارسة التي تقيدها - ولا تهيمن عليها - الديمقراطية.
أعجب كينز بثلاثة أشياء في الاشتراكية، هي: شغفها بالعدالة، ومثل الخدمة العامة الفابية، ومثاليتها المبنية على إلغاء دافع الربح. وكان لدى كينز مدينته الفاضلة كذلك، وهي ما ألهم أعماله في الاقتصاد، والتي عبر عنها على نحو بارز في مقاله «الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا» المنشور عام 1930. في هذا المقال يشرح كينز تصوره لمجتمع ينعم بالوفرة والرفاهية والجمال والفضيلة والتنوع، ويعتبر فيه «حب المال» مرضا عقليا. لكن تلك المثالية كان منبعها كامبريدج أكثر من الفلسفة الاشتراكية (حيث ليس هناك فيها مكان واضح للمساواة أو الأخوة أو الديمقراطية). هذا بخلاف أنها لا تتحقق إلا بعد حل المشكلة الاقتصادية. في الوقت الراهن، كما قال كينز: «علينا أن نستمر في التظاهر بأن الجميل قبيح والقبيح جميل؛ إذ إن القبيح نافع والجميل لا ينفع.» باختصار، عارض كينز الاشتراكية بوصفها وسيلة، ولم يقرها بوصفها غاية إلا من خلال تصوره الذاتي.
قدم دميتري ميرسكي، المراقب الدقيق للثقافة البريطانية في فترة ما بين الحربين، تفسيرا ماركسيا لفلسفة الممارسة لدى كينز في كتابه «مفكرو بريطانيا العظمى». فقال إن النخبة الأرستقراطية المفكرة تعتبر نفسها خارج نظام الطبقات أو أعلى منه؛ نظرا لأنها لا تشارك في عملية الإنتاج بشكل مباشر. فهي طالبت في مجال الاقتصاد بنظام، والذي أطلقت عليه الاشتراكية، لكنها في الحياة الفردية أرادت مزيدا من الحرية، وهو ما ربطها بالرأسمالية.
نامعلوم صفحہ