وأستطيع أن أقول إن كل ثقافة حسنة تؤدي إلى جهاد من نوع ما، والثقافة السيئة هي وحدها التي لا تؤدي إلى جهاد؛ لأن الثقافة السديدة المتصلة بالمجتمع تسبق هذا المجتمع بمسافة قصيرة أو طويلة، وهي لهذا السبب تدعو إلى التغيير؛ لأنها ترسم لنا مثلا جديدة نشتاق إلى تحقيقها، ومن هنا - أي من الرغبة في التغيير - نحس الجهاد.
وقيمة أخرى للجهاد في الثقافة أنه يكبر شخصيتنا ويجعلنا نشعر بأن لنا قيمة تاريخية، أي لنا رسالة نؤديها بالدعوة إلى إصلاح معين، وهو يكسبنا الفلسفة التوجيهية التي يحتاج إليها كل شاب أو فتاة متمدنين في عصرنا، ونحن بهذا الجهاد نسير وقد رفعنا رءوسنا عالية وشخصنا إلى القمم، بل إننا لنحيى عندئذ حياة تاريخية.
ولست أستطيع أن أعين للقارئ الجهاد الذي يجب أن يختار؛ لأن لكل إنسان بيئته وظروفه واستعداده، فلعل القارئ المصري يطلب إصلاحا للغة العربية، أو تعميم الكيمياء الصناعية، أو نشر المبادئ الاشتراكية، أو مكافحة الإسراف في الطلاق أو الزواج، أو تحديد النسل، أو غير ذلك، وهو وحده القادر على أن يقول أي الأنواع تحتاج إلى بيئته ويقوى هو على الاضطلاع به، إنما الذي أقرر هنا هو أن الجهاد حافز عظيم للدراسة، وقد وجدت هذا باختباراتي الشخصية؛ فإني أذكر أني في سنة 1930 أنشأت جمعية «المصري للمصري» وكانت غايتها أن تدعو المصريين إلى أن يشتروا السلعة التي يصنعها، أو على الأقل يبيعها المصري دون الأجنبي. وذلك كي ترفع المستوى الاقتصادي بين المصريين وتشجع المصانع المصرية على الإنتاج، اعتقادا بأن أساس مشكلاتنا هو الفقر، وبأن الأمة التي لا تمارس الصناعات العصرية هي أمة غير متمدنة، وقد كنت أعجب العجب العظيم حين كنت أجد الشاب لم يتجاوز سنه العشرين ومع ذلك يحضر إلى ومعه مستندات حافلة بإحصاءات عن وارداتنا من الأطعمة والأقمشة التي كان يمكن أن نصنعها في بلادنا، فهذا الجهاد من أجل الصناعة المصرية عند هذا الشاب قد استحال إلى حافز لدراسة الاقتصاديات المصرية بجميع أنواعها.
وعندما أراجع ذاكرتي أجد أن معظم الموضوعات، بل ربما كلها، التي شغلتني دراستها، إنما كنت مكافحا فيها، فكانت الدراسة بهذه المثابة عضوية، تتصل بشهواتي الذهنية ومشكلاتي النفسية، وأحتاج إلى تحليل عميق كي أعرف البؤرة التي تشممت منها اهتماماتي الثقافية، وظني أنها الوطنية المصرية ومكافحة الإمبراطورية البريطانية.
والآن يطفر إلى ذهني حادثان كان لهما عندي أكبر الوقع النفسي ، فقد صدمني حادث دنشواي وأنا في الثامنة عشرة، وبقيت أسبوعا وأنا كالصائم لا أستمرئ الطعام، وحادث آخر كان له وقع في نفسي كله مرارة وأسى، ذلك أني كنت في باريس وأنا في التاسعة عشرة أو العشرين، وقد قعدت إلى بعض الفرنسيين في بهجة وأنسة تزيدهما الكأس نشوة حلوة، وإذا بالحديث يجرنا إلى السياسة، ثم استحال الحديث إلى مناقشة حادة، فإذا باحدهم يقول لي بصوت عال في لهجة الزجر والاحتقار: «لا شان لك بهذه المناقشة، أنتم أمة مهانة، والإنجليز أسيادكم».
وكان هذا القول حقا، وتولاني غضب وحزن لم يخفف منهما توبيخ الحاضريين لهذا الشاتم، فقد كان عطفهم علي أكثر إيلاما لي من شتمه، وقد بكيت كثيرا تلك الليلة، وذهبت إلى الطبيب جملة مرات أشكو إليه ألما في الأمعاء وإسهالا دمويا مخاطيا لم أعرف أنا ولم يعرف هو سببهما الذي يتضح لي الآن، وظني أن هذا الطبيب لم يستطع وقتئذ أن يتخيل شابا في سني يمكنه أن يتحمل هما وطنيا كبيرا يفتت أمعاءه إلى هذا الحد.
وعندما أنظر إلى جميع مؤلفاتي أرى أن جميعها أو معظمها يتشعع من بؤرة الوطنية ومكافحة الإمبراطورية البريطانية، بل أستطيع أن أقول إنه حتى دراستي البيولوجية وما تفرع منها لم تكن لشهوة العلم وحده، كما يتضح للقارئ من النية المضمرة في كتابي «التطور» وهي الإصلاح بقشع الخرافات العقيدية حتى تصير مصر أمة مصرية.
ولا أقول إن هذا التعليل مقنع، ولكن هذين الحادثين يومئان على الأقل إلى بعض البواعث الكفاحية لثقافتي، وعلى كل حال أقول إني لم أعش قط في البرج العاجي، وكانت كل دراستي كفاحية، ووجدت في هذا الكفاح خصوبة ثقافية وتوسعا ذهنيا لما أصل إلى حدودهما، والعبرة أننا يجب أن نمارس الثقافة لا متفرجين أو محايدين بل مكافحين مشتركين.
كتب رمزية وكتب بذرية
هناك مؤلفون كثيرون قد كتبوا في الأدب والفلسفة والعلوم، كالطب والكيمياء والفلك، وقد عاشوا في عصور مختلفة منذ ألفين أو ثلاثة آلاف سنة، ونحن حين نقرأ لهم لا نقصد إلى الانتفاع بمحتويات مؤلفاتهم ، وإنما نرمي إلى أن نفهم العصور التي عاشوا فيها عن طريقهم، فهم بهذا رموز عصورهم، أي إن قيمتهم رمزية.
نامعلوم صفحہ