وهناك من يرجح صحة هذا الزعم إلى حد بعيد، والكاتب الذي مارس الكتابة هو أول من يحس صحة هذا الزعم؛ فإن المعاني كثيرا ما تأتي عقب الألفاظ، وقلة الكلمات في لغة المتوحشين هي من أكبر الأسباب لتوحشهم؛ لأنهم لا يجدون المعاني الراقية، لعدم وجود كلمات التي تعين هذه المعاني، واللغة التي تحتوي الكلمات الدقيقة التي تعين المعاني المفهومة المحدودة، تساعد الأمة على الرقي، بخلاف اللغة التي تحتوي الكلمات المترادفة، أو التي تحمل معاني مختلفة وأحيانا متناقضة، فإنها تؤخر الأمة لأنها تفسد المنطق وتعطل التفكير، وهي - أي كلمات - تكون عندئذ بمثابة النقد الزائف الذي لا يشترى بمقدار ما كتب عليه من قيمة، أو أن قيمته تزيد أو تنقص بلا حساب.
ولغتنا العربية، مع العناية في الاستعمال، وتخير الحسن من الألفاظ، وترك السيئ، تعد من أفضل اللغات، ونستطيع مع هذه العناية أن نصل منها إلى الأسلوب الاقتصادي، أو حتى إلى الأسلوب البرقي في التعبير، ولكنا ورثنا عادات كتابية جعلت للغة العرب عند أمم العرب الآن كما كانت اللاتينية عند الأوروبيين في القرون الوسطى؛ أي مجموعة من الزخارف اللفظية السخيفة، وافتخار بالمترادف، وإمعان في الألاعيب البلاغية الصبيانية، حتى انقطع التفاعل بينها وبين المجتمع، فالمجتمع يتطور بعيدا عن اللغة العربية التي أصبحت خرساء لا تنطق بنحو مئة علم وفن يستمتع وينتفع بها جميع الأمم المتمدنة دوننا.
ولهذا الانفصال القائم بين اللغة والمجتمع نجد أن الأدب متأخر لا يعبر عن النفس المصرية، بل إننا لا نكاد نعرف ما هو فن الدرامة لهذا السبب أيضا، وهناك من يزعم أننا سوف نكتب - كما نتكلم الآن - باللغة العامية، بل يجب أن نسعى ونجد كي نصل إلى هذه الغاية، والخبط كثير في هذه المشكلة التي يرجو مؤلف هذا الكتاب أن يدلي فيها برأي في القريب؛ لأن مشكلة اللغة العربية هي مشكلة التفكير والثقافة للمصريين، واللغات في مباراة سوف تسقط فيها اللغة التي تعجز عن التثقيف والخدمة، وهناك حركات ذهنية جديدة مثل الحركة السيمائية أي البلاغة الجديدة التي تطارد الزخارف وتبتكر الألفاظ الخادمة، وهناك «الإنجليزية الأساسية» التي تعتمد على 946 كلمة أساسية فقط لدراسة اللغة، ويقصد منها تعميم الإنجليزية في العالم كله بتسهيلها إلى أقصى حد حتى لا يحتاج الأجنبي عنها لتعلمها إلا بضعة أسابيع أو أشهر، وأول ما نحتاج إليه في مصر لإصلاح لغتنا أن نجعل زيادة كلمة في التعبير خطأ لا يختلف من الخطأ في نصب الفاعل أو رفع المفعول.
وطالب الثقافة في مصر، أو أي قطر عربى، يحتاج إلى أن يعرف اللغة العربية معرفة دقيقة ووافية حتى لا يجد نفسه غريبا عندما يقرأ الأغاني أو مؤلفات المعري أو ابن خلدون، وخير الطرق لتعلم اللغة أن ندرس الموضوعات التي نهتم بها فتنتقل إلينا كلمات اللغة في الجو الذي استعملت فيه؛ فالطبيب العصري يمكنه أن يقرأ في لذة وفهم كتاب ابن أبي أصيبعة «طبقات الأطباء»، وهو عندئذ لا يبالي بعض الكلمات التي تصادفه مهما تكن غريبة عليه؛ لأنه سيفهمها في جو المعاني المحيطة بها، ودارس الفلسفة يستطيع أن يتابع ابن رشد أو ابن سينا في التعبيرات الغريبة التي يعجز المتخصص في اللغة عن فهمها، وبكلمة أخرى يجب ألا ندرس اللغة مباشرة، أي يجب ألا نتعمد دراسة اللغة كأنها مادة منفصلة؛ لأن الواقع أن اللغة هي أسلوب للتعبير، والتعبير يعني في النهاية معالجة موضوعات.
ولسنا نقصد من هذا إلى أننا لا نحتاج إلى معجم نستشيره كلما صادفتنا صعوبة لغوية، بل العكس؛ فإن طالب الثقافة لا يمكنه أن يستغني عن الرجوع إلى المعجم واستشارته من وقت لآخر، وعليه أن يدرك أن دقة الفهم والتمييز تعني دقة التعبير، والكتاب الذي يرضى بالجملة المفككة، ويهمل العبارة المحبوكة على قدر المعاني المطلوبة، إنما يؤذي القارئ لأنه يحمل إليه تفكيرا مفككا غير محبوك.
ويجب ألا نترك دراسة اللغة للمختصين؛ لأننا إذا فعلنا هذا أهملنا الوسيلة الكبرى للتفكير، لأننا نفكر باللغة، ومن الحسن لكل مثقف أن يمارس الكتابة، إما بمراسلة الصحف وإما بتأليف رسالة أو كتيب في موضوع يهتم به؛ لأن الكتابة تحمله على التدقيق في اختيار الكلمات والدقة في استعمالها، والفائدة تعود عليه في النهاية لأنه يتعود هذه الدقة في دراسته وتربيته الذاتية.
ويجب أن نميز بين الفهم السلبي والفهم الإيجابي للغة؛ فإننا حين نتعلم اللغة الإنجليزية مثلا إنما نعني أن نتعلم قراءتها، فنحن نقرأ كتابا إنجليزيا فيكون فهمنا سلبيا، ولكن إذا كنا نقرأ هذا الكتاب، ثم نعالج تلخيصه باللغة الإنجليزية فإن فهمنا له يعود فهما إيجابيا.
فالقدرة على القراءة تعد فهما سلبيا، ولكن القدرة على الكتابة تعد فهما إيجابيا، وليكن لنا دلالة من هذه الحقيقة في دراستنا للكتب العربية؛ فإذا عمدنا إلى تلخيص ما نقرأ، أو إذا ألقينا محاضرة عما نقرأ، فإن هذا يحملنا على زيادة الدرس للموضوع، وأيضا للغة.
وربما يجد القارئ لهذا الفصل تعمقا وتوسعا في كتابي «البلاغة العصرية واللغة العربية».
الأدب العربي القديم
نامعلوم صفحہ