ومع كل ما ذكرنا عن الضرر الذي ينشأ من التخصص، فإن الرجل المثقف يمتاز بالتخصص الذي يبدأ به قبل التثقيف العام، أو ينتهي إليه بعد التثقيف العام، فهو يهوى موضوعا معينا ينفق عليه من وقته وماله، وهذا الموضوع يكون له بمثابة المحور الذي يجمع إليه شتى المعارف تنتظم وتنمو وتتفرغ، فهو يبدأ في تعميم، يقرأ هنا وهناك، كأنه يتسكع أو يتنزه، ولكنه ينتهي إلى تخصص، فيحضر معظم قراءته في موضوع معين يتصل بحرفته أو هوايته، وعندئذ تنتظم دراسته؛ لأن التخصص يجعله يتعمق، ويأنف من المعارف السطحية. وكل شاب مثقف يجب لذلك أن يتعمق فرعا معينا من المعارف، بحيث يحاول أن يعرف كلياته وجزئياته، كما يعرف شيئا ما عن سائر المعارف.
وفي عصرنا الحاضر من المشكلات ما يجعل كل إنسان محتاجا إلى الثقافة إن لم يكن لحلها فلا أقل من تفهمها، ومن هنا قيمة التربية النفسية والنظر إلى شئون العالم بالفهم والدرس والرغبة في التعرف والاطلاع.
وعلى كل شاب أن يعنى باختيار أصدقائه، بحيث يكونون من المثقفين أو الذين يهوون القراءة حتى يجد فيهم القدوة والمعونة، وحتى يستطيع أن يمتحن معارفه بالمقارنة إلى معارفهم من الحديث النير والمناقشة المثمرة معهم، وأسوأ ما يعوق الشاب عن الثقافة أن يغويه آخر بالمفاسد والملاهي، وأن يكون أصدقاؤه من العابثين اللاهين وليسوا من الهادفين الجادين في الحياة.
عادات تعوق الثقافة
المفروض أننا نكتب هذا الكتاب لأفراد الطبقة المتوسطة أو العالية، حيث يتوافر الفراغ ساعتين أو أكثر كل يوم للشباب من الجنسين؛ لأن التثقيف الذاتي يحتاج إلى الفراغ، وكان يمكن أن نضع عنوانا لهذا الكتاب «استغلال الفراغ بالتثقيف الذاتي».
والفراغ في مصر الآن متعة خاصة للأغنياء والمتوسطين، بل التعليم المدرسي والجامعي كذلك، وقليل جدا من الفقراء من طبقة العمال هم الذين يجدون بعض الفراغ، والشاب الذكي يجب أن يحتال، ويوفر فراغه، ويعنى بملئه بالمفيد الذي ينمي شخصيته ويكبر ذهنه ويخدم تطوره.
ويستطيع الشاب في القاهرة مثلا أن يختار الوسائل لملء هذا الفراغ، فهناك مثلا المسرح وقاعة المحاضرات والسينماتوغرافات والمقهى والنادي، كما أن هناك المكتبة، وجميع هذه الوسائل تستحق الالتفات والعناية، بشرط ألا نسيء في استعمالها بالإدمان، أو باختيار السخيف فيها دون الجليل، فليس شك في أن المسرح مفيد، ولكن إذا استحال التمثيل تهريجا صاخبا تخرج فيه الوقائع عن مألوف الحياة، أو تؤكد فيه بعض النواحي فيها دون بعض، كما نرى مثلا في المبالغة في الناحية الغرامية والتحرش بالغريزة الجنسية، فإنه - أي المسرح - يعود مضيعة للوقت ومفسدة للنفس، وكذلك القصص السينمائية قد تنحدر إلى سخف لا قيمة له، وليس شك في الفائدة من المقهى والنادي إذا كان الشاب يجعلها وسيلة للتعارف إلى الصديق الراشد الذي ينتفع بحديثه، ولن لا بد من الاعتدال هنا؛ لأن الإدمان في غشيان المقهى قد يجر إلى الوقوع في الشراب، وعندئذ يقع الشاب في عادة يشق عليه التخلص منها، وقد يجر إلى ألعاب الحظ التي تستهلك الوقت والمال عبثا.
ومع الاعتراف بقيمة هذه «الملاهي» في الترويح والإمتاع، يجب أن يخص كل شاب قسما من وقته للتثقيف، ويجعل الثقافة عادته، بل متعته التي يمارسها كل يوم، بأن تكون الجريدة والمجلة والكتاب في صحبته لا تفارق يوما، بل لها المكان المحترم في البيت.
وهناك عوائق تنشأ أحيانا من الشخصية، وأحيانا من البيئة الاجتماعية، تجعل التثقيف شاقا أو بعيدا عن أن يصير عادة، فهناك مثلا الشخصية الانبساطية التي نعرفها في ذلك الشاب الذي يميل إلى السمن وتكتل اللحم في الوجه المستدير وسائر الأعضاء؛ فإن المزاج العام في هذا الشخص يميل به إلى إيثار الاجتماع على الانفراد، ويجب على مثل هذا الشاب أن يعرف نفسه وأن يكافح في يسر وبلا إرهاق تلك الميول الانبساطية، بأن ينفرد من وقت لآخر كي يتعود القراءة والدراسة، وبدهي أنه ليس من الممكن أن يحيل المزاج الانبساطي إلى مزاج انطوائي، ولكن الشاب الذي يجد في نفسه ميلا إلى الاجتماع وقضاء الوقت مع الإخوان يجب أن ينتبه إلى حاله هذه، وأن يقتني الكتب ويدرسها، وعليه أن يذكر أن أعظم رجل مثقف في عصره، وهو جوتيه أديب ألمانيا الأكبر، كان انبساطيا يلتذ الاجتماع، ولكنه عود نفسه الانفراد والدرس والثقافة، وأخطر ما يقع فيه الانبساطي أن يصبح المقهى وحده ملجأ فراغه، يقضي فيه الساعات وهو يلعب مع رفيق انبساطي آخر إحدى لعب الحظ في جد واجتهاد كأنه يؤدي بهذا اللعب رسالة لخدمة الإنسانية.
أما الشخصية الانطوائية فنعرفها في ذلك الشاب النحيف التي يستطيل وجهه، وهو يحب الوحدة وتسهل عليه القراءة؛ ولذلك إذا تركنا هذا الاختلاف بين المزاجين وجدنا عادات يتعودها الشبان تعوق تثقيفهم أو تؤخره، أو تنقص من قيمته، فهناك ما يمكن أن نسميه «الترهل الذهني» كذلك الترهل الجسمي الذي يصيب بعض الشبان والكهول، يسمنون ويستكرشون، فإذا ساروا في الشارع كانوا كأنهم مرضى، لفرط بطئهم وإذا قعدوا لم يحبوا أن ينهضوا إلا بعد ساعات، تجد عضلاتهم مترهلة غير مشدودة وأذهانهم منطفئة غير مشبوبة، وهذه الحال في الجسم والذهن تؤدي في النهاية إلى ترهل نفسي؛ لأن الشاب - لسبب ما - فقد من الحياة توابلها، فهي ماسخة قد خلت من الحرافة التي تبعث الشهوة وتحرك اليقظة، وهذا الترهل الذهني قد يصل إلى الجمود، فلا قراءة ولا دراسة، بل مقاطعة تامة للكتب والمجلات، وأحيانا لا يصل إلى هذا الحد، ولكنه يقف عند قراءة القليل والقال في المجلات الأسبوعية، أو قراءة القصص البوليسية، وهذا المرض يفشو كثيرا بين النساء والفتيات في مصر، وقيمة هذه القراءة لا تزيد على أكل اللب أو قتل الوقت بألعاب الحظ.
نامعلوم صفحہ