من ذلك ترى أن في إكسينوفان بعض مبادئ جليلة لم يرفضها اللاهوت المسيحي، بل تقبلها بالعناية قبولا حسنا، ولكن نظر إكسينوفان قد اضطرب في هذه النقطة، وليس في ذلك ما يوجب الاستغراب. ولقد أراد أن ينفذ نظره عن حقيقة الذات الإلهية فأخذه العثار في هذا الطريق الوعر الذي ضل فيه كثير غيره، فإنه يقول: الله الذي لا يشابهه شيء من الحوادث هو على الأقل يشبه ذاته، وهو هو في جميع أجزائه، وهو بكله هو في كل جزء منها. قد يكون ذلك مقبولا، ولكن إكسينوفان لما وقع في الاستعارات التي لا تساوي قيمتها إلا ما تساويه الأنتروبومورفيزم التي انتقدها بحق أخذ يشبه الله بفلك، وكانت النتيجة عنده أن الله لا يمكن أن يكون لا لامتناهيا ولامتناهيا، وأنه لا يمكن أن يكون له حركة ولا سكون، كما أنه لا أول له ولا وسط ولا آخر. ومع ذلك فإن إكسينوفان لم يخدع نفسه في أمر الصعوبات غير المتناهية التي تقف في حل هذه المسألة، ودليل ذلك ما قاله في هذه الأبيات الجميلة التي نقلها إلينا سكستوس أمبيريكوس:
لا أحد من الكائنات الهالكة يستطيع أن يرى جليا في هذه الأعماق، ولن يستطيع أحد أن يعرف حقيقة ماهية الآلهة والعالم، تلك الماهية التي أحاول الكلام عليها؛ فإذا لقي أحد يوما بالمصادفة الحقيقة التامة لما عرف هو نفسه أن يقدر ما وصل إليه منها، وليس في كل ما يقال في هذا الشأن إلا محض تشبيه وتقريب.
والظاهر أن برمينيد لم يتمش بالبحث في هذا الموضوع الكبير إلى الحد الذي وصل إليه أستاذه. وأما ذنون - تلميذ برمينيد وواضع فن الجدل - فإنه، على ما قال ديوجين اللايرثي نقلا عن أرسطو، قد وصل في هذا الموضوع إلى لاأدرية غلا فيها غرغياس إلى أقصى حد، ولكني أكرر أني لا أشتغل بذنون ولا ببرمينيد، بل أتخطاهما إلى ميليسوس؛ فهو الذي أقصد درسه بعد إكسينوفان.
مع أن ميليسوس يفصله عن رئيس المذهب ثلاثة أو أربعة قرون، فإنه أحرص الناس على أن يحذو حذوه ويلتزم تعاليمه، إلا أنه - عوضا عن أن يبقى متمسكا بإله إكسينوفان الواحد الأزلي القادر على كل شيء، بل والمدرك لكل شيء أيضا - زاغ عن الطريق، ووضع الموجود موضع الإله؛ فاشتغل بالموجود آخذا إياه في كل تجرده وفي كل عقمه. غير أن التأملات الميتافيزيقية مهما قل فيها الضبط، فإن ذلك لا يقلل من جمالها ولا من تعمقها الاستثنائي.
الموجود لا يأتي من الموجود وإلا لزم عليه أن يتقدم نفسه وهذا تناقض، ومثل ذلك في التناقض أن يتولد الموجود من المعدوم. على ذلك لم يكن الموجود قد وجد في زمن ما، وعليه يكون الموجود أزليا، وفوق ذلك لا يعتريه الفساد ولا الانتهاء؛ لأنه إما أن يتغير إلى معدوم وهذا محال، وإما أن يتغير إلى موجود آخر وإذن فلا يكون منعدما؛ فالموجود على ذلك كان دائما ويكون دائما، وما دام أنه لم يوجد من العدم فهو لا أول له، وما دام لا يمكن فناؤه فهو لا آخر له، وما دام لا أول له ولا آخر له فهو حتما لامتناه، وما دام لامتناهيا فهو واحد؛ لأن اللانهاية منافية للتعدد ؛ إذ لا يمكن تصور اثنين أو عدة لامتناهية، ومتى كان الموجود أبديا واحدا لامتناهيا كان بالنتيجة غير متحرك ولا قابل للتغير؛ لأنه في أي مكان غير ذاته يمكنه أن يتحرك؟ ولما كان موصوفا بالوحدانية المطلقة فأي تحول أو تبدل أو تغير يمكن أن يلحقه؟ ولو أمكن أن يتبدل بغيره أيا كان لانتفى أن يكون شبيه نفسه، ولانعدمت صورته الأولى وجاءته صورة أخرى.
ومع تقدم الزمن ينعدم هذا الموجود الأبدي واللانهائي ويتحول إلى لاشيء. ولما كان الموجود أبديا لامتناهيا واحدا كان لا يمكن أن يكون له جسم، فلا يمكن أن يكون ماديا؛ لأنه إذا كان ذلك لزم عليه أن يكون ذا أجزاء متميزة بعضها عن بعض، وهذا ينافي وحدانيته وأبديته. لا شيء كائن حقيقة إلا الموجود، وجميع الأشياء التي تؤكد لنا حواسنا وجودها ليست إلا مظاهر خداعة متحولة كثيرا أو قليلا، فهي غير موجودة بالمعنى الخاص ما دامت متغيرة وما دام أنها تهلك بعد أن تولد. أما الموجود الحقيقي فإنه لا يتحول ولا يتغير أبدا، ولو أن الأشياء التي تظهر أمام حواسنا كانت موجودة كما نظنها للزم على ذلك أن تكون غير قابلة للتغير وأبدية كالموجود نفسه، فلا شيء بموجود إلا الوحدة، وأما التعدد فلا وجود له أصلا. أما أنا فإني أجد أفكار ميليسوس هذه خليقة به، وبالمدرسة التي هو أحد أعضائها. ولا شك في أنها متناقضة من بعض الوجوه، ولكننا من خلال هذه الرسوم البالية والمقطوعات القليلة نشعر لها بعظمة وقوة لم يوفهما تاريخ الفلسفة حقهما من حسن التقدير، وربما كان هذا الغمط منذ أرسطو.
وإني أعترف بأن أنكساغوراس مفهوم خير فهم بعد إكسينوفان وميليسوس، فإن أنكساغوراس الذي هو معاصر لقائد سموس (ميليسوس) هو الذي جلا الغوامض عن علم الطبيعة وقواعد نظام الكون في عصره بأن أدخل عليها تلك الفكرة الصالحة: أن العالم يديره العقل المدبر.
ولقد أعجب سقراط بهذا المذهب مع أنه يرى أن أنكساغوراس لم يكن ليستقصي كل نتائجه، كما أننا نعلم ما صرح به أرسطو من الثناء الجميل على أنكساغوراس إذ يقول: لقد جاء أنكساغوراس بعد كثير من الضلالات، أشبه ما يكون برجل سليم العقل يتكلم وسط المجانين.
41
فمن البغي أن ينتقص فضل أنكساغوراس أو أن ينازع فيه بعد ما كان من شهادة سقراط وأرسطو، فإن له الفضل الأوفى في هذا المذهب، وليس شاذا عن المألوف أن كلمة من عبقري تكشف القناع عن المغيبات العلمية. قد يقال إن إكسينوفان وميليسوس هما اللذان وطآ لهذا المذهب بنظرياتهما التي هي أقرب ما يكون منه، ولا مشاحة في ذلك فإن لهما نصيبهما الوافر من ذلك الفضل.
نامعلوم صفحہ