فإن العالم المحقق بروخر كان يكتب منذ قرن كامل في هذا الموضوع، وقبل أن يصل إلى الفلسفة الإغريقية بحث عن بدايات الفلسفة في الأرض جميعها، فراح يستجوب على التعاقب العبرانيين والكلدانيين والفرس والهنود العرب والفينيقيين والمصريين وطائفة من أمم أخرى ، فلم يعثر فيها على الفلسفة التي ينشدهم إياها عبثا، حتى بلغ الإغريق فقال: «الآن لنبلغ الإغريق هذه الأمة المشهورة منذ كانت صبية في المهد بدرس الحكمة والفنون، والتي عندها وجدت الفلسفة مقرها الذي بغته زمنا طويلا بعد أن تلقت هذه الأمة عن المتوحشين بعض الجراثيم من المعارف الإلهية والبشرية.»
ثم بعد أن درس النظريات القديمة لأنساب الآلهة التمثيلية والفلسفة السياسية للحكماء أضاف هذا العالم الرصين مؤرخ الفلسفة إلى ما تقدم ما يلي محدثا عن مدرسة يونيا:
إلى هنا لم نقدر فلسفة الإغريق إلا وهي صبية ترت في مهدها، ولكنا قد بلغنا الآن منها الطور الذي فيه بدأ العقل البشري يزاول الفلسفة الحقة، ويظهر بالأفكار المرتبة مظهر المشغوف بالنفوذ في حقيقة الأشياء، فإلى العبقرية الإغريقية ينبغي أن ننسب هذا المجد كما بينته آنفا، وفي أول هذا التاريخ عند البحث في الأصول الصحيحة للفلسفة.
36
وأما أنا من جانبي فلا أزيد على ترديد عبارة بروخر، وأعدني سعيدا باستنادي إلى هذا الحجة المحترم المتين الذي تقدم بمائة عام ما لدينا في هذا العصر من المعلومات البينة. نتيجتي كنتيجته، نعم إغريقا أصيلة على الإطلاق، أعطت كل العالم ولم يعطها العالم شيئا إلا ما ربما يكون من بذور كانت عقيمة في غيرها فعرفت هي وحدها أن تنبتها.
لن أتوسع في الكلام على مذاهب طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان، بل أفترض أنها معروفة بمقدار ما يمكن أن تعرف من القطع النادرة التي نجت من البلي، وأقف عند بعض الملاحظات العامة إلى غاية العموم. من البين أن أكمل هذه المذاهب الثلاثة على نسبة كبيرة هو مذهب فيثاغورث، ونحن لا نستطيع أن نتعرفه إلا من خلال الشروح التي وضعتها عقول قليلة التفوق جاءت بعد المصنف بستة أو سبعة قرون، ولكنها مع ذلك كافية في بيان أن الدراسة التي كان يزاولها حكيم سموس شد ما كانت أفسح ميدانا وأكثر ضبطا من دراسات معاصريه، فيها الفلسفة بتمامها تقريبا مع أجزائها الأصلية التي تتألف هي منها، وفوق ذلك فإن دراسة العلوم وعلى الأخص العلوم الرياضية بلغت فيها شأوا بعيدا. ومن البلية أن شخص فيثاغورث كمذهبه لا يزال يحيط به من الظلام حجاب لا شيء يمزقه، ولا شك في أن هذا الحجاب العظيم إنما جاء كبره من السكوت الذي التزمه فيثاغورث وألزم إياه تلاميذه الذين بقوا محتفظين بتنفيذ أمره مدة عدة أجيال، وكان فيلولاوس السابق لأفلاطون بقليل هو أول من علم القاعدة - على ما يؤكدون - ونشر المذهب، بل ربما نشر كتب الأستاذ أيضا.
ومما لا يقل عن هذا مطابقة للواقع هو أن فيثاغورث على فلسفته كان يحتفظ في نظرنا بشيء من النحو الديني إن لم يكن في أفكاره فعلى الأقل في الجمعية التي ألفها والتي لا يدخل إليها إلا بعد امتحان قاس يجوزه المريد، فليست الفيثاغورية مفتوحة للكافة كالمذهب الطبيعي لطاليس، ولا كمذهب ما وراء الطبيعة لإكسينوفان. لفيثاغورث تلاميذ، ولكنهم بعض أعضاء لجمعية منتظمة خاضعة لملاحظة شديدة ومحصورة في حدود لا تجتاز. إنها نوع من مدينة فلسفية دينية سياسية قاسية وضيقة الحدود، فلم تلبث أن ارتاب في أمرها جيرانها فخربوها بالحديد والنار، وما كان أسهل عليهم ذلك نظرا إلى أن هذه الجمعية من الوداعة بمكان.
ومن البديهي أن نظام المدرسة الفيثاغورية كان على مثال مدارس الكهنة المصريين، وربما كانت على مثال مدارس المجوس أيضا، وإن تناسخ الأرواح هو عقيدة شرقية صرفة لم تتأقلم في العالم الهليني مع أن أفلاطون وضعها تحت إشرافه. كان فيثاغورث مؤسس مدرسة ورئيس جمعية معا ومبدع مذهب لا يتلقاه إلا أشياعه، وبهذه المثابة كان بين فلاسفة الإغريق وحيدا في هذا الباب، وينبغي أن يرجح أن سياحاته في مصر وكلدة هي التي أوجدت في نفسه مقاصد من هذا النوع فنقلها إلى بلاد قلما توافقها وتنجح فيها، ولكنها مع ذلك جعلت لفيثاغورث مركزا قدسيا علميا معا، فبقي به علما فردا متميزا عمن قبله وبعده، مذهبه العلمي غير تام، ولكنه عظيم جليل، ومذهبه الأخلاقي طاهر لا غبار عليه، حتى إن مذهب أفلاطون مع كونه أشد منه تعمقا لم يرجع عليه في طهره.
ولندع إلى جانب شخصيات الفلاسفة وننبه إلى أن الفلسفة الإغريقية بتمامها كانت موضوعة في وضع استثنائي أفادها جدا، وهو أنها لم يكن أمامها أبدا ديانة مبنية على كتب مقدسة، وقد كان الأمر على ضد ذلك في مصر ويهودة وفارس وفي الهند حيث لم تكن الحال قاصرة على أن الدين قد سبق الفلسفة في تلك البلاد، كما هو الحال عادة في كل زمان، بل إنها اعتمدت فوق كل ذلك على أسس معتبرة أنها إلهية، ومع ذلك أقامت قرونا طوالا كافلة لسد الحاجات الأدبية والأخلاقية في تلك الأمم؛ وبعد ذلك خرجت الفلسفة من المحاريب، فمثلا في بلاد الهند البرهمانية أو البوذية استطاعت الفلسفة أن تنمو نموا كبيرا متحللة من القيود الأولى، وإن كان نجاحها لم يكن عظيما. أما في بلاد الإغريق فلم يكن ما يشبه ذلك؛ لأن الإغريق لم يكن لهم كتب إلهية ولا موحى بها.
وقد كان أرفي ولينوس وسائر المرتلين الأقدمين الذين كانوا ينشدون آيات الأسرار الأولى كلهم ما كان يتكلم إلا باسمه هو دون أن يسند ما يقول إلى الإله. ولما كان الإشراك بالله متغير الصور منثورا في البلاد لا ينتظمها على حال واحد لم يستطع الوصول إلى تأليف جسم من المذاهب قد يصير ديانة ذات قوام خاص، فلم يكن للكهنة نقابة قوية ذات سلطان، وكان الناس يحترمونهم ولكن لا يطيعونهم، ولم تكن الروابط بين الهيئتين إلا مفككة العرى؛ لأنها إنما تبحث عن معتقدات عامة يغير من عمومها في كل جهة أساطير محلية لا نهاية لها، وعن بعض احتفالات عامة لم تكن إلزامية، وهواتف يستشيرها الناس وقتما يريدون؛ وألعاب عمومية. والكتاب الوحيد الذي أخذ بمجامع قلوب الإغريق إنما هو قصيدة حماسية.
نامعلوم صفحہ