كانت جزيرة سموس وقتئذ أقوى الجزر، ذات مركز سام بما لها من الروابط بإغريقا وبمصر، وبينما كان قمبير المفتون بن قيروش يغزو مصر ليقضي على نفسه فيها كان بوليقراطس يحكم سموس، وقد مكن له فيها بحسن إدارته وقلة تحرجه ومبالاته، حتى جعل الجزيرة من الرخاء محسودة الوفر من كل نظائرها. وكان من أمره أنه أقام فيها ثورة انتهت باستيلائه فيها على السلطان هو وأخويه ينتنيوت وسيلوسون؛ إذ اقتسم الإخوة الثلاثة حكم المدينة لكل منهم قسم معلوم، ولكن يوليقراطس لم يلبث أن تخلص من أخويه؛ إذ قتل أحدهما وشرد الثاني، وخلص له الحكم، وأطاعه أهل المدينة. وقد أراد أن يثبت لنفسه الملك المغصوب فارتبط بأمازيس ملك مصر، وتبادل وإياه الهدايا النفيسة، ولم يمض عليه حين حتى نبه ذكره، وعمت شهرته بلاد الإغريق، وكان سعيد الطالع موفقا في مشروعاته إلى غاية المنى، وكان أسطوله مؤلفا من مائة سفينة من ذوات الخمسين صفا من المجاذيف، وكان يبلغ عدد رماته وحدهم ألفا.
ولم يكن مع ذلك ليرعى لجيرانه حرمة، بل كان يضرب عليهم الإتاوة بغاية الجرأة، وكان من مبادئه السياسية ألا يبقي حتى على أصدقائه متى قضى الظرف إلا أنه كان يعوض عليهم بعد ذلك. وكان قد غزا عدة جزر حوالي سموس، بل عدة مدن في القارة، ولما ساعد اللسبوسيون الملطيين عليه حاربهم وقهرهم في وقعة بحرية، وسخر جميع الأسرى مصفدين بالأغلال في حفر الخندق العميق الذي كان يحيط بأسوار المدينة. وكان من نتائج ظلمه أن بعض أهل سموس هجروها من هول ما يلقون من الجور، واستجاروا بإسبرطة، فأبحر إليه اللقدمونيون في أسطول قوي، وحاصروا المدينة أربعين يوما، ولكنهم ارتدوا على أعقابهم بفضل بأس بوليقراطس أو بفضل ماله.
وبقي هذا الطاغية مستبدا بالحكم مهيب الجانب لا يغلب على أمره، حتى إن من لم يريدوا من السموسيين الاستسلام لمظالمه لم يكن لهم وسيلة إلا الهجرة بعيدا عن ملكه إلى حيث ينزلون منزلا يرضونه. ولم يكن ليأمن على نفسه الطوارئ بذلك الخندق العميق الواسع، بل اتخذ نفقا تحت الجبل سلك فيه إلى المدينة ماء غدقا، وبنى رصيفا شاهقا متقدما في البحر، جعل به المرفأ أكثر ملاءمة لرسو السفن، ثم بنى معبدا اشتهر بأنه أكبر المعابد المعروفة. وقد ذكر أرسطوطاليس أيضا هذه الأعمال العظيمة التي عملها بوليقراطس.
وكان هذا الطاغية محبا للآداب والفنون، ويقال إنه أول من أنشأ مكتبة. وكان مثل ذلك في تلك القرون زخرفا نادرا كانت مصر وحدها هي صاحبة الإبداع فيه، وكان يؤوي إليه الشعراء، وكان أنقريون الطيوسي بعض جلسائه ومادحيه.
في صدد الكلام على عهد طغيان بوليقراطس هذا، ينبغي أن نورد خبر الصلات التي كانت لفيثاغورث به والتي لدينا عنها معلومات مضبوطة؛ فإن يمبليك وفرفريوس وديوجين لا يرث يلتقون في هذه النقطة، وليسوا بالضرورة إلا صدى كثير من المؤلفين الذين هم أقرب عهدا بزمن فيثاغورث وكتبوا ترجمته، مثل أرسطوكسين الموسيقي - تلميذ أرسطو - وأبللنيوس الصوري وهرميب وديوجين وأنتيفون ... إلخ. كان فيثاغورث بن منيزارخس يدلي بأمه إلى أكبر عائلات سموس، ويمكن أن يتصل نسبه بأنصي - مؤسس المستعمرة - ويظهر أن أباه قد جمع مالا وفيرا من تجارة القمح، وكان صوريا على رأي بعض المؤرخين، وطرهينيا على قول البعض الآخر، وكان يستصحب ابنه معه في سياحاته منذ حداثته؛ فطاف الصبي مع أبيه تلك البلاد التي عني بدرسها بعد ذلك، فلما صار في سن التعلم، ورأى أبوه فيه مخايل وعليه سيما النجابة، وصله بأعلى الرجال امتيازا في زمنه: طاليس - على ما يقال - وأنكسيمندر وأنكسيمين الملطي وفرقليد السيروسي. وقد عرف فيثاغورث فينيقيا وهو شاب؛ إذ صحب أباه إليها، ولما أراد السفر إلى مصر زوده بوليقراطس بكتاب توصية إلى أمازيس، وذلك يثبت أن رأي فيثاغورث في بوليقراطس وقتئذ على الأقل لم يكن كرأيه فيه بعد ذلك.
لم تكن مدة إقامة فيثاغورث بمصر محل اتفاق في التاريخ، فمن مترجميه - مثل يمبليك - من حددها باثنين وعشرين عاما، وإن كان ذلك قليل الاحتمال. لما أسر عسكر قمبيز فيثاغورث سيق إلى بابل، وهناك اتصل بالمجوس كما اتصل بكهنة مصر مدة إقامته بها؛ إذ كان محل إعجاب بذكائه ورجاحة عقله وحسن روائه. ولما رجع إلى وطنه وهو متقدم في السن؛ أي كانت سنه ستا وخمسين سنة على قول يمبليك، فتح فيه مدرسة، وظل السموسيون الفخورون بمواطنهم يعقدون مداولاتهم السياسية قرونا عدة بعد ذلك في مجلس نصف حلقي مسمى باسم فيثاغورث.
وقد قال أرسطوكسين: إن فيثاغورث لما ترك سموس فرارا من ظلم بوليقراطس لم يكن يتجاوز من العمر أربعين سنة، وربما كان قوله أوجه؛ لأنه أقرب عهدا إلى هذه الأحداث من يمبليك، ومن المحتمل أن يكون أعلم بها منه ما دام أنه تلميذ أرسطو الذي كان يشتغل كثيرا بفلسفة فيثاغورث. وأما شيشيرون فإنه ذكر في كتابه «الجمهورية»: أن فيثاغورث وصل إلى إيطاليا في الأولمبية الثانية والستين؛ أعني في سنة 528 قبل الميلاد؛ أي في السنة التي جلس فيها طرخان العظيم على العرش. ولما كان شيشرون (على لسان سيبيون) يقصد إلى تصحيح خطأ تاريخي شائع، فمن المراجع أنه يعرف حق المعرفة صحة ما ذكر، وأنه غير مخطئ.
ومهما تكن حياة فيثاغورث محجوبة عنا مع ما كان من اشتغال كثير من الكتاب الأقدمين بها، فالظاهر أن من المحقق أنه هاجر من سموس المحرومة الحرية ليجد بلدا في إغريقا الكبرى لا تشمئز فيه نفسه من مشاهد الظلم، ويستطيع أن يتمتع فيه بالاستقلال الذاتي الذي كان في حاجة إليه. وكذلك فعل إكسينوفان في نحو هذا الزمن؛ إذ كان يفر من اضطهاد الفرس الذين كانوا أشد ظلما من طغاة الإغريق. كان ذلك هو الحظ المشترك لأمثال هؤلاء، فليس من السهل أن يبقى المرء وطنيا أو فيلسوفا ينوء بحمل الضغط الذي يأتيه أمثال أولئك الأسياد. وعلى ذلك حمل فيثاغورث إلى قروطون وإلى ستيباريس مذاهب عجيبة فيها بلا شك شيء من الديانات الشرقية التي اتصل بأهلها، ولكنها حقيقة باحترام كل من يحبون الحكمة والإنسانية.
ولم تصل إلينا مذاهب فيثاغورث إلا عن طريق الوسطاء؛ إذ لم يجتمع لنا شيء من مؤلفاته الكثيرة التي وضعها
12
نامعلوم صفحہ