فمن للقوافي شأنها من يحوكها ... إذا ما ثوى كعب وفوز جرول
فلو كان كما يزعم للزم أن يقال للمضلة مهداة، وللمعطشة مرواة. وأما السليم فإنما سمي لأنه أسلم لما به.
قال الرياشي: فذكرت ذلك للأصمعي، فقال: لا يقال أسلم فهو سليم، لأن مفعلًا يجيء منه فعل، فرددته على ابن الأعرابي: فقال هذا عمرو بن كلثوم يقول:
مشعشعة كأن الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا
وقد قيل: ماء مسخن وسخين، فحكيته للأصمعي، فلم يقبل معنى سخينا سخيت أنفسنا من السخي لا من السخن، فنقلته إلى ابن الأعرابي، فقال: قل له: إنهم قالوا: الشرب منقع ونقيع، وكلام مبرض وبريض، وشيء مبهم وبهم، وصبي مؤتم ويتيم، والقوم كان دأبهم في الشتاء أن يشربوا الخمر بالماء المسخن، فأوردت ذلك على الأصمعي، فقبله كله.
قلت: كيف ذهب على الأصمعي-﵀ مثل هذا حتى فسر سخينا بالسخا، فإن ذلك فاسد المعنى. إنما يتعلق السخا باستعمالهم لها وسكرهم بها على ما هو مشهور في كلامهم ألا ترى إلى قول عنترة العبسي:
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
يعني ارتاح للعطاء في الصحو كما ارتاح في السكر.
وقال آخر:
فإذا سكرت أوهبت ما ملكت يدي ... من غير إشفاق ولا إملاق
وهذا أشهر من أن يستشهد بشيء. على أن الجوهري قال في صحابه: سخينا أي: جدنا بأموالنا، وقول من قال: سخينا من الخونة، نصب على الحال ليس شيء مما يتعلق ب"سخينا" من القواعد التي لابأس بذكرها.
قال أبو الفضل بن جهور: أنشد رجل أبا عثمان المازني:
غافت الماء في الشتاء فقلنا ... بردته تصادفيه سخينا
ففكر ثم أنشد:
أيها السائلونني عن عويص ... حارت الأفكار أن تستبينا
إن لاما في الراء ذات إدغام ... فافصلنها ترى الجواب يقينا
قلت: البيت الأول في بادئ الأمر مستحيل المعنى في الظاهر، لأنه يكون أمرها بتبريده لتصادفه سخينا، وهذا تناقض.
وفي الباطن إذا فكر فيه ذو اللب كان مستقيمًا، لأن الأصل بل ردية، فأدغم اللام في الراء إذا اجتمعتا أيهما سبق بالسكون أدغم في الثاني سواء تقدم الراء أم اللام، كقوله تعالى: (ينشر لكم ربكم) ويجوز النطق بالثاني المدغم فيه.
وأما قوله: كأن الحص فيها، بالحاء المهملة، والصاد المشددة والمهملة، يريد به الزعفران والورس، معناه أنها حمراء، فإذا مزجت بالماء انسلخت الحمرة إلى الصفرة، قال أبو بكر بن دريد:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... بدت في ثيابي نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق حرفًا فسلطوا ... عليها مزاجًا فاكتسب لون عاشق
وأخذه ابن وكيع فقال:
كأن الحباب المستدير بطوقها ... كواكب در في سماء عقيق
صببت عليها الماء حتى تعوضت ... قميص بهار من قميص عقيق
-جمع ماانقطع - ولكنه قد غلب واشتهر استعمالهم الضد باسم ضده تفاؤلًا في أشياء، منها: قول العرب للغراب: أعور، يتفاءلون له بذلك من كونه يعزى إلى البين.
وما أظرف قول ابن اللبانة:
وفي الغراب إذا فكرت معزية ... من فرط إبصاره يعزى له العور
وقولهم للأسود كافور.
وقد طرف ابن التعاويذي في قوله في مليحة اسمها هاجر:
فديت من ترحم عشاقها ... وراحم العاشق مأجور
لست على دين الغواني ... ترى أن وصال الصب مهجور
لا عجب أن سميت هاجر ... قد سمي الأسود كافور
وقال الوزير المهلبي ﵀:
فسموه مع القربى غرابًا ... كنور العين سموه سوادًا
وقال أبو إسحاق العربي يهجو السميرم:
كمال سميرم للملك نقص ... كما سميت مهلكة مفازة
لئن رفعت محلته الليالي ... فكم رفعت على كتف جنازة
ومن هذه المادة أيضًا الكنى التي يستعملونها، فيقولون للأعمى: أبو البصير، وللأحدب: أبو الغصن.
وقال بعضهم: إن الأبله العراقي الشاعر، وهو محمد بن بختيار، وإنما سمي الأبله لفرط ذكائه، وكان له ميل إلى بعض أبناء بغداد، فعبر على باب داره فوجد خلوة، فكتب على الباب هذه الأبيات:
دارك يا بدر الدجى جنة ... بغيرك نفسي قط ما تلهو
وقد روى في خبر أنه ... "أكثر أهل الجنة البله"
وعلى ذكر الحسنة بمعنى الشامة فم أحلى قول القائل:
1 / 4