130

ومن ذلك

ما نقله القاضي الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي عن أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خصص جماعة من الصحابة كل واحد بفضيلة، خصص عليا (عليه السلام) بعلم القضاء، فقال: وأقضاهم علي، وقد صدع هذا الحديث بمنطوقه وصرح بمفهومه أن أنواع العلم وأقسامه قد جمعها لعلي دون غيره، فإن كل واحد ممن اختص بصفة لا يتوقف حصولها على غيرها من الصفات والفضائل، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، وأعرفهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وكل واحدة من هذه لا تفتقر إلى غيرها بخلاف علم القضاء، وقد حصلت لعلي بصيغة أفعل، وهي تقتضي وجود أصل ذلك الوصف وزيادة فيه على غيره، والمتصف بها يجب أن يكون كامل العقل، صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيدا عن السهو والغفلة، يتوصل بفطنته إلى وضوح ما أشكل، وفصل ما أعضل، ذا عدالة تحجزه عن أن يحوم حول حمى المحارم، ومروة تحمله على محاسن الشيم، ومجانبة الدنايا، صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفا عن المحظورات، مأمونا في السخط والرضا، عارفا بالكتاب والسنة، والإتقان للاختلاف والقياس، ولغة العرب، ليقدم المحكم على المتشابه، والخاص على العام، والمبين على المجمل، والناسخ على المنسوخ، ويبني المطلق على المقيد، ويقضي بالتواتر دون الآحاد، والمسند دون المرسل، والمتصل دون المنقطع، وبالإتقان دون الاختلاف، ويعرف أنواع الأقيسة من الجلي والواضح والخفي ليتوصل بها إلى الأحكام، ويعرف أقسام الأحكام من الواجب والمحظور والمندوب والمكروه، ولا يتصف بالقضاء من لم يجمع هذه الامور، ويستولي على الأمد والغاية فيها.

ومن المعلوم أن عليا (عليه السلام) حاز فيها قصبات السبق، وشأى [1] في إحراز غاياتها جميع الخلق، وهذا حصل له ببركة دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أنفذه إلى اليمن وقد تقدم ذكر ذلك، فقال: ترسلني ولا علم لي بالقضاء؟ فقال له: إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن تبين لك القضاء، قال: فما زلت قاضيا وما شككت في قضاء بعد.

صفحہ 135