وارتدت البالطو الأسود فوق جلباب البيت، وخرجت إلى الشارع، ولمحها زوجها فابتعد عن الناس مقتربا منها، وقال لها وهو يهرش صدره: «الدكانة سليمة والحمد لله.» - «فلوس حلال يابو محمد.» - «حلال الحلال.» - «وحسنين أفندي؟» - «ربنا أنقذه، كان معايا في الدكان.» - «راجل ابن حلال يابو محمد.» - «ربنا مع المسلمين.» - «ومراته بنت حلال، نقلت عفشها من أسبوعين. ما ننقله احنا كمان يابو محمد.» - «ننقله فين يا أم محمد.» - «عند أختي في دمنهور.» - «ومن هنا لدمنهور يتكلف كام؟» - «يتكلف اللي يتكلفه، ده الطاقم المدهب لوحده بمية وستين جنيه، أنت نسيت ولا إيه؟» - «حسنين أفندي بيقول المحافظة بتجيب لوريات، أروح بكرة مع حسنين أفندي نأجر لوري.» - «نروح دلوقت، احنا عارفين بكره حيحصل إيه؟»
تعقبت عينا زوجها وحسنين أفندي من الخلف وهما يسيران نحو المحافظة، كانت تسير وراءهما ببضع خطوات، وتعثرت قدماها أكثر من مرة في قطع الطوب التي سقطت من شرفة منزل، وقبلت يدها ظهرا وبطنا وهي ترى دكانا متهدما تماما، وأشاحت بوجهها بعيدا عن رجل نزفت الدماء من رأسه وبعض الرجال يحاولون حمله. «يا حفيظ يا رب! هي دي الحرب؟ شكلها مش زي الحرب اللي في السينما.» وتعقبت عيناها ظهر زوجها وانتقلت إلى ظهر حسنين أفندي، زوجها قصير محني، له صنم لم تره إلا ليلة الزفاف، وتذكرت منظر الرجل الذي كان ينزف: «صنم صنم بس يعيش.» ورأت زوجها وحسنين أفندي يتوقفان، واستدار زوجها وقال لها: «انتظرينا هنا يا أم محمد.»
وقفت أم محمد في مكانها، لكن عينيها أخذتا تتجولان حولها، ورأت مبنى كبيرا له نوافذ زرقاء، ومن حوله حديقة كبيرة لها سور من السلك نمت عليه شجيرات الياسمين البيضاء، واقتربت من السور تتفرج، ورأت رجلا يلبس جلبابا ويمسك خرطوما ويرش الزهور بالماء. كانت هناك أحواض من زهور حمراء وبيضاء وصفراء وبنفسجية، وسمعت صوت رذاذ الماء وهو يسقط على الزهور، فتذكرت حادثة مرت في طفولتها؛ كانت قد ملأت الزلعة من البحر، وفجأة زلت قدمها فوقعت الزلعة وغرقت رأسها بالماء. وتوقف صوت الماء، فرفعت رأسها منتبهة ورأت رجلا يرتدي بدلة يقف مع الرجل ذي الجلباب الذي كان يرش الحديقة، ورأتهما وهما يسيران بين أحواض الزهور، ويقتربان من حوض كبير بجوار السور حيث تقف، وسمعت الرجل ذا البدلة يقول بصوت عال: «الورد ده مش عاجبني.» ويرد الرجل ذو الجلباب بصوت منخفض: «ليه يا فندم؟» - «اللون الأحمر باهت، الورد لازم يبقى أحمر خالص.»
وتعلقت عيناها بشفتي الرجل المتوردتين وهو يقول: «أحمر خالص، أحمر لون الغزال.»
ورد الرجل ذو الجلباب: «حاضر يا فندم.» وغادر الرجل ذو البدلة الحديقة واختفى في المبنى الكبير، وعاد الرجل ذو الجلباب يرش الحديقة.
وألصقت وجهها بالسور تتأمل الورد الأحمر وتشم رائحة الياسمين، وتتابع بأذنيها وقع رذاذ الماء فوق الزهور. «أنا في حلم؟ أنا فين؟ في أي بلد؟» تذكرت أن الحرب قد قامت منذ ساعة أو أكثر قليلا في الإسماعيلية، وأنها كانت في البيت، وأنها سمعت الضرب، وأنها رأت بيت حسنين أفندي متهدما، إنها تذكر كل هذا، ولكنها لا تذكر أنها ركبت قطارا أو أتوبيسا لتسافر إلى هنا ! أيمكن أن تنتقل من بلد إلى بلد سيرا على الأقدام؟ «اللهم اخزيك يا شيطان، يمكن ركبنا القطر!»
وتنبهت على صوت عال يأتيها من الحديقة: «بتعملي هنا إيه يا ولية؟» - «هو احنا فين ياخويا؟» - «في الإسماعيلية.» - «أمال الحرب كانت فين من ساعة كده؟»
وأشار الرجل بالخرطوم ناحية شارعهم وقال: «كانت هنالك، بعيدة، في القرشية. ابعدي عن السور لارشك بالميه.»
وأبعدت وجهها عن السور، وظلت عيناها شاردتين، ورأت زوجها وحسنين أفندي يقبلان نحوها، وسمعت زوجها يقول: «اللوري جاي بكره.» وسارت إلى جواره صامتة، ثم فجأة سألته: «حانرجع ماشيين ولا راكبين القطر؟» وخيل إليها أن زوجها يحملق في وجهها بعينين واسعتين، لكنها عادت تسأل بهدوء: «حانرجع ماشيين ولا راكبين القطر؟»
نامعلوم صفحہ