وها هو ذا الصوت الأخنف يعود مرة أخرى، وها هو ذا يطبق شفتيه الحديديتين المنصهرتين في شفة واحدة، لو فتحوا فمه بمنشار فلن يخرج من حلقه ذرة هواء؛ لأن حلقه هو الآخر أصبح مسدودا بغير فوهة، ولأنه أصبح يعرف كيف يتنفس داخل القوقعة بغير هواء يدخل ويخرج. «أخدت إيه من السكوت يا مغفل؟ زميلك اعترف ... شارع وسط البلد نمرة 6.» إنه الصوت الحاد الأخنف، هو بأنفه المفتوح على فمه، هو الذي يقول «شارع وسط البلد نمرة 6»، هو هو الحاد الأخنف.
لم يعرف تماما ماذا حدث، لكن الصوت دوى في أذنه كالفرقعة، كبالونة كبيرة منتفخة بالهواء انفجرت، كسلك رفيع طويل مشدود انقطع فجأة، ولم يعد يرى الشاويش ولم يعد يسمع الصوت الحاد الأخنف، لم يعد يرى أو يسمع شيئا، ولم يحس أصابع الشاويش الغليظة وهي تلتف حول قدميه وتجره بعيدا إلى حيث لا يعلم أحد.
الكذب
فجأة أصبح عاريا تماما.
لم يعرف كيف خلع ملابسه، لكنه كان يريد أن يضعها أمام أمر واقع، أمام رجل عار. إن العري في حد ذاته كفيل بأن يطور العلاقة بينه وبينها. لم يعد عنده صبر، فالحاضر خطر والمستقبل غير مضمون، ولم يعد عنده وقت، فالشباب أدبر والكهولة تقترب بابتعاده عن الأربعين، ورصيده من القوة أصبح يقل، وكثيرا ما فشل جسده في لحظات تأجج فيها القلب.
كان يتحدث في شيء ما، كان موضوعا جافا، لعله كان علما أو سياسة أو فلسفة، وكانت هي تجلس أمامه مرتدية فستانا حديثا، لم تكن نظرتها مغرية أو مشتهية أو أي شيء من ذلك الشبق الذي تتقنه النساء المحتشمات، بالعكس كانت نظرتها تطرد الرجل أكثر مما تناديه، تطرده بكل عنف وبغير رجعة كما نطرد عن أنفسنا المرض أو الموت أو أي شيء نحس أنه إذا ما انقض علينا فمن المحال ألا يفتك بنا. «نحن مسوقون إلى حقنا، أردنا أم لم نرد.» قال لنفسه هذه الجملة حين لمح نفسه في المرآة عاريا، عشرون سنة عاشها مع أم أولاده الخمسة، زوجة شرعية خجول وعذراء وتعشق الإنجاب بغير أن يتعرى الجسم.
وأشاح بوجهه بعيدا عن المرآة.
فقد اصطدمت عيناه بصدر مشعر كصدر القرد، وبطن عال كبطن امرأة حامل، لم يكن يظن أن بطنه ارتفع إلى هذا الحد. في كل يوم كان يرتفع ارتفاعا قليلا جدا غير ملحوظ، ويضيق البنطلون بسيطا جدا لا يزيد عن مليمتر أو نصف مليمتر، لكنه التراكم؛ تراكم الأيام، مئات الأيام، آلاف الأيام، وتراكمت معها المليمترات بعضها فوق بعض، عشرين سنة.
وكانت هي تجلس وفي يدها الكتاب، كانت تعرف أنه جالس في كرسيه بكامل وقاره يتحدث، فالكلمات تخرج من فمه متتابعة واحدة وراء الأخرى بغير فواصل وبغير سكتات، كأنما كان يمضغ لعابه ثم يفرزه حروفا متلاصقة ممتدة كسائل له قوام، أو كالخيط يتدلى من فمه طويلا وحريريا، لا ينتهي ولا ينقطع، وربما يلتف ويتشابك كالشرنقة، وربما استطاع حرف واحد أن ينفصل من تلقاء نفسه ويتطاير في الجو كذرة مائية أو فقاعة لا تلبث أن تسقط فوق أي شيء صلب.
كانت تنصت إليه، وهو ليس ضيفا عاديا، إنه صديق زوجها منذ سنين كثيرة أكثر من السنين التي جمعت زوجها بأي أحد. وهو رجل مؤدب، تستطيع أن تحس ذلك من عضلات وجهه المشدودة، وتقلص عضلات العنق، والكرافتة المربوطة حول رقبته والمعقودة بشدة، كأنما لا تفك أو لا يمكن أن تفك أبدا، كأنه ينام ويصحو بها، بل كأنه ولد بها، والجاكت ذي الصفين من الأزرار، والبنطلون الضيق المزرر بإحكام، وساقيه المضمومتين وركبتيه المتلاصقتين كما تجلس المرأة ذات الحياء أو الفتاة العذراء. أجل، كانت له عذرية رجل لا يبدو أن خلع ملابسه أبدا، أو أن ملابسه يمكن أن تخلع حتى لو أراد.
نامعلوم صفحہ