وما إن استقرت بقدميها على الأرض حتى كف السرير عن الصرير، ولم تعد تسمع إلا صوت أنفاسها المتلاحقة، التي أخذت تهدأ شيئا فشيئا حتى هدأت تماما، وما إن عاد السكون إلى حجرتها ككل ليلة حتى تذكرت أنها لم تتوضأ قبل أن تنام، وشعرت بشيء من الراحة حين اكتشفت سبب تلك الأحاسيس الآثمة التي تسللت إلى جسدها غير الطاهر.
وبينما كانت نرجس واقفة أمام الحوض تتوضأ وهي تبسمل وتحوقل وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، التقطت أذناها صوتا خافتا ينبعث من وراء باب المطبخ، نبوية لم تنم حتى الآن؟ ودفعت باب المطبخ برفق، لكن الباب لم يفتح، ووصل إلى أذنيها الصوت الخافت مرة أخرى، فوضعت أذنها على الباب وسمعت بوضوح صوت أنفاس تتلاحق بسرعة واضطراب، وابتسمت وهي تحس شيئا من الراحة ؛ نبوية مؤرقة مثلها تستكشف ردفيها الجديدين! وتحرك رأسها بغير وعي فوق الباب، فأصبحت عيناها على الثقب ونظرت داخل المطبخ، كانت الكنبة الصغيرة التي تنام عليها نبوية خالية، وأبصرت شيئا يتحرك على أرض المطبخ، دققت فيه النظر، واتسعت حدقتا عينيها وهما تستقران على كتلة عارية من اللحم تتدحرج على الأرض ولها رأسان: أحدهما رأس نبوية بضفائرها الطويلة، والآخر رأس أبيها بأنفه المقوس العالي! كان يمكن في تلك اللحظة أن تسقط على الأرض بعيدا عن الثقب، لكن عينيها ظلتا فوق الثقب وقد التصقتا به التصاقا وكأنما هما جزء منه، وتجمدت نظراتها فوق الكتلة الكبيرة العارية وهي تتدحرج، فيصبح رأس نبوية على الأرض ويرتطم بصفيحة الزبالة ويرتفع رأس أبيها إلى فوق ويخبط في قاع الحوض، ولكن سرعان ما يتبادلان المواقع فيرتطم رأس نبوية بقاع الحوض ويهبط رأس أبيها إلى حيث صفيحة الزبالة. ثم ما لبث أن اختفى الرأسان تماما بين الحلل، ولم تعد ترى إلا أربع أقدام بأصابعها العشرين تنتفض في ارتعاشة سريعة، وقد تشابكت والتحمت بعضها بالبعض في شكل عجيب كأنما هي حيوان مائي متعدد الأذرع أو أخطبوط.
لم تعرف نرجس كيف انفصلت عيناها عن الثقب، وكيف عادت إلى حجرتها ونظرت في المرآة، كان رأسها الصغير ينتفض ويدور حول جسمها في اهتزازات سريعة، واصطدمت عيناها الزائغتان بردفيها البارزين وهما يصاحبان جسمها في اهتزازات سريعة قوية، وامتدت يدها بغير وعي تكشف ظهرها عن آخره وهي ترمق وجه أبيها بطرف عينيها، وكادت الرجفة القديمة تسري في ذراعها فتشد فستانها وتغطي نفسها، لكن ذراعها لم تتحرك، وظلت تحملق في وجه أبيها دون أن تطرق. كانت عيناه الواسعتان جاحظتين، وأنفه المقوس الحاد يشطر وجهه شطرين، وقد التصق بطرفه المدبب العالي خيط طويل من العنكبوت يهتز مع نسمة الليل المتدفقة من خلال الشيش.
واقتربت نرجس من الصورة ونفخت العنكبوت عن أنف أبيها، لكن رذاذ لعابها انتشر فوق الصورة والتصق العنكبوت بوجه أبيها، وحاولت أن تنفخه مرة أخرى لكنه التصق أكثر، وامتدت يداها بغير وعي وبأظافرها الطويلة الحادة راحت تنزعه فعلا، لكنها كانت تنزع معه أيضا ورق الصورة الذي تبلل بلعابها وتساقط من بين أصابعها إلى الأرض فتافيت صغيرة.
ليس بغلا
لم يكن فاقدا للوعي، كان يعرف كل ما يدور حوله، ويرى ويسمع الأصوات واضحة حادة، ربما أوضح من أي وقت آخر، لكنه لم يكن يتحرك، وربما لم يكن يبدو للعيان أنه يتنفس؛ فصدره لا يعلو ولا يهبط. حقيقة، كان صدره لا يعلو ولا يهبط، لكنه كان يتنفس في الخفاء. كيف كان يتنفس في الخفاء؟ كيف كان الهواء يدخل صدره ويخرج دون حركة أو صوت؟ كيف كان الهواء يدخل صدره ويخرج دون أن تهتز الشعيرات الرفيعة على فتحتي أنفه؟ لا أحد يعرف ولا هو نفسه يعرف. أشياء كثيرة أصبح يفعلها دون أن يعرف كيف يفعلها، قوى جديدة غريبة اكتسبتها بعض أعضاء جسمه هكذا بالغريزة دون وعي أو تدرب، الجدار العالي بعد يوم واحد أصبح يعرف كيف يتسلقه، كيف يقفز إلى أعلى قفزة واحدة هائلة ترفعه إلى الطاقة الحديدية، فيمسك فيها بكل قوته ثم يرفع جسمه إلى فوق على عضلات يديه؛ ليطل من بين القضبان على ذلك الجزء الصغير المربع من السماء.
كيف كان جسمه يتمدد وينكمش، ويتصلب ويرتخي، ويختفي ويظهر، وفقا لإشارات أو نظرات أو أصوات معينة، بل كيف كان أن يخرج منه عضو جديد كالأميبا أو وحيدة الخلية إذا لزم الأمر، لا أحد يمكن أن يصدق أن جسمه هذا الذي حمله أكثر من عشرين عاما وعرف ثقله وكثافته وقدراته يمكن أن يتغير بهذا الشكل وبهذه السرعة فكأنه ليس جسمه، كم من مرة وضع الرسالة المطوية بين اللثة والصدغ، ومر من جوار الحارس ناظرا إلى الأمام موحيا إلى جسمه بكل إرادته وبكل غريزة البقاء فيه ألا يرى فلا يرى.
لم يكن غريبا إذن أن يتنفس وصدره ساكن، ويسحب الهواء دون أن تهتز شعيرات أنفه، فهذه هي الوسيلة الوحيدة التي تجعله حيا، فما إن يتوقف صدره عن الحركة وتتوقف شعيرات أنفه عن الاهتزاز حتى يتوقف ذلك الصوت الغليظ الذي يدوي في الهواء ثم يهوي مرتطما بشيء صلب. له طراوة اللحم، وله إحساس معين يحسه ويعرفه، ليس ألما مبرحا بل ليس ألما على الإطلاق، وإنما أشبه ما يكون بالضغط أو الشد، وهنا أيضا يكتسب الجسم قدرة خارقة عجيبة، يكتسب القدرة على عدم الإحساس بالألم، كأنما الشومة الغليظة التي ترتفع في الهواء ثم تهوي لا ترتطم بجسمه هو وإنما بجسم آخر منفصل عنه، لكنه قريب منه، قريب إلى حد أنه قد لا يكون منفصلا وقد يكون جسمه هو، ومع هذا التشكك والالتباس والاختلاط يصبح الألم أيضا شيئا مشكوكا فيه، ملتبسا إلى حد الاختلاط بإحساس آخر يشبه الإحساس بالفرح أو اللذة، ويكاد يحس أنه سعيد، وقد يشعر برغبة في أن يبتسم؛ ذلك أن فكرة غريبة خطرت بباله، وهي أن الشاويش هو الوحيد الذي يلهث من التعب، وقد وقف على بعد خطوة منه يتحسس يديه من فرط الألم الذي يحسه بعد ذلك المجهود المضني، وقد يئن أنينا خافتا يختلط بأنفاسه اللاهثة، ويبتسم هو في الخفاء دون أن يحرك عضلات شفتيه، ويرقب الشاويش دون أن يحرك جفنيه، ويتنفس دون أن يحرك صدره بتلك الطريقة الجهنمية التي لم يرد لها وصف في كتب الطب! ولكن كم يجهل الأطباء الجسم الإنساني، إنهم يشرحونه كقطعة من اللحم ويحكمون عليه بحواسهم الخمس العقيمة، أيعرفون شيئا عن تلك الحواس الجديدة أو الأعضاء التي تنبت فجأة؟ وكيف يعرفون وهم لم يعيشوا التجربة الفريدة التي يعيشها هو؟
ورأى الشاويش وهو ينتصب فاردا عضلاته باسطا الشومة أمامه ضاربا على رأسها بيد، ورافعا اليد الأخرى مشدودة الأصابع لترتطم بجبهته، ويظهر الضابط علوي قصيرا سمينا أبيض، وشفته العليا مشقوقة من الوسط لتصنع قناة بين فمه وأنفه كما هو الحال في الجنين في شهوره الأولى؛ حيث لم تتم بعد تلك الحواجز التي تفصل الأعضاء بعضها عن البعض، ويرن في أذنه الصوت الغريب، صوت لا يعرف أهو يفلت من الأنف إلى الفم، أم من الفم إلى الأنف: «فين المطبعة يا مغفل؟ انطق. حتاخذ ايه من السكوت ؟» وتتسرب كل قوته وصلابته إلى عضلات شفتيه، وتترك جسده مرتخيا هامدا ممدودا، وتصبح شفتاه كشريطين رفيعين من الصلب الملتهب يطبقهما بكل قوته فتلتحمان ببعضهما بعضا في شفة واحدة عريضة.
الصوت الحاد الأخنف يرن في رأسه، وهو عاجز عن النطق ليس عجزا لا إراديا لعدم القدرة على تحريك اللسان، وليس فقدانا للذاكرة ونسيان مكان المطبعة، وليس تمسكا بمبدأ أو وفاء لعهد أو التزام، فهو لم يعد يذكر تلك المسائل والعواطف البشرية، إنه لم يعد بشرا، أصبح كائنا آخر له جسم آخر وأعضاء أخرى، وهو قادر على النطق، قادر على أن يفتح شفتيه ويقول: «شارع وسط البلد، نمرة 6.» هذه الكلمات لا تزال في ذاكرته واضحة، أكثر وضوحا من أي شيء آخر، بل لا يكاد يكون هناك شيء غيرها في ذاكرته، نسي شكل ملامح أمه، ونسي علم الجيولوجيا الذي قضي سنوات عمره يتعلمه، أفرغت ذاكرته كل محتوياتها ولم يبق إلا تلك الكلمات القليلة: شارع وسط البلد نمرة 6.
نامعلوم صفحہ