الفصل الأول
انتقام الأرشيف
لن أكون قد أضفت جديدا لو قلت إن هيكل، في «خريف الغضب » قد قال الكثير، ولكن الجديد الذي أود أن أضيفه هو أن ما لم يقله هيكل أهم وأخطر بكثير مما قاله.
لقد أثارت المعلومات الهائلة التي فجرها هيكل في كتابه، والتي لم يكن أحد غيره يستطيع أن يصل إليها أو يعبر عنها بمثل هذه الدقة، عاصفة عاتية في مصر، سرعان ما امتدت إلى سائر البلاد العربية. كان هيكل هنا يكتب، لأول مرة، «بصراحة»، ولم يكن من العسير على القارئ الواعي أن يدرك أنه تخلى، في «خريف الغضب»، عن الأسلوب الدبلوماسي الحذر، وعن طرق التعبير غير المباشر التي كانت تميز «صراحاته» في معظم الأحيان. كان هيكل هنا، لأول مرة، في مواجهة حقيقية أمام حاكم كان نظامه لا يزال، بعد موته، يحتفظ بالكثير من أعراض الحياة، بل كانت روحه لا تزال - في رأي البعض - ترفرف بقوة على معظم جوانب الحياة الرسمية في مصر، وجاءت المواجهة قاسية، مريرة، نافذة بضرباتها إلى الصميم.
وحين بدأت المعركة الحامية حول الكتاب، كانت تحمل سمة فريدة يقف أمامها الفكر الواعي حائرا؛ فقد كانت، بالنسبة إلى الغالبية الساحقة من المصريين، معركة ضد شبح مجهول، كانت الردود تتوالى، بعضها مؤيد ومعظمها معارض، دون أن يكون أحد قد عرف عن موضوع المعركة وأسبابها إلا معلومات أولية، نقلتها حلقات قليلة جدا من الكتاب، وتسربت إلى الجمهور قبل أن يصدر قرار المنع، ومع ذلك فقد استمرت المعركة بعد المنع، وضد هذا الشبح المجهول، بكل حدتها وعنفوانها، وكانت تلك المعركة ذاتها من أبرز أعراض ذلك المرض، الذي عانى منه المصريون مرارا طوال الأعوام الثلاثين الأخيرة، أعني أن يروا أجهزة إعلامهم تمتشق سيوفها بكل الحماسة والغضب، ضد عدو لم تتح لهم فرصة معرفته.
في هذه المعركة كان الاستقطاب واضحا؛ فقد أعطاها أنصار هيكل وخصومه طابع الصراع بين عهد السادات وعهد عبد الناصر، كان المصفقون المتحمسون لما كتبه هيكل هم أنصار عبد الناصر، بحيث لم يقتصر إعجابهم بالكتاب على ما حواه من فضائح تمس العهد الساداتي، بل كان من أهم أسباب ترحيبهم به ما احتواه من دفاع، صريح تارة وضمني تارة أخرى، عن العهد الناصري. ومن جهة أخرى فقد كان الناقدون الناقمون على الكتاب هم، بلا استثناء تقريبا، من مؤيدي سياسة السادات، فلم يقتصروا في هجومهم على تبرير تلك السياسة، وإنما اغتنموا الفرصة لكي يجروا مقارناتهم المألوفة بين العهدين، ويثبتوا (على طريقتهم الخاصة) إلى أي حد تمكن العهد اللاحق من إصلاح ما أفسده العهد السابق.
وهكذا كان هيكل، في نظر البعض، شاهد صدق فضح عهدا فاسدا بأدلة لا تنكر، وكان في نظر البعض الآخر مفتريا على الحق، مختلقا للأكاذيب، ناشرا للباطل. ولم يكن أمام الجمهور إلا أن يختار بين هذين الطرفين: فأنت إما مع هيكل، فتصدق كل ما كتب، وإما ضده، فتكذب كل ما قال.
أما كاتب هذه السطور فيؤمن إيمانا راسخا، بأن هذا الاستقطاب للجماهير بين ناصريين وساداتيين، وهذا الاختيار المفروض عليهما بين التصديق المطلق والتكذيب المطلق، ما هو إلا مظهر خطير لضيق الأفق السياسي، الذي فرض نفسه على عقولنا في العقود الأخيرة، فالقضايا الحقيقية التي تثيرها عملية «الفضح» في كتاب هيكل، لا تؤدي أبدا إلى الاختيار بين عهدين، وإنما تؤدي إلى إلقاء ظلال من الشك على مرحلة بأكملها، تشمل العهدين معا، ويمكن أن تشمل غيرهما أيضا، أما الاختيار الآخر بين التصديق والتكذيب، فلا بد للعقل الواعي أن يتجاوزه، والموقف الذي أدافع عنه هو أن في وسع المرء، أن يصدق الكثير جدا مما قاله هيكل، دون أن يكون مع ذلك مؤيدا لهيكل.
هذا الكلام قد يبدو لغزا غير قابل للفهم، ولكن المعنى المقصود يظهر بوضوح من مثال بسيط: لو فرضنا أن أحد أفراد عصابة «المافيا»، قد انشق عن الجماعة وأفشى أسرارها للمحقق، هل سيكون هذا المحقق ملزما، إذا صدقه فيما أدلى به من معلومات، بأن يؤيده وينحاز إليه؟ إنني لا أود أن يؤخذ هذا التشبيه بحرفيته، ولكن كل ما قصدته منه هو أن أضرب مثلا لتلك الحالات، التي يمكن أن يكون فيها أحد طرفي النزاع صادقا، ومع ذلك لا يستحق التأييد ولا التمجيد، وهذا المعنى الأخير هو الذي يلخص موقفي من كتاب هيكل، الذي أصدق الكثير مما احتواه، وأرحب به؛ لأنه قدم إلي معلومات ما كانت لتصلني لولا هيكل، ولكني في الوقت ذاته لا أؤيد صاحبه ولا أشعر بتقدير كبير للبواعث التي دعته إلى تأليفه.
إن ما يهمني، منذ البداية، هو أن يكون موقفي واضحا كل الوضوح، ولست أطالب القارئ، منذ هذه اللحظة، بأن يقتنع برأيي؛ لأن هذا الاقتناع - إذا حدث - سوف تنسج خيوطه ببطء وتدرج خلال حلقات متتابعة من حديث طويل، ولكن ما أطالب به وأصر عليه هو ألا يكون هناك أي لبس في الموقف الذي سأتخذه. فالقضايا الحقيقية التي يثيرها كتاب هيكل هي، كما قلت، تلك التي لم يصرح بها، أو تلك التي تؤدي إليها كتاباته دون أن يقصد. والمشكلة التي تطل علينا من بين غلافي هذا الكتاب أوسع من أن تكون مشكلة هيكل وحده، أو السادات وحده، أو عبد الناصر وحده، إنها مشكلة أسلوب كامل في الحكم، كانت القضايا التي أشار إليها هيكل (ببراعة ودقة) مجرد عرض من أعراضه، وعلى الرغم من أنني سأشير في كثير من الأحيان إلى ما قاله هيكل في «خريف الغضب» فإن هدفي الحقيقي ليس التعليق على كتاب أو نقد مؤلفه، بل إن هدفي هو الكشف عن تلك الظروف والأوضاع التي جعلت الكاتب، والكتاب، والرؤساء الذين يتحدث عنهم، على ما هم عليه.
نامعلوم صفحہ