24
تأمل معي، أيها القارئ، هذا الكلام الواضح، وتأمل من جهة أخرى تلك الضجة الكبرى التي يثيرها هيكل في هذه الأيام، بعد عشر سنوات من الحرب، وبعد أن نسي الناس ما قاله في الفترة الممهدة للحرب؛ أعني الضجة التي أقام بها الدنيا وأقعدها حول ما يسميه «بالعبارة الكارثة» الواردة في رسالة سرية من حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي المصري، إلى كيسنجر، نظيره الأمريكي، وتحدث فيها إسماعيل عن نوايا مصر في جعل الحرب محدودة، وعدم توسيع جبهاتها أو تعميق مسارها. ألم يقل هيكل أكثر من هذا قبل وقوع الحرب، في مقالات علنية لا في مذكرات سرية؟ هل كانت أمريكا مضطرة إلى انتظار الرسالة السرية حتى تعرف نوايا مصر في الحرب؟ والأهم من ذلك، ألم يكن هيكل نفسه من أهم المروجين لسياسة احتلال مساحة محدودة من الأرض، والثبات فيها، وتحريك الأزمة كلها من خلالها؛ وهو ما حدث بالضبط في حرب 1973م؟
إن في وسع هيكل، بالطبع، أن يرد بقوله إن ما كتبه قبل الحرب شيء، وما حدث في الحرب الفعلية شيء آخر، فقد أتت الحرب نفسها بمفاجأة لمخططي سياسة تحرير مساحة محدودة من الأرض: هي في الواقع المفاجأة التي كان يدخرها شعب مصر «لعبقرية» السياسيين، عندما تمكن أبناء الشعب في جيشهم من العبور بسهولة غير متوقعة، وأحرزوا نجاحا سريعا قليل التكاليف، مما أوقع المخططين العباقرة في حيرة، وأوجد موقفا جديدا لم يتوقعه واضعو سياسة الحرب المحدودة، وعلى رأسهم هيكل. ولكن، هل كان من المعقول أن يحدث تغيير مفاجئ للخطط السياسية في أعقاب هذا النصر الأول السريع، بعد أن ظلت الدبلوماسية الرسمية، من سرية وعلنية، وأجهزة الإعلام الساداتية والهيكلية، تبني كل شيء على أساس حرب محدودة تحرر قطعة أرض صغيرة وتحتفظ بها؟ لو كان المخططون والكتاب الصحفيون العباقرة، قد وضعوا منذ البداية بدائل، وعملوا حسابا للموقف الذي تحقق، ضمن هذه البدائل، لربما أمكن عندئذ أن تتغير السياسة بسرعة تماشيا مع الوضع الجديد، ولكن كل شيء كان مرسوما على أساس حرب التحريك المحدودة، ولم تنتظر أمريكا رسالة حافظ إسماعيل السرية لكي تعرف ذلك، بل كان يكفيها أن تثابر - كما أرجح أنها فعلت - على قراءة هيكل.
يبقى أمامنا أن نتساءل: ما تأثير السياسة التي اتخذت مجرى جديدا كل الجدة في عامي 1971 و1972م، على التطورات التالية في مصر وفي العالم العربي؟ إن هاتين السنتين تحملان، في رأيي، بذرة معظم التطورات التالية، وإذا كان هيكل قد قام بالدور الذي حددنا معالمه في تهيئة الأذهان لتحول حاسم في السياسة المصرية، ما بين عام 1970 وعام 1972م، وإذا كان قد غير اتجاهه تغييرا جذريا، مع تغير الحاكم وسياسته، خلال هاتين المرحلتين، فإن معنى ذلك أن مسئولية هيكل عن التطورات السلبية المتأخرة للعهد الساداتي مسئولية لا شك فيها، صحيح أن السنين تضيف عوامل ومتغيرات جديدة، ولكن هذه كلها إضافات للأسس الأولى التي أرسيت في هاتين السنتين الأوليين، وعلى رأسها التحالف مع أمريكا، والحرب المحدودة بهدف الصلح الذي تتوسط فيه أمريكا، والامتناع عن التسلح عن طريق السوفييت والالتجاء إلى أمريكا، نفس البلد الذي يقدم لخصمنا سلاحه، ويعلن على الملأ أنه يضمن تفوقه.
ومنذ اللحظة التي قررنا فيها اللجوء إلى أمريكا، لكي تتوسط بيننا وبين إسرائيل، ومنذ اللحظة التي رفضنا فيها السلاح السوفييتي؛ لكي نختار بدلا منه سلاحا أمريكيا، حسمت أمور عديدة تحقق الكثير منها فيما بعد، فهذا القرار ينطوي، بصورة جنينية، على فكرة الصلح مع إسرائيل، وجعل العداء للسوفييت هدفا رئيسيا لسياستنا، والتعاون مع أمريكا، وتطبيق أفكارها في حياتنا الداخلية، وخاصة الاقتصاد.
ولكي ندرك مرارة هذه الحقيقة، وخاصة في ضوء الضجة التي يثيرها هيكل هذه الأيام ضد العهد الساداتي، الذي نسي أنه كان فيلسوفه الأول خلال السنوات الأولى والحاسمة من تاريخه، دعونا نفكر بإمعان في مغزى عبارة هامة قالها موشي دايان، تعليقا على رحلة السادات بالطائرة إلى القدس في نوفمبر 1977م: «لقد أديرت محركات طائرة السادات حين طرد الخبراء السوفييت، وبدأ سياسة تنويع السلاح وقبل باتفاقات فك الاشتباك بكل ما يعنيه ذلك من استبعاد للخيار العسكري.»
25
هذا كلام خطير بقدر ما هو واضح، فأولئك الذين رسموا سياسة تنوع التسلح عن طريق طرد الخبراء السوفييت، والترويج لفكرة التقارب التدريجي مع أمريكا، هم الذين أداروا محركات طائرة السادات المتجهة إلى القدس؛ لأنهم ربطوا مصير بلادهم وجيوشهم بمصير راعية إسرائيل وحاميتها، ومن الواضح أن هيكل، بالنسبة إلى هؤلاء، كان كبيرهم ومفكرهم وموجههم، فالبذرة الأولى قد غرستها يد هيكل، وما يتبقى بعد ذلك ليس إلا من قبيل التفاصيل، ومع ذلك فإن هيكل نفسه هو الذي يأتي في أيامنا هذه، وينعى على السادات ركوبه تلك الطائرة، التي كان هو ذاته قد زودها بالوقود، وأدار لها المحركات.
أتريد، أيها القارئ، معرفة الأصول الأولى للكارثة الحالية، و«الجذور»؟ اقرأ صفحات هذا الفصل ثانية، وفكر فيها بإمعان.
الفصل التاسع
نامعلوم صفحہ