مقدمة
تاريخ نابليون
1 - نابليون عن نفسه
2 - الحياة المنزلية والحب والنساء
3 - الحياة والسعادة
4 - آراء في الرجال
5 - الصفات القومية
6 - سياسيات
7 - الدين
8 - الحرب
9 - متفرقات
مقدمة
تاريخ نابليون
1 - نابليون عن نفسه
2 - الحياة المنزلية والحب والنساء
3 - الحياة والسعادة
4 - آراء في الرجال
5 - الصفات القومية
6 - سياسيات
7 - الدين
8 - الحرب
9 - متفرقات
كلمات نابليون
كلمات نابليون
تعريب
إبراهيم رمزي
مقدمة
قدر أحد ثقات المؤلفين عدد الكتب التي لا بد منها لإمكان معرفة سيرة نابليون وأخلاقه وطباعه معرفة وسطى بمائة كتاب، وليس يخفى أنه لا يستطيع قراءة هذه الكتب كلها إلا الأقلون منا؛ لذلك كانت الحاجة ماسة إلى مثل هذا الكتاب الصغير الذي يمثل لك الإمبراطور مفصحا عن نفسه
لقد بدا لي أثناء مطالعتي ما ألف عن عهد نابليون أن أكثر الكتاب أحد رجلين؛ رجل يحكم لنابليون وآخر عليه، فهم لا يجلسون مجلس القضاء يجمعون ما تصل إليه أيديهم من غير تحامل، ولا هم يسيرون في الأمر وسطا. ترى الدكتور «هولدروز» الذي نال كتابه ما نال من الشهرة العظيمة لم يأت ببرهان واحد على رأيه في نابليون وقدحه فيه، وترى كتاب المستر «لامفري» على بهجته مكتوبا بقلم كأنه غمس في حبر من نار، حتى لا أظن أنه قد وضع كتاب فى هجو نابليون أشنع من هذا الكتاب. ثم إذا اطلعت على مؤلف «أبوت» المشهور وجدت خلاف ذلك على خط مستقيم؛ فهو إنما يريدنا على أن نعتقد أن بطل كتابه إنما كان قديسا، ولكنه الرجل الذي أساء الناس فهمهم فيه مع أنه أعظم الناس طرا؛ هنالك يجعل الكاتب مكان الوقف من الجملة قوله (ليحي الإمبراطور)، وينقط كل حرف منقوط بدمعة من عينيه.
إنما ذكرت كتاب «أبوت» في هذا المقام لأنه معروف على جانبي المحيط الأطلسي، ومن الناس من يراه أول ما يجب أن يقرأ من الكتب إذا أريد درس حياة ذلك الكورسيكي العظيم.
كان نابليون يقول شيئا ويفعل شيئا آخر؛ لأنه كان يرى السياسة في تلك الخطة، وعنده أن الثبات إنما هو من خصائص أهل الوسط، وكان في الحرب يرى الرجال حوله يسقطون على الأرض فلا تبدو على شفتيه هزة ولكن إذا انجلت الموقعة كان الجرحى أول من يعنيه أمرهم. ولا شك أن رجلا كهذا إنما يجمع بين الوحش والإنسان في أديم واحد؛ قال «جورجود»: لم يكن النصر ينسيه أولئك الجرحى.
داس حصان جريحا لا تزال فيه آثار الحياة، فاعتذر صاحبه بقوله إن الجريح كان من جيش العدو الروسي، فقال نابليون: «ليس بعد النصر أعداء، بل رجال!»
هذه صورة نابليون فى دخيلة نفسه مكشوفة للناس، وهو غرض هذا الكتاب؛ فموضوعه إذا الإبانة عن هذه الشخصية المركبة.
كان نابليون لا يهتم بعشرة النساء ولا مجالستهن إلا قليلا، على أن ميله وحبه العظيم لأفراد أهل بيته منهن يدلان على أنه لم يكن مجردا من عاطفة الحب الإنساني؛ فإنه كان يحترم مدام «مير» و«جوزفين» عظيم الاحترام، على أنه لم يكن لهما شأن في السياسة، كما أنهما كانتا على طبائع مختلفة اختلافا كبيرا.
كانت «ليتيتيا بونابارت» امرأة عملية تعد أكثر أهل جنسها اقتصادا، وكان نابليون يشكو من حطة ما في ردهتها من الأثاث، أما «جوزفين» فكانت مسرفة كثيرة الدين، وما كان يحلو لها وقت من الأوقات إلا ليلة تشرق بجمالها فى عرصات القصر الإمبراطوري.
و«ماري لويز» أنالته بغية قلبه، وهو الولد الذي رزق به منها.
سألته مدام «دوستيل» يوما: أي النساء أعظم؟ قال: تلك التي ولدت أكثر عدد من الأطفال. وفي ذلك دليل على أنه كان يرى المرأة نافعة على العموم؛ لأن الأولاد عنده إنما هم في الحقيقة جنود معدودون.
ذلك شأن من عاشرنه من أهل بيته، وكان غيرهن من النساء ألعوبة له في بعض ساعات الفراغ، على أنه لم يكن يهتم بأمرهن إلا قليلا، ولا يفكر فيهن إلا نادرا، ما عدا الكونتس «والوسكا» البولاندية الحسناء؛ فإنها نالت حظوة لديه لم تنلها سواها. من ذلك نستدل على أن نابليون لم يكن يجفو النساء أو يزدري بهن، بل كان له على العموم عناية بهن.
كان نابليون أسيرا فى سنت هيلانة، وكان لديه من الوقت متسع عظيم للتفكير، يشهد بذلك ما أبرزه «لاكاس» و«منتولون» و«جورجورد» وغيرهم. كان ينسى السياسة وذكرى الحروب، ويكشف عن سريرته في أقواله وأحاديثه، فيلقي على من كانوا حوله من رفقته المخلصين آراءه في الدين والسياسة، وما كان يتوقعه في مستقبل حكمه لو دام. قال أحد الكتاب منهم: «هنالك رأينا اللين يغشى قلبه، ورأينا تلك الأسوار الحديدية التي نصبها الطمع على فؤاده قد ذابت وتطايرت حتى بدا لنا قلبه كله.»
إن هذا الكتاب الذي نسميه «كلمات نابليون» مجموعة مقتبسات من كتب عدة اطلعت عليها، وقد وضعتها كذلك لعلمي أن صورة نابليون الباطنة قد فات كثيرا من الكتاب الذين هم أقدر مني أن يعنوا بها، ولكني قد محصت الأمر واستخرجت قمحه من عصافته، وأسقطت ما جاء به غير الثقات من الكتاب، فإذا استطلعها القارئ اتضح له من أمر نابليون ظاهره وباطنه ما لا يجده إلا في عديد من الكتب. ا.ه. •••
هذه مقدمة جامع الكتاب، ولقد كان في نيتي أن أقف عند هذا الحد، ولكني رأيت أن أضيف إليها سيرة نابليون التاريخية معتمدا في ذلك على ما ورد في كتاب (حوادث التاريخ العظمى) الذي وضعه لطلبة المدارس الثانوية في إنجلترا ذلك المؤرخ المشهور والكاتب الفصيح الدكتور «كولير»؛ حتى يطلع القارئ على ظاهر الرجل وباطنه. ولما كان لأكثر ما جاء في هذه الكلمات علاقة تامة بهذا التاريخ، بل لا يمكن الذي لا يعرف من سيرة نابليون إلا النذر أن يتفهم حقيقة معنى هذه الكلمات، فقد وجب أن نأتي بهذا التاريخ مقدمة لهذه الكلمات، فعسى أن يكون في تمثيله للناس على هذا المنحى الفائدة التي أرجوها.
وردت هذه الكلمات في النسخة الإنكليزية معزوة إلى المورد الذي أخذت منه، ومذكورا تحت كل منها رقم الصفحة التي جاءت فيه من كل كتاب، وهذه ضربت عنها صفحا، ولكني رأيت أن آتي بأسماء مؤلفي هذه الكتب وعنواناتها في آخر هذا الكتاب حتى لا تفوتنا الفائدة التي أرادها الجامع.
إبراهيم رمزي
مصر في 10 أبريل سنة 1912
تاريخ نابليون
(1) حياته المدرسية
ولد نابليون بونابارت في أجاكسيو، إحدى مدن جزيرة كورسيكا، في الخامس عشر من شهر أغسطس سنة 1769، وكان أبوه شارل بونابارت من رجال المحاماة الطليانيين، خدم في الجندية أيام كان أهل هذه الجزيرة يدفعون عنها غارة الفرنسيين على أن هؤلاء قد تغلبوا عليهم في سنة 1768. وكانت أمه تدعى لييزيا رامولينا، وكان نابليون ثاني إخوته.
لم يكد نابليون يبلغ العاشرة من عمره حتى دخل مدرسة برين الحربية، وقضى بها خمس سنوات ونصف، كان في غضونها يقدم اسمه في تقرير المدرسة إلى الملك، ومما ذكر في هذا التقرير عن نابليون أنه كان ممتازا في دروسه الرياضية واسع الاطلاع على التاريخ والجغرافية، أما اللغة اللاتينية فكان فيها متأخرا عن أقرانه تأخرا كبيرا كما كان في أدب اللغة وغيرها، أما هو فكان محبا للدرس، حسن السيرة والمسلك، تام الصحة.
في سنة 1784 غادر نابليون مدرسة برين ودخل مدرسة باريس الحربية، قضى بها ما يقرب من سنة، ثم نال رتبة ملازم ثان في المدفعية الفرنسية. (2) حياته العمومية
مال نابليون إلى الجانب السائد في الثورة الفرنسية، وهو الذي أطلق مدافعه في شوارع باريس على العساكر الوطنية فمزقهم كل ممزق، وبذلك انتهى عهد الثورة الفرنسية وجاء عهد آخر في التاريخ الفرنسي، كان هو روح ذلك العهد، أبد عشرين سنة؛ لأنه لم يمض قليل على فعلته هذه حتى عين نابليون، بفضل المسيو براس أحد الديركتوارت (أو المديرين) الخمس الذين حكموا فرنسا في ذلك العهد بالتضامن، قائدا عاما لجيش فرنسا الداخلي وهو لم يبلغ من العمر إلا خمسة وعشرين ربيعا. تزوج بعد ذلك بجوزفين بوهارنز أرملة أحد أشراف فرنسا الذين ذهبوا ضحية مقصلة الثورة الفرنسية، وكانت أكبر منه سنا، ولكن نشأ بينهما حب ذهب بتلك الفروق، وتزوجها في سنة 1796، وقبل زواجه بقليل عينه ناظر الحربية قائدا عاما لجيش إيطاليا فذهب في تلك الحملة. (3) الحملة الإيطالية سنة 1796
لما وصل نابليون إلى مدينة نيس وجد سهول إيطاليا الشمالية تموج بالعساكر النمساوية تحت إمرة الجنرال بوليو.
لم تكن الجنود الفرنسية شيئا مذكورا أمام النمساويين ؛ إذ كانوا لا يمتازون عن سوقة الناس في شيء؛ كانت ملابسهم رثة، وأطعمتهم رديئة، لم يتدربوا التدريب العسكري اللازم، وكانت أجورهم قليلة لا يدفع لهم أكثرها، أما الخيل التي كانت في خدمتهم فلم يكن يربو الصالح منها على مائة بين أربعين ألفا من الرجال. وعلى الجملة، فلم يكن فيهم شيء يرتضى إلا صغر سنهم؛ إذ كانوا جميعا من الشبان، كما كان قائدهم. على أنه كان يظن أنه من خرق رأي الحكومة وضعف سياستها أن تكل أمر هذه الحملة إلى فتى لم تكن له الخبرة العسكرية التامة التي يعتمد عليها قبل اليوم، ولكنه استطاع أن يجعل من هذا الجيش غير النظامي جيشا به أمكنه أن يخضع إيطاليا جميعها في اثني عشر شهرا. وقف في ميليسيمو وقفة صد بها النمساويين وقطعهم عن محالفيهم من السردينيين، فكان من وراء ذلك أن نزل ملك سردينيا، وهو حاكم تلك الأصقاع يومئذ، عن كل استحكاماته على ممرات الألب لفرنسا. (4) قنطرة لودي
بعد أن عبر نابليون نهر البو جنوب بافيا رد نابليون قائد النمساويين بوليو المذكور، فتقهقر هذا إلى نهر «أدا»، وكانت عليه قنطرة تسمى «قنطرة لودي»، ما ذكرها الفرنسيون حتى يومنا هذا إلا وثار الدم في عروقهم! هنالك نصبت المدافع النمساوية على مدخل تلك القنطرة تقذف جللها كأنها رسل الموت إلى صفوف الفرنسيين المتقدمين الذين اخترقوا ذلك الطريق الموحل حتى كانوا بين مدافع النمساويين يقصدون رجال المدفعية بسنكياتهم قبل أن يتمكن القائد بوليو من إرسال المشاة لإنقاذ رجاله، وبذلك سقطت مدينة ميلان العظمى في قبضة نابليون. وتلا تلك الموقعة العظيمة تلك الموقعة الدموية التي حدثت في «آركول»، ومثلها في «ريفولي»، وتسليم مدينة «مانتوا»، وكذلك أصبحت إيطاليا تحت أقدام شاب لم يتجاوز الثامنة والعشرين. (5) معاهدة كامبو فورميو سنة 1797
بعد أن اخترق نابليون جبال الألب وهو يطارد الأرشيدوق شارل قدم بجيشه إلى ڤينا، ولكنه وجد مؤخرة جيشه يهددها جنود «التيرول» و«بوهيميا»، فرأى أن يعقد صلحا، ثم عاد إلى فنيس وأدال حكومتها القائمة.
كانت تلك المدينة فداء للنمسا وكفارة عن ذنوبها في كل حين. نزل نابليون بها فسلبها ما كان فيها من تماثيل الخيل البرونزية التي نصبت في كنيسة سنت مارك، كما أخذ منها كل ما كان عليها من حلي الذهب وغيره. أغرق أسطولها وشتت مراكبها، وبذلك سقطت عروس الأدرياتيك في قبضة نابليون بونابارت، ومما يروى عن دوق فنيسيا الأخير أنه سقط مغشيا عليه حين لفظ يمين الخروج من طاعة إمبراطور النمسا. ثم انتهت هذه الحرب بمعاهدة كامبو فورميو بين فرنسا والنمسا، نالت فرنسا بها الأراضي الواطئة النمسوية والجانب الأيسر من نهر الرين وجزائر أيونيان ومقاطعات (ميلان) و(مانتوا)، وهذه جعلت جمهورية تدعى جمهورية السيسالب. (6) نابليون في مصر سنة 1798
فكر نابليون بعد مدة قضاها في راحة أن ينزل بمصر، فنزل بها في صيف سنة 1798 وغلب المماليك في واقعة الأهرام. وكان غرضه من احتلال مصر أن يسلخ الهند من إنجلترا، ولكن لم يساعده المقدور على ذلك؛ فقد كان الأميرال نلسون الإنجليزي يتعقبه في البحر الأبيض المتوسط، حتى إذا تلاقى بمراكب نابليون في خليج أبي قير هشمها وأغرقها (أول أغسطس سنة 1798)، فذهب نابليون بعد ذلك إلى عكا يريد احتلال تلك البقاع، فما استطاع امتلاك حصن عكا الحصين، فانقطعت آماله يومئذ من مناهضة سلطة إنجلترا في الشرق فعاد إلى فرنسا هو وقليل من ضباطه، وغادر أكثر جيشه في تلك السواحل على ما ألم به من المرض والنصب والمجاعة يحاول عبثا أن يتغلب على تلك الديار.
قضى نابليون في تلك الحملة سبعة عشر شهرا (من 9 مايو سنة 1798 إلى 8 أكتوبر سنة 1799) سقطت فيها حكومة الديركتورين في حمأة الفساد، واضطربت مالية الحكومة واستردت النمسا فيها أملاكها في إيطاليا. (7) القنصلية سنة 1799
اتجهت الأعين جميعها إلى نابليون، وقد عزم على أن يحدث في الحكومة تغيرا ظاهرا؛ ذلك بأن أحد المديرين المدعو (سياس) وضع لفرنسا مشروع دستور كان على بونابارت وجيشه أن ينفذه، فنقل المجلسين إلى (سنت كلود) لئلا يرهبهم الشعب بأفعاله، وصادف مرور نابليون من مجلس الشيوخ إلى مجلس الخمسمائة، فلما كان بينهم صاح صائح: «لا نريد (Dictator) »؛ أي لا نريد أن نخضع لسلطة فرد متصرف. وعززه غيره من أعضاء ذلك المجلس، ثم التفوا حوله يصيحون ويلغبون فاضطر أن يدخل المجلس جملة من الجنود لحماية نابليون من أذاهم.
وكان أخوه لوسيان رئيس ذلك المجلس، فقام عن كرسيه وآذن بانحلال الجمعية.
وعقبه القائد (مورات)؛ إذ سار في عرصات المكان بفرقة من الجند معهم طبولهم يضربون عليها وهم يخرجون أعضاء ذلك المجلس وسنكياتهم مشرعة استعدادا لكل حادث، فخرج الأعضاء يتعثرون، ومنهم من قذف بنفسه من نوافذ المكان وجلا ورهبة.
تهدم بذلك أساس حكومة المديرين، وقامت في فرنسا حكومة أخرى اسمها حكومة القناصل؛ لأنها كانت تحت ثلاثة رجال يدعون بهذا الاسم. كانت مدة حكم القنصل عشر سنوات، وكان أكبر هؤلاء نابليون، وله السلطة كلها. أما رفيقاه، ومنهما سياس صاحب المشروع، فلم يكن لهما من الأمر إلا سلطة استشارية، وتتألف باقي الحكومة من ثلاثة مجالس: مجلس الثمانين، ومجلس الشورى وعدد أعضائه 300 شخص، ومجلس آخر عدد أعضائه مائة. كان العمل يوزع بين هذه المجالس بحيث لا يقترع مجلس على مشروع من الحكومة إذا كان هذا المجلس قد بحثه، ولا يبحث هذا المشروع مجلس يكون قد اقترع عليه.
ابتدأ نابليون بعد ذلك أن يمثل دور الملك، فكتب إلى جورج الثالث ملك إنجلترا يومئذ يقترح عليه عقد صلح بين القطرين، فرفض الملك هذه الفكرة، وكان نابليون قد أخرج الروسيا من الاتفاق الذي حصل بين الدول ضده، وكان حتما عليه أن يقضي عليه، فانصرف نابليون في داخلية البلاد إلى تدريب جيش جرار من أبناء فرنسا، فلم تمض عليه برهة من الزمان حتى اجتمع لديه ربع مليون من الجنود النظامية، ثم عمد إلى الصحافة فقيدها وكم أفواهها، ونشر من الجواسيس والعيون في أنحاء فرنسا جيشا آخر جرارا كانت ويلاته عليها لا تطاق، ثم لما علم من طبيعة أمته أنها تميل إلى الزهو واللهو والظهور كان يعقد في سراي التويلاري حفلات الرقص يجمع إليها أجمل نساء باريس وأرشق شبانها من الضباط، فكانت هذه الحفلات أزهى مما كان في أيام الملوك البريون. (8) واقعتا مارنجو وهوهنلندن
عمد نابليون إلى الاقتصاص من النمسا مرة ثانية، فذهب إلى شمالي إيطاليا في ستة وثلاثين ألف رجل وألفي مدفع، ثم صعد جبال الألب ذلك الصعود الذي لا يزال يذكره التاريخ حتى يومنا هذا بالإجلال والإعظام. صعد نابليون بعسكره جبال الألب وأصعد معه مدافعه يجرها في أعجاز الشجر على ثلج تلك الجبال وجليدها، ثم انساب على السهول بجيشه انسياب الجارف الهاري، وسار به إلى ميلان حتى لقيه طرفا جيشه: هذا قد اخترق جبل سان جوتارد، وذلك قد جاز جبل سامبلون. ثم بعد أسبوعين التقى بالقائد النمساوي ميلاس على سهول مورنجو بالقرب من الساندريا، وكان جيش الفرنسيين يعدل ثلث جيش النمسا، فلم يستطع المقاومة، ولكن جاءه القائد الفرنسي (ديسيه) معززا، فنزل بفرقته - وكانت آخر ما عند الفرنسيين من الاحتياطيين في تلك الموقعة - على صفوف النمساويين فمزقهم شر ممزق، ولكن سقط القائد على الأرض ميتا في ساعة النصر المبين. وتعقب الفرنسيون بعد ذلك أعداءهم حتى أجلوهم عن مواقعهم، وردوهم فيما وراء الحدود.
وفي شهر نوفمبر من تلك السنة كان القائد مورو الفرنسي قد أرسل إلى نهر الرين، فالتقى بالنمساويين وبدد شملهم في تلك الموقعة المشهورة المعروفة بواقعة هوهنلندن.
وانتهت هذه الوقائع بعقد صلح يسمى بمعاهدة لينيفيل، على أن شروط هذه المعاهدة لم تخرج عما جاء في معاهدة كامبو فورميو السابقة. (9) عودة المسيحية
عادت المسيحية إلى فرنسا بعد تقلص ظلها، ورحب الناس بتلك الأصوات التي كانوا يسمعونها كل سبعة أيام؛ أصوات النواقيس في الكنائس، وأصدر نابليون بعد ذلك عفوا شاملا لمن أدى يمين الطاعة للحكومة الجديدة في أيام معدودات، فعاد إليها مائة ألف أو يزيدون، واسترد كثير ممتلكاتهم التي سلبوها، وأنشأ نابليون الوسام المعروف بوسام لجيون دونور؛ أي وسام الشرف، وكان يعطى للجنود والمدنيين على حد سواء. (10) مؤتمر الشمال سنة 1801
كانت بريطانيا العظمى الدولة الوحيدة التي يخشاها بونابارت حتى عقد اتفاقا بين ملوك أوربا الشماليين وبينه، فانضمت روسيا إلى فرنسا انضماما تحالفيا ضد إنجلترا ومراكبها، ولكن نلسون كان قد ذهب إلى كوبنهاجن فضربها وأغرق مراكبها، وحدث أن تآمر بعضهم على قيصر الروسيا فخنقوه، وبذلك انحل ذلك الوفاق. (11) معاهدة أمين سنة 1802
وفي ذلك العهد أيضا ذهب جيش تحت إمرة السير رالف أبركرمبي إلى مصر، وشتت ما كان فيها من بقايا جيش الفرنسيس، فلما رأى نابليون كل هذه الخسائر لم يسعه إلا أن يتطلب الصلح، فعقدت معاهدة أمين الشهيرة في سنة 1802. كان مضمونها أن تبقى بلجيكا لفرنسا، ويبقى لها أيضا الجانب الأيسر من نهر الرين، واستعادت جزرها الغربية الهندية، وأخذت هولندا رأس الرجاء الصالح مرة أخرى، وبقيت جزيرة سيلان لإنجلترا، ولكن نابليون لم يكن يريد السلام ولا ينويه إنما كان يريد أن يحصل على مدة من الزمن يستطيع في أثنائها أن يتنفس قليلا حتى يمكنه أن يعد نفسه مرة أخرى لحملة أعظم ونصر مرض في الخارج، وكان الفرنسيون قد أعجبوا بما نال قائدهم من النصر والفتوحات المتوالية، وأعجبهم ما في حكمه من الرفق والصلاحية، فصدر قرار من مجلس الشيوخ يقضي بجعل نابليون قنصلا أولا مدى حياته، وكان قد بلغت الحماسة من نفوس الفرنسيين مبلغا عظيما، فصادف هذا القرار من نفوسهم كل الإقرار والدعاء. (12) قانون نابليون
من الأعمال العظيمة التي فعلها في هذا الزمان ذلك القانون الذي سمي بقانون نابليون؛ فإنه قد عهد إلى ستة من رجال القضاء في حكومته بتدوين مواد هذا القانون، كل فيما اختص به، حتى إذا جمعت كانت قانون نابليون المعروف الذي لا تزال تنعم به فرنسا وتفتخر، والذي نحا نحوه كثير من أمم أوربا في وقتنا هذا، بل اتخذوه أساسا لمقاضياتهم. أما المدارس في أيامه فقد كانت عسكرية الصبغة، وكان أهم ما يعنى به المعلم اللغة اللاتينية والرياضيات والتمرين العسكري. (13) تجديد الحرب سنة 1803
قلب الإنجليز لنابليون ظهر المجن بدعوى أنه كان كثير الإهانة لهم في أقواله وأفعاله، فعمدوا إلى المراكب الفرنسية المطمئنة في موانيهم فقبضوا عليها، فهاج ذلك من سخط نابليون، ولما لم يجد إلى الثأر سبيلا معجلة أرسل فحبس كل إنجليزي على ظهر فرنسا في السجون، ثم أرسل جيوشه فنزلت بمدينة هنوفر واستعدوا لغزو إنجلترا، وكان هذا أقصى آماله، ولكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلا؛ فإن إنجلترا وضعت على شواطئها السفلى كل ما كان لديها من عدد وعدة؛ مائة وستة وثلاثون ألف بحار قد لزموا مدافعهم عن كثب، وضعف هذا القدر من المشاة وقفوا كأنما هم يطرزون ساحل إنجلترا على المنش بملابسهم الحمراء، فلما رأى نابليون ذلك أعرض عن غزو إنجلترا تاركا مراكبه البحرية في بولون على ساحل فرنسا من جهة إنجلترا، وسار بعسكره إلى نهر الدانوب. (14) تلقيب نابليون إمبراطورا سنة 1804
قبل أن يحوز نصره العظيم على الدانوب اقترف نابليون جريمة فظيعة؛ ذلك أنه كان قد تآمر عليه بعض ضباطه، ومنهم بيتيجرو ومورو، واكتشفت المؤامرة فزج الأول في السجن ونفي الثاني، ولكن ذهب ضحية هذه المؤامرة رجل برئ هو دوق أنجني من بيت كندي المشهور، اتهموه بالاشتراك في المؤامرة، على أن جريمته الحقيقية لم تكن إلا أنه كان من البربون الذين يكرههم نابليون. هناك قبضوا على الرجل وحبسوه في قلعة (فنسن) بعد محاكمة أشبه بالأضاحيك، ثم قتل رميا بالرصاص ودفن حيث كان، ولم يمض قليل بعد ذلك حتى أصدر المجلسان قرارا بجعل نابليون إمبراطورا على الفرنسيس، والظاهر أن الأمة لم تكن موافقة يومئذ على هذه التسمية؛ فإنه لما أخذ أصوات الشعب الفرنسي لم ينل نابليون إلا ثلاثمائة ألف صوت، على أنه لم يحفل بذلك، بل أعدت حفلة التتويج وصدر بها الأمر من سان كلود.
وكانت حفلة تتويج نابليون إمبراطورا حافلة؛ دعي إليها البابا (بيوس السابع) لإجراء رسوم التتويج في كنيسة (نتردام)، ولكن نابليون أبى أن يطأطئ رأسه للبابا عند التتويج، فأخذ التاج من حيث كان وألبسه رأسه، ثم ألبس زوجته (جوزفين) تاجها أيضا بيديه. (15) ملك إيطاليا، مايو سنة 1805
وكانت الجمهوريات الإيطالية قد اتحدت فيما بينها على تكوين مملكة تسمى بالمملكة الإيطالية، وقد تم ذلك لهم. دعي نابليون ليكون ملكا على هذه المملكة الجديدة، فسار إلى ميلان في أبهة الملك والعظمة.
ولما كان اليوم السادس والعشرين من شهر مايو دخل كنيسة ميلان وألبس نفسه تاج لمباردي الحديدي وهو يقول: إن الله قد وهبني هذا التاج، فالويل لمن يحاول لمسه بيديه. ثم جعل أوجني بوهارناس ابن جوزفين الذي تبناه واليا ونائبا عنه في مملكة إيطاليا. (16) واقعة الطرف الأغر سنة 1805
لما رأت بريطانيا والروسيا والنمسا أن نابليون قد هدد السلام العام في أوربا وخشيت منه على ممتلكاتها وعلى نفسها، اتفقت فيما بينها على مناهضة نابليون، ومن المؤرخين من يعزو هذا الاتفاق إلى نقض نابليون ما كان بينه وبين أكثر هذه الدول من العهود والارتباطات، فجهزوا جيوشهم وساروا لملاقاة جيوش نابليون برا وبحرا، فكانت الحروب في إسبانيا من طرف والنمسا من طرف آخر، وذهب الأميرال نلسون الإنجليزي إلى الطرف الأغر حيث المراكب الفرنسية فنشبت بينها موقعة تاريخية عظيمة تهشمت فيها مراكب نابليون والإنجليز أيضا، ولكن كان النصر في النهاية للأميرال نلسون العظيم، على أنه قضى نحبه في ساعة ذلك النصر. أما الجيوش البرية فلم تصادف من جيوش نابليون مقتلا، بل تعقبت جنوده جيوش المحاربين في إسبانيا وهزموهم هزيمة ألقت الرعب في قلوب أوربا جميعها، وسار نابليون يتعقب جيش (ماك) القائد النمسوي حتى اضطره إلى التسليم، وكان جيشه يربو على ثلاثين ألفا من الرجال (17 أكتوبر)، ثم سار الجيش الفرنسي بعد ذلك إلى ڤينا يقوده نابليون حتى بلغ أبوابها ففر الإمبراطور فرنسيس إلى مدينة (المتن). (17) واقعة أسترلتز سنة 1805
وحدث بين الجندين معركة دموية لم يعرف التاريخ قبلها ما هو أنكى وأشأم، تلك موقعة أسترلتز التي نال فيها نابليون النصر المبين. هنالك تقابل الجيشان وجها لوجه، وكان جيش النمسا - يعززه جيش قيصر الروس - ثمانين ألفا تقاتل مثلها من النفوس، فلما دقت الطبول مشى الملوك الثلاث: إسكندر الروسي وفرنسيس النمسوي ونابليون الفرنسي، كل يقود جيشه بيديه، وكان اليوم من أيام الشتاء في ديسمبر فلم تشرق الشمس وغشيت الأرض غبرة أشبه بغبرة الموت، فمشى نابليون بجيشه ومشى إسكندر بجنوده، فألقى نابليون على أجنحة الروس من جيشه ما ألقى فإذا صفوفهم خطوط كأنما هي على ورق ، فمن نجا منهم فقد شتتهم الرعب، حتى إذا وجدوا أمامهم بحيرة كان الثلج على ظاهرها حسبوها منجاة من الموت، فإذا نابليون قد أطلق أفواه مدافعه عليها تصب الحمم واللهب لتتطاير حتى أفنتهم عن آخرهم، والتقى بقية جيشه بالنمساويين فأجلوهم عن مواقعهم وتعقبوهم بالسيف والمدفع حتى لم يبق لهم على الأرض ظل. بذلك انتهت تلك الموقعة الدموية وتم النصر فيها لنابليون. فقد فيها الجيش المتحد ثلاثين ألفا من رجاله، وفقد نابليون اثني عشر ألفا، وعقدت بعد ذلك معاهدة في السادس والعشرين من شهر ديسمبر بين النمسا وفرنسا.
نابليون في واقعة أسترلتز. (18) جمهورية الرين
نشأ من ذلك النصر الذي ناله نابليون تغير عظيم في دستور ألمانيا، فرقى نابليون منتخب باڤاريا ملكا، ورقى منتخب ورتبرج ملكا أيضا، وجعل من كثير من حكوماتها الصغرى جمهورية سماها اتحاد الرين، وكان فرنسيس الثاني إمبراطور ألمانيا قبل ذلك في سنة 1804 قد سمى نفسه فرنسيس الأول إمبراطور النمسا، ولكن انفصال النمسا عن ألمانيا تم رسميا في سنة 1806، وهو اليوم الذي دالت فيه الدولة الرومانية المقدسة، ومن ذلك العهد ابتدأ نابليون يهب الممالك للناس، فقضى على نابولي في سنة 1806 وجعل أخاه يوسف ملكا عليها، ثم حول جمهورية بتافيا إلى مملكة سماها مملكة هولندة، وجعل أخاه لويز ملكا لها، وأطلق على نسيبه مورات، أشهر فارس ركب الخيل في أوربا في ذلك الزمان، جراند دوق إيالة برج. (19) واقعتا أوراستات وجينا سنة 1806
أهم ما في سنة 1806 ما حدث فيها من تذليل بروسيا. كانت بروسيا تمثل دورين مختلفين فنالت جزاء هذا الرياء؛ كانت تدعي أنها صديقة بريطانيا العظمى، على أنها لم تفعل شيئا للحصول على هانوفر من الإمبراطور مع علمها بأنه أعدى أعداء إنجلترا، وكان نابليون قد غير من سياسته نحوها؛ لأنه لم يكن محتاجا يومئذ إلى ممالأتها على السكوت، وكان قد ساءه من ريائها أمور فوجه إليها عساكره وحاربها في واقعتين في يوم واحد؛ هما أوراستات وجينا. هنالك قاتل عسكر البروسيين الذين كان فردريك الأكبر قد دربهم أبد نصف قرن على الأعمال العسكرية حتى كانوا مثالا للجندية إلى أن هزمهم الهزيمة التي جعلت بروسيا ذليلة تحت قدميه. (20) قرار برلين سنة 1807
لما كان نابليون في برلين التي دخلها بعد أسبوع من حدوث واقعة جينا أصدر قرارا مؤداه أن تقفل أبواب أوربا في وجه البضاعة الإنجليزية، وأعلن أن الجزائر البريطانية في عزلة تامة، كما أنه حرم على أوربا أن تكاتب إنجلترا في شيء ولا تعاملها مطلقا، وعد كل مصنوعات إنجلترا وحاصلاتها في حكم المهربات، كما أنه اعتبر الأملاك البريطانية نهبة محللة. وأصدرت إنجلترا من جانب آخر أمرا يحرم الاتجار مع فرنسا ومحالفيها، ولكن لم يكن يمكن استمرار العمل بتلك القرارات؛ لأنها كانت تحرم أوربا من كثير من ضروريات الحياة، لا سيما وأن مصنوعات إنجلترا من قطنية وحديدية وغيرها إنما كانت تعتمد عليها أوربا كل الاعتماد؛ لذلك كانت ترد إليها كلما استطاعت سفينة إنجليزية أن تقف في أي شاطئ من شواطئ تلك البلاد. (21) معاهدة تلست سنة 1807
كأن الروس لم تكفهم تلك الهزيمة المخجلة التي لقيها جيش القيصر في أسترلتز، وكأن الألمانيين رأوا أن ما بقي لهم بعد فضيحة جينا إنما هو كثير على أنفسهم، فعرضوا أنفسهم مرة أخرى لنابليون فأرسل عليهم هذا من عساكره ما بدد شملهم في الطرفين، وقتل من الروس ستين ألفا من الرجال في واقعة فريد لاند التي حدثت في منتصف شهر يونية سنة 1807، فاضطر القيصر إسكندر أن يعقد صلحا في تلست، وهي مدينة واقعة على نهر نيامن. أما إسبانيا فقد فقدت البقية الباقية لها من الرعاية عند نابليون. (22) حرب الجزيرة 1808 إلى 1813
لم ترد البرتغال أن تتبع نظام نابليون في أوربا، فأرسل نابليون إليهم قائده (جونوت) فاحتلها وطرد بيت براجانزا المكوكي منها، فهاجروا إلى البرازيل، وعاد الجيش الفرنسي بعد ذلك إلى إسبانيا فسل عرشها من مالكها البربوني ليتبوأه يوسف بونابارت ملك نابولي، فلما خلا عرش نابولي منه رقى نابليون نسيبه دوق برج ملكا لها.
اضطرب الإسبانيون لذلك فاستغاثوا بالإنجليز، فجاءوهم ونشبت بينهم وبين الفرنسيين مواقع لم يغلب الإنجليز فيها إلا في واقعة (فيتوريا ) سنة 1813، وكان يرأسهم في تلك الموقعة (ولنجتن) القائد الإنجليزي المعروف. لم يحضر نابليون هذه الوقائع، بل إنما كان قواده القائمين بها، ولم يزر إسبانيا إلا في السنة الأولى من نشوب الحرب؛ قال وهو ذاهب إليها: «إني ذاهب لأنظف أرض الجزيرة من تلك الثعالب الإنجليزية التي غشيتها.»
قضى نابليون ثلاثة أشهر غلب فيها الإسبانيين في واقعة طليطلة (توليدو)، ودخل مادريد عاصمة الإسبان فاتحا منتصرا، ثم غادرها بعد ثلاثة أشهر حين بلغه أن جيشا نمساويا قد تحرك يريد محاربته. (23) الحرب النمساوية سنة 1809
في هذه السنة جمع النمساويون نصف مليون من الجنود يريدون أن يمسحوا بها العار الذي لحق بهم بعد واقعتي مارنجو وأسترلتز، واضطربت البلاد اضطرابا لهذا العمل، فقام الأرشدوق شارل ودعا الأمة الألمانية للقيام في وجه نابليون وتكسير ذلك النير الفرنسي الثقيل، فاخترق نابليون إليهم نهر الرين وقهر شارل المذكور في باڤاريا، وضرب ڤينا، وسار بأعلامه يخفق في شوارع تلك المدينة العظيمة، تدق طبوله وتعزف بوقاته عزف المنتصر القدير، كل ذلك في تسعة أيام (3 أبريل إلى 12)، ثم اخترق نابليون بعد ذلك نهر الدانوب وحارب في واقعة لم تكن نهائية، ذلك بأن النمساويين كسروا الكبري من ورائه بأن ألقوا كتلا كبيرة من الخشب في النهر، فاضطر نابليون أن يحمي جيشه في جزيرة مدة ستة أشهر. (23-1) واقعة واجرام 5 يولية 1809
كان اليوم يوما عبوسا قمطريرا أرعدت السماء فيه إرعادا أسكت أصوات المدافع، ووقف الناس ولدانا شيبا فوق سطوح المنازل في ڤينا وقد ملك الرعب قلوبهم حتى يكاد يتدفق الاصفرار منها وهم ينظرون إلى ملتحم الجيشين. وقف أربعمائة ألف من الأرواح في حومة الوغى حتى إذا انتصف النهار سقط قلب الجيش النمساوي وتشتت، فلما رأى الإمبراطور النمساوي ذلك، وكان يشاهد تلك المناظر المفزعة من جبل بجوارها، فقد رشده فحول بصره عن مشهد الدماء والهزيمة وغادر مكانه إلى حيث أراد.
نابليون في واقعة واجرام.
بذلك انفضت الموقعة العظيمة، ثم عقد صلح يعرف بمعاهدة شونبرون التي نال فيها نابليون أرضا عليها مليونان من النفوس . (24) ثاني زواج لنابليون سنة 1810
لم يكن نابليون من هذا النصر ليريد أن يقضي على النمسا وعائلة هابسبرج الحاكمة، بل شاء لها البقاء وشاء لنفسه أن يتصل بها؛ رغبة منه في أن يكون نسبه متصلا ببيت ملكي، فطلق امرأته الأولى جوزفين زوجته المخلصة؛ لأنها لم تكن من بيت إمبراطوري، ولم تكن تلد، ثم تزوج بماري لويز ابنة إمبراطور النمسا على أمل أن تلد له ولدا. وقد حقق الله أمله؛ فإنه لم تمض سنة على زواجهما حتى ولدت له في مارس 1811 ولدا سماه ملك روما، ولكن لم يقدر الله لهذا الملك أن يقبض على صولجان الملك؛ فإنه عند سقوط أبيه أخذه بيت هابسبرج وظل فيه حتى مات في سنة 1832. (25) القبض على البابا سنة 1811
قبل زواج نابليون بسنة حدثت حادثة في روما من أغرب ما روى التاريخ؛ وذلك أن نابليون لما ضم إلى سلطته الواسعة أملاك البابا، وكانت قبل ذلك مستقلة، أصدر البابا منشورا قضى بحرمان نابليون من الكنيسة، فلم يهتم نابليون بهذا القرار الصارم الذي كان أفظع ما في يد الباباوات من آلات الانتقام، وأتى بما هو أنكى وأشد؛ فإنه أرسل إلى روما بعضا من رجال الجندرمة تسلقوا جدران سراي البابا وأخذوه منها في الليل أسيرا إلى فرنسا، فأبقاه نابليون في فونتنبلو. (26) ذروة مجد نابليون 1811
في هذه السنة بلغ نابليون ذروة المجد؛ فقد امتدت الإمبراطورية الفرنسية من حدود الدانمرك إلى حدود مملكة نابلي، فكان على هولاندة ملك من أهل نابليون وآخر على نابلي وثالث على واستفاليا، وكان أخوه يوسف ملكا على إسبانيا، وكان برنادوت أحد قواده العظماء ملكا على السويد.
وبما أن نابليون كان حامي جمهورية الرين فقد كانت ولايات ألمانيا طائعة له، وكانت النمسا وبروسيا أطوع إليه من بنانه بعد ما أصابهما من الخذلان المتوالي، كما أنه كان حاميا أيضا للجمهورية الهلفيتية التي أدخل فيها أقاليم سويسرا، أما الروسيا فكانت محالفة له.
كل هذه الإمبراطورية الواسعة، كل هذه السلطة العظيمة، لم تمض عليها أربع سنوات حتى تبدلت فكأنما هي لم تكن ، وقسم لنابليون من قصوره العظيمة ومنازله الواسعة منزل صغير ذو حديقة صغيرة على صخرة في جزيرة صغيرة من المحيط الأطلانطيقي العظيم. فسبحان مذل الملوك! (27) أفول نجمه (27-1) غزو الروسيا سنة 1812
كانت الروسيا قد اتفقت مع نابليون على أن لا تعامل إنجلترا، ولكنها نقضت ذلك العهد فشاء نابليون أن يقتص منها جزاء ذلك، فجهز إليها جيشا يبلغ عدده نصف مليون، وسار إلى الروسيا بالرغم من نصيحة الناصحين، فاخترق بجيشه نهر نيامن وتقدم صوب موسكو، وكان جيش الروس يربو على ثلاثمائة وستين ألف مقاتل، ولكن هؤلاء لم يعتمدوا على قوتهم وسلاحهم كما اعتمدوا على برودة الطقس في بلادهم، فنشأت بينهم مواقع ليست بذات شأن كبير كانت الخسارة واقعة فيها على رءوس الروس، ولم يزل نابليون يتقدم بجنوده نحو مدينة سمولنسك حتى ضربها بمدافعه، ولكن لم تكن المقذوفات تؤثر فيها، ففر أهلها عنها ثم دخلها نابليون فلم يجد بها مأوى، فتقدم بعد ذلك إلى موسكو وحدثت بينه وبين كوتوسوف القائد الروسي موقعة برودينو (7 سبتمبر)، ظلت من أول النهار إلى منتصف الليل، وكان عدد كل فريق يربو على مائة وثلاثين ألفا من الجنود، وانتهت الموقعة بانسحاب الروس إلى الشمال صوب موسكو بعد أن قتل في هذه الموقعة 90 ألفا أو يزيدون. (27-2) حريق موسكو في 14 سبتمبر سنة 1812
مضى أسبوع على موقعة برودينو ونابليون لا يجد لعسكره مأوى بعد إذ أصاب الروماتزم أرجلهم، فسارع في السير إلى موسكو، ولم يكد يرى الجند مآذنها العالية، وقد اتصل بعضها ببعض في سلاسل مذهبة، حتى هللوا فرحا، وكانت المدينة عندما دخلوها هادئة ساكنة لا أثر للروس فيها، ولكن شبت في الليلة الثانية من بقائهم فيها نار حامية، وشبت ثانية وثالثة حتى أصبحت كأنما هي أتون عظيم، فلم يستطع نابليون المقام فيها فعاد منها إلى مدينة كريملين وبقي بها قليلا، وأرسل إلى القيصر يطلب الصلح معه فأبى القيصر ذلك، فلم يجد نابليون بعد ذلك بدا من سرعة العودة إلى فرنسا. (27-3) العودة
ابتدأت عودة نابليون إلى فرنسا في التاسع عشر من شهر أكتوبر سنة 1812، فتبعهم الروس من الوراء وظلوا يناوشونهم، ولكن لم يكن السوء كله ناشئا مما فعلوا، بل مما بلتهم به الطبيعة يومئذ من زمهريرها وثلجها؛ فقد كانوا يسيرون على أرض مغشاة بالصقيع، ثم يهطل عليهم الثلج من كل جانب فيوقفهم في مكانهم لا يتحركون، بل كانت الصفوف تخترق الصفوف؛ هذه متحركة إلى أجل وتلك جامدة بعد ذلك الأجل، وما زالوا كذلك ينقص البرد من رجاله والجوع من خيله حتى نزل بمدينة سمولنسك فوجد فيها مطعما قليلا ومرعى ضئيلا على شاطئ نهر بريسينا، هنالك قطع عليهم خط الرجعة؛ إذ جاءهم الروس من أمام هذا النهر وناوشوهم فقتلوا منهم وأغرقوا أربعة وعشرين ألفا، فلم يسع نابليون بعدها إلا أن يسافر هو إلى باريس على زحافة، فوصلها ووصل الجند بعده لم يبق منه إلا بضعة آلاف أهلكهم الجوع والبرد.
هلك من جنود نابليون في هذه الحملة المشئومة مائة وخمسة وعشرون ألفا في ميادين القتال، ومثلها نصبا وجوعا، ومائة ألف أخذوا أسرى. منذ ذلك الحين أفل نجم نابليون. (27-4) واقعة ليبزج 1813
عاد نابليون إلى باريس في منتصف ليلة الثامن عشر من ديسمبر، وكان يعلم أن أوربا كلها متحفزة للوثوب عليه، فسرعان ما جمع حوله جيشا يربو على ثلاثمائة وخمسين ألفا من الرجال في أربعة شهور، ثم نشأت حروب اشتركت فيها أوربا ضده، حتى إن برنادوت نفسه، وهو الذي جلس على عرش السويد بفضل نابليون، انضم إلى هذا التحالف! وكان نهر الألب مشهد تلك الحروب، ففاز نابليون بالنصر في موقعتي لوتزن وبوتزن في شهر مايو سنة 1811، ولكنهما لم توقفا أوربا عند حدها، بل جرأتهم خسارته الأولى على استمرار الحرب، فاجتمع مندوبو الدول في مدينة براج وقرروا أن تترك النمسا جانب نابليون، ثم استمروا في الحرب واقعة بعد موقعة حتى قاتل نابليون الواقعة الأخيرة؛ واقعة ليبزج، هنالك وسط القتال خانه عشرة آلاف من السكسونيين فتركوا مواقعهم وانضموا إلى أعدائه، وبذلك انقطع خط السير الذي رسمه نابليون (18 أكتوبر) فضاع النصر على الإمبراطور. (27-5) غزو فرنسا
عزمت الدول على غزو فرنسا فساروا بجيوشهم نحو باريس، وكان ولنجتون القائد الإنكليزي في الجنوب، فجمع نابليون كل ما كان لديه من قوة وذكاء واستعداد فطري، فكان مجموع ما جمعه من العساكر لا يزيد عن مائتي ألف رجل، وكان قد خان عهده كثير من ضباطه، حتى نسيبه مورات. تقدم جيش أوربا المتحالف نحو باريس فخرج إليهم نابليون يقاتلهم فانتصر عليهم في عدة وقائع كادت تقضي على آمال أوربا جميعا، واستمر كذلك شهرين كاملين تزداد القلوب فيها وجلا من الاندحار حتى غلط نابليون غلطة كانت القاضية؛ وذلك أنه أراد أن يهاجم مؤخرة جيوش أوربا ففعل، وكان قصده من ذلك أن ينزل الرعب في قلوبهم، ولكنهم أسرعوا إلى الأمام فدخلوا باريس من غير تعب، وكان تسليمها على يد القائد مارمونت. (27-6) نفي نابليون إلى جزيرة ألبا
دخل البراطرة عاصمة نابليون يمشون فيها ريحة وجيئة، وكان نابليون بعيدا عنها، فلما وصلها ذهب من فوره إلى فونتينيلو، وبعد ذلك بيومين أصدر مجلس الشيوخ قرارا بعزل نابليون، ثم أمضى نابليون إعلان نزوله عن ملك فرنسا وإيطاليا في الرابع من شهر أبريل. وفي العشرين من ذلك الشهر وقف نابليون وألقى على بعض جنده خطبة وداع مؤثرة أسبلت دموع الحاضرين وصعدت زفراتهم، ثم غادرهم بعد ذلك إلى فريجوس، ومنها نقلته مركب إنجليزية إلى جزيرة ألبا الواقعة في البحر الأبيض المتوسط في مياه إيطاليا العليا بالقرب من شواطئ تاسقونيا. وقد حفظ لنابليون لقب الإمبراطور، ومنح مرتبا سنويا قدره ستة ملايين من الفرنكات، ولم يكد نابليون يستقر في ألبا يومين حتى توفيت زوجته المخلصة جوزفين، فلما بلغه نعيها حزن عليها حزنا كثيرا. (27-7) عودة البربون إلى فرنسا
بعد نفي نابليون إلى جزيرة ألبا رأت الدول أن تعيد عائلة البربون إلى فرنسا، فعادوا إليها وجلس على عرشها لويس الثامن عشر أخو لويس السادس عشر الذي من أجله قامت الثورة الفرنسية، والذي قتله الوطنيون في شوارع باريس. عاد هذا الملك إلى عرش فرنسا وعادت تلك العائلة ومبادئها الأولى.
لم يتعظ بما أصاب أخاه من قبل، بل آذن في البلاد بأن أملاك هذه العائلة يجب أن ترد إليها، وكان قد امتلك أكثرها كثيرون آمنين هادئين، فقام الشعب لذلك وقعد، فلما رأى الملك ذلك أراد أن يهدئه فأصدر قرارا ضمن لأمته به ثمانية امتيازات عدها هبة من لدنه، بيد أن هذا الشعب لم تهمه هذه الامتيازات ولم تكبر الملك في عينيه؛ لأنها كانت مقررة من قبل فلم تكن إلا من قبيل تحصيل الحاصل. تلك الامتيازات هي: المساواة أمام القانون - حق الدخول في الوظائف - وحدة الإدارات - حكومة دستورية - الضريبة لا تقرر إلا بالاقتراع - الحرية الشخصية - حرية العبادة - حرية المطبوعات. (27-8) البنفسج المتجسد
انتشرت في هذه الأثناء جنود نابليون متفرقة في بلدانهم وقراهم، وانتشرت فئات الجنود الأوربية الغرباء في مدنها، فتذمر الأولون وقالوا إن فرنسا لا تستطيع أن تطعم أولئك الجنود منها بلا عمل يؤدونه لها، ولا يصح أن يظلوا يأكلون وينامون بين العيون الساهرة من أبناء جلدتهم، وتذكر الناس بأفعال الملك الجديد مصايب العهد القديم، فانتشرت في فرنسا جميعها نبوة غريبة؛ ذلك أنهم قالوا إنه إذا جاء ربيع هذا العام ظهرت في البلاد زهرة بنفسج في صورة إنسان. فأخذ الناس يتوقعون ظهور هذا البنفسج الغريب، على أنه لم يكن الأمر إلا فتنة تدبر لم يحن أوان اشتعالها، فكانت مغطاة بأوراق ذلك الزهر اللطيف لفظا ومعنى؛ فقد اتضح أن النساء كن يتزين بهذا البنفسج، فإذا فتشت أوراقه ظهر من تحتها صورة الإمبراطور نابليون المحبوب.
قضى نابليون في جزيرة ألبا حوالي عشرة أشهر (من 3 مايو سنة 13 إلى 28 فبراير سنة 14) وكان حوله بعض عساكره الأقدمين فئة تستحب الموت في سبيل رضاه، وكان يصل إلى هؤلاء من أقاربهم في فرنسا ما ينبئهم بقرب اليوم المنشود، فكانوا يبلغون ذلك إلى نابليون، فاشتد تفكر نابليون بهذا الأمر وأخذ يدبر للأمر عدته. (27-9) مؤتمر ڤينا في سنتي 1814-1815
بعد نفي نابليون إلى ألبا أرسلت الدول مندوبيها إلى مدينة ڤينا لحضور مؤتمر ينظر في طريقة إعادة الأمن والنظام إلى نصابهما في أوربا، فقضوا لذلك أشهر الشتاء لم يفعلوا شيئا، بل المروي عنهم أنهم كانوا يقضون الليل في الرقص مع الحسان ومعاقرة بنت الحان ثم إذا جاء الصبح ذهبوا إلى حيث يتكلمون، وظلوا كذلك حتى جاءهم نبأ بأن نابليون قد عاد إلى فرنسا، فصرخوا في المكان صرخة مدهشة كادت توقع جدران ذلك المكان. (27-10) عودة نابليون إلى باريس مارس سنة 1815
في صباح يوم من أيام مارس سنة 1815 ركب نابليون زورقا قام به من جزيرة ألبا إلى ناحية بجوار بلدة (كان) على الشاطئ، وكان معه من رجاله الأقدمين ستمائة رجل وانضم إليهم أربعمائة من أهل بولانده وكورسيكا، فلما بلغ مدينة جرينوبل انضم إليه سبعمائة من جنود لويس الثامن عشر، وكان هذا الملك قد سمع بهروب نابليون فأرسل إليه المارشال (ناي) أحد قواد نابليون المشهورين «وأشجع الشجعان» كما كان يسميه نابليون نفسه. ذهب المارشال لملاقاة نابليون وأسره في قفص من الحديد كما وعد بذلك الحكومة الفرنسية، ولكنه إذ رأى وجه سيده المحبوب ورأى الجيش الذي معه يضطرب ويهز أجزاء السماء بدعائه
Vive l’empreur (يحيا الإمبراطور) لم يسعه إلا أن يردد الدعاء مع الجنود. وقصة هذا الدعاء أنه لما التقى نابليون بهؤلاء الجند وعلم أنهم إنما أتوا للقبض عليه وقف أمامهم على ظهر جواده ثم قال: «يا عساكر أسترليتز وأبطال أوربا، هل جئتم لتقبضوا على قائدكم؟!» قالوا جميعا بصوت المتحمس: «ليحي الإمبراطور!» ثم نادى عليهم نداءه المحبوب واجتمعوا وراءه في مشهد عظيم حتى بلغوا باريس في ليلة العشرين من شهر مارس، وكان الملك لويس قد غادرها قبل وصولهم بساعة.
هنالك بين صهيل الخيل وصلصلة السيوف ومجر العربات تقدم نابليون في عربة حتى وصل إلى قصر التوليري، فصعد إلى غرفة المطالعة، وهناك أخذ يباشر الأعمال كعادته كأنما كان في فسحة قصيرة ثم عاد إلى العمل. هنالك أخذ يشتغل ليل نهار بعزيمة لم يعرف لها حد، ولكن نابليون كان يستعد للزمان. أخذ نابليون يفحص ما جد بعده ويدقق البحث ثم وافق على القرار الذي أصدره لويس، ثم لم يدخر من وسعه شيئا ولم يضع من زمنه لحظة من غير عمل لتجهيز جيش جرار، فجمع حوله مائة وعشرين ألف جندي للحرب. (27-11) واقعة واترلو
قضى نابليون مائة يوم في باريس قبل أن تستطيع أوربا جمع شملها، وأخيرا حشدت أوربا مليونا من الجند لمقاتلة جنود نابليون.
فرأى نابليون أن ينقض على جيش بروسيا وإنجلترا في أراضي بلجيكا ثم يتوجه بعد ذلك لمقاتلة باقي الجيوش على شواطئ الرين، فسار بجيشه إلى (شارل روا) فالتقى بقائد الجيش البروسي، وما زال به حتى أجلاه عن مواقع القتال وانصرف إلى الجيش الإنجليزي فأصلاه نارا حامية حتى لم يبق من جيش ولنجتون إلا معدود اضطر أن يصفه أفرادا متباعدة جدا. وعند ساعة النصر لنابليون، بل عندما ابتدأت الهزيمة تقع في النهاية على رءوس الإنجليز، التفت نابليون فإذا جيش بلوتشر البروسي قد عاد من الوراء يعزز أفراد الجيش الإنجليزي، فعلم نابليون أن هزيمته محققة، وأنه لا شك مقهور، فترك ميدان القتال وركب مركبا إنجليزية، وعاد إلى باريس، وهناك أمضى وثيقة النزول عن الملك لابنه (ملك روما) في الثاني والعشرين من شهر يونية، ولكن جيش المتحدين أبى أن يقرها فألغاها، وأعاد لويس الثامن عشر إلى الملك في السابع عشر من شهر يولية. (27-12) التسليم
أسرع نابليون بالرحيل إلى (روثفورت) يقصد السفر إلى أمريكا، ولكنه لم يستطع ذلك لأن المراكب الإنجليزية كانت تراقب الشواطئ. في الخامس عشر من شهر يولية ركب نابليون سفينة إنجليزية تسمى (بللروفون) أوصلته إلى بلدة تورباى من بلاد إنجلترا، وهناك أبلغه قبطانها أن الحكومة الإنجليزية قضت له بالنفي إلى جزيرة سنت هيلانة. (27-13) سنت هيلانة
وصلت السفينة (نورثمبرلند) بنابليون إلى هذه الصخرة القائمة في بحار المحيط الأطلسي في الخامس عشر من شهر أكتوبر، وهناك قضى الإمبراطور العظيم ست سنوات كان فيها كثير القراءة كثير التفكير، وكان حارسه في هذه الجزيرة السير هدسون لو شديد المراقبة عليه كثير الإهانة له، حتى قضى نحبه في الخامس من شهر مايو سنة 1821.
فدفن إلى جانب غدير صاف كانت تظلله أشجار الصفصاف والسرو وتظل نابليون من حر تلك الجزيرة، وبقيت جثته هناك حتى قامت بعثة من فرنسا لنقله إلى الوطن الذي حن إليه وأوصى بنقل جثته إليه «بين الأمة الفرنسية العزيزة التي أحبها حبا جما».
ذهبت هذه البعثة في شهر أكتوبر من سنة 1840 فحملته إلى فرنسا حيث أقيم له مأتم لبس فيه الناس عليه الحداد.
وقد أخذ لنقل الجثة من ميناء الهافر إلى باريس خمسة أيام؛ وذلك لأن فرنسا كانت تحتفل بها في كل مكان وصلته، وقد بلغ من حب الناس له أنهم مع علمهم بموته لم يشاءوا إلا أن يقولوا
Vive l’empreur
ليحي الإمبراطور إيذانا بأنه حي في قلوبهم على الدوام، وأنه ما عجل بموته إلا ما فعلته به إنجلترا حتى حرمت عليه رؤية زوجته وابنه الوحيد من يوم سفره. فقضوا للرجل إلا أن يموت بعيدا عن فلذة كبده ومشتكى حزنه قبل أن يلم به المشيب.
الفصل الأول
نابليون عن نفسه
قال نابليون: «قد كنت أنفق ساعات لعبي في العمل، ولقد طالما قضيت الليل أفكر فيما ألقي علي من دروس النهار؛ ذلك بأن طبيعتي لم تكن تتحمل أن يكون غيري المبرز في فرقتي.» «إني لأرجو والسيف في محملي وديوان هوميروس في جيبي أن أنحت سبيلي في هذه الحياة.»
ولما كان نابليون في مدرسة برين كان إخوانه في المدرسة يقللون من شأنه، فدعاه ذلك إلى أن دعا أحدهم للمبارزة معه، فلما علم ناظر المدرسة بذلك حبس نابليون في سجن المدرسة عقابا له، فكتب نابليون إلى الناظر خطابا لم يسعه بعده إلا أن أطلق سراحه. وهذا تعريب الخطاب: «سيدي، لن أعمد إلى تهدئة ما في نفسي من سورة الغضب مهما كان في ذلك من الخطورة؛ لأني أعتقد من صميم قلبي أن داعيه شريف مقدس. إني لا أطيق أن أرى أبي المحترم يهان أمام عيني، ولو اعترضت المصلحة وقامت القوائم. وإني لأحس أن في الشكوى إلى الرؤساء من مثل ما رأيت ضعة وذلة، وأن الولد الجدير بالبنوة جدير أن يثأر لنفسه إذا أصابه مثل ذلك.» «ما أكثر ذكرات الصبا عندي كلما خلا فؤادي من التفكر في الأمور السياسية أو فيما يصيبني من يد ساجني (السير هدسون لو ) على هذه الصخرة. هنالك أفكر في حياة الإنسان، وهنالك تتمثل لي فكرتي الأولى في أنني كنت أعيش أسعد الناس إذا كان لي دخل قدره خمسمائة جنيه في العام أعيش بها عيشة والد بين زوجته وبنيه في منزلنا القديم في أجاكسيو.
إنك يا منتلون تعرف هذا المنزل وتذكر حسن موقعه، لقد طالما أفقدت بستانه الجميل أبهى ما كان فيه من عناقيد الكرم أيام تجري أنت ورفيقتك بولين في نواحيه تقطفان منه ما شاءت طفولتكما. ما أسعد هذه الأوقات! إن للوطن لسحرا خالدا تنمقه الذكرى بأزهى ما يستميل القلوب حتى إلى طيب ثراها، ذلك الثرى الذي نال من كل حاسة نصيبا حتى ليكاد الإنسان وعينه مقفلة أن يعرف أين دبت قدمه من ذلك المكان في زمان الطفولة.
نابليون يقدم سيفه إلى صاحبه ويوصيه أن يسلمه إلى ولده.
إني إلى اليوم أذكر وأنا جم العاطفة كيف مشيت بجوار باولي ذلك الأمير العظيم حينما ساح في جزيرتنا، هنالك كنا خمسمائة من أبناء أرقى أهل الجزيرة في معيته، ولقد كنت أشعر بصلف إذ مشيت بجواره وكان يريني، كما يري الوالد ولده، تلك المآزق التي جاهد فيها مواطنونا الكرماء في سبيل استقلال البلاد. أما والله إن أثرها ليزال يرن في صدري.»
وكتب إلى الأستاذ رينال، من خطاب في سنة 1786: «أراني من الكتاب وإن لم أعد الثامنة عشرة من العمر تلك السن التي يجب على المرء فيها أن يتعلم. أفترى جرأتي هذه مستوجبة هزؤك؟ إذا كان العفو دليلا على سمو الحجى فقد وجب أن يكون عفوك عظيما. إني باعث لك بالفصلين الأول والثاني من كتاب أردت إيداعه تاريخ كورسيكا، ومرسل إليك معهما محصل الباقي، فإن راقك ما أفعل استمررت، وإن نصحت لي بالوقوف انقطعت.»
وكتب إلى والدته في خطاب تاريخه 1789: «ليس لي منزع إلا العمل؛ لذلك فأنا لا أرتدي ثيابي إلا مرة في كل ثمانية أيام، وترينني لا أنام منذ مرضت إلا قليلا؛ أذهب إلى مخدعي في العاشرة من الليل وأفيق في الرابعة من الصباح. أما طعامي فأتناوله مرة في اليوم، وذلك في الساعة الثالثة، وقد وجدت ذلك مفيدا لصحتي.»
وكتب إلى أخيه يوسف في 3 يولية سنة 1792: «كل يعمل لنفسه ويود أن يرقى في الناس بالمين والوشاية، ولقد رأيت الناس في هذه الأيام أمشى بالدسائس وأسعى فيها منهم فيما مضى. فليت شعري، أفلا يقضي هذا على الأماني والأمال! إني لاشفق على أولئك الذين يقتادهم سوء الحظ إلى أن يمثلوا في الوجود دورا ما كان أغناهم عن تمثيله. لئن عاش المرء في هدوء تحفه محبة أهل بيته له - إذا كان له أيها الأخ أربعة آلاف من الفرنكات - لقد كان له من أمره رشد. كما أنه يقتضي للمرء أن يكون بين الخامسة والعشرين والأربعين من العمر لتقصر تخيلاته فلا تعود تشقي فؤاده. إنى أعانقك وأوصيك بالاعتدال إذا أردت أن تعيش هانئا.»
وقال نابليون في خطاب إلى أخيه يوسف: «أراني في كل وقت من أوقاتي كما يكون الرجال ليلة موقعة عظيمة؛ وذلك لأني معتقد من صميم فؤادي أنه إذا طاح الموت بين الجموع يفصل بين الأمور ويقضي كان من الجنون أن يضطرب له القلب أو يهتم به الوجدان. خلقت ثبتا أقابل المقدور بشجاعة، وسأظل كذلك إلا إذا بدل مني.» «دعاني شبابي أيام رأست جيش فرنسا في إيطاليا أن أكون على جانب عظيم من التحفظ فيما يبدو من أخلاقي، وأن أرعى شرائط الآداب جد المراعاة. ولولا ذلك ما استطعت أن أبسط سلطتي على رجال أكبر مني سنا وأكثر تجربة. أجل، فقد اختططت لنفسي سيرة لو محصها متعمد ما وجد في غضونها غبرة. لقد كنت في الخلق الرفيع مثالا كما كان «كاتو» بين الرومانيين، ولا شك أن الناس كانوا يرون ذلك مني، كما أني كنت فوق ذلك كالفلاسفة والصالحين. كيف لا وأنا لا أستطيع أن أحتفظ برفعتي إلا إذا ظهرت في الجيش خيرا من أي رجل فيه. لو أنني ملت مع النفس في ضعفها لأضعت سلطتي وفقدت سطوتي.»
وقال في خطاب إلى أخيه يوسف : «أريد الوحدة والعزلة، فقد أنضاني المجد وأتعبني؛ غاض معين الشعور وأصبح النصر لا طعم له. يالله! ما لي ولم أعد التاسعة والعشرين قد بلغت النهاية ...!»
وقال في خطاب إلى جوزفين: «أقطع في اليوم عشرين أو خمسا وعشرين مرحلة بين ركوب عربة وامتطاء جواد. أنام في الساعة الثامنة وأستيقظ للعمل في منتصف الليل.» «أنا دائم الشغل كثير التفكير، فإذا رأى الناس أنني مستعد على الدوام لتدبير ما تخلقه الظروف من عاجلات الأمور ولحل عارضات المسائل، فذلك لأني قبل أن أشرع في أي عمل من الأعمال أكون قد فكرت فيه وتدبرته وتبينت ما قد ينشأ عنه. فلا تحسبن أنه الذكاء يملي علي ما أقول وأفعل إذا حدث أمر لم يكن في الحسبان! كلا، بل هو التفكير والتدبير. إني دائم الاشتغال، أشتغل على المائدة وفي قاعة التمثيل وغيرها، وأفيق في الليل لكي أعمل عملا.»
وقال وهو في جزيرة سنت هيلانة: «الجد والكد من عناصري، لقد عرفت حدا لعيني وساقي ولكني لم أستطع أن أعرف لمقدرتي على الشغل حدا.» «قدرت ثم خلقت للعمل ... لا لأمسك بفأس ولا معول.» «لا أعرف حدا لما أستطيع إنجازه من الأعمال.» «لقد ضاعفت من نفسي بنشاطي.» «إني على الدوام في حالة واحدة. إن من كان مثلي لا يتغير.» «مثلي من الرجال لا يبطل جهده حتى يوارى في قبره.» «لا أستطيع أن أكتب حسنا لأن عقلي مشتغل بشيئين في حين واحد؛ أفكاري من جهة، وخطي من جهة أخرى. ولا تزال تستبق حتى تسبق، فإذا الخط من الآراء في مكان سحيق ... لا يمكنني اليوم إلا أن أملي ما أريد فضلا عن سهولة هذه الإملاء فإنها عندي كما يكون الحديث بيني وبين الناس.» «إن حضور ذهني بعد منتصف الليل لحضور تام، حتى لو أفقت من نومي بغتة لحادثة من الحوادث كنت كأنما لم أكن نائما، فلا العين يبدو عليها أثر الفتور ولا ذهني إذا أمليت نم عن أنني كنت قبل ذلك في سبات.» «تذكر أن الكون قد خلق في ستة أيام. اطلب مني ما تشتهي إلا الوقت؛ فإنه الأمر الوحيد الذي لا تصل إليه يدي.» «إني أشعر باللانهاية في نفسي.» «وهبني الله القوة والإرادة لتذليل كل عائق.» «إنى لا أجهل طريقة صنع شيء مما أحتاج إليه، فإذا لم أجد من يصنع بارود المدفع صنعته بيدي.» «بلغت المجد خطوة فخطوة.» «طبيعي في نفسي أن أرأس وأقود.» «جعلتني الفتوحات كما أنا، وهي وحدها التي تحفظ لي هذه المنزلة.» «إن رأيي إذا أردت أمرا أن أقصده، لا تعوقني عنه الاعتبارات، ولا تقصر من جهدي حياله.» «لا تبلغ الغايات إلا بالعزم والمثابرة.» «من الناس من يعزو جلائل النجاح الذي نلته إلى حسن حظي والتوفيق فقط، ولكنهم إذا ذكروا ما أصبت من الخذلان قالوا إنه لإغلاط اقترفتها! على أني إذا قدمت عن نفسي حسابا علم الناس أنني في الحالين إنما كنت أعمل بقلبي وفؤادي طبقا لمبادئ أعرفها.» «إنه وإن كان البوربون والإنكليز يسلمون بأنني قد عملت بعض ما يسمى عملا صالحا، ولكنهم مع ذلك يعزونه إلى وساطة جوزفين! على أن جوزفين لم تكن تتداخل في الأمور السياسية.»
وقال في خطاب إلى مدام بورين: «لا تحسبي أن المقام العالي الذي استبحته قد غير من قلبي نحوك، فليست قيمتي بالعرش ولا الملك، إنما قيمتي في نفسي.» «أشفق أن أكون قد أتيت من الأمور من غير إرادتي ما لا يرتضيه العدل والإنصاف بسبب اضطراري إلى تصديق الحكاية لأول وهلة، من غير تحقق من صحتها ولا تثبت، وأخشى أنني لم أقض كثيرا من ديون الشكر علي للناس. ما أشقى رجلا لا يستطيع أن يفعل كل ما يجب عليه!»
خط نابليون.
وقال في خطاب إلى مدام بورين: «ما أسعدك! إنه لا يطلب منك الظهور للناس في مشهد، أما أنا فمضطر إلى التجول بينهم في معية وبطانة، وهو أمر ثقيل على نفسي، ولكنه يحلو في عين الشعب وبه أرضيه.»
وقال في خطاب إلى أخيه الملك يوسف: «إني ما عملت يوما للحصول من الباريسيين على هتافهم ودعائهم؛ لاعتقادي أنني لست ملكا من أهل التمثيل . وما أخذت يوما بالعجلة والتهور في تنفيذ أمر من أموري؛ لاعتقادي أنه كان أمامي من الوقت ما يكفي للتأمل والتدبر. ولقد طالما قلت لمجلس حكومتي إن مشروعاتي لا تتم إلا في عشرين سنة، ولكني لم أظفر إلا بخمس عشرة فقط.» «إذا سلمت اليوم بأمر طلب مني غيره غدا، ومثله بعد ذلك، حتى إذا التفت لنفسي وجدت أن عملي إنما كان لأخدم به ملك بروسيا.» «لقد تعودت استماع أنباء الخطوب حتى أصبحت لا أتأثر بالفادحة حين يتلى علي نبؤها، وكذلك دأبي؛ فإنه مهما يذكر لي من مصايبها ونوازلها لا أهتم له في حينه، فإذا انقضت بعد ذلك ساعة من الزمان فهنالك أشعر بوقعها.» «لو أنني عدت للحكم مرة أخرى لفعلت كما كنت أفعل؛ أعني أنني كنت أنظر إلى الأمور في مجملها لا في تفاصيلها.» «قد آن لي اليوم أن أمثل دور الملك بعد إذ مثلت دور الجندي زمانا طويلا.» «إني وإن أكن أصبحت ملكا لم أنس أنني وطني.»
وقال لجوزفين: «أريد أن أعيش في هدوء؛ فإن لي اهتماما بكثير من الأمور غير الحروب، ولكن الواجب قد غشى كل شيء حتى لقد ضحيت براحة بالي ومصلحتي وسعادتي في حياتي كلها للقيام بهذا الواجب.» «إن حربي التي شننتها على روسيا هي التي خذلتني، ولكن طريقتي في حكم السلطنة كانت صالحة في الجملة، وعندي أنني إذا عدت للملك ما تخيرت سواها.»
وقال في سنة 1813: «إني لأموت تحت أنقاض عرشي ولا أسلم لهم بسلخ ممتلكات فرنسا منها فألطخ بذلك شرفي بين العالمين.» «ما غلبني سوء طالعي بمثل ما غلبتني أنانية رفقائي في الجيش وقلة شكرانهم.» «إني لأحسد أدنى فلاح في سلطنتي على نصيبه في هذه الحياة؛ فهو إذا بلغ سني يكون قد قام لوطنه بالواجب المفروض عليه ثم عاد إلى داره يستمتع بأنس زوجته وأولاده، أما أنا فملزم بالعودة إلى المعسكر لأكون ضمن من كتب عليهم القتال إلى آخر نسمة! تلك حياتي، وذلك هو المقدور الغامض.»
وقال في خطاب إلى كولانكورت أيام كان منفيا في جزيرة ألبا: «ليس التعود على حياة تقاعد وهدوء بال من الصعوبة بالمكان الذي يظنه الناس ما دام للإنسان من نفسه منزع إلى ما يجعل وقته نافعا. إني أنفق أكثر أوقاتي في الدرس، وإذا خرجت متعت عيني مدة برؤية جنود معيتي الأبطال. هنا تظل أفكاري صافية هنية؛ لأنها لا تخلط على الدوام بتذكرات مؤلمة.»
وقال أيضا بعد واقعة واترلو: «سئمت الناس والأشياء على حد سواء، ولم يبق لي من شيء أريده إلا التمتع بالراحة، أما المستقبل فلا اكتراث لي به، وأما الحياة فإني أحمل عبأها كما هي، لا أعلق نفسي منها بوهم براق ولا بخيال ساحر. إن بين جنبي من فرنسا تذكارات تكفيني لذة وألما فيما بقي من أيام حياتي، ولكن لا بد أن يرافقها على الدوام أسف قاتل وحسرة لا دواء لها بسبب ما أصابني في أيامي الأخيرة.» «لقد لبست تاج فرنسا الإمبراطوري، ولبست تاج إيطاليا الحديدي، أما إنجلترا فقد ألبستني تاجا أبهج منهما وأفخر - ذلك هو التاج الذي لبسه منجي العالم - تاجا من الشوك! إن العسف والإهانة اللذين ألاقيهما من إنجلترا إنما يزيدان في مجدي، وأعتقد أن أبهى أسباب هذا المجد إنما هو اضطهاد إنجلترا لي.»
وقال وهو في سنت هيلانة: «لا تخلو المصايب من دلائل المجد والبطولة؛ لقد كان ينقصني سوء الطالع في حياتي، فلو أنني مت على العرش يحوطني من القوة جو كثيف الأديم لبقيت سرا يستعصي على الناس فهمه، أما الآن فإن سوء طالعي كفيل أن يساعد الناس على إبداء رأيهم في من غير حجاب.» «إن مثلي في أوربا مثل محمد في العرب؛ لقد وجدت كل شيء يدعو إلى تأسيس سلطنة. نعم، كانت أوربا تئن من الفوضى التي انتشرت فيها، وكان الناس يودون أن تبطل هذه الفوضى، فإن لم أكن قد أتيت لها فربما جاء غيري، وربما انتهى الأمر يومئذ بفرنسا إلى امتلاك العالم جميعا. وأكرر هنا القول بأن الرجل إنما هو رجل فقط؛ فلا عبرة بقوته إذا لم تساعده الظروف والعاطفة العامة. أتظن أن لوثير هو الذي أحدث عهد الإصلاح؟ كلا، بل هو الرأي العام كان ضد الباباوات. أوتظن أن هنري الثامن هو الذي خاصم الكنيسة في روما. كلا، بل هو الشعور العام؛ شعور أمته قد أراد هذا الانفصال.» «ما جعلت يوما للحياة عندي اهتماما كبيرا. ما كنت لأحاول - ولم أحاول - أن أزحزح قدمي فرارا من الموت.» «لو أنني مت في موسكو لتركت من ورائي سمعة ليس لها مثيل في التاريخ، شهرة الفاتح العظيم. فليت رصاصة اخترقت كبدي فقضت على حياتي. هناك ولو أنني مت في بوريدين لمت ميتة الإسكندر، ولو قتلت في واترلو لكان موتا صالحا، بل ربما كان موتي في دريسدن أصلح منه. كلا. بل أراه أصلح في واترلو. هنالك كنت أموت على شيئين: حب أمتي لي وأسفها علي.»
الفصل الثاني
الحياة المنزلية والحب والنساء
«مهما تفعل الأم فلا حق لولدها في تأنيبها.»
وقال من خطاب إلى جوزفين: «وصلني خطابك الذي تؤنبينني فيه على سوء رأيي في النساء، أما الحقيقة التي لا مراء فيها فهي أني أكره ربات الدسائس منهن؛ ذلك بأني لم أعتد إلا رؤية السيدات الطيبات الرقيقات المؤاسيات، أولئك أحبهن. فإذا كن قد ألفنني فذلك من خطئك لا خطئي، ولكن مهما يكن من الأمر فإنك تشهدين أنني سرت سيرة الكرم والتسامح مع امرأة عاقلة لبيبة جديرة بذلك؛ تلك هي مدام دي هاتزفلد، فإني لما أريتها خطاب زوجها أسبلت دموعها وصاحت صيحة الإخلاص والحزن وهي تقول: «بلى ذلك خطه بعينه!» وقد كفاني منها ذلك. أجل لقد بلغ قولها مني صميم الفؤاد، فقلت لها عندئذ: «أيتها السيدة ألقي هذا الخطاب في النار تسقط كل حجة على زوجك»، ففعلت وعادت إليها سعادتها، وها هو زوجها الآن في أمان، ولو انقضت قبل ذلك ساعتان لكان اليوم ميتا. من ذلك ترين أنني أحب من النساء من كانت على شاكلة النساء بساطة ومودة ودعة؛ لأنها يومئذ تشابهك وتماثلك.» «لست أرى ضرورة لإتعاب أنفسنا بوضع مشروع لتعليم الفتيات؛ فإنه لا تربية خير من تربية أمهاتهن لهن، أما التعليم العام فلا يوافقهن؛ لأنه لا يطلب منهن أن يعملن عملا بين الناس. إن تربيتهن على الأخلاق الفاضلة هو الكل في الكل. أما هن فلا يتطلعن لشيء غير الزواج.»
سألت مدام دوستيل نابليون مرة: أي النساء أعظم؟ قال: «أكثرهن ولدا.» «المرأة الجميلة تسر العين، ولكن المرأة الصالحة تسر القلب؛ أولاهما جوهرة والأخرى كنز.» «أحر بالمحبة أن تكون مسرة لا مساءة.» «إن الحب شغلة الخلي الكسول وضيعة المحارب ومهبط الملك.» «المحبة الصادقة هي السعادة التامة.» «لا تتم السعادة في البيوت حتى يلين أحد الطرفين للآخر.» «إن الزوج الذي يرضى لنفسه أن تقوده امرأته قليل الاعتبار في نظري.» «لم أجد أقوى من الضعف؛ يشعر أن له من القوة حمى. ذلك دأب المرأة في كل حين.» «إذا تملك الإنسان الحب تملكه الضعف.» «الحب جهالة وجنون.» «أعتقد أن الحب مضر بالمجتمع، وقاض على سعادة الفرد؛ لذلك أرى ضرره أكثر من نفعه.» «لا تستطيع النساء جميعها أن تضيع علي من زماني ساعة.» «عندي من الأمور غير الحب ما أفكر فيه؛ إنه لا يستطيع رجل أن يبلغ في الحب غاية حتى يضيع عليه كثير من المجد. لقد رسمت لنفسي خطتها، فأقسم لا تستطيع أسحر عين ولا أفتر طرف، أن تحولني عنها قيد شعرة.» «لا أظن أن قلوبنا تستطيع أن تحب اثنين في آن واحد، إننا لنخدع أنفسنا إذا حسبنا أننا نحب شيئين حبا شرعا.» «لقد ملكت القلوب كما ملكت الأقطار.» «ليست فرنسا في حاجة إلى ما يعيد من شأنها أكثر من حاجتها إلى أمهات صالحات.» «إن للمبادئ الأولى التي ينالها الإنسان من أبويه، بل يشربها مع ما يرضعه من ثدي أمه، لأثرا في النفس لا يمحى.» «خير للنساء من تحريك لسانهن أن يشتغلن بالإبرة، ولا سيما إذا كان تحريك هذا اللسان في الأمور السياسية. أرى الحكومة تضيع إذا أخذت المرأة في تدبير الشئون العامة. إنه إذا رأت جوزفين يوما أن هذا الأمر جدير أن تفعله الحكومة دعاني رأيها هذا إلى أن أفعل نقيضه على خط مستقيم.» «يجب عليهن أن يعنين بتربية أولادهن وترتيب منازلهن من غير أن يشغلن أنفسهن بأمور ليس لهن بها دخل.» «ليتني كنت تحادثت مع النساء كثيرا؛ فإنهن كن يذكرن إلي ما لا يستطيع الرجال ذكره.» «ليس المجتمع في فرنسا شيئا حتى تكون فيه السيدات؛ إنهن روح الحديث وحياة المجالس.» «أهم ما يجب على الرجل إذا كان له بنون أن يربيهم تربية حسنة، ولكن إذا حرم الإنسان نفسه من الثروة بسببهم فإنما يأتي عملا من أعمال الجنون. قد تقتصد وتجمع لهم الثروة والمال ثم لا تلبث حتى ترى حوراء قد ملكت فؤاد ولدك أو سارت به نفخة بوق، فإذا المال الذي جمعته لهم قد ضاع في لمحة عين! ألا إن أجدر ما تهتم به في حياتك أن تعنى بشأن نفسك.» (1) عائلة نابليون (1-1) عن أمه «إنها لجديرة بكل أنواع الاحترام؛ كانت رأفتها شديدة، وكان جزاؤها عدلا؛ عاقبت أم أثابت. وكانت تنظر إلى الأمر من جهتيه.» «إن الفضل فيما بلغت وفعلت من عظائم الأمور إنما هو لمبادئ والدتي وحسن أسوتها.» «رأي أمي رأي سليم لا تخطئ فيه أبدا؛ فنصائحها وتجاربها عندي لا تقدر بثمن.» «إن أمي امرأة رشيدة ملئت حكمة وصوابا.»
وقال عن مدام دي كولومبي؛ وهي أول من علق بها من النساء: «كنا أطهر مخلوقين، وكنا نعقد لتلاقينا اجتماعات قصيرة جميلة، أذكر منها أنني اجتمعت بها صباح يوم من أيام الصيف وقت السحر فكانت كل سعادتنا في تلك الساعة أن جلسنا نأكل أثمار الكرز.» (1-2) جوزفين «جوزفين أيتها الشريفة، إني مدين لك بهنيهات السعادة التي قضيتها في حياتي.»
جوزفين.
وقال وهو يخاطب جوزفين في آخر اجتماع بها: «لقد كنت يا جوزفين سعيدا كأي رجل في هذه الدنيا، ولكني اليوم وقد تكاثفت فوق رأسي سحائب من الهم لا أجد لي سواك ألجأ إليه.»
وقال وهو يودع جوزفين قبل سفره إلى جزيرة ألبا: «إن سقوطي لعظيم، ولكن ربما كان نافعا كما يقول الناس. إني سأجعل القلم في عزلتي مكان السيف فأسطر به تاريخ حياتي، وسيرى الناس أنه عجيب . لم ير العالم مني حتى اليوم إلا جانب طلعتي، ولسوف أريهم نفسي في تمامها، فكم من أمور خافية سأكشف عنها الغطاء ... الوداع يا جوزفين أيتها العزيزة، تجلدي كما أنا متجلد، ولا تنسي الذي لم ينسك ولا هو ذو قدرة على نسيه لك. الوداع الوداع يا جوزفين.»
وقال بعد تخليه عن الملك في المرة الثانية: «كل شيء هنا يهيج في نفسي آلام الذكرى، هذه الدار أول شيء ملكته، اقتنيتها بمال حصلته بكدي. لقد كانت دار السعادة كلها. أين التي كانت نور هذا المكان وجوهرته! لقد غلبني الدهر عليها وقتلتها المصايب التي نزلت بي. ما كنت أظن منذ عشر سنوات أنني سأجد فيها يوما من الأيام حمى من أعدائي!» «كم موقعة تطلبت لنفسي فيها الموت فلم أجده! واليوم لو جاءني لهللت له فرحا واغتباطا، بيد أني أريد أن أرى جوزفين مرة أخرى (1814).» «كانت جوزفين مخلصة لي. كانت تحبني حبا ممزوجا بالحنو. لم يكن لإنسان غيري في قلبها مكانة فوق مكانتي، نزلت منه أعلى منزل، ونزل أولادها بعد ذلك. على أنها كانت محقة في كل حبها لي؛ لأنها هي المخلوق الذي أحببته أعظم الحب، حتى لتزال ذكراها مجددة في فؤادي عاملة في قلبي. كانت جوزفين ظرفا مجسما، وكان كل شيء تفعله يدل على هذا الظرف. لم أرها مدة عشرتي معها قد عملت شيئا بغير تلطف ولا رشاقة؛ كانت تجعل هندامها كاملا وتخفي مظهر العمر بحسن ذوقها في التجميل.» (1-3) ماري لويز «كان حكم ماري لويز قصير الأمد، ولكنها نعمت به؛ لأن العالم كله كان تحت أقدامها.» «إني إذا أفقدت الإمبراطورة لا أتزوج.» (1-4) المقارنة بين جوزفين وماري لويز «كانت الأولى الرقة والفن، وكانت الأخرى الطهارة والبساطة. لم أر من تلك في أي وقت من أوقاتها إلا الجميل الساحر، حتى لا يستطيع الإنسان أن يرى عليها غبرة يؤاخذها عليها. كانت إذا طالعت طالعت لتسر وتبهج، وإذا حاولت أمرا بلغته من غير أن يبدو لأحد أنها تحاول هذا الأمر، وكان كل ما احتوته الفنون من دواعي لفت الأنظار آلة في يدها تستفيد منه، ولكن كان ذلك خفيا لا يكاد يلمسه النظر إلا توهما.
أما الثانية، فلم تكن تتصور أن في الوجود أمرا ينال بالحيلة. كانت جوزفين قريبة من الحق دائما، سريعة إلى النفي في البوادر، أما ماري فكانت لا تعرف التصنع ولا الرياء، ولا تعرف من الأمور مختلط السبل.
لم تطلب الأولى شيئا، ولكنها كانت مدينة هنا وهناك، وكانت الثانية لا تتردد في الطلب إذا هي أنفقت كل ما في يدها، على أن ذلك لم يكن إلا نادرا. لم تأخذ شيئا إلا وشعرت بضرورة مقابلته بالجميل في حينه. كلتاهما طيبة القلب، حلوة الشمائل، مخلصة لزوجها ومحبة.» «أظن أني وإن أكن أحببت ماري لويز بإخلاص قد أحببت جوزفين أكثر منها. ذلك أمر طبيعي؛ فقد نشأت معها وكانت لي بعد ذلك زوجة صالحة، بل الزوجة التي اخترتها ... كانت ماري من الإخلاص بقدر ما كانت جوزفين من السياسة، كانت جوزفين تبدأ القول بالنفي حتى يكون لها من وراء ذلك متسع من الوقت للتفكير والنظر. ثم كانت تستدين كثيرا وتحملني سداد هذه الديون. كانت لها في كل شهر حلفة على أن تقتصد. وهناك تلقي علي ما كان يجم في فؤادها. كانت باريسية بالمعنى الصحيح. ما كنت لأفارقها لو أنها ولدت لي ولدا، ولكن بذلك قضى سوء الحظ.»
وقال لمنثلون في صباح اليوم السادس والعشرين من شهر أبريل سنة 1821 وهو في سكرات الموت، بعد موت جوزفين بسبع سنوات تقريبا: «قد رأيت جوزفين يا منتلون فعانقتني ثم اختفت فجأة حين أردت أن أعانقها. كانت جالسة على ذلك المقعد وكأني رأيتها أمس مساء لم تتغير، بل كانت كما هي شديدة الميل إلي. قالت لي أنا على وشك أن نجتمع ويرى بعضنا بعضا ثم لن نفترق بعد ذلك. ولقد أكدت لي ذلك - أفلم ترها يا منتلون؟» «إذا بلغ الرجل من العمر خمسين سنة فيندر أن يتملكه الحب. لقد كان برثير يستطيع ذلك، أما أنا فلا أستطيعه. لقد تحجر قلبي، بل هو اليوم أشبه بالنحاس. لم أكن يوما من الأيام عاشقا، اللهم إلا لجوزفين ، على أنه كان عشقا قليلا. إني كنت في سن السابعة والعشرين يوم عرفتها، أما ماري لويز فلم يكن حبي لها إلا ودادا أخلصه لها، على أني ربما كنت من رأي جاسيون إذ يقول: إن الحياة ليست من القيمة بحيث يصح أن يهبها الإنسان لإنسان.» (1-5) ملك روما «ولدي أحب شيء إلي في العالم بعد فرنسا.» «ما أثقل صولجان الملك في يد ولدي من بعدي!» «وا حسرتاه لولدي! أي شقاء أتركه له من بعدي! وا حسرتاه على طفل يولد ملكا ثم لا يجد الآن لنفسه وطنا!» «لو ولدت لي جوزفين ولدا لجعلني هذا الولد سعيدا وحفظ في نفسه أسرتي، ولكان الفرنسيون أحبوه أكثر مما يحبون ولدا من ماري لويز، ولم تكن قادتني قدمي إلى السقوط في تلك الوهدة التي غطاها بساط من الزهور؛ تلك الوهدة التي جلبت علي الدمار كله. فلا يعتد إنسان بعد اليوم بحسن تدبيره، ولا يعجل لسانه بالحكم على الحياة في سعدها وبؤسها قبل أن ينقضي أمد هذه الحياة ... بيد أن جوزفين كانت تعلم أنه لا زواج بلا نتاج.»
الفصل الثالث
الحياة والسعادة
(1) في الحياة «الحياة التي لا فائدة فيها حمل ثقيل.» «ما الحياة إلا حلم زائل.» «يجب أن نشغل أنفسنا؛ فإن الشغل كالسيف يقطع الوقت. بل لا بد للإنسان أن يتم ما قدر له. فاللهم قدرني على إتمامه!» «ما الحياة إلا أن يعيش صاحبها في آلام، والحر من جاهد في سبيلها حتى يغلبها.» «ليس بين النصر والخذلان إلا خطوة واحدة.» «الناس من خوف الهزيمة يهزمون.» «من ولي الأمر وجب عليه حمل عبئه.» «يجب أن ننظر إلى الأمور كما هي لا كما نشتهي لها أن تكون.» «ما أشقى الإنسان! إنه ليرى الطبيعة ثم لا يستطيع أن يغلبها.» «لا يصيبن امرأ أذى وهو يريد لنفسه الموت.» «يحتاج المرء إلى شجاعة يقتبل بها الهموم والآلام أكثر منها لاقتبال الموت.» «إذا شاء القدر وجب الإذعان.» (2) السعادة «الناس في السعادة سواء. فلو أنني بقيت أدعى مسيو بونابارت ما نقصت سعادتي عنها وقد أصبحت أدعى الإمبراطور نابليون. ولا شك أن الفعلة هم كغيرهم من الناس في السعادة. إني لم أكن أجد لذة في حسن الطعام؛ لأن مائدتي كانت جيدة الطهي على الدوام، ولكن الفقير الذي لم يذق مرة طعاما كطعامي ينعم بأكله يوم يقدم إليه الحساء يشربه ومحمر البط يطعمه، بل إني أوقن أن حياته خير من حياتنا في هذه الجزيرة.» «إني ليعجبني ذلك الرجل الذي قيل إنه وضع ماله جميعه في صندوق ثم أنفق منه كل يوم قدرا معلوما. إن الضرورة قاضية بذلك حتى يقصر الإنسان من رغباته.» «لقد كنت سعيدا يوم أصبحت أول القناصل ويوم تزوجت ويوم ولد لي ملك روما، ولكنني لم أكن يومئذ واثقا من دوام مركزي، بل ربما كان أسعد أيامي يوم تلسيت، يوم هذبت صروف الدهر وبيضت سود الليالي، يوم كان النصر من يميني والمجد من شمالي، ورأيتني أفنن القوانين للناس، ورأيت البراطرة في ركابي. بل ربما كان أسعد أوقاتي أيام فزت بالنصر في إيطاليا؛ هنالك كانت الجموع لاهجة بذكري متحمسة؛ هنالك كانوا يصيحون من أعماق قلوبهم: «ألا فليحي محرر إيطاليا!» كل ذلك وأنا فتى لم أعد الخامسة والعشرين من العمر.
منذ تلك البرهة تمثل لنفسي ما صرت إليه في مستقبل الأيام. رأيت العالم جميعه يمر من تحتي كأنما قد ولدت في الهواء.» «إني أوقن أن بين أواسط الناس سعادة تفوق سعادة أعاليهم.» «لا بد للإنسان من يوم يسأم فيه كل الأمور؛ فكثرة المال عن الحاجة لا تؤثر في تلك الحال. كان للبرنس لويز دخل قدره 200000 من الفرنكات، ينفق منها 150000 في وجوه البر والإحسان. أفلا ترون حياته شريفة سامية؟!» «إني أكرر القول بأن المال والألقاب لا تجعل الإنسان سعيدا.»
وقال يخاطب أحد المديرين بعد عودته من روسيا في سنة 1812: «... وأنت أيضا أيها المدير، لقد صادفت يوم شدتك ومحنتك، إلا أنه لا تخلو حياة امرئ من هذه الأيام.» «ما غرني الإقبال يوما، ولا ألفتني المصايب إلا قادرا عليها أرد ضرباتها بعزم شديد. لقد فكرت في مشروعات لخير العالم ثم أخرجت هذه المشروعات، ولقد علمت في حالي الوالدية والملك، أن السلام من عماد الملك ودعائم العائلات.» «هل تزعمون أو يزعم أحد منكم أن الأمور تأتي دائما وفاق مرامنا، وأنها تدبر ذاتها حتى تضمن لنا السعادة كلها؟ إذا هي قلبت لنا ظهر المجن ورزحنا تحت أثقالها فهنالك يتطلب الإنسان إنسانا يشكو إليه بثه وحزنه، ولكن أين يودع الإنسان سره إذا هو قلب عينه فلم يجد أمامه ذلك الصديق المرتجى.» «تتوقف جلائل الأمور على صغائرها، والحازم من استفاد من كل أمر ولم يهمل ما يستطيع به أن يكثر من سوانح فرصه. وقليل الحزم من قد تعرض له فرصة فلا ينتهزها فيعاجله الدمار والخسران.» «من الحوادث ما يبدو لك صغيرا وفي لفائفه عظائم الأمور.» «قد يغفر الموت للإنسان زلته، ولكنه لا يصلح هذه الزلة.» «الفكر يحكم العالم.» «التسامح روح السعادة في الأمة الرشيدة.» «الكريم من لم يعاد من الناس أحدا.» «ليست العظمة بالشيء المذكور حتى تكون دائمة.» «ما المودة إلا اسم. إني أعلم أن ليس لي صديق واحد، ولكني ما دمت كذلك نشأ حولي من أدعياء مودتي خلق كثير.» «كلمة مستحيل ليست في اللغة الفرنسية. إني لا أعرف هذه الكلمة.» «فلاح المجازفين في المصادفة.» «الاستقلال كالشرف؛ كلاهما كالجزيرة ذات الصخور ليس لها شاطئ.» «إياك والكراهية!» «إذا جلست مجلس القضاء فاستمع حكاية المتقاضيين وتمهل في الحكم حتى يجد العقل صراطه المستقيم.» «عدو مبين خير من حليف مريب.» «من الريب ما لا تقوى عليه براءة البريء.» «الحياة سر غامض في مبداها ومسراها ومنتهاها؛ سواء في الناس أم غير الناس، أم في الطبيعة أم في أي شيء.» «إن قبضتي - وكانت من الحديد - لم تكن في مقدم ذراعي، بل كانت من فؤادي قاب قوسين أو أدنى.» «أسرع الناس مشيا من سار وحده.» «المستحيل كلمة لا يعثر عليها إلا في قواميس المجانين.» «أريد من عقلي مزيدا وفي لساني قصرا.»
وكتب إلى المارشال بسبير سنة 1809: «إذا فعلت فافعل على عجل وشدة ، لا يعترضك شرط، ولا تعليل، ولا استدراك.» «الكذب زائل والصدق دائم.» «حكم الخديعة قصير الأمد.» «إنك الآن يا لاكاس هائج الدم ثائر النفس، ولا أظن أن في الأمور أمرا تستطيع إحسان فعله في مثل هذه الظروف، فأجدر بك أن لا تبدأ فيه حتى تمر بك ليلة كاملة.» «الليل ناصح أمين.» «حقيقة وظيفة الإنسان فلاحة الأرض.» «أريد أن أعيش في القرى، أريد أن أرى الأرض يصلحها الناس؛ لأني لا أعرف من فن زراعة الجنائن ما أستطيع به إصلاحها. إن هذا لأشرف أنواع الحياة.»
الفصل الرابع
آراء في الرجال
«لا تكون الرجال باللعب والرقص.» «لا يظفر المقامر بثقة مني، وإني لأنزع ثقتي بامرئ عند أول علمي بأنه مولع بالقمار.» «ليس في قدرتي خلق الرجال، فلا بد لي إذن أن أستفيد ممن أجد.» «إني لتدهشني سلطة الألفاظ على الرجال.» «كنت أيام سعادتي أحسبني أعرف الرجال، ولكن لم أكن أدري أن عرفاني بهم على حقيقتهم إنما كان في أيام محنتي.» «أتدري ما حمله أثقل على النفس من تقلبات الحظوظ؟ ألا إنه هو دناءة الرجال وفظاعة جحودهم ... ألا إنما الموت راحة.»
وقال بعد واقعة واترلو: «إن آخر اختباري للبشر قد نفى عني تلك الأوهام التي من دأبها أن تقضي على همامة الملوك. لم يبق لي في الوطنية ثقة، فقد علمت أنها لفظ فارغ، يعبر عن فكرة فاضلة؛ إن حب الإنسان لوطنه إنما هو حب لذاته ومركزه ومصلحته.» (1) ضعف الطبيعة البشرية
قال نابليون لبطانته في سنت هيلانة: «إنكم لا تعرفون الرجال، بل يصعب على الناس فهم الرجال. هل يستطيعون فهم طبائع أنفسهم أو الإبانة عنها؟ إن أغلب الذين هجروني لم يكونوا ليعرفوا مكان النقص في نفوسهم لو أنني ظللت كما كنت في إقبال ... إن من الفضائل والرذائل ما يتوقف على الظروف.» «إن محنتي الأخيرة كانت فوق مقدور الرجال، ولكني أوقن أن رفقتي هجروني لا خيانة منهم لعهدي، بل صدا. أجل، فإن ما رأيت لم يكن إلا من ضعف في نفوسهم لا خيانة. وهل تجد في صحائف التاريخ رجلا كان له من الأصدقاء والمتشيعين ما لي؟ أو كان محبوبا في قلوب الناس مثلي؟ أو كان محزونا عليه حزنهم علي؟ ألا إنه لا يشك امرؤ أني وإن أكن فوق هذه الصخرة النائية، أطل بعين الوهم على فرنسا، كأنما لا أزال أحكم في تلك الربوع، كما أن الملوك والأمراء الذين عاهدوني قد حفظوا عهدهم إلى النهاية، ولكنهم ذهبوا في تدافع الشعوب، وأولئك الذين كانوا حولي قد غشيتهم ريح صرصر صرعتهم فهم لا يتحركون.» «إن الماليين وأصحاب المصارف نافعون أحيانا بما لهم من الخبرة بالأمور.»
وقال وهو في سنت هيلانة: «ليس لي في الطب ثقة. إن دوائي إذا أنا مرضت الصوم والاستحمام بالماء الساخن، على أني أكبر صناعة الطب، وأخص الجراحة بالإجلال دون غيرها، أما المحاماة فمحنة ثقيلة على الإنسان، وهو ضعيف، والرجل الذي يعود نفسه مناهضة الحق ويبهج لغلبة البغي على العدل لا يستطيع أن يميز بين الحق والباطل. وكذلك دأب السياسة؛ يحتم على رجلها أن يكون قلبه قلب الجميع. أما رجال الدين، فأولئك مدفوعون إلى الرياء لكثرة ما يتطلب الناس منهم. أما الجنود فهم سفاكو دماء ولصوص، ولكن الجراحين يخدمون الجنس البشري؛ فلا هم يفنونه ولا هم يحرضون بعضه على بعض.» «إن عظماء الخطباء الذين يملكون قلوب المجتمعات التي يخطبون فيها هم في الحقيقة من أواسط السياسيين موهبة. لا ينبغي أن يعارضوا بمثل أقوالهم؛ لأنهم أقدر منك على تسفيه ألفاظ كثيرة اللغط والضجيج في وجه المعارضين، بل الواجب إذا أريد محاجتهم أن يكون الكلام جديا مؤسسا على القضايا المنطقية. إنما يعتمد أولئك الخطباء على السفسطة، فمن أراد مناقشتهم فليردهم إلى الحقائق الثابتة، وذلك لا يتسنى إلا بالبرهان المنطقي السديد. لقد كان معي في المجلس رجال أفصح مني لسانا وأوضح بيانا، ولكني كنت ألزمهم الحجة كما لو كنت أقول إن اثنين واثنين أربعة.» (2) محمد «جاء محمد في يوم كانت النفوس متطلعة فيه إلى عبادة واحد أحد، وكانت بلاد العرب قد غشيتها الحروب الداخلية أمدا طويلا حتى تعود الناس الشجاعة والإقدام ... على أنه لم تظهر بطولة محمد إلا بعد غزوة بدر ...
إن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ فوق إنسانيته شيئا، ولكنه مع ذلك قد يأتي بالجليل من الأمور ويقوم بالعظيم من الأعمال، ثم قد يكون كالشرارة طارت في هشيم.
لا أظن أن محمدا كان يستطيع أن يبلغ في العرب ما بلغ لو أنه كان بينهم في هذه الأيام (1817)، ولكن دينه قد استطاع في عشر سنوات أن يمتلك نصف العالم المعروف، في حين أن دين المسيح لم يثبت له أساس إلا في ثلاثة قرون.
أجل، فإن دين المسيح لا يوافق الشرقيين؛ لأنهم يريدون أن يكون دينهم أبين حدا وأدق قصدا، ثم لا يريدون أن يكون هذا الدين مفعما بالروحانيات.» (3) واشنجتون «لما ملكت ناصية الحكومة في فرنسا كان الناس يرجون أن أكون شبيها بواشنجتون. اللفظ لا قيمة له، لذلك فهم يتكلمون، ولكنهم لم يقدروا الزمان ولا المكان ولا الرجال ولا الأمور.
لو أنني كنت في أمريكا لكنت واشنجتون ذاته دون أن يكون لي في ذلك فضل؛ لأني لا أرى كيف كنت أفعل غير هذا، ولكن لو كان واشنجتون في فرنسا، حيث الاختلال من الداخل والتحفز للغزو من الخارج، لاستخففت به إذا هو هم بمثل ما تم له في أمريكا. أجل، لو أنه حاول ذلك لعددته معتوها؛ لاعتقادي أنه ما كان يزيد من الشرور المقيمة في فرنسا إلا فظائع، أما أنا فقد كنت أستطيع أن أكون واشنجتون ثم أكون فوق ذلك صاحب تاج.
إنني لم أصبح ملكا إلا بعد أن أقرني مؤتمر من الملوك والأمراء؛ بعضهم خاضع لي من تلقاء نفسه وبعضهم مقهور، هنالك استطعت وحدي أن أبدو للناس في اعتدال واشنجتون وبعده عن المصلحة الذاتية وفي حكمته. على أني لم أكن أستطيع أن أبلغ هذه المنزلة إلا لما كانت لي الرياسة العامة. ذلك ما أملته، فهل كنت في ذلك جانيا؟»
الفصل الخامس
الصفات القومية
(1) الإنجليز «ما الإنكليز إلا تجار، كل مجدهم في ثروتهم.» «انظر إلى الإنجليز، إنهم غلبونا، ولكنهم أدنى من أن يطاولونا.» «أرى أن نسبة عدد أشراف الرجال من إنجلترا تفوق مثلها في أي قطر من أقطار العالم، ولكن فيها من هم شر العباد. فهم في ذلك على طرفى نقيض.» «لا ينبغي أن تذكر اسم الثورة للإنجليزي؛ لأنها تخيف الناس في بلاده، حيث لم يبق لحزب الشعب حياة. على أن النار لم تنطفئ بعد؛ لكثرة ما فيها من الشرار.» (2) فرنسا والفرنسيون «صغائر الأمور في فرنسا عظيمة، ولا قيمة للعقل فيها.» «الرأي في فرنسا هو الكل في الكل، ولكنه يدور حول الصغائر.» «لا تعرف الأمة الفرنسية كيف تحتمل المصايب. هذه الأمة التي بذت الأمم جميعها شجاعة وذكاء لا تعرف الثبات في شيء إلا في أن تهب إلى مواقع القتال. والهزيمة تفسد أخلاقهم.» «ليس في الأمة الفرنسية ذاتها من صفة إلا وهي متحولة زائلة. كل ما تفعله إنما هو للعاجل من المطالب وطوعا لهوى النفس وأوهامها، وليس فيما يفعلون شيء يراد به الدوام والاستمرار. ذلك دأبنا تؤيده أخلاقنا في فرنسا؛ يقضي الإنسان حياته يبرم وينقض ولا يبقى من عمله بعد ذلك شيء.» «الفرنسيون قوم يعشقون الفخر الكاذب، يحبون العجب أكثر من حبهم للخبز.» «الفرنسيون أرقى العالم عقلا.» «لقد كنت أحلم كثيرا بأمور عظيمة أريدها لفرنسا، ولكن الدهر عكس آمالي. قد كان اتحادهم لازما، ولكنهم أبوني!
آه! لو أنني حكمت فرنسا أربعين سنة لجعلتها أعظم سلطنة في العالم.» «وددت لو أن لقب فرنسي كان أعظم شيء يرغب فيه على سطح هذه الكرة، ووددت لو أن يسمى الشعب الفرنسي بحق «بالأمة العظيمة»، وأن يكون مثالا للرشد وجلال العقل.» (3) البولانديون «إني أحب أهل بولاندا؛ لأن حماستهم تلذ لي. وإني لأتمنى أن أجعلهم أمة مستقلة، ولكن لا أرى السبيل لذلك هينا؛ فلقد تناهبتها أمم كثيرة: فالروس من جهة، والنمساويون من جهة، والألمان من جهة، تقسموها كأنما هي كعكة في أيديهم، فضلا عن أنه إذا أشعل عود الثقاب فلا يدرى أين تنتهي النار. إن أول ما علي من الواجبات إنما هو لفرنسا، ولا ينبغي لي أن أضحي بمصلحتها في سبيل مصلحة بولندا ... فلنكل الأمر إذن للدهر ؛ فهو مصرف الأمور والحاكم الأعلى، وكفيل أن يهدينا إلى صراط العمل.» (4) الروسيا «إن الروسيا سائرة في سبيل تحصيل المجد الذي لا يدانى بعد إذ ذهبت فرنسا وتحطم ميزان القوة بين الدول.» «الروسيا سائرة في سبيل التغلب على العالم. إن المتبع سير الحوادث يستطيع أن يبصر غايتها. إن التقدم الذي أمعنت فيه منذ عهد بول الأول تقدم يملك النفس من العجب.» «يحسن بالروسيا أن تتحد دائما مع فرنسا.» «بلاد الروسيا في موقع يساعدها على امتلاك العالم.»
الفصل السادس
سياسيات
«الحكومة! قد كنت أنا الحكومة.» «من ذا يتبوأ مكان الله في الأرض إلا الشارعون!»
وقال في خطاب ألقاه على حكومة المديرين بعد عودته من الحملة الإيطالية سنة 1797: «لكي يمكن الحصول على دستور مؤسس على قواعد العقل يجب أن تمحى اعتسافات ثمانية عشر قرنا سلفت.» «لا تخطى العقبات ولا تبلغ الغايات، إلا بالعقل والحكمة وحصافة الرأي.» «إن السياسة الحكمية هي في الاعتماد على التدبير والحكمة في معالجة الأمور، فإن نحن جعلناها أساسا لأعمالنا حفظنا لأنفسنا لقب «الأمة العظيمة» الذي استبحناه، ولبقي لنا مجلس الحكم في أوربا.» «كان كل همي أن أحقق مبدئي وهو: «كل شيء للشعب الفرنسي».» «كل ما أريده، وما أرغب فيه، وما أشتهيه، وكل جهدي، هو في أن يبقى اسمي مقترنا باسم فرنسا.» «لا ينبغي أن تحكم الظروف السياسية، بل يجدر أن تحكم السياسة هذه الظروف.» «يجب أن يكون نظام الحكومة طبقا لروح الأمة.» «تسير الحكومات بالحكمة والسياسة لا بالضعف ولا الخشونة.» «إن أخذ الأمر بالوسيلة الناقضة مفسد هذا الأمر وجاعل الغلبة على العدو مستحيلة. إن السياسة والشعور لا يتفقان.» «يجب أن تكون شريعة الحكومة وعملها سواء مع الناس جميعا، ويجب أن تمنح الرتب والألقاب لمن كان في أعين الناس جميعا مستحقا لهذه الألقاب.» «إن سياستي هي في أن أحكم الرجال كما يحب أكثر هؤلاء أن يحكموا.» «لا ينبغي لأمة أن تفعل شيئا ينافي شرعه الفضيلة؛ فإنها إذا لم تفعل ذلك كانت جديرة أن تفنى.» «طبقة الأرستوقراطية أو الأشراف هي عماد الملوكية، والحكومة بغيرها كالسفينة بلا دفة، أو كالمنطاد في الهواء. على أن الأرستوقراطية الحقيقية هي ما كان فرعها قديما؛ فإن لها من هذا القدم قوة وسحرا، وذلك ما لم أستطع أن أحدثه في فرنسا. أما الديموقراطية الصحيحة فلن تستطيع أن تطمع إلى شيء فوق البلوغ إلى المعالي أسوة بسواها، والسياسة الحكيمة في هذا الزمان إنما هي في استخدام بقايا الأرستوقراطية باسم الديموقراطية وروحها. على أنه كان ضروريا أن نستفيد من الأسماء التاريخية القديمة. هذا هو السبيل الوحيدة التي استطعنا بها أن نرمي نور القديم على الجديد.
إن فكرتي في هذا الصدد كانت قد تأسست، ولكن لم يكن عندي متسع من الوقت لإبرازها؛ كانت هكذا: كل من جاء من نسل مارشال أو وزير له حق أن تسميه الحكومة «دوق» إذا أثبت أنه يمتلك الثروة الواجبة، وكل من كان من نسل قائد أو مدير من حكام الإقليم يسمى «كونت» إذا أثبت هذا أيضا أنه ذو ثروة مناسبة.
لقد كانت هذه الطريقة ترقي فريقا من الناس وتحيي آمال فريق وتحدث التباري بين الناس دون أن يكون من ورائها مضرة لأحد.» «الأمم القديمة المفسدة لا يمكن أن تحكم بنفس المبادئ التي تحكم بها أمة طاهرة ذات فضيلة، فإذا وجد من يضحي بنفسه في هذه الأيام في سبيل المصلحة العامة وجد ألوف وملايين لا تحكمهم إلا مصالحهم الخاصة وصلفهم ومسراتهم، وعندي أن محاولة إصلاح مثل هذه الأمة في يوم واحد ضرب من ضروب الجنون. وحقيقة ذكاء العامل تنحصر في استعمال المواد التي بين أيديه استعمالا يخرجها به إلى المنفعة الحقيقية، ويستخرج به الخير من العناصر، وإن بدت في أول أمرها دون ما يستطيع. هنا سر خلق الألقاب والأوسمة. على أن هذه اللعب يصحبها في العادة قليل من النصب، ولكنها مفيدة على كل حال؛ فهي في الحالة المدنية التي نحن فيها إنما تستدعي احترام الجمهور، كما أنها في ذاتها تحدث في صاحبها نوعا من الاحترام الذاتي. إن هذه الأوسمة والرتب ترضي الضعيف في صلفه دون أن يتأذى منها القوي.» «كيف يدعي إنسان أن هذه الأسماء الفارغة والألقاب التي تعطى خدمة لمبدأ سياسي تغير من علاقة الشخص بأحد أقاربه أو أصحابه؟!» «لم يبق ممن يفعل الخير ويؤدي واجبه إلا جنودي المساكين وضباطهم الذين ليسوا من الأمراء ولا الدوقات ولا الكونتات. إنه قول مر ولكنه صدق. أبعدوا عني أولئك السادة الأشراف، أشراف إلى فراشهم ينامون عليها وإلى قصورهم يمرحون فيها؛ فإني سئمتهم ووجب الخلاص منهم. إني أريد أن أبتدئ الحرب من جديد بفتية ملأ الشباب قلوبهم بأسا وأفئدتهم شجاعة.» (1) فوز المدنية «الرذيلة فردية دائما، ولا تكون في المجموع إلا نادرا. انظر إلى يوسف وإخوته، فإنهم لم يستطيعوا جمع أمرهم على أن يقتلوه. وانظر إلى «جودا» المرائي الشرير، فقد خان سيده. قال أحد الفلاسفة إن الإنسان ولد شريرا. وعندي أنه يصعب على المرء أن يحاول التثبت من صحة هذا القول، ولكن لا شك في أن أكثر أفراد المجتمع ليسوا أشرارا؛ لأنه إذا كانت الأغلبية منهم من الجناه الذين لا يرعون حرمة القوانين لم يبق من الناس من له القوة على ردعهم. وفي ذلك نصرة المدنية؛ لأن هذه النتيجة المرضية لم تنشأ إلا في تربتها، ولم تترب إلا على فضلها.» «العاطفة - إن حققت - أمر وراثي، وإنما نتبينها لأننا رأيناها فيمن تقدمونا، وكذلك ينشأ العقل الإنساني وتنمو المدارك. وفيها مفتاح هذا النظام الاجتماعي وسر الشارع، فأما الذين يريدون أن يحكموا الشعوب لمصلحتهم الذاتية فأولئك يعملون على أن تبقى في جهالة؛ لأنهم كلما زادوا استنارة زادوا يقينا بفضل القوانين وضرورة المحافظة عليها، وهنالك يسير المجتمع ثابتا سعيدا. هذا ولن يكون العلم في الجماعة خطرا إلا إذا كانت الحكومة معارضة للشعب ومصلحته. فهي بذلك تدفعهم إلى تلبس حالة ليست طبيعية أو تقضي للطبقات السفلى بالفناء من الحاجة. هنا يدعو العلم ذلك الشعب إلى الدفاع عن نفسه أو يسوقه إلى اقتراف الجناية.» «مصر هي البلد التي يظهر للناس أنها صاحبة أقدم مدنية، على أن الغال وألمانيا وإيطاليا ليست بعيدة عنها في ذلك بعدا كبيرا ، وأظن أن الجنس البشري جاء من الهند والصين التي كان فيها من البشر ما لا يعد، لا مصر التي لم يكن فيها إلا بضعة آلاف من السكان. كل ذلك يقودني إلى الظن بأن العالم ليس قديما جدا إذا نحن نظرنا إلى التاريخ الذي بدأ فيه ظهور الإنسان في العالم، بل أرى أن عمر العالم الإنساني لا يزيد عما جاء في الكتب المقدسة إلا ألفا أو ألفين من السنين.
إني أرى أن الإنسان إنما نشأ من تأثير حرارة الشمس في طين الأرض. قال هيرودوتس إن طينة النيل في أيامه كانت تتحول إلى فيران، وإنه كان يمكن رؤية هذه الفيران في دور التكوين.» «من ملك مصر ملك الهند.» (2) قانون نابليون «لقد كان القانون الذي وضعته خيرا لفرنسا من مجموعة القوانين التي سبقته؛ وذلك نظرا لما ركب عليه من السهولة. إن مدارسي ونظام التعليم الذي وضعته آخذة في تهيئة نشأة جديدة لم تبصرها العين بعد.» «إن الحصافة وحسن التدبير في السياسة خير من الخديعة. أجل، فإن الدولاب الذي كان يديره سواس العهد الماضي قد أصبح لا يليق بهذا الزمان. على أني لا أدري لماذا نرجع إلى الخديعة إذا كان في استطاعة الإنسان أن يتكلم بصراحة وجد! إن الرياء والمداجاة من دلائل الضعف.» (3) التربية «إني أريد فئة من المعلمين ذات كيان خاص؛ لأن هذه الفئة لا تموت حتى تنقل إلى غيرها نظامها وروحها، أريد فئة يكون تدريسها أبعد من أن يتأثر بالظروف وما قد يكون فيها من مذاهب سخيفة، فئة تسير إلى غرضها ساهرة وإن نامت الحكومة، تتأصل مبادئها ونظامها فيها حتى تصبح أهلية ثابتة لا يستطيع أحد أن يمسها ... لا يمكن أن تكون السياسة ثابتة ما لم يكن التعليم ثابت المبدأ؛ فإنه ما دام الناس لا يعرفون ما إذا كان لا بد لهم أن ينشأوا جمهوريين أو كاثوليكيين أو ملحدين فلن تستطيع الحكومة أن توجد أمة، بل يظل عرشها على أساس غير مأمون الدعامة عرضة للفوضى واختلال النظام.» «مما يحزن له في هذا البلد أن الشاب الذي يريد أن يحصل العلم لا بد له أن يتخبط في الظلمات زمانا طويلا، ويضيع من أيامه سنوات يبحث فيها عن ضالته حتى يجد مورد العلم الحقيقي الذي ينشده ... إني أريد هذه الموارد. لقد شغلت بالي كثيرا؛ وذلك لأني كنت أشعر بالحاجة إليها عندما كنت أهم بأمر من الأمور أو عمل من الأعمال.» «إن النصر الحقيقي الذي لا يعقبه ندم إنما هو النصر على الجهل. كما أن أشرف منهج تنتهجه الأمم وأجدى عمل تعمله الشعوب إنما هو توسيع نطاق العقول.» «لا يملك الناس إلا بفضل العقل وقوة الحجى.» «لقد كان من أهم أغراضي أن أجعل العلم قريبا من كل متناول. لقد عملت على أن لا يتأسس معهد إلا على مبدأ التعليم المجاني. وإن طلب شيء فلا يكون إلا بحيث يستطيعه الفلاح، وكانت المتاحف مفتحة الأبواب للناس جميعا. ذلك بأن مجهوداتي كانت موجهة على الدوام إلى إنارة عقول الأمة بالعلم والعرفان لا إلى جعلها قطعانا من البهم بإطعامهم الجهل وتربيتهم على الخرافات. لو أنني كنت أفكر في مصلحة نفسي وفي البقاء على سلطتي كما يدعون لكنت طويت العلم ودفنته في غيابة الجب، ولكني لم أفعل، ولا ينبغي لي، بل وجهت عزمتي إلى نشر العلوم، ولكن لم يقدر لشبيبة فرنسا أن تنتفع بما أردته لهم، فلقد كانت الجامعة التي أنشأتها لهم آية في النظام والتدبير، كما أن نتائجها لم تكن لتقل عن ذلك جلالا.» (نقلا عن كتاب أبوت). «ما أعظم الناشئة التي تركتها من ورائي! كل ذلك من عملي، وسيكون فضل هذه الناشئة كفيلا أن يثأر لي. مهارة العامل تبدو فيما يعمل وتنصفه عند الحكم، فأما فساد حكم المرجفين وسوء نيتهم فسيزهق وتبدو أعمالي للمبصرين. لو لم أفكر إلا في نفسي وفي حفظ سلطتي وقوتي - كما يزعمون - لكنت طويت العلم، ولكني لم أفعل ولا ينبغي لي، بل وجهت عزمتي إلى نشر العلوم، ولكن لم يقدر لشبيبة فرنسا أن تنتفع بما أردته لهم، فلقد كانت الجامعة التي أنشأتها آية في النظام والتدبير، كما أن نتائجها لم تكن لتقل عن ذلك جلالا.» (نقلا عن كتاب لاكاس). (4) دين إنجلترا الأهلي «إن دين إنجلترا دودة ترعاها، بل هي سلسلة تلك الأغلال التي ستعوقها في سيرها؛ لأنه لا يمكنها أن تقوم بهذا العمل الثقيل حتى تستمر أثناء انفضاضها من الحروب في تناول تلك الضرايب الفادحة التي تقررها أيام الحروب، وسيقودها هذا بطبيعة الحال إلى زيادة أثمان المأكولات ودفع الناس من غير وعي إلى حالة من الشقاء مخيفة. عند ذلك يحدث أحد أمرين: إما أن تزداد أجور العمال بهذه النسبة، وعلى ذلك لا تستطيع المصنوعات الإنجليزية أن تنافس مصنوعات غيرها من الأمم في أسواق أوربا ويتبعها خسارة أصحاب المعامل أنفسهم، وإما أن تبقى أجور العمال كما هي فلا يصاب أصحاب المعامل بضرر، ولكن لا يقدر معها العمال على تحصيل حاجات العيش الضرورية. إن أول عناصر سعادة الأمة هو في وجود توازن بين مقدار الضرايب المقررة لحفظ ميزانية الحكومة وبين زيادة أجور العمل، ولكن الضرائب لسوء الحظ لا تثمر حتى تصل إلى الجماهير، ولكنها إذا كانت تؤثر في حالتهم المعيشية جلبت على الناس الشقاء والمصايب؛ لذلك يتحتم على إنجلترا أن تقاتل ذلك الوحش الضاري، دينها، بكل الوسائط السلبية والإيجابية، وبإنقاص مصروفاتها وزيادة تجارتها مع العالم. وفي حالة هذا الإنقاص يجب عليها أن لا تقتصد. ثم يجب عليها أن تعجل بالبتر إذا أنذرت الحال بالفساد. أما مسألة المرتبات والمعاشات ومصروفات جيشها البري فيجب أن يعجل فيها بالإصلاح. إن عظمة إنجلترا السياسية هي في حربيتها وليست في تلك الجيوش البرية التي ترسلها إلى أوربا بجوار تلك الجيوش الكبيرة جيوش الروسيا والنمسا وبروسيا.
كما أنه يقتضي لها أن تعجل بإصلاح تلك المفاسد العديدة التي تلم بأملاك أهل الدين فيها، وبإصلاح حالة الفلاحين في علاقتهم مع أصحاب الأرض، وبإصلاح حالة إرلندا في علاقتها بإنجلترا ذاتها، وبإصلاح المجاميع الذين يربون على ثلث مجموع سكان إنجلترا، وتخفيف تلك الأثقال الملقاة على أعناقهم بسبب معتقدهم الديني، ثم يمنح الناس جميعا تلك الحقوق والميزات التي منحتها للمنتخبين. إن الحالة الحاضرة ليست إلا غشا وتمويها يجعل حق انتخاب أغلبية أعضاء البرلمان في يد اللوردات والعرش، أما إرلندا فليس لها إلا خيال النيابة في البرلمان، ولكن الحقيقة أنها معتبرة مستعمرة من المستعمرات. لقد كان خيرا لها أن تكون كذلك، فإنها كانت لا تتحمل نصيبا من دين إنجلترا المتزايد المتصاعد، ولكنها الآن تتحمله وهي صاغرة.
إن فريق الأرستوقراطية في إنجلترا هم السادة الذين لا معقب لكلماتهم فيها، وهم إذا أذن في البلاد بوجوب الإصلاح ورأوا في هذا الإصلاح مسا لقوتهم وامتيازاتهم عمدوا إلى تلك الصرخة التي اعتادوها فقالوا بأن أساس الدستور في خطر. إنك إذا لمست هذا الأساس تهدم كل البناء فإذا هو خراب، وضاعت على الناس حريتها. على أنه لا شك أنه بالرغم مما في هذا الدستور من النقائص الفظيعة، لا تزال نتائجه، إذا أنت نظرت إليها وعرضتها في نور مدنية هذا العالم، ذات نتائج بهجة عظيمة. وهي هي التي تجعل الناس بما نزلت عليهم من البركات، يخشون أن يصيبهم الضرر إذا هم ناهضوه، ولكن ما أكثر هذه البركات! وما أشد اغتباط الناس بها إذا أدخل على هذا الدستور من الإصلاح الرشيد ما يجعل حركة ذلك الدولاب العظيم الجميل سهلا هينا.» (5) غلطات نابليون السياسية «لقد اقترفت ثلاث غلطات سياسية كبرى؛ فقد كان يجب علي أن أعقد صلحا مع إنجلترا بترك إسبانيا، وكان يجب أن أعيد مملكة بولاندا كما كانت وأن لا أذهب إلى موسكو، وكان يجب أن أعقد صلحا في درزدن أترك به هامبورج وبضع ممالك لم تكن ذات فائدة لي.» (6) حرية التجارة وحمايتها «لقد حرصت على أن لا أقع في غلطات رجال النظامات من حيث إيثار نفسي وتفضيل آرائي على حكمة الأمم. إن الحكمة الصادقة نتيجة التجارب؛ فالاقتصادي الذي يقول بحرية التجارة يقدم لنا غنى إنجلترا ورفاهيتها التجارية مثالا لذلك وقدوة يجب تقليدها، ولكن إنجلترا بلد الممنوعات، وأراها محقة في بضع أمور؛ لأن حماية التجارة ضرورية لتشجيع الصناعة في نشأتها. وفي هذه الحال لا يمكن الاستعاضة عنها بالجمارك، فإن التهريب يفسد غرض القانون، ولكن الناس في العادة إذا عمدوا إلى مثل هذه المسائل وهي ذات مساس برفاهية البلد بعدوا في حكمهم عن مواقع الصواب، على أنه يمكن القرب من الحقيقة إذا اتخذنا أساسا لأبحاثنا في هذا الموضوع هذا التفصيل الذي راعيته دائما في مسائل الزراعة والصناعة والتجارة؛ وهو تفصيل أغراض واضحة:
أولا:
إن الزراعة روح رفاهية الأمة وأساسها.
ثانيا:
إن الصناعة مال الشعب الحاضر ورفاهيته.
ثالثا:
إن التجارة الداخلية هي استعمال مواد الزراعة والتجارة استعمالا يعود بالفائدة.
رابعا:
التجارة الخارجية وهي استعمال الزائد من محصولات البلد والموفور من المملوك استعمالا مفيدا، بحيث تكون أهمية هذا الزائد قليلة في نظر صاحبها.» (7) فقدان الأهلية في وظائف الحكومة «إن الوزير الذي لا يكون كفوا لوظيفته يؤذي بلده باستخدام قوم في وزارته ممن لا ينظرون إلا بعينه ولا يفكرون إلا بعقله.» «إذا ذهب الرجل لينام في وظيفته وجب أن يقال؛ فإن التبديل يغري الناس بالعمل.» «لا يصح أن تسلم القيادة لرجال فوق الستين من العمر. أما ما يحسن أن يعطى لأمثالهم فهي الوظائف ذات الشرف. على أن يكون العمل المطلوب في هذه الوظائف قليلا، وإذا أنصفنا، لم يكن مطلوبا منها عمل على الإطلاق.»
وقال من خطبة في مجلس الشيوخ بعد حرب الروسيا سنة 1812: «إن جبناء العساكر، وضعاف النخوة من الجنود، هم الذين يقضون على استقلال الأمم، ولكن خائر العزم الضعيف من الموظفين يقضي على جلال القانون وحقوق العرش، ثم لا يقف ضرره عند ذلك، بل يتعداه إلى نظام المجتمع.
إني لما توليت أمر فرنسا وأخذت على عاتقي تقويمها دعوت الله أن يمدني بسنين طوال؛ لاعتقادي أنه إذا كان التخريب يتم في لحظة فالبنيان والتعمير لا يتمان إلا في زمان طويل.» «ألا إنه لا يعوز الحكومات أمر كموظفين ذوي شجاعة وصبر.» «كان أسلافنا يقولون: «مات الملك فليحي الملك»، وفي هذه الكلمات دليل على ذلك المبدأ المتأصل في نفوسهم، مبدأ أن النظام الملكي مفيد. لقد درست أميال أمتي بما فعلت في القرون الأخيرة وفكرت مليا فيما فعلوا في كثير من أحقاب التاريخ، وسأفكر أيضا في الموضوع بعد ذلك.» «الرجال في الدنيا كجماعة الموسيقى، كل عازف منهم يتقن دوره ولا يعرف سواه. كان (ناي) يحسن القيادة إذا هو تولى قيادة عشرة آلاف جندي، أما فيما عدا ذلك فما كان إلا أحمق مأفونا.» «إن في فرنسا كثيرا من رجال العمل والدربة، وإنما ينبغي أن ننقب عنهم ونمهد لهم سبيل البلوغ إلى المراتب التي هم أهل لها؛ فرب رجل تراه خلف المحراث وهو جدير أن يتبوأ مجالس الوزراء، ورب وزير جلس يدبر الأمر وهو حري أن يجري وراء المحراث.» «الكفاءة كيفما كانت، ومهما صغرت، يجب أن نبحث عنها وننزلها منزلها الجدير بها.» «يزعم نبلاء لوندرة وڤينا أن من حقهم أن يولوا أكبر أعمال الحكومة، وأعظم مصالحها، ويقوموا بتدبير أموال الأمة، كأنما نسبهم بديل مما ينقصهم من المقدرة والاستعداد، أو كأنما يكفي الإنسان منهم أن يدعى إلى أبيه ليعهد إليه بأخطر الشئون وأجل الأمور. ألا إنما مثلهم مثل أولئك الملوك الذين يزعمون أنهم إنما يستمدون سلطانهم من سلطان صاحب العزة والجلالة، فما الرعية في نظرهم إلا البقرة الحلوب، لا تراهم يبالون بما يصلحها، أو تراهم ينظرون في مرافقها ما دامت خزانتهم منزعة وتيجانهم مرصعة.» «لا أنكر أن مطامعي كانت كبيرة جدا، ولكنها كانت مطامع مستقرة على أميال الرأي العام. وكنت لا أفتأ أذكر أن الملك لا يقوم إلا بالأمة؛ لذلك كانت الإمبراطورية التي أنشأتها في حقيقتها جمهورية عظيمة. ولقد دعاني صوت الشعب إلى ارتقاء العرش، فكان دأبي تقديم الكفاءة بغير نظر إلى فوارق الأنساب. وما كانت تبغضني حكومات أوربا التي تقبض على مقاليدها فئة الأشراف إلا لهذا السبب، ومع هذا فإن الرجل في إنجلترا قد ترفعه مواهبه وأعماله إلى أعلى المراتب. فلعلكم قد أدركتم ما قصدت.» «الرأي العام قوة خفية غير مرئية يستحيل أن تقاوم، وليس هناك ما هو أكثر منه التواء وأشد منه إبهاما وأقوى بطشا وأسرع تقلبا! على أنه أعدل وأصوب مما يراه الكثيرون .
لما عينت قنصلا، كان أول ما بدأت به أنني نفيت خمسين فوضيا كان الرأي العام شديد الحنق عليهم، والبغض لهم، فسرعان ما عطف عليهم، ومال إليهم، فاضطررت إلى الرجوع في أمري. وما هي إلا برهة أظهر فيها أولئك الفوضيون نزوعهم إلى تدبير المؤامرات حتى انقلب ذلك الرأي العام الذي كان بالأمس معهم، إلى جانبي، وكذلك كان من جراء أغلاط ذاك العهد أن نرى الرأي العام منصرفا إلى جماعة من السفاحين كان يضطهدهم جمهور الناس قبل ذلك بقليل.» «المعقل الذي تمتنع فيه حرية الأمم إنما هو الرأي العام.» «الرأي العام على أهبة التسفل من أجل مصالحه في كل وقت.» «يجب أن يكون الإنسان قد مارس الذي مارسته، وقام بمثل ما قمت به من الأعمال؛ حتى يتسنى له أن يدرك الصعوبات التي تعترض العامل في سبيل فعل الخير. فربما انتهى العمل على غاية السرعة والإتقان إذا كان المقصود منه إقامة مدخنة أو حاجز أو تجديد أثاث في قصر من القصور الإمبراطورية لفائدة بعض الأفراد. فأما إذا كان المقصود منه توسيع حديقة التويلاري، أو تحسين بعض الأحياء، أو تنظيف مجرى من المجاري، أو نفع الجمهور، إلى مثل ذلك من الأعمال التي لا تعود بالفائدة الخاصة على شخص معروف، فقد وجدت الأمر يحتاج إلى استخدام كل وسائلي، واستعمال كل قواي، فكنت ربما كتبت ستة أو عشرة خطابات يوميا لإنجاز مثل هذا العمل، والترغيب فيه، ومن ذلك أنني أنفقت حوالي ثلاثين مليونا من الفرنكات في أعمال المجاري، وما كان لأحد أن يشكرني على القيام بهذا العمل لأنه مما لا ينتظر فيه شكر الأفراد، وأنفقت مثلها عوضا عن منازل هدمتها كانت قائمة في وجه سراي التويلاري لإنشاء الكاروسيل وإخلاء طريق اللوفر. لقد أنجزت أعمالا كثيرة، ولكن ما كنت أفكر فيه كان أعظم.» (8) القالات
أتى جامع الكتاب على جملة مطولة من خطاب أرسله نابليون إلى ناظر الداخلية في نوفمبر سنة 1807 يوصيه بعمل ثلاث ترع كبيرة؛ إحداها تمتد من ديجون إلى باريس، وثانيتها من نهر الرين إلى نهر ساءون، وثالثتها من نهر الرين إلى نهر شلدت. وقد جاء فيما اقتطف الجامع قول نابليون: «إني جعلت عظمة حكمي في تغيير وجه إمبراطوريتي، فالقيام بحفر هذه الترع العظيمة هو في مصلحة أمتي، كما أنه يرضيني. واعلم أنني أرى من المجد إبطال الشحاذة والتسول في بلادي؛ لذلك أريد القضاء عليهما قضاء مبرما. ليس يعوزنا المال للقيام بذلك، ولكني أرى السير إلى تحقيق هذه الأمنية بطيئا رخوا، في حين أن الزمان مجد في سيره لا يعبأ بنا. إلا أنه لا ينبغي لنا أن نقطع مراحل هذه الدنيا من غير أن نترك فيها أثرا يشرف ذكرانا لدى أعقابنا.
إني غائب عنك شهرا، فإذا جاء الخامس عشر من ديسمبر فتأهب للجواب على كل ما أسألك عنه يومئذ، فإن بين يديك من الوقت متسعا يكفي لفحص تفاصيل هذه الأمور، ليتسنى لي يومئذ أن أقضي على الشحاذة في كلمة واحدة أسطرها في إرادة من لدنا.
عليك أن تجد من الأموال الاحتياطية قبل الخامس عشر من ديسمبر المذكور مقدارا من المال يكفي للإنفاق على ستين أو مائة منزل يدفن فيها التسول، كما يجب أن تعين الأماكن التي ستقام فيها هذه المنازل، وتحضر قانونها. وإياك أن تسألني إمهالك ثلاثة أشهر أو أربعة حتى تستطيع جمع ما أريد من المعلومات؛ فإن بين يديك من الشبان العارفين بالأمور الحسابية والمديرين القادرين والمهندسين الأذكياء خلقا كثيرا، فاجعل أولئك يعملون لإنجاز هذا المشروع. ولا تنم تكتف بما يجري في نظارتك من الأعمال العادية.
واعلم أنه يجب أن تنفذ كل الأعمال الخاصة بإدارة الأشغال، حتى إذا ابتدأ الفصل اللطيف (لعله الربيع) ظهرت فرنسا في ذلك المنظر البهج بين العالمين، خالية من ظلمة الشحاذة على أرضها، سعيدة بأهلها، إذ ينبرون إلى تجميلها واستثمار ضياعها الواسعة ...
يجب عليك أيضا أن تجهز لي مشروعا يمكن به أن نحصل من تصريف مياه كوتنتين وروتشفورت، على مال نستطيع به أن نقوم بأعمال المنافع العمومية ولإتمام مشروع المصارف التي نحن مشتغلون بها الآن، ولحفر أخرى نريد اختطاطها.
إن ليالي الشتاء طويلة فاملأ حقيبتك، حتى نستطيع في ليالي ثلاثة شهور أن نبحث الوسائل التي تؤدي بنا إلى الوصول إلى نتائج يرتاح لها البال.» «كان كل همي أن تكون باريس عاصمة أوربا الحقيقية؛ فلقد طالما وددت لو أصبحت مدينة فيها مليون أو ثلاثة أو أربعة ملايين من النفوس - مدينة عظيمة لا يحد عظمتها الفكر كأنها من مدن الخرافات، لا يماثلها شيء - بحيث يكون فيها من المباني العامة والمناشئ القومية ما يليق بأهلها، فلو أن الله قد مد في حكمي عشرين سنة ووهبني قليلا من التفرغ لجعلت باريس آية من الآيات في جدتها حتى لم يبق للقدم فيها أثر منظور. لو أمدني الله بذلك لغيرت ما كان مقدورا لفرنسا.
كان أرخميدس الرياضي يقول إنه قدير على أن يحمل الدنيا لو وجد مكانا يضع فيه عتلته، وأنا اليوم أقول إنني كنت أفعل مثله لو أنني وجدت موردا يعتمد عليه جدي ودأبي وقوتي وأستمد منه المال. أجل، فقد تستطيع خلق العالم بالمال، هنالك كنت أستطيع أن أبين للناس الفرق بين إمبراطور دستوري وبين ملك لفرنسا. فما كان ملوك فرنسا إلا سادة كبار آذوا رجال العمل في بلادهم. إذا درت ببصرك تلتمس إدارة أو هيئة مجلسية بلدية أو غير بلدية فإنك لا تجد شيئا.» (9) التعصب الديني «إن التعصب الديني آلة قوية كفيلة بالنجاح لمن أدارها في شعب غير متمدين ... إننا إذا عمدنا في فرنسا إلى هذه الحيلة وما فيها من شعوذة ضحك الناس منا وسخروا، ولكنها إذا استعملت في روسيا جرت وراءها سفاحين قتلة.» (10) الثورة «الثورات كالوقائع تجري في ظلمات الليل. كل قد غشيه الارتباك حتى ترى الجار يعدو على الجار والصديق مأخوذا في عدو. فإذا جاء الصباح وعادت السكينة والنظام عفا بعضهم عن بعض وغفر له ذنبه.» «قد انتهينا من قصة الثورة، فلنبتدئ بتاريخها. يجب اليوم أن يكون تطلع أعيننا وقفا على ما هو حقيقي فعلي من المبادئ التي يراد العمل عليها، لا إلى ما كان منها خياليا أو موهوما.» (11) واجب الملك «يجب أن يحكم الملك رعيته جليلا شريفا في حكمه، لا أن يجعل همه مسرتهم. إن خير ما يكسب قلوب الرعية ضمانة رفاهيتهم. وليس من شيء أخطر على الحاكم من مداهنة قومه والتملق إليهم، فإنهم إذا لم يحصلوا بعد ذلك على كل ما يريدون تأففوا وزعموا أنهم إنما وعدوا كذبا. فإذا قووموا في ذلك ازدادت كراهيتهم له، على قدر ما تصور لهم أوهامهم من أنه قد خالف عهده معهم. لا شك أن أول واجبات الملك العمل وفاق ما تشتهي الأمة، ولكن يندر أن يكون ما تقوله الأمة معبرا عن حقيقة رغباتها. فإن رغباتها وحاجاتها لا يمكن تبينها من أفواهها، كما يمكن قراءتها مسطورة على صدر أميرها.» (12) السعادة الاجتماعية «ليست السعادة الاجتماعية الصحيحة إلا في النظام إذا شمل، وتوافق مسرات الأفراد وامتزاجها. لقد وهبت الملايين كل عام للفقراء، وضحيت ما ضحيت في سبيل معاونة الصناعة وتعزيزها، ولكن فرنسا بالرغم من كل ذلك قد كثر فيها المتسولون عنهم في سنة 1787 وسببه الثورات. فإنها بالرغم مما تكون مؤسسة عليه من النظام والتدبر، تخرب في لحظة، ولا تستطيع البناء إلا في زمن طويل. ما كانت الثورة الفرنسية إلا تشنجا وطنيا لا يمكن دفعه إلا إذا أمكن دفع بركان فيزوف عن التفجر؛ فإنه إذا حدث ذلك الاختلاط الخفي في أحشاء الأرض وتهيأت أسباب الانفجار، اندفع الحمم من فوهته ذائبا نحو السماء، وتناثر الأصلد من الحجر في الأجواء. وكذلك أمر الأمة؛ فإن ما تطوى عليه جنوبها من الاستياء أشبه بذلك، يتسع سيره، فإذا بلغت آلامهم دور النضج تفجرت الحفيظة من قلوبهم، وآذنت في البلاد بالثورات.»
نابليون على ظهر الباخرة. (13) الألقاب «يؤخذ الناس باللعب. كلمة. لا أقولها لكل الناس، بل لمجمع من الراشدين والسياسيين. لا أظن أن الأمة الفرنسية تعشق الحرية والمساواة، كلا، فما غيرت الثورة من نفوسهم في عشر سنين شيئا، بل هم الآن على ما كان عليه أسلافهم الغالبون من العتو والطيش. أما الإحساس فليس لهم منه إلا احترام الشرف، وهو أمر يجب علينا أن ننميه في قلوبهم ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإحداث درجات وعلائم غير هذه الدرجات.» (14) الضرائب والحرية المدنية «الحرية المدنية الحقيقية تتوقف على سلامة الملك، ولست أظنها تكون في بلد من عادته تغيير مقدار الضريبة كل عام؛ فالرجل الذي دخله ثلاثة آلاف من الفرنكات في العام لا يدري، إذا لم تكن الضريبة مقررة ثابتة، أي مقدار من هذا المبلغ باق له للإنفاق منه على بيته ونفسه. فقد يجوز أن تذهب الضريبة به كله.» «يكلف السفراء أمتهم مصروفات جمة وهم لا يفعلون إلا قليلا. ألا إنه خير للملك أن يدبر أمر نفسه بذاته.» «إن الموسيقى أرقى الفنون؛ فإن لها في النفس أقوى أثر؛ لذلك يجب على الشارع أن يجعل لها من نفسه نصيبا كبيرا، فيدعو لها ويحمل الناس عليها.» «إن الأغنية التي أحسن صوغها تهذب الفؤاد وتملك القلب وتؤثر في الإنسان أثرا دونه الحكمة؛ فهي تملك اللب، ولكنها لا تحيي الشعور ولا تغير من طباعنا حالا.»
الفصل السابع
الدين
«الدين ملك الروح، هو أمل الحياة وبر السلامة ومنجى الإنسان من الشرور. انظر إلى المسيحية، فكم خدمت الإنسانية، وعندي أنها مطوية على قوى عظيمة كفيلة أن تخدم بها العالم أكثر لو أن حماتها يفقهون مهمتهم.» «المسيحية دين الشعب المتمدين؛ لأنها روحية جدا؛ فالثواب الذي وعد به عيسى المسيح من دان بها هو رؤية الله وجها لوجه ... والغرض الذي ترمي إليه المسيحية بتعاليمها إنما هو غلبة النفس وقهر الهوى.» «إن مبدأ الغفران، غفران الذنوب، مبدأ جميل يجعل المسيحية دينا يجتذب إليه القلوب، دينا لا يفنى. إنه لا يستطيع أحد والمسيحية أمامه أن يقول: «إني لا أومن، ولن أومن».» «يجهد الفلاسفة أنفسهم من غير جدوى في البحث عن مبدأ خير من ذلك الذي وفق بين الإنسان ونفسه، وضمن للناس السلام والنظام، وهم مجموع، ووثق لهم بالسعادة وبلوغ المنى وهم أفراد.» «المقدور مسطور، ولكل امرئ ساعة، لا يستقدم عنها ولا يستأخر.» «لا بد للإنسان من طاعة القدر.» «ألا إنما ساعتنا الأخيرة مسطورة في السماء.» (1) الاحتفالات الدينية «إن أشد ما يبغض إلي إعادة الدين الكاثوليكي في البلاد تلك الاحتفالات الكثيرة التي كانوا يقيمونها. إن يوم المولد الذي يقام من أجل أحد القديسين إنما هو يوم تراخ عن العمل وتهاون، ولست أحب مثل هذا اليوم لأمة يجب عليها أن تجد وتسعى لتحصيل العيش. إني أوافق على منح أربعة أيام في السنة جميعها تقام فيها مثل هذه الاحتفالات، فإذا لم يوافق ذلك هوى حضرات الذين أتونا من رومة فليتفضلوا بالرحيل من فرنسا.» «لا أعتقد بأشكال الدين، بل بوجود الله فقط.» «إذا ركب الإنسان مركب الحياة سأل نفسه أسئلة ثلاثة؛ أولها: من أين أتيت؟ وثانيها: من أنا؟ وثالثها: إلى أين أذهب؟
أسئلة في غاية الخفاء تدعوه إلى الدين فيسرع إلى اعتناقه، ذلك بأن طبيعتنا تستحثنا إلى ذلك.» «إنا نعتقد في وجود الله؛ لأن كل شيء حولنا إنما يدل عليه. وقد آمن به كبار العقول من الرجال؛ (بوسويه) و(نيوتون) و(ليبنتز) وغيرهم.» «لا بد لنا من الإيمان، بل لا شك في أننا نؤمن كثيرا بأمور من غير تحكيم العقل فيها، فإذا بدأنا نحكم العقل في أمر من أمور العقيدة تزعزعت هذه العقيدة، ولكننا نهتف في قلوبنا يومئذ بأننا ربما آمنا مرة أخرى في المستقبل مستسلمين، وندعو الله أن يلهمنا هذا الإيمان؛ لأننا نرى في ذلك سعادة لنا وعزاء إذا نزلت المصيبة أو عركتنا التجاريب، بل نراها سلوة لنا وردعا للنفوس إذا مالت مع الهوى.» «لا يشك الرجل ذو الفضيلة في وجود الله؛ فإنه إذا لم يستطع فؤاده أن يتفهم ذاك، دعته الغريزة إلى الإيمان؛ ذلك بأن كل مشاعر الروح إنما تتوجه إلى الدين.» «لا يستطيع كل امرئ أن ينكر الله.» «إن ديني سهل جدا؛ أنظر إلى هذا العالم الواسع المختلط البهي، فأقول لنفسي: يستحيل أن يكون هذا الكون نتيجة المصادفة، بل هو عمل كائن خفي قادر على كل شيء، كبير عن الكون بقدر كبر هذا الكون عن أدق آلة من صنع الإنسان. هذه حجتي ، وهي حجة الفلاسفة جميعا، لا يستطيع أحد دحضها، ولكنها في عين الإنسان صغيرة الجرم لا تكفيه؛ لأنه إنما يريد أن يكشف من أسرار وجوده ومستقبله ما لا يكشفه له هذا الوجود. بيد أن الدين كفيل أن يقفه على ما يشعر الإنسان أنه في حاجة إلى معرفته.»
وقال في خطاب إلى البطريق كومو في سنة 1697: «إياك أن تلقي على هوى النفوس زيتا يزيد اشتعالها، بل ماء يطفئ نارها. وليكن سعيك إلى تبغيض الناس في القساوسة الكاذبين الذين شوهوا الدين وجعلوه آلة لمطامع الملوك وأولي البأس من العالمين. إن مبدأ الإنجيل نشر المساواة؛ لذلك فهو عون الحكومة الجمهورية التي تؤسسونها في بلادكم.» «إن للآراء الدينية على النفوس سلطة أكثر مما يرى كثير من أولئك الفلاسفة صغار العقول، وهي قادرة على أن تؤدي للإنسانية خدمة لا تطاولها خدمة. إننا إذا سرنا مع البابا في وفاق استطعنا أن نبسط سلطتنا على ضمائر مائة مليون من الرجال.» «بالأمس كنت أسير وحدي في الغابات غريقا في وحدة الطبيعة وسكوتها، هنالك سمعت صوت ناقوس يدق، فتحركت في نفسي عواطف جمة، بلا اختيار مني؛ ذلك بأن للآثار الأولى وتداعي هذه الآثار في النفس، سلطة قوية لا يمحوها الزمان، فقلت لنفسي: هذا شعوري، فليت شعري كيف يكون شعور سوقة الناس؟! ألا فليجبني الفلاسفة على ذلك إذا استطاعوا إليه سبيلا. ألا إن الدين ضروري للناس.» «الدين ضروري جدا في مدارس البنات؛ فإنه ضمانة الأمهات والأزواج، ألا إنه يجب علينا أن ننشئ مؤمنات لا مفكرات. إن ضعف ذهن المرأة وقلة الثبات في رأيها ووظيفتها في المجتمع وحاجتها إلى الخضوع الدائم والإحسان، أمور لا تتم لها إلا بالدين.» «إن الذي يدعوني إلى الظن أن لا إله في هذا العالم، يقضي بالعقاب والثواب، أني أرى خير الناس في شقاء وأوغادهم في سعادة وإقبال!» «لله وحده الحكم فيما لا يستطيع الناس الحكم فيه.» «إذا لم يستطع الإنسان أن يعاهد الله عاهد الشيطان.» «إني أنا حكيم من الحكماء أعرف أنه لا يسمى الرجل عادلا فاضلا في أي مجتمع ما لم يعرف من أين أتى ولا إلى أين يذهب. مجرد العقل لا يهديك إلى الحق في ذلك، فإذا حاولت الوصول إليه، وليس في قلبك من الدين نور سرت في حلكة وظلام. والدين الكاثوليكي وحده كفيل أن يمد الباحث بما يرضيه عن أولاه وآخرته.» «ما دينك هذا! وما تدعيه من حب الله والبشر؟ لا تذكر لي دينا ينقلني من هذا العالم دون أن يقول لي من أين أتيت ولا إلى أين أذهب.» «اعلم يا دوروك أن لنا عالما آخر سنجتمع فيه.» «تخضع القوة للعقل في كل مكان. انظر إلى السنكيات، فإنها تخضع للقس إذ يتكلم باسم السماء، وللرجل الذي يبذ غيره علما وفضلا.» «كيف تقوم الفضيلة؟ ألا إنه لا سبيل إلى ذلك إلا بنشر الدين ... ولا بقاء للمجتمع إلا بفقدان التساوي. وفقدان هذا التساوي لا يدوم إلا بالدين. إذا رأيت أحدا من الناس يموت من الجوع، وأخاه بجانبه في فضل من العيش ونعيم، لم تستطع أن تحمل الأول على الرضا بهذه الفروق ما لم تقل له: «قضت مشيئة الله أن يكون في العالم غني وفقير»، ولكن ليس في الآخرة مثل ذلك، بل الناس يومئذ سواء.» «كل ما له علاقة بالعبادة يجب أن يكون بلا أجرة؛ فإن دفع شيء لدى الأبواب، أو اكتراء كراسي في الكنائس أمر تشمئز منه النفوس. إنه لا يصح أن يحرم الفقير لفقره مما هو عزاء له وسلوة.» «إني معتقد أن في فرنسا فريقا كان يعتنق البروتستانتية إذا أنا ملت إلى هذا الدين، ولكني أعتقد أيضا أن أغلب الفرنسيين كانوا يظلون كاثوليكيين، وكانوا يعارضون في انقسام إخوانهم عنهم أشد المعارضة، ولكني عمدت لإرضاء كل فرد فيها بإعادة الدين الذي كان دين الأغلبية، وبمنح الأقلية حرية التعبد.» «جدير بولدي أن ينشأ رجلا ذا آراء جديدة، وأن يكون فتى المبدأ الذي مهدت له سبيله في كل مكان. جدير به أن ينشئ ما من شأنه أن يقضي على قانون الإقطاعات القديم، ويرعى كرامة الإنسان، وينمي بذور السعادة التي بقيت في الأرض سنين طوالا. جدير به أن ينشر في الأقطار غير المتمدينة، وفي البلدان المتبربرة، فضائل دين المسيحية والمدنية.» «لا بقاء لمذهب التوفيق بين الدين والمنطق أمام الإيمان.» «للمرء من ضميره حمى لحريته.» «يزعم القساوسة أن هذه الدنيا مركبة ينتقلون بها إلى سواها.» «لم يكن عقلاء اليونان يعتبرون دين الوثنية السائد في تلك البلاد دينا حقا؛ فلم يعبأ بها سقراط ولا فيثاغورس ولا أفلاطون ولا بريقل ولا غيره، ولكن أرقى العقول آمنوا بالمسيحية إيمانا قلبيا حيا؛ ذلك بما انطوى عليه الإنجيل من الأسرار والمبادئ العظيمة.»
الفصل الثامن
الحرب
«حنكة الحرب في أن يغنم المحارب وقتا، إذا آنس من نفسه الضعف.»
وقال وهو في بوريدينو سنة 1812: «ما الحرب! إن هي إلا تجارة المتبربرين.» «الحرب كالحكومة لا تساس إلا بالحصافة والرشد.» «الرأي العام، والفضيلة، نصف الفوز في المعارك.» «في الحرب تشعر بضيقاتك، ولكنك لا تبصر ضيقة عدوك.»
وقال يخاطب وزير باڤاريا سنة 1811: «مهلة ثلاث سنين أخرى تجعلني سيد الكون.» «لا تليق الرعاية والتبجيل إلا بالفاتح المنتصر. أما المغلوب فلا يليق له إلا التحفظ والكبرياء.»
وقال في سنة 1814: «أخذ كل امرئ يسأم الحرب؛ فلقد غاض معين الحماسة، وانطفأت تلك النار المقدسة.» «يجب على القائد أن يعامل جنوده كما يود لو كان من الجنود.» «الحرب دين الجندي.» «أهم صفات القائد الثبات. والثبات عطية الله.» (1) السلب «لا شيء أقدر على الإخلال بالنظام وأسرع إلى هزيمة الجند من السلب.» (2) وداع نابليون جنده سنة 1814 «يا جنود حرسي، أستودعكم الله، لقد صحبتكم عشرين سنة في سبيل المجد والسؤدد، ولقد كنتم في هذه الأيام؛ أيام الشدة، كما كنتم فيما قبلها أيام الرخاء، مثالا للشجاعة والأمانة. ما كان ليضيع علينا أملنا بجنود على ما أنتم عليه من البسالة، بل لتدوم الحرب حتى لا نهاية لها، تدوم حتى تنقلب إلى حرب داخلية، ولكن في مثلها دمار فرنسا. لقد كانت سعادتها كل مأمولي، وستبقى كذلك في نفوسكم. فلا تحزنوا لما قدر لي، فإني إذا كنت قد رضيت أن أعيش فإنما لأخدم مجدكم. لقد عولت على أن أسطر التاريخ، تاريخ تلك العظائم التي فعلناها معا.
الوداع يا إخواني! إني لأتمنى أن أعانق كلا منكم على حدة وأضمه إلى قلبي، ولكن لا سبيل إلى ذلك. وسأعانقكم جميعا في شخص قائدكم هذا. الوداع أيها الجند، كونوا على الدوام رجالا وأخيارا.» «الوداع أيها الإخوان. إن قلبي على الدوام معكم فلا تنسوني.» «ما الجندي إلا آلة لطاعة الأمر.» «لا تبرر القسوة حتى تدعو إليها الضرورة.» «كل ما هو نافع في الحرب حلال.» (3) فظائع الحرب «إن منظر الموقعة بعد انقضائها كفيل أن يوحي إلى الملوك حب السلام ومقت الحروب؛ هنالك تجد الأرض قد أغرقتها الدماء، والناس فيها بين قتيل مطروح وجندي مجروح. مشهد لعمري يدمي الفؤاد.» «لا يستطيع تصور فظيعة الحرب من لم يشهد الحرب.» «لا يعرض إنسان نفسه للموت من أجل دراهم معدودة ينقدها، أو حبا في ميزة كاذبة. إذا أردت أن تجمع حولك رجالا فخاطب أرواحهم يأتوك سراعا.»
وقال بعد واقعة أسترليتز: «ليس للإنسان من عمره ما يقضيه في الحرب إلا زمن قصير. إن أمامي بعد اليوم ست سنوات أخرى، ثم لا بد لي بعدها أن يقف جهدي.» «إن الهرم ليدب في الإنسان على عجل في ميدان القتال.» (4) حملة واترلو «هنالك لم أكن أشعر بتلك الثقة التامة التي كانت تملأ قلبي فيما مضى من هماماتي، فسواء كنت قد جزت تلك البرهة من العمر التي يمالئ الحظ فيها صاحبها، أو أنني كنت أرى باعث ما هممت به ضئيلا في عيني، قليلا في رأيي، فإني كنت أحس في قلبي بكدورة. انقلب الحظ الذي كان يغمرني بسعده فإذا هو رب قاس، إذا أنا ظفرت منه بنتف من الإقبال، تطلب فيها عوضا كبيرا. لم أكد أحصل على النعمة حتى أبتلى بنقمة.»
وقال: «آه! لو أمكن أن تعيدها مرة آخرة!»
الفصل التاسع
متفرقات
(1) الطمع «عظم المطامع خلة عظيم السجية، من ملكته كان أهلا لأن يأتي بالعظائم، خيرها وشرها، تبعا للمبادئ التي انطوى عليها صاحبها. إنني لم أشعر بقدرتي على أن أكون عاملا من أفعل عوامل السياسة إلا بعد أن عبرت قنطرة لودي واجتزت تلك المفازة الرهيبة؛ يومئذ طارت شرارة مطامعي العظيمة والتهب بها صدري.»
ابن نابليون - أو - ملك روما. (2) سلطة الظروف «إذا نحن انتظرنا الظروف حتى تأتي بخير الأوقات لم يمكنا أن نشرع في عمل من الأعمال. لا نهاية بلا مبدأ. ولست أعرف أن مشروعا بدئ فيه فكانت كل الظروف تمالئه؛ لأن للمصادفة أثرا كبيرا في أعمال الإنسان، واتباعه القواعد لا يضمن النجاح، ولكن النجاح يرسم لصاحبه سنة ومنهجا.» (3) الشجاعة «لم أر من الشجاعة الأدبية ذلك الصنف الذي أسميه شجاعة الساعة الثانية بعد نصف الليل؛ أي إنني لم أر رجلا عنده من الشجاعة الحاضرة ما لا بد منها لدفع الغوائل إذا هي أتت غير منذرة ولا منتظرة، شجاعة تحفظ لصاحبها حصافة الرأي ورشد الحكم، بالرغم من كل نازلة مدلهمة وكارثة مداهمة.» «إن في الصبر على ضياع الملك وإهانة الرصفاء للشجاعة كلها.» «قد تحمي الشجاعة منزل العرش، ولكنها لا تمحو العار.» (4) الجبناء «لا يهين الجبناء إلا سوء الحظ.»
1 (5) الإخلاص «لا يمكن مكافأة الإخلاص بالمال.» «لا ينبغي للرجل أن يخلف وعده. إني لأكره الخائنين.» (6) الروايات التمثيلية «المأساة تشعل الروح، وترفع الوجدان، بل هي تخلق من الناس أبطالا؛ لذلك أرى أن فرنسا مدينة لكورني بجزء من أعمالها العظيمة، ولو أنه عاش في أيامي لجعلته أميرا.» (7) الحظ «الحظ كالمرأة؛ كلما زادتني خدمة زدتها مطالب.» (8) المودة «ما المودة إلا اسم، إني لا أحب أحدا من الناس، حتى إخوتي، ولكن ربما أحببت يوسف قليلا، على أني إن أكن أحبه فعن عادة نشأت عليها، ولأنه أكبر مني سنا. ودوروك! نعم، أحب دوروك أيضا، ولكن لم هذا الحب؟ إن خلته يعجبني فهو رصين، وقور وثبت، ولا أظن أنه ذرف يوما قطرة من الدمع. أما أنا فالكل سواء في نظري، أعتقد من صميم قلبي أنه لا صديق لي، ولكني ما دمت حيا وجدت من أدعياء مودتي خلقا كثيرا.
أحر بنا يا يوريان أن نترك مسائل العواطف والشعور للنساء ؛ فهي من وظيفتهن، أما الرجال فجدير بهم أن يكونوا ثابتي القلب، ثابتي العزيمة، وإلا فلا شأن لهم في الحروب ولا الحكومات.» (9) الذكاء «إنما يعمل الذكاء بالوحي، فما يكون خيرا في حين من الأحيان قد يكون شرا في حين آخر، ولكن يجدر أن ينظر الإنسان إلى المبدأ، فإنه كالمحور من القوس، له منه نسبة محفوظة.»
وقال في خطاب إلى مدام بروي ينبئها فيه بفقد زوجها في واقعة النيل - تاريخه 19 أغسطس سنة 1798: «ما أرهب الساعة التي نحرم فيها ممن نحب! إنها لتجعلنا في عزلة عن العالم، وإنها لتنزل بالجسمان شدائد الموت ونوازله، وتستلب من الروح طبائعها، حتى لا تدوم علاقتها بالعالم المنظور، إلا كما يكون الحلم، يقلب المناظر، ويلوي المخابر. تبدو الخلائق في العيون أشد أثرة وأبرد قلبا مما هم، حتى لو خير الإنسان بين الحياة والموت لاستحب الموت، ولكنه إذا ألمت به هذه الفكرة، ودنت منه أولاده فعانقهم وضمهم إلى صدره، هطلت دموعه وتحركت في نفسه عواطف الحنو عليهم، فحييت في نفسه طبائعه، وآثر الحياة على الموت؛ لأنه يومئذ يحيا لأولاده.
أجل يا سيدتي، انظري اليوم إليهم وقد فتحوا عليك باب الأحزان. فأنت تبكين وهم يبكون، وستذكرين لهم والدهم وتبثين لهم شجوك، لفقد من فقدت، ومن خسرته الجمهورية، ثم ستنظرين إليهم ترجين الحياة من أجلهم. ويا أيتها السيدة، إذا علقت من أجلهم نفسك بالحياة طوعا لعواطف الأم وحنوها على الولد، فاذكري أن لك من الناس من تعتمدين على صداقته ورعايته؛ مودة صديق ورعايته لزوجة صديق كان عزيزا لديه. واعلمي يا سيدتي أن في الناس من هو جدير أن يكون أمل المحزونين؛ لأنه يدرك مقدار الشدة التي تلم بهم.» (10) التاريخ «لا يصح أن يكون التاريخ إيهاما وتغريرا، بل يجدر أن يكون نورا لقارئه وهدى، ولا يصح أن يكون جهده وصف الحوادث وذكر القصص وصفا يراد به مجرد التأثير ڤينا. إن تاسيتوس لم يدرس أسرار الأمور درسا يؤهله لمعرفة حقائقها، ولم يتمعن في مجاري الآراء ويبحث عن العلاقات التي تربطها بعضها ببعض، حتى إذا ألقيت إلى الناس استقر رأيهم على ما هو حقيقي، وكان حكمهم يومئذ خاليا من نزعات التحيز. يجب أن يكون التاريخ بحيث إذا وصف رجال عهد من العهود أو أمة من الأمم، وصفهم على ما هم عليه في تلك العهود وبين الوسط الذي عاشوا فيه؛ لذلك يجدر بالمؤرخ أن يعنى بالمسائل الخارجية، والظروف العارضة التي تكون قد أثرت فيهم وفي أعمالهم، ويبحث عن مقدار هذا التأثير ومقدار ما فعل.
لم يكن البراطرة الرومانيون من الفساد على ما وصفهم تاسيتوس؛ لذلك أراني مضطرا إلى تفضيل مونتسكيو عليه لعدله في حكمه، وقربه من الحق في انتقاده.» «ليقرأ ولدي التاريخ، ويمعن النظر فيه؛ فإن في ذلك الفلسفة الحقيقية. ليقرأ عن حروب عظماء القادة، ويفكر فيها؛ فإن في ذلك السبيل الوحيدة التي تمكن الإنسان من درس علوم القتال. ولكن لا عبرة بكل ما تقول له ولا قيمة لكل ما يدرسه، ما لم يكن في قلبه ذلك النور المقدس، نور حب الحق والخير، الذي يهديه إلى جلائل الأعمال، يقوم بها. على أني أرجو أن يكون أهلا لما قدر له.» (11) إنسانية نابليون
قال نابليون إلى مورتيه الذي وكل بملاحظة الجلاء عن موسكو في 19 أكتوبر سنة 1812: «ليكن كل اهتمامك وعنايتك بالمريض والجريح، واجعل متاعك وفراشك لهم، وخصص العربات لمنفعتهم، وإذا لم تكفهم هذه العربات، فانزل لهم عن سروج مطاياك ... اجمع القواد والضباط حولك وأيقظهم إلى ضرورة البر في هذه الظروف، لقد كان الرومان يمنحون كل من احتفظ بحياة إخوانهم تاجا وطنيا؛ دليلا على اعترافهم له بالفضل.» (12) الجنون «الجنون تجريد للإنسان من الطبيعة البشرية، أما أنا فلست أخشى الجنون؛ لأن لي رأسا من الحديد. أما اليأس فأمر آخر، لي فيه رأي ثابت. قد يجيء يوم تسمع فيه يا كولاتكوت أنني يئست من الحياة، ولكن لن تراني يوما من الأيام فاقدا صوابي.» (13) المصيبة
جاء في مقالة كتبها نابليون في موضوع الحقائق والآراء التي يجب أن تقرر في الذهن ليسعد الجنس البشري، وأرسلها إلى مجمع ليون العلمي سنة 1791: «إن سبب المصايب التي تنزل بالإنسان، وأصل الكوارث التي تحيق به إنما مرجعه سوء التصور، واختلال نظام الفكر؛ فهو يدفعنا من بحر إلى بحر، ومن خيال إلى خيال، حتى إذا هدأ الفكر، ومرت ساعة الفرصة، دقت ساعة الإنسان، فغادر الحياة، وقد سئم الحياة.» «إن الزمن الذي قضيته في مصر كان أبهى أوقات حياتي وأجملها، ذلك بأني قضيته سبحا في عالم الخيال.» «إن الرجل الذي يحتمل مصايب الحياة، ونوازل الأيام، أشجع من ذلك الذي يقدم على قتل نفسه فيموت. لا يقضي على حياته إلا مقامر أفلس، أو مشرف أعدم، وهو في ذلك إنما يدل على فقد الشجاعة.» «قتل النفس من أعمال الجبن.» «في كل ساعة من الوقت سبيل إلى مصيبة تحيق بالمستقبل.» «تأتي المصايب بالخير كما تأتي بالشر؛ فهي تعلمنا الحقيقة؛ ينزل الرأي الثابت منزل المغلوط فيه، وتقلب النتائج، فإذا هي مقدمات لخيالات وأوهام، وأضغاث أحلام.» «اليوم وقد خلص رأسي من عبء التاج، أستطيع أن أفكر كما يفكر الفلاسفة وأهل الحكمة؛ أفكر في الأيام التي كانت أغلاطي فيها بإرادة الله. إني لأدرك ما للمصادفات والحظوظ من الأثر فيما يقدر للإنسان، وفي تلك الحوادث التي يتوقف عليها مستقبل الأمم والممالك.» «لا تخلو المصايب من دلائل المجد والبطولة. لقد كان دأبي ينقصه سوء الحظ.» (14) الثبات «لا تبلغ الغايات إلا بالعزم وحصافة الرأي.» (15) التحامل والكبرياء «لا يصغي صاحب التحامل والكبرياء إلى صوت العقل ولا إلى الطبيعة ولا إلى الدين، فلا يذعن استبداد الأشراف إلا للقوة والبطش.» (16) سلطة المطابع «إن الذي تحبره اليد من المسطورات لا يؤثر في عقول الجمهور كما يؤثر المطبوع؛ كأنما الطباعة خاتم السلطة.» (17) السمعة «ما السمعة العظيمة إلا غوغاء عظيمة؛ كلما زادت زاد انتشارها. تفنى الأمم والآثار والمناشئ والقوانين ولا تفنى الغوغاء، بل تظل تتجاوب أجزاؤها، وتتنادى أصداؤها بين الأخلاف والأعقاب. إن قوتي مستمدة من مجدي، ومجدي مستمد من النصر الذي حزته.» (18) ضد الرق «ما هذه الآلة الإنسانية الضئيلة؟! ألا إنما الناس مختلفون. هل رأينا إنسانا يماثل في ظاهره ظاهر غيره، أو يشابه في تركيب باطنه باطن غيره؟ لقد نسينا ذلك، حتى استبحنا اقتراف كثير من الأغلاط والمخاطئ. لو أن توبي
2
كان في أديم بروتوس
3
لقتل نفسه. ولو كان في أديم عيسوب
4
فربما كان اليوم مستشار الحاكم. ولو كان مسيحيا يغلو في دينه لرسف في قيوده راضيا ولحمد هذه القيود. أما وهو كما هو، فإنه يحتمل مصايبه ساكنا هادئا، ينكب على عمله مجدا فيه، ويقضي يومه في هدوء لا أثر إلا للبراءة فيه.» «لا شك أن بين توبي والملك رتشارد بونا كبيرا في المقام، ولكن الجريمة في فظاعتها واحدة؛ فإن لهذا المسكين زوجة وبنين وأهلا وأقربين حرم منهم وحرموا منه، وسعادة قد قطعت عنه، وحرية قد سلبت منه. إني لأرى إحضاره إلى هذه الجزيرة، يرسف في قيود عبوديته، عملا من أعمال القسوة الفظيعة.» (19) تعريف العرش «ما العرش؟ أربع قطع من الخشب مغطاة بالمخمل.» (20) السياحة «للمرء من السياحة مكسب عظيم.» (21) آخر جمله «ما أحلى الراحة! لقد أصبح الفراش عندي منزلا للنعيم. ما أشد تهدجي! لقد كان نشاطي غير محدود، وكان فؤادي لا يغفى. كم مرة أمليت على أربعة أو خمسة من الكتاب كانوا من السرعة في الكتابة على سرعة نطقي بالقول، ولكن كان كل ذلك يوم كنت نابليون. أما الآن فلست شيئا. لقد اعتراني الخمول حتى لا أستطيع أن أشرع جفني عند النظر، وخانتني قواي، فما أنا اليوم من الأحياء، بل أنا موجود فقط.»
نابليون ميتا وكفه على وسام اللجيون دونور الذي أنشأه. •••
انتهى تعريب المنتخب من كلمات نابليون، ولست أظنني قاسيت في تعريب شيء ما قاسيت في تعريب هذه الكلمات؛ فقد اضطررت أن أتقيد باللفظ كما جاء، وأرتبط بالسياق كما اتسق؛ احتفاظا بخفايا المعاني التي تضويها الألفاظ على صورتها التي جاءت فيها. وقد خاطرت بما يخاطر به المعرب إنصافا لنابليون، وإرضاء لنفسي، فأما إذا وجد القارئ فيها نزولا عن بليغ العبارة التي اعتادها في كثير من المعربات، فحسبي في ذلك أنني أعرب كلمات وحكما يلتزم فيها المعرب ما لا يلتزم في سواها من نقل المعاني كما هي، ولن يدرك صعوبة هذا المنحى إلا من عانى التعريب زمانا طويلا من لغة إلى لغة تخالفها شمالا ويمينا.
المعرب •••
وهنا آتي على عنوانات الكتب التي استمدت منها كلمات نابليون: «حياة نابليون بونابارت» و«رسائل بونابارت»، كلاهما تأليف جوسيف أبوت. «ذكرى نابليون بونابارت» تأليف يوريان. «تذكارات»، تأليف كولانكورت دوف فيسنزا. «رسائل نابليون لجوزفين»، جمع هول. «نابليون الحقيقي»، تأليف جوسلين. «تذكارات سنت هيلانة»، تأليف كونت دولاكاس. «محادثات نابليون مع الجنرال بارون جورجورد في سنت هيلانة»، تأليف إليصابات ورملي لانيمار. «يوميات سنت هيلانة - من سنة 1816 إلى 1817»، تأليف ليدي مالكولم. «نابليون في منزله»، تأليف فريديريك ماسون. «حياة نابليون الخاصة»، تأليف أرثر ليفي. «تاريخ أسر نابليون»، تأليف الكونت مونتلون. «تذكارات»، تأليف شانسلور باسكيه. «نابليون - آخر منظر»، تأليف برايمروز. «نابليون الأول»، تأليف روز. «حياة نابليون بونابارت»، تأليف سلون. «حياة نابليون بونابارت»، تأليف إيداتاربل. «أم نابليون»، تأليف تشودي كلار. «1812، أو نابليون في الروسيا»، تأليف فاسيلي فيريستشاجين. «نابليون»، تأليف توماس واطسون. «نابليون الصغير»، تأليف الفيلد مارشال الفيكونت ولسلي.
هوامش
نامعلوم صفحہ