کلمات فی مبادی علم اخلاق
كلمات في مبادئ علم الأخلاق
اصناف
بسط الاعتراض الثالث
إن جميع النظريات الأخلاقية تدعي وجود قانون عام للإنسانية كلها؛ ووجود قانون عام كهذا يفترض وجود طبيعة إنسانية متشابهة، لا تختلف باختلاف الأمم والمدنيات، ولا باختلاف الأقطار والعصور، لكن الواقع أن هذه الفطرة الواحدة لا وجود لها؛ ذلك أن الناس صنفان: بدائيون ومتحضرون. فأما البدائيون فلا محل في عقولهم لفكرة القانون الأخلاقي؛ لأنهم لا يعرفون سوى الفوضى المطلقة التي لا رادع فيها من ضمير ولا قانون؛ وأما المتحضرون فإنهم وإن عرفوا فكرة القانون، إلا أنهم يعرفونها في صور متناقضة: فالأخلاق في الشرق غير الأخلاق في الغرب، والأخلاق عند الأمم القديمة غيرها عند الأمم الحديثة، الخير هنا شر هناك، والعدل هناك ظلم ها هنا.
هذه الحجة قديمة، كان يروجها سوفسطائية اليونان، ثم تجددت في عصر النهضة الأوروبية بقلم بعض مشاهير كتابها، أمثال «مونتيني» و«باسكال»، ثم انتحلتها هذه المدرسة الاجتماعية وتوسعت في سرد شواهدها نقلا عن الرحالة والسائحين، القدامى والمحدثين.
ونحن لا نطيل النقاش في قيمة هذه المصادر وضعف الثقة العلمية بها، لكثرة تناقضها، وقلة تحري كتابها، وضعف خبرتهم بالناحية الأخلاقية؛ ولأن ولوعهم بالغرائب إرضاء لشهوة قرائهم يدفعهم إلى ترك معالم التشابه والاتحاد بين الأمم، وتتبع المفارقات والشواذ منها لعرضها في صورة قواعد عامة؛ ولكننا نكتفي بأن نقول في صميم الموضوع: إن ما نسبوه إلى الجماعات البدائية من خلوها من كل قاعدة للسلوك هو على طرف النقيض من الواقع الذي تضافرت عليه كل الدلائل؛ وهو أن هذه الجماعات تبالغ في تشددها وتضييقها في أسلوب الحياة والمعاملات إلى حد التزمت أو الخرافة، وإن ما نسبوه إلى المتحضرين في الصين مثلا، من رمي الأمهات أطفالهن إلى الحيوانات المفترسة تخلصا منهم - إن ثبت - فإنما يحدث في أوقات الضرورات القصوى، التي تبيح كل محظور، حتى في أرقى المدنيات، وليس من المعقول أن تكون عاطفة الأمومة في الإنسان أشد قسوة وتحجرا منها في الحيوان، الذي قال في شأنه الرسول الرحيم: «جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، وأنزل في الأرض جزءا واحدا؛ فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق، حتى إن الفرس لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه.»
على أنه ينبغي لنا عند اقتباس الشواهد الأخلاقية أن نفصل بين أعمال الناس وأحكامهم؛ فالذي يدل على خلو النفوس من قانون أخلاقي ليس هو وقوع الظلم، ولكنه استساغة الضمائر له وعدم استنكارها إياه. أما مجرد وقوعه فمعناه أن القانون لم يطبق ولم ينفذ. أرأيت لو أن رجلا أوروبيا جاء إلى بلاد الإسلام في عصرنا هذا، فأخذ يستقي قانون الإسلام وتعاليمه من واقع سيرة أهلها، أيكون حكمه صحيحا؟ فالذي يأتي المحرم عالما بحرمته شاعرا بتأنيب ضميره لا يقال إنه لا يعرف للأخلاق قانونا، ولكنه يعرفه ويخالفه. نعم لو وجدنا في أمة ما قانونا يبيح لها القتل والسرقة مثلا؛ فأصبحنا أمرين مستباحين عندها بلا استهجان ولا نكير من ضميرها، إذن لساغ لنا أن نقول بفقد قانون الأخلاق عندها. وما يذكر عن قدماء الرومان من أن رب الأسرة كان له حق الموت والحياة على زوجه وأولاده، يقتل من يشاء ويستحيي من يشاء، لا نستطيع أن نفهمه على معنى أن قلوب الآباء في هذه الأمة كانت مجردة من الرأفة على أهليهم، ولكن على معنى أن القانون خول لرب الأسرة فيها سلطة القاضي في العقاب والتأديب لمن يستحق. وكذلك ما يقال عن قانون إسبارطة، من أنه كان يبيح الاختلاس والنهب في بعض المواسم، نفهمه على أن ذلك كان نوعا من اللهو أو التدريب على أساليبهم في الغزوات والحروب، عن تراض منهم ...
وبعد فإننا حين ندعي أن حاسة التمييز بين الخير والشر مودعة في كل ضمير، حتى في ضمائر الأشرار والمجرمين، كما قال الله تعالى:
بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره ، وكما قال:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها ، لا نزعم عصمة العقول والضمائر من الخطأ في تحديد الحسن والقبيح والخير والشر، ولو في بعض الأحيان، ولكننا نستطيع أن نقرر مطمئنين أن هذه الأخطاء إنما تكون حيث يجتمع في الفعل الواحد جهتا خير وشر، فتختلف الأنظار في ترجيح أيهما، أو حيث تكون الإصابة في الحكم بحاجة إلى شيء من التروي البعيد عن الهوى، أو حيث تنطمس معالم الصواب في بعض الشئون ويخفى طريقه، حتى تعجز العقول عن الاهتداء إليه ما لم يمدها نور من الوحي السماوي. ومن أجل ذلك أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، إيضاحا لمعالم الحق، وتكميلا لمكارم الأخلاق.
شرح الاعتراض الرابع
قالوا إن وجود قانون عام للأخلاق لا يفترض وجود طبيعة إنسانية عامة متشابهة في الجماعات والمدنيات فحسب، بل إنه يستلزم قبل كل شيء أن يكون هذا القانون نفسه مؤلفا من واجبات متساندة متعانقة لا تناقض بينها، وأن يكون الوجدان الأخلاقي الذي ينبع منه القانون مؤلفا هو أيضا من عناصر مؤتلفة غير متضاربة ... لكن كلا اللازمين باطل؛ فالقانون الأخلاقي مجموعة متنافرة من الواجبات الفردية والأسرية والمهنية والوطنية والإنسانية، والحياة نفسها مجموعة متعارضة من المطالب البدنية والعقلية والسياسية والدينية، بل الوجدان الخلقي عند كل واحد منا هو مجموعة أحكام متناقضة: بعضها من محاكاة البيئة، وبعضها موروث من عصور متفاوتة: دينية أو قومية أو أجنبية.
نامعلوم صفحہ