هذا هو الأخطل الصغير بناحيته الفنية والالتزامية؛ كصاحب طابع شعري متميز، وكصاحب موقف اتجاهي واضح المعالم، وحسبنا هذه النماذج من شعره لتتحدث عنه وتشير إليه.
في الأدب المصري المعاصر
حياتنا الأدبية في حاجة ملحة - ومنذ حين - إلى محاولات مخلصة في ميدان النقد؛ وعندما نقول مخلصة فإنما نعني الإخلاص في المراقبة وفي المعرفة، وفي التقسيم المستند إلى أساس من هذه وتلك، وإلى أساس آخر من مراجعة الضمير. أما الإخلاص في المراقبة فيفرض على الناقد، أن يكون متتبعا لخط سير الحياة الأدبية، ذلك التتبع اليقظ الذي يربط بين طبيعة الواقع الاجتماعي، في كل مرحلة من مراحل التطور الإنساني، وبين طبيعة الواقع الإنتاجي في كل مرحلة من مراحل التطور الفني. وبهذه الجزئية من المحاولة المخلصة ككل، يمكننا أن نضمن سلامة التقييم لكل أثر من آثار الفن، بالنسبة إلى ارتباط هذا الأثر بمفاهيم عصره وإمكانيات بيئته، تلك التي حددت ملامحه الفنية ورسمت خطوطه الاتجاهية، عندئذ يتلافى النقد ذلك الخطأ الناتج عن تطبيق مقاييس هي نتاج عصر أدبي بعينه، على عصور أخرى سابقة رغم اختلاف الظروف والمقومات. ولا يخطئ بالتبعية حين يزن إنتاج شاعر أو كاتب في جملته، بميزان مرحلة معينة تمثل تعريجة واحدة من خط سير فني يزدحم بالمنعطفات والتعاريج.
وإذا ما تخطينا الإخلاص في المراقبة إلى الإخلاص في المعرفة، فقد بلغنا المنطقة التي تتركز وراء حدودها المبدئية قيمة من القيم هي «حرمة الثقافة». وحرمة الثقافة تفرض على الناقد، ألا يحبس فهمه داخل سرداب ضيق من سراديب المذهبية الباحثة، وألا يحصر نظرته داخل منظار متعصب من مناظير الذاتية المتذوقة، إذا ما حاول أن يصدر حكما نهائيا على أعمال الآخرين؛ ذلك لأن المنظار المتعصب يدعو بطبيعته إلى تقييد الرؤية الفنية، بحيث لا ينظر إلى العمل الأدبي إلا من خلال عقيدة معينة؛ ولأن المذهبية الضيقة من شأنها أن تجمد الملكة الناقدة، بحيث لا يقيم الأثر الفني إلا على أساس فهم خاص. وهنا يكمن الخطأ الآخر الذي يدفع النقد المصري - عند بعض النقاد - إلى إغفال قيمة التكنيك تعصبا للاتجاه، أو إلى التضحية بالشكل في سبيل المضمون.
ويبقى بعد هذا خطأ ثالث يرتكبه هذا اللون من النقد المصري المعاصر، وهو «مجاملة» الاتجاه السياسي الذي يدين به الأديب؛ لأن الناقد مثلا يدين بنفس الاتجاه. والمجاملة هنا مصدرها تعمد المناصرة للعقيدة الفكرية، حتى لا تتعرض هذه العقيدة لهزات الشك، إذا ما تعرض الأثر الفني للنقد العادل. ومن هذه النقطة تنبع قضية الضمير الأدبي، الذي نعده الدعامة الرئيسية لكل تقييم صحيح؛ فقد يكون الناقد بصيرا بمجموعة الأخطاء والمآخذ في العمل الفني، ولكنه يغض الطرف عن تلك الأخطاء والمآخذ؛ اتقاء لخذلان الأديب المنتج، تبعا لأن إنتاجه يعد بمنزلة اللسان المعبر عن الوجود العقائدي لكل من الأديب والناقد. وهذا بالطبع على حساب القيم الفنية حين تكون بعيدة عن مراجعة الضمير.
هكذا يسير النقد المصري في الطريق الذي رسمه له بعض النقاد. والنتيجة هي أن أسواق الأدب قد استقبلت في هذه الأيام، مجموعة جديدة من الثمار الأدبية غير الناضجة؛ لأن تربة الإنتاج في حقل الشعر والقصة على الخصوص، قد سمدت بسماد نقدي غير مناسب، أو لأن المشرفين على التربة يهمهم أن تمتلئ السوق بهذا النوع من الثمار، بصرف النظر عن خطورة كل عملية قطف قبل الأوان. ونحن الذين نؤمن بقيمة أدب الكفاح في سبيل خلق حياة أفضل، حياة تسودها القيم الهادفة إلى تمجيد كرامة الفرد، كعنصر تكويني هام في بناء المجتمع، نشعر أن قضية هذا الأدب هي قضية التركيب الفني السليم، الذي لا يتاح بغيره أن يشق المضمون الاتجاهي مجراه إلى نفوس الجماهير؛ ولهذا قلنا إن حياتنا الأدبية في حاجة ملحة، إلى محاولات مخلصة في ميدان النقد، حتى يكون للتوجيه النقدي المدرك أثره الفعال في قيادة الإنتاج.
ونحن اليوم أمام محاولة نقدية جديدة، محاولة سلمت من الأخطاء السابقة، فاستحقت أن نصفها بالإخلاص؛ ذلك لأن الدكتور عبد القادر القط في كتابه الذي أصدره منذ قريب، تحت عنوان «في الأدب المصري المعاصر»، قد راعى في كثير من الإنصاف أن يطبق مقاييس النقد المتطورة، على إنتاج أدبي ينتسب إلى مرحلة اجتماعية متطورة؛ ولهذا تجنب أن يطلق أحكاما عامة على منقوديه من الأدباء في جملتهم، حين ركز أحكامه عليهم في حدود الأعمال الأدبية التي تناولها بالنقد والدراسة؛ وهو في تقييمه لتلك الأعمال ينظر من خلال منظار، يرى ويقف فوق أرض محايدة، هناك حيث لا مجال للتعصب المذهبي ولا تودد للعقيدة الفكرية، مما يقتضي عند غيره أن يصدر الرأي أو نقيضه، وكلاهما رمز صادق للتجني أو المجاملة. فالمؤلف - على ضوء معرفتنا به - لا تربطه بمنقوديه صلات شخصية أو عقائدية من صداقة أو خصومة، وإنما تقوم الصلة بينه وبينهم على أساس من الإنكار لظاهرة فنية أو اتجاهية، لا ترضي الميزان النقدي العادل، أو أساس من الإعجاب بظاهرة أخرى تبدو وهي راجحة في حساب الوزن والتقييم. والمؤلف معرض في بعض المواضيع من كتابه لأن نختلف معه تبعا لأننا سننكر عليه بعض آرائه، ولكنه الإنكار الذي يرجع إلى اختلاف وجهات النظر، وليس إلى أنه قد أبصر الحقائق ثم أغمض عينيه؛ كما يفعل الآخرون.
القسم الأول من الكتاب خصصه الدكتور القط لدراسة «السلبية في القصة المصرية». أما النماذج التي اختارها من الإنتاج الأدبي المعاصر، ليسجل من خلالها مظاهر تلك السلبية، فهي أربع مسرحيات ذهنية لتوفيق الحكيم تتمثل في «أهل الكهف» و«بجماليون» و«الملك أوديب» و«شهرزاد» ... ثم ثلاث قصص طويلة هي: «أزهار الشوك» لمحمد فريد أبو حديد، و«إني راحلة» ليوسف السباعي، و«بعد الغروب» لمحمد عبد الحليم عبد الله. وطريقة المؤلف في عرض العمل الفني ودراسته ونقده تعد في جملتها سليمة، ما دامت محصورة في نطاق الزاوية التي اختارها لتلك الدراسة، ونعني بها زاوية السلبية؛ ولهذا فقد كان منصفا لبعض منقوديه - كتوفيق الحكيم مثلا - حين قال في مقدمة كتابه: ... ولم أقصد من دراسة ما درست من كتب، أن أتناول جميع جوانبها، وأحلل كل عناصرها الفكرية والفنية، ولكنني اتخذت كل مجموعة منها مثالا لاختلاط بعض مفاهيم الأدب عند منشئيه في تلك الفترة الحرجة من حياتنا الأدبية. وقد يكون في بعض القصص التي اخترتها موضوعا لبحث السلبية في القصة المصرية مثلا، وصف فني جميل أو تحليل نفسي عميق، أو أسلوب قصصي جيد في بعض المواضيع، ولكنني لم أشر إليه ولم ألتفت إلا إلى تلك العناصر، التي توضح الفكرة التي من أجلها اتخذت تلك الأعمال موضوعا لهذه الدراسة.
وعلى هذا الأساس سار المؤلف في طريقه متجها نحو الهدف الذي حدده في تلك الكلمات. ولكنه قبل أن يصل إلى هدفه يعرج على بعض القيم والمفاهيم المتصلة بجوهر السلبية والإيجابية، كوجهة نظر فنية ترتكز عليها مقاييسه وأحكامه في مرحلة الدراسة والتطبيق؛ وفي هذا المجال الجوهري نقف مع الدكتور القط حين يقول:
والقصاص حين يصور الحياة يستطيع أن يختار نماذجه من بين الإيجابيين أو السلبيين أو منهما معا، ولكنه بعد ذلك مطالب بأن يضع هذه النماذج تحت ضوء خاص، يخلق لها دلالات جديدة ويبث فيها معاني طريفة، تجعل من قصته حافزا إلى الحياة ومنبها إلى ما فيها من خير وشر، بحيث يخلق في نفوس قارئيه وعيا قويا بمجتمعهم ومشكلاته، ونفوسهم وحقيقة ما يعتمل فيها من أحاسيس. وهكذا يكون الفن - إلى جانب المتعة الجمالية - دافعا إلى التطور باعثا على اليقظة العقلية والنفسية، لا مجرد تسلية محضة فحسب. ومن اليسير على القصاص أن يصور النماذج الإيجابية لتجتمع فيها كل هذه الصفات والمعاني، إذ إنها بطبيعتها قادرة على ذلك مستجيبة لما يبثه الفنان فيها من حياة وإيحاء؛ وقد يستطيع القصاص أن يصور الشخصيات السلبية على وجه يتحقق معه ما ينبغي للفن من وظيفة إنسانية اجتماعية وعناصر جمالية؛ وذلك بأن يثير حول تلك الشخصيات من الأفكار والأحاسيس ما يثيره حول الشخصيات الإيجابية القوية، إذا أثارنا على ضعفها أو خلق تعاطفا مع هذا الضعف. وهو يستطيع أن يثيرنا على ضعفها، إذا لم يرسمها مجرد شخصيات وانية فاترة تمضي حياتها رتيبة مملة، بل يخلق لها من المواقف والأحداث ما ينفرنا من عجزها وسلبيتها، ويثير فينا احتقارا لها وازدراء لشأنها. ويستطيع أن يثير فينا تعاطفا مع ضعفها، إذا رد هذا الضعف مثلا إلى عوامل نفسية قاهرة، لا تستطيع الشخصية منها فكاكا، فهي كالمغلولة تريد الانطلاق ولا تجد إليه سبيلا.
نامعلوم صفحہ