بسم الله الرحمن الرحيم قال العبد الفقير إلى الله تعالى مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي: حمدًا لك اللهم بديع السموات، وشكرًا لك على ما أوليت وواليت من المسرات والبشارات، ألست القائل في تنزيل كتابك المقدس: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ولا علم لنا إلا ما علمتنا، تعلم ما مضى وما هو آت، وصلاة وسلامًا على عبدك المرتضى ورسولك المجتبى ونبيك المصطفى خير البريات، وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والكرامات. أما بعد: فهذه فوائد مشرقات، وفرائد متفرقات، بعد التفرق مجتمعات، في الكلام على قول رب السموات: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ بحسن عبارات، ورمز إشارات، يلذ بمعانيها مُعانيها، ويظفر بما فيها موافيها، جنحت في الكلام على ذلك لمجرد الظاهر، إذ لكل آية من المعاني ما تضيق به الدفاتر، فإن كلام الله كلام معجز أنيق،

1 / 39

وبحر عميق، لا نهاية لأسراره وعلومه، ولا غاية لمنطوقه ومفهومه، ولا إدراك لحقائق معانيه، ولا وصول لتركيب مبانيه، قال بعض العلماء: إن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ، كل حرف كجبل ق، تحت كل حرف معان لا يحيط بها إلا الله تعالى. ولذلك قال الإمام علي كرم الله وجهه: لو شئت لأوقرت سبعين بعيرًا من تفسير فاتحة الكتاب.

1 / 40

وقال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فهم، وما بقي من فهمها أكثر. وقال آخرون: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم، ومئتي علم، ثم يتضاعف ذلك أربعًا.

1 / 41

وفي الإحياء للغزالي: ومَنْ زعم أنه لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه، مخطئ في الحكم برد كافة الخلق إلى درجته، التي هي حده ومَحَطُّه، بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعًا لأرباب الفهم. ففيه رموز وإشارات، ومعانٍ وعبارات، وتلويح ودلالات، يختص بدركها أهل الفهم من ذوي العنايات. فنقول في الكلام على هذه الآية بحسب الظاهر، ونحن بالعجز والتقصير معترفون، ومن بحر كرم الله مغترفون: قال الله ﷾: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

1 / 42

مقدمة في مناسبة هذه الآية لما قبلها اعلم - أيد الله سبحانه - أن الله سبحانه مدح المؤمنين من أول السورة إلى قوله ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ وذم الكافرين في آيتين، أولهما ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ إلى قوله: ﴿عَذَابٌ عظِيمٌ﴾، ثم ذم المنافقين في ثلاثة عشرة آية، أولها: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ﴾ إلى قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ ثم لما مدح المؤمنين وذم الكافرين والمنافقين كأنه قيل: هذا المدح والذم لا يستقيمان إلا بتقديم الدلائل على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد، فإن أصول الإسلام هي هذه الثلاثة، فلهذا السبب بّن ﷾ هذه الأصول بالدلائل القاطعة، فبدأ أولًا بإثبات الصانع وتوحيده وبيّن ذلك بخمسة أنواع من الدلائل: أولها: أنه استدل على التوحيد بأنفسهم، وإليه الإشارة بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾. ثانيها: بأحوال آبائهم وأجداهم، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾.

1 / 43