وقال ابن دريد: سألت أبا حاتم عن معنى قولهم «بسن»؛ فقال: لا أدري ما هو. وقد توهم بعضهم من عبارة أبي حاتم أنه يرى أن ذكره من قبيل العبث، فرد عليه بأنه يفيد التقوية، وليس ذكره سدى، ولا يخفى أن أبا حاتم إنما قال: لا أدري ما هو بالنظر إليه وحده، وأما إفادته التوكيد عند مجيئه تابعا لحسن فهو أمر لا يخفى على أحد من أهل اللغة، ونظير ذلك اعتراض بعضهم على نحاة في قولهم: هذا الحرف زائد، وما بعد إذا زائدة، فظنوا أن قولهم بذلك يدل على أن في اللغة ما هو من قبيل العبث، مع أنهم قد صرحوا في الكتب المبسوطة بأن معنى قولهم: «إن هذا زائد.» أنه إنما جيء به لتوكيد الكلام ولم يحدث معنى؛ وذلك ك «ما» من قوله تعالى:
فبما نقضهم
و
عما قليل ،
مما خطيئاتهم
والباء في قوله:
أليس الله بكاف عبده ، ومن أكثر التتبع تبين له أن أكثر الاعتراضات التي يوردها بعض أرباب الفنون على ما ليس من فنهم تكون واهية؛ وكأن بعضهم ارتاع من اعتراض مثل هؤلاء فحاول أن يوجد ل «بسن» معنى، فقال: الأصل في «بسن» «بس»، و«بس» مصدر بسست، حذفت إحدى السينين تخفيفا وزيدت فيه النون، وبني على مثال حسن، ومعنى بسن: حسن كامل الحسن، ويمكن أن يقال وهو الأحسن: أبدلت السين الثانية هنا نونا ولم تبدل ياء على ما هو المألوف في المضاعف رعاية للاتباع؛ لأن مذهبهم فيه أن تكون أواخر الكلم على لفظ واحد مثل القوافي والسجع، وقد خلص أبو حاتم بقوله: لا أدري من التعسف، وفي مثل هذه المجاهل ينبغي أن يقال إن «لا أدري» نصف العلم من غير أن يوصل بعض المستدركين، لكنه من النصف الذي لا ينفع. ومن الاتباع قولهم: هو همزة لمزة، الهمزة والهماز: العياب، والهمز مثل الغمز والضغط، ومنه الهمز في الكلام، تقول: همزت الكلمة همزا، وهي كلمة مهموزة؛ لأن الهمز لا بد فيه من ضغط، وقيل لأعرابي: أتهمز الفأرة؟ فقال: السنور يهمزها. واللمزة واللماز كالهمزة والهماز، وأصل اللمز: الإشارة بالعين ونحوها.
عبارة الخليل في العلل التي يذكرها النحويون
قال أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي في كتاب «إيضاح علل النحو»: «ذكر بعض شيوخنا أن الخليل بن أحمد سئل عن العلل التي يعتل بها في النحو، فقيل له: عن العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها، وعرفت مواقع كلامها، وقامت في عقولها علله وإن لم ينقل ذلك عنها، وعللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته به، فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمست، وإن يكن هناك علة غير ما ذكرت فالذي ذكرته محتمل أن يكون علة له.»
ومثلي في ذلك مثل حكيم دخل دارا محكمة البناء عجيبة النظم والأقسام، وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق أو البراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل الداخل الدار على شيء منها قال: إنما فعل هذا هكذا لعلة كذا، وسبب كذا لعلة سنحت له وخطرت محتملة أن تكون علة لتلك، فجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك، فإن سنحت لغيري علة لما عللته من النحو هي أليق مما ذكرته فليأت بها. وهذا كلام مستقيم وإنصاف من الخليل.
نامعلوم صفحہ