وكان حمزة لا يتاح له أن يستمع إلى كثير من الموسيقى، ومع هذا كان يختلس لحظات استماعه اختلاسا عند بعض أصدقائه، وأحيانا كثيرة كان يذهب إلى متحف الفن الحديث حيث يستمع مع شلة المغرمين الدائمي الجلوس هناك، يستمع معهم إلى بيتهوفن وموزار وبرودين، ولكنه كان دائما يفضل تشايكوفسكي ويرى في موسيقاه عواطف يعبر عنها بأقصى ما قد يستطيع فنان.
ولم يطمئن حمزة لبحث بدير، فقام هو بنفسه ينقب معه في درج الأسطوانات الملحق بجهاز «البيك آب» الأنيق، ولم يجد من كل الموسيقى الكلاسيكية إلا «مارش العبيد» لتشايكوفسكي، وكان لهذه الأسطوانة بالذات مكانة خاصة في نفس حمزة؛ فقد كان يرى في نغماتها أنين البشرية كلها تحت لسعات العسف، وبحثها المرهف عن المصير.
ودارت الأسطوانة.
وما بدأت تدور حتى أغلق بدير «شيش» النافذة، وبقيت الحجرة في شبه ظلام، وجلس يستمع في أدب، ورغبته في التأدب أكثر من رغبته في الاستماع.
وبدأت الظلمات تتراقص وكل شيء يموج والحجرة تخفق بأنات تحوم كالأشباح، وآلام سوداء تمور ثم تصهر ثم ترق وتشف حتى تبدو من خلالها أضواء الأمل، وفوزية جالسة تسترق يدها الطريق إلى كوب القهوة وتختلس منه الرشفة في سكون وامتنان، ثم تسند رأسها إلى ظهر الفوتيل المواجه للمكتب وتسرح بعينيها تهيم بهما في الحجرة، وأحيانا تلتقيان بعيني حمزة فتبرق عيناه ويبتسم وتعود هي إلى سرحانها ورشفاتها المختلسة.
والشيء الوحيد الذي لم يرتح له حمزة هو القلق الذي لا يهدأ والذي كان يبدو في نظراتها حتى وهي تسرح بعينيها.
والظاهر أن بدير أحس فجأة بشيء ما، شيء مثل: ألا مكان له في كل ذلك ولا مكان لأدبه أو ضخامة جسده؛ فقد انتصب فجأة واقفا، ثم غادر الغرفة، وقال له حمزة: على فين؟ خير. - رايح، بقى. - فين؟ - المكتب. - ألله! ما انت قلت ...
ولم تتح له الفرصة ليكمل كلامه؛ فقد كان بدير يجيبه وصوته يبتعد، وقبل أن تتم المحادثة كان بدير قد غادر الشقة وصفق الباب خلفه.
وسألت فوزية: الله، ماله؟ - مش عارف، غريبة، دا ما كانشي عايز يروح المكتب.
وانتهى «مارش العبيد».
نامعلوم صفحہ