وسرح خياله مع التعبير، في جزيرة معها هي والطبيعة واللامسئوليات، كم يبدو هذا رائعا! وهل ستسير حياته كلها هكذا معارك وكفاح وتربص وحذر؟ كم تبدو الراحة والمتع الصغيرة التي لا يزاولها حلوة! كم يبدو بيت هادئ وزوجة وأولاد جميلا! أحيانا يهفو إلى قضاء يوم على شاطئ البحر في مصيف، أحيانا يود الذهاب إلى الأوبرا، أحيانا يريد أن يرى أوروبا.
وعاد يريد أن يحدق فيها ولم يجد لديه جرأة كافية، بل لم يعد في استطاعته أن تلتقي أبصارهما ولا عاد يرى فيها الإنسانة التي من لحم ودم والتي تعود أن يراها، بل أصبح ينظر إليها وكأنها استحالت إلى شيء معنوي له قدسية وخشوع، أصبح يراها كما يتأمل العاشق القمر فلا يجد فيه كوكبا آخر يضيء بأشعة الشمس المنعكسة، وإنما يرى فيه وجه الحبيبة وأسعد ما عاش من ساعات، والهمسات الدافئة وكل الذكريات.
وكان الصمت قد طال حتى بدا وهو في أشباه أحلامه يحس به، ويحس أن لا بد له من نهاية فقال لها: تعرفي إن كل معلوماتي عنك لا تتعدى إنك مدرسة وسكرتيرة اللجنة وبس. - وعاوز تعرف ايه؟ - كل حاجة. - ياه، دا انت الظاهر فاضي. - وورانا ايه؟
وبدأت تتكلم بعد تردد وحمزة يستمتع بكلامها وبحالة السلبية التي تملكته والتي كان سعيدا بها: هي الابنة الكبرى لمدرس أيضا ولها أختان وولد، أبوها تعلم في المعاهد وتخرج من دار العلوم ويدرس العربي وله في كل مشكلة رأي ويعتبر نفسه عصريا بكل ما تحمل تلك الكلمة من معان، وبينه وبين أقربائه الذين يكونون جيشا عرمرما من موظفي الدرجة السابعة فما تحت ما صنع الحداد حين قالوا له: عيب تشتغل بنتك، مط لهم شفتيه وقال: ما عيب إلا العيب، والذين يعملون أشرف من الذين لا يعملون. وحين نقلت إلى طنطا وكان لا بد أن تسكن هناك بمفردها وأشفقوا عليها من المصير قال لهم: اللي ما يقدر يحافظ على نفسه حيحافظ عليه غيره؟ وحين رآها بعض ذوي قرباها محمولة على الأعناق في عابدين في مظاهرة 13 نوفمبر وهي تهتف وذهبوا إليه يستنكرون ويتبرون قال: كلموها هي، أنا أبوها مش سيدها.
ليس هذا فقط، بل إنه يحفظ رباعيات الخيام، ويرى أن نصف مشاكل العالم تحل بعد حمام دافئ، وأن الوسيلة المثلى لإخراج الإنجليز من مصر هي ما اتبعه غاندي، وأن المعيز والمغازل أقوى مليون مرة من المدافع والدبابات، وإن كان يستدرك بعد هذا ويقول: بس ده رأيي الخاص، وأنا أحترم رأيك جدا مهما كان، أنا كما يقول فولتير: أنا وإن كنت لا أرى رأيك إلا أنني مستعد أن أفقد حياتي دفاعا عن حقك في إبداء رأيك .
وقطعت فوزية حديثها فجأة قائلة: قوللي؟ - أيوه. - إنت لابس البدلة ليه؟
وتذكر حمزة كل ما دار في يومه الطويل وقال: أصلي خرجت. - خرجت؟ ازاي؟ ازاي تخرج؟ - كان لازم. - ليه؟
وتردد حمزة مرة أخرى ولكنه آثر أن يفضي إليها وقال: حسن كان يعرف مكان ديناميت مخبيينه، فكان لازم أروح بنفسي وأجيبه. - ديناميت؟ - أيوه ديناميت. - وجبته؟ - جبته. - فين؟ - جوه. - هنا؟ - أيوه هنا. - إزاي مخليه هنا؟ مش خطر؟ - خطر. - وهنا مش كويس! - مش كويس أبدا. - لازم يتشال. - لازم. - وحتعمل ايه؟ - حنقله. - فين؟ - ما اعرفشي. - وده كلام؟ - معلش، لازم أوجد حل.
وسكت وسكتت، وهي تهز ساقها الموضوعة فوق الأخرى في عصبية، وأخيرا قالت: تشرب قهوة؟ أنا عايزة قهوة. - تعرفي تعملي؟ - طبعا أعرف! أنت فاكرني مثقفة متعفنة! دانا اللي شايلة بيتنا كله وشغله، دلوقتي حتشوف القهوة! - ورينا شطارتك.
وبعد قليل رجعت وقدماها تزحفان ببطء وعلى الصينية كوب لها وكوب آخر له، وبخار القهوة يتصاعد ويملأ الغرفة برائحتها التي يتفتح لها الشم والبصر.
نامعلوم صفحہ