وهذه ظاهرة جديدة في أدبنا العربي الحديث، إن دلت على شيء فإنما تدل على أن سلطان الأدب العربي ما زال قويا، وقدرته على الاستئثار بالقلوب والنفوس ما زالت نافذة، وعلى أن جذوة الأدب يذكيها ويقويها أن تجاور العلم في بعض القلوب والعقول فتستمد منه قوة وأيدا ومضاء قلما يظفر بها الذين يفرغون لتنميق الكلام ويصرفون عن حقائق العلم صرفا. وأي فنون العلم أجدر أن يفقه الناس بالحياة ومشكلاتها وما تكلف الأحياء من ألوان العناء من الطب؛ فالطبيب يخالط الإنسان مخالطة لا تتاح لغيره من أصحاب العلم، يخالطه صحيحا ويخالطه عليلا، ويبلو ألم جسمه وآلام نفسه أصدق البلاء وأعمقه، ويفتح له ذلك أبوابا من التفكير تنتهي به أحيانا إلى الفلسفة العليا، وتنتهي به أحيانا أخرى إلى الأدب الرفيع الذي يحسن فيه الانسجام بين الحس الدقيق والشعور الرقيق والذوق المرهف والعقل المفكر، وتتيح له ذلك كله قدرة على التصوير الفني لحياة الناس وما يزدحم فيها من الألم والأمل، ومن السخط والرضى، ومن الحزن والسرور، قلما يتاح لغيره من الناس.
وربما منحه قدرة أخرى على فهم الملكات الإنسانية، ورد أعماله وما يختلف عليه من الأحداث وما يكون لهذه الأحداث من تأثير فيه إلى أصولها ومصادرها التي أنشأتها وصورتها تصويرا لا يحسن فهمه إلا من يعرف دقائق النفس والجسم جميعا، وما يكون بينهما من توافق أحيانا ومن تخالف أحيانا أخرى، وإذا أتيح الفن الأدبي للطبيب امتاز أدبه بالدقة والصدق وتجنب الألفاظ العامة المبهمة، والعبارات التي تبهر الأسماع ولكنها لا تصل إلى القلوب ولا تحصل في العقول شيئا.
وقد أتيح لكاتبنا من هذا كله الشيء الكثير؛ فهو لا يحب التزيد في القول ولا يألف تبهرج الكلام، ولن تجد عنده كلمة قلقة عن موضعها أو عبارة إلا وهي تؤدي بالضبط ما أرادها على تأديته من المعاني.
هو طبيب حين يكتب يضع يده على معناه كما يضع يده على ما يشخص من العلل حين يفحص مرضاه، وينقل إلينا خواطره كما يصور أوصاف العلل وكما يصف لها ما ينبغي من الدواء.
وله بعد ذلك خصلة تميزه من غيره من كتاب الشباب؛ فالميل إلى تصوير الحياة الاجتماعية ظاهر عند أدبائنا من الشباب تختلف حظوظهم منه ويختلف توفيقهم فيه. ولكن كاتبنا لا يميل إلى تصوير الحياة الاجتماعية وما فيها من الآمال والآلام فحسب، ولكنه يحسن تصوير الجماعات ويعرض عليك صورها كأنك تراها.
فلم أر تصويرا لشارع أو ميدان تختلط فيه جماعات الناس على تباين أشكالهم وأعمالهم وألوان نشاطهم كما أرى عند هذا الكاتب الشاب.
ثم لا يمنعه ذلك من أن يفرغ للفرد فيحسن فهمه وتصويره في دقة نادرة، كل هذه الخصال تبشر بأن كاتبنا جدير أن يبلغ من فنه ما يريد، ولكني أتمنى عليه شيئين؛ أحدهما: ألا ينقاد للأدب ولا يمكنه من أن يشغله عن الطب أو يستأثر بحياته كلها؛ فالأدب يجود ويرقى ويمتاز بقدر ما يجد عند الأديب من مقاومة له وامتناع على مغرياته وانصراف عنه بين حين وحين.
وما أشك في أن عنايته بالطب حين تتصل وتقوى ستمنح أدبه غزارة إلى غزارته وثروة إلى ثروته، وستزيد جذوته ذكاء وقوة ومضاء.
والثاني: أن يرفق باللغة العربية الفصحى ويبسط سلطانها شيئا ما على أشخاصه حين يقص كما يبسط سلطانها على نفسه؛ فهو مفصح إذا تحدث، فإذا أنطق أشخاصه أنطقهم بالعامية كما يتحدث بعضهم إلى بعض في واقع الأمر حين يلتقون ويديرون بينهم ألوان الحوار.
وما أكثر ما يخطئ الشباب من أدبائنا حين يظنون أن تصوير الواقع من الحياة يفرض عليهم أن ينطقوا الناس في الكتب بما تجري به ألسنتهم في أحاديث الشوارع والأندية، فأخص ما يمتاز به الفن الرفيع هو أنه يرقى بالواقع من الحياة درجات دون أن يقصر في أدائه وتصويره.
نامعلوم صفحہ