وفي الجامع أيضا لاقى الأمرين ؛ فإذا ذهب يتوضأ من الحنفيات ترك الرجال الكبار وضوءهم ومضوا يترقبونه ويتمنون له الخطأ، ويتدخل أحدهم قائلا: اغسل اليدين حتى المرفقين يا ولد. فإذا غسلهما للمرفقين تصدى له آخر: يا ولد، ذراعك التي غسلتها لامست ذراعك التي لم تغسلها، أعد الوضوء. ويعيد الوضوء مع أنه يكون متأكدا أن ذراعه لم تلامس ذراعه الأخرى ولا قاربتها، أو قد يبتسم له شيخ له لحية طويلة ابتسامة صفراء ويقول: انت استنجيت يا شاطر؟! ويخجل فتحي جدا ويهز رأسه، ولكنه يترك الوضوء كله وينفض يده منه ويذهب ليتوضأ في بيتهم حيث لا رجال ولا شيوخ.
وإذا ما وقف ليصلي جماعة لاقى الصعاب، فإذا الذي بجواره يدفعه من كتفه قائلا: روح للصف الثاني، والصف الثاني يدفعه إلى الثالث، وهكذا إلى أن يجد نفسه في النهاية واقفا في الآخر بلا صف، ويجد نفسه هو والصغار الآخرين الذين ذهبوا يصلون منبوذين مطرودين، فيصنعون وأمرهم إلى الله صفا أخيرا، وما أسرع ما أدرك فتحي أن الوقوف في الصف الأخير له ميزة؛ إذ يتاح له من مكانه هناك أن يشاهد المصلين جميعا وهم راكعون أو ساجدون، ومن فرط ما أحب فتحي مشهدهم ذاك كان إذا صلى جماعة وركعوا هم كلهم أو سجدوا يبقى هو وحده بلا ركوع أو سجود؛ ليستطيع أن يستمتع بمشهدهم، حتى إذا ما قاربت الحركة على الانتهاء سارع هو بالركوع أو السجود لئلا يلحظه أحد.
وهم في صفهم الأخير ذاك كان لا يعدم الأمر أن يأتي مصل مسن متأخرا ليلحق بصلاة الجماعة، فما إن يرى صفهم حتى يهب فيهم: صلاة ايه دي اللي كلها عيال، امشي قليل الأدب منك له. ويتفرقون ويتبعثرون ويطيرون تاركين المسجد كله للكبار.
وإذا كان سعيد الحظ ورضي ابن حلال أن يوقفه بجواره في الصف، فلا بد أن أحدهم سيخرج من صلاته ليقول له: يا وله، إنت بتصلي من غير طاقية، امشي شوف لك طاقية، عمى في عينك!
ولهذا لم يتح لفتحي أبدا أن يصلي بانتظام، وكذلك لم يتح له أن يوفي الشرط الواجب للصوم، وكان يهمه جدا أن يصوم، ولم يتحمل كل هذا العناء سدى، كان يهمه أن يصوم ليستطيع أن يتناول السحور فلا يتناوله إلا الصائمون.
وكان السحور عند فتحي تعادل لذائذه كل القصص التي قرأها والأفلام التي شاهدها ومرأى الأسود والقرود في حديقة الحيوان، وكل لذائذ أخرى موجودة في العالم، ولم يكن قد أتيح له أن يحضر السحور أو يتناوله، كان يسمعه.
فحين يعود بعد أن يكون قد شبع نطا وجريا وصراخا ولعبا مع غيره من أطفال الحارة، والظاهر أن رمضان يغير من عادات الكبار؛ فالكبار يودون للأطفال دائما أن يحيوا حياة مثل حياتهم، حياة كلها جد وخطورة، فهم لا يلعبون ولا يودون لهم اللعب، وهم لا يستسيغون الصراخ والقفز ولا يودون للأطفال أن يقفزوا أو يصرخوا، بل يريدونهم دائما أن يظلوا جالسين مؤدبين متزمتين مثلهم، وكان رمضان إذا جاء وأكل فيه الكبار وشربوا - ورمضان الذي هو شهر الصوم يأكل فيه الناس أكثر مما يأكلون في أي شهر آخر - إذا أكلوا وشربوا تحدثوا وسهروا وتناقشوا، وأصبحوا أكثر إنسانية، فليس غريبا إذن أن يسمحوا للأطفال أيضا باللعب وبالبقاء خارج البيوت وقتا أطول.
كان فتحي يعود وقد استهلك كل طاقته الصغيرة من النشاط، ومع هذا، ومع ما يكون فيه من تعب لا يأتيه النوم؛ فبعد وقت قد يطول وقد لا يطول يبدأ السحور، وحينئذ يرقد في فراشه وكأن قد انتابته نوبة ملاريا خبيثة تؤرق جسده فينقلب إلى اليمين وسرعان ما يمل اليمين فيفتعل الحركة إلى اليسار، ويطوح بيده ويشد الغطاء ويرخيه، وأذناه وعقله وانتباهه كله، هناك، في الحجرة المجاورة حيث أبوه وأمه يتناولان السحور.
كانا يبدآنه بصمت لا يسمع فيه إلا تثاؤب أبيه وأمه وهي تغمغم بآهات وتشكو من تعبها ومفاصلها ومن الجيران ومن قطط الجيران وكلابهم والعيش الذي جف، ثم كان أبوه يتطوع ويقول كم الساعة وقتها دون أن تسأله أمه، ولا ريب أنه يفعل ذلك ليفتتح حديث السحور، وما ألذ حديث السحور.
كان أبوه هو الذي يتحدث في الغالب ، وإذا تكلمت أمه تقول كلمات مقتضبة أو تعيد الشكاية من مفاصلها، وكان فتحي يحب أباه لحديثه ذاك حين يتكلم بصوت فيه تلك الرنة التي تصاحب صوت المستيقظ لتوه من النوم، ويخرج كلامه إلى الظلام والسكون فيبللان ذلك الرنين ويحيلانه إلى نغمة حبيبة تنفذ إلى قلبه وتنغزه، فيتمنى لو قام في التو وعانقه وقبله.
نامعلوم صفحہ