19
وكان وهو في طريقه إلى الميعاد يرى في وجوه الناس ربيعا قبل الأوان، وجدية في العمل، وبريق الأمل الذي يصاحب العمل. كان الناس قد أفاقوا من صدمة الحريق ورفعوا الرءوس في خوف أول الأمر وبدءوا يتهامسون بالشائعات، ثم علا الهمس حين تحققت بعض الشائعات وأصبحت حديثا يقال، وعرف الناس من الحارق ومن الضارب، والناس حين يحددون أعداءهم لا يترددون، وبدءوا يسخرون وانطلقت النكات بادئة برأس الرمح ووزرائه ولم تترك حتى الذيول. وشد الأعداء من قبضتهم ليغلقوا الأفواه، ولكن كانت السخرية قد أضاعت رهبتهم وهونت من شأنهم، فقابل الناس الضغط بإحساسهم أن لا بد من التقدم خطوات أخر، وشعر الأعداء بالخطر، وانهالت ضرباتهم هوجاء ومع كل ضربة يزداد تجمع الناس ويتعلمون ويلتفون حول المضروبين، فيخاف الضاربون ويزداد البطش، فتقترب النهاية.
وكان في نفس حمزة إشراق لا تصنعه شمس؛ ستتكون لجنة أخرى، وسيلقى زكريا بعد حين ويعاود العمل الرائع الشريف من أجل الناس، ستعود المواعيد واللقاءات والبحث المضني وراء قضية الشعب، عشرات من الأشياء لا بد أن يخبرها لزكريا وعشرات لا بد أن يسأل عنها، وزوجة حسن محمد حسن وأولاده، ونقود السلاح التي لديه، والدبلة، دبلتين، وبدير لا بد من الذهاب إليه في ميعاد قريب، العدو قوي وسريع؛ سيكونون أقوى وأسرع، في الماضي أخطاء لن تعود، والمستقبل أكيد. النصر لم يعد أملا لقد أصبح واجبا.
ووصل إلى الشارع المجاور لخط حلوان، ومع كل ما كان يفكر فيه لم يفته أن يلحظ أن هناك أناسا يتسكعون حول الخط ويبدو ألا عمل لهم، ولم يطمئن وفكر في أن يرجع ولكنه عدل، فلا بد من مقابلة زكريا، وكل ما يحس به مجرد شكوك، أما ميعاده مع زكريا فيقين، فهل يأخذ بالشكوك ويترك اليقين؟
وقبل أن يصل إلى المحطة دخل في حارة جانبية وخرج في شارع الخليج، ثم مشى بحذر في الشارع الواسع الذي يصل المحطة بالخليج، ولم يكن لحظتها ميعاد قطارات، فكان الشارع خاويا، ورأى من بعيد وفي المكان الذي أمام المحطة مباشرة شابا لم يشك لحظة واحدة في أنه مخبر؛ فقد كان يرتدي جلبابا واسعا فضفاضا وكوفية ضخمة، وتوقف وقرر أن يلغي الميعاد، ولكنه قرر أيضا أن ينتظر من بعيد ليحذر زكريا حين يجيء، وأثناء انتظاره راح يراقب الرجل الواقف الذي كان يروح ويجيء ويتلفت وكأنما هو الآخر على ميعاد، وخيل لحمزة أنه رأى وجهه في مكان ما، ونظر إليه مرات أخرى ليتأكد، واكتشف مقهقها أن الشاب لم يكن سوى زكريا بلحمه ودمه، وقد تنكر في زيه ذاك.
وأسرع حمزة إليه، وحين أصبح على قيد خطوات منه عرفه زكريا وتقدم نحوه، وتشابكت أيديهما في سلام قوي اقشعر له جسد حمزة ورفرف بالفرحة، وقبل أن تترك يده زكريا كانت أيد كثيرة مفاجئة قد أطبقت عليهما بعنف، ومرت المفاجأة مرورا خاطفا.
وتلفت حمزة حوله فرأى نفس الأشخاص الذين مهما تغيروا فلا بد أن تقرأ العين على وجوههم كلمة مخبرين مكتوبة بحروف من جلابيب وطرابيش وسحنات.
وكان حمزة في كل مرة تحيطه أيد مثل تلك يحس بنوع من الارتياح، وكأن مهمته قد انتهت وأصبح عليه أن يستريح، أو كأن القبض عليه حفلة تتوج فيها بطولته ويعترف له فيها بالجميل، ولكنه هذه المرة أحس بالأيدي كنصل حاد يهوي عليه فيبتره وينتزعه بعيدا عن معركة الحياة والموت التي يقودها في سبيل الإنسان، وبعيدا عن فوزية وكل ما يمت بصلة إلى الحياة.
وأحس بأصابع من حديد تدلف إلى زوره وتخنقه.
ونظر إلى زكريا وكأنما كان زكريا هو الآخر يترقب نظرته، ولم يتحدثا بكلمة، وفي ذلك الوقت كانت الأيدي تمسك بهما ريثما تحضر العربة التي ستقلهم أجمعين، والناس قد بدأ المشهد يسترعي انتباههم ويتجمعون، وتبين حمزة أن الأيدي القابضة عليهما تمت إلى أربعة: أفندي، وثلاثة بطواقي.
نامعلوم صفحہ