ولكن هذا الاستدراك ليس استدراكا مطلقا هو الآخر! فالنظم ليس قالبا خارجيا جاهزا جامدا تصب فيه الكلمات، بل هو موسيقى لفظية تختلف باختلاف الكلام نفسه، ولو كان من نفس البحر ومن نفس اللغة، وقد ضربت أمثلة لذلك في كتابي، النقد التحليلي، المشار إليه. وكذلك الحال بالنسبة للقافية وسائر «خصائص» لغة الشعر الغنائي من صور فنية وحيل بلاغية، وما إلى ذلك. كما أن مفهوم اللغة الشعرية، أي اللغة التي قد تختلف عن لغة الحياة العادية، قد تعرض للهجوم والطعن هو الآخر (ولم يعد من القضايا التي لا خلاف عليها) منذ بداية الحركة الرومانسية الإنجليزية، وإصرار شيخ شعراء الرومانسية، وليم وردزورث، على إزالة الحواجز بين لغة الشعر
diction
ولغة النثر أو لغة الحياة اليومية، مقوضا بذلك ركنا ركينا من أركان الكلاسيكية الجديدة، وقد تعرضت لهذا في مقدمتي لديوان الشاعر بهاء جاهين «الرقص في زحمة المرور »، ولا أعتقد أنه أصبح من القضايا التي تحتاج إلى إعادة الطرح.
فإذا تركنا الشعر الغنائي بمشاكله الكثيرة المتداخلة، وتأملنا اللغة التي يكتب بها النثر الأدبي بمستوياتها المتعددة لأدركنا الصعوبة التي يواجهها مترجم العمل الأدبي الحديث إلى العربية؛ إذ إنه يواجه أحيانا نصوصا تتضمن مستويات لغوية لا يمكن أن يتقبلها القارئ الذي اعتاد اللغة الجزلة التي اتسم بها تراث العربية الكلاسيكي، والتي يعترف بها وحدها أدبا! وهو - ثانيا - يواجه نصوصا تتحدث فيها الشخصيات «لغات» مختلفة؛ إذ كثيرا ما نرى لغة المؤلف وقد ابتعدت كل البعد عن المستويات اللغوية التي تستخدمها الشخصيات التي ابتدعها، سواء كان ذلك في المسرح أم في الرواية والقصة القصيرة، بل إن النقاد يعيبون على المؤلف توحيد اللغة التي يستخدمها هو ومن يتحدث على ألسنتهم أو من وجهة نظرهم في تلك الفنون الأدبية. بل إن هذا العيب يصبح نقصا بالغا في المسرح حيث يتوقع الجمهور أن تختلف اللغة التي يستخدمها المثقفون عن لغة رجل الشارع مثلا؛ فلا يعقل في إطار المذاهب الفنية الحديثة أن يتحدث نجار أو حداد مثلا - مهما بلغ امتياز الشخصي ومهما بلغت فطنته - نفس اللغة التي يتحدثها قاض أو طبيب أو مهندس، ولا أقول الأستاذ المتخصص في علم من العلوم.
وهذا هو مربط الفرس كما يقولون! فمعنى تعدد مستويات اللغة (أو حتى اختلافها «النوعي») هو اختلاف «أنواع» البلاغة التي نصادفها في كل مستوى. فليس من المنطقي أن نتوقع نفس الصيغ «البلاغية» من فم الإسكافي والصحفي، أو من فم ربة المنزل وأستاذ الجامعة، وكذلك فنحن لا نتوقع نفس المنهج «البلاغي» في حوار سائق التاكسي مع راكب ريفي، وفي حوار مدير المصلحة مع موظف لديه! وقد تعرض لهذا الموضوع عدد من النقاد الذين تخصصوا في مستويات اللغة، من أهمهم «إريك أورباخ»
Eric Auerbach
الألماني الذي كتب عدة دراسات قيمة عن مستويات البلاغة في الآداب الكلاسيكية القديمة وركز في كتابه
Mimesis (أي المحاكاة) على التفاوت بين التراجيديا والكوميديا في اللغة والحيل البلاغية المستخدمة، وإن كانت معظم نماذجه من الأدب اللاتيني، كما تعرض له كل من كتب عن لغة شيكسبير وتفاوت مستوياتها وأساليبها البلاغية . ولكننا ما زلنا في العالم العربي نرفض الاعتراف بأي مستويات بلاغية تخرج عن علوم الأقدمين (علوم البيان والبديع والمعاني وما إليها)، وننهج في تحليلنا للبلاغة منهجا شكليا ناقصا؛ وأنا أقول إنه ناقص لأنه لم يتسع بعد بالدرجة الكافية ليشمل الفنون الأدبية الجديدة التي عرفها العالم في العصر الحديث.
إن لدينا الآن تراثا حافلا بالعامية المصرية في المسرح يتضمن ضروبا منوعة من بلاغة الحديث الحي التي تنبع من السياق ومن تقابل بواطن الشخصيات واصطدامها وتصارعها بعضها مع البعض. وقد تبلغ كلمة واحدة يقولها زائر القاهرة الريفي لسائق التاكسي درجة من البلاغة لا مثيل لها في تراث العربية القديم، وقد نجد في حوار ربة المنزل مع بائع الخضر من البلاغة ما تقصر عنه الفصحى، وما لا يترجم إلى الفصحى إلا بشق النفس، وقد فعل ذلك المازني في العديد من كتبه. ولا أريد أن أسهب وأطيل؛ فالأنواع الأدبية الجديدة تتحدث عن نفسها، وتصوير الكاتب حوارا بين نفر من العامة أو تسجيله الدقيق لما يدور داخل نفوس الشخصيات قد يبلغ درجات عليا من البلاغة يندر أن نجدها في شعر الأقدمين.
لقد اختلف معنى البلاغة في عصرنا عما كان عليه في العصور الخوالي، وليس من المعقول أن نقتصر في تحليلاتنا البلاغية على ما أورده النقاد العرب الذين كانوا يستمدون أفكارهم ممن سبقهم ويبنون أحكامهم على شعر الماضي (أو على شعر زمانهم كما فعل الثعالبي في يتيمة الدهر) بعد أن اضطرتنا الأنواع الأدبية الجديدة إلى تعديل معاييرنا البلاغية. •••
نامعلوم صفحہ