Old English
كما خرج عدد لا يحصى من الشعراء على طرائق النظم التقليدية وضروب القافية المألوفة حتى أتى فيليب لاركن
Larkin (المتوفى عام 1986م) وأعاد صور النظم التقليدية والتقيد بالقافية.
ولذلك فعندما يتصدى كاتب أو شاعر لترجمة عمل شعري قصصي أو درامي فإنه لا يواجه الموسيقى الغلابة التي يواجهها في الشعر الغنائي، بل أحيانا ما لا يواجه الإيقاعات المألوفة في الشعر بصفة عامة؛ فشعراء الإنجليزية الذين يكتبون الشعر القصصي أو الدرامي يتعمدون إخفاء موسيقى شعرهم وإخضاعها للمواقف القصصية أو الدرامية حتى ما تكاد تبين، وهي لا شك ذات أهمية ثانوية بالقياس إلى قدرة اللغة على تصوير الحالات النفسية للشخصيات، وإبراز أدق انفعالاتها وأفكارها؛ بل إن كبار كتاب المسرح يجهدون أنفسهم حتى تخفت موسيقى الشعر وتتوارى ويفضلون استخدام أنواع من النظم أقرب إلى النثر، بل استخدام النثر نفسه في المسرحية الشعرية، حتى لا تجرف الموسيقى القارئ حين تسيطر على أذنه، ومن ثم تتحكم في إيقاعات نفسه.
ومن أهم وسائل إخفاء الإيقاع الشعري في الإنجليزية أو «إخفائه» - إن صح هذا التعبير - إلغاء القافية تماما، وعدم إنهاء العبارة عند انتهاء البيت - أي كسر وحدة البيت - بحيث تستمر الجملة في التدفق من سطر إلى سطر (فالسطر هو المقابل الإنجليزي للبيت أو للشطر في الشعر العربي)، وربما انتهت الجملة في منتصف السطر وبدأت عنده جملة جديدة. ومنها عدم التقيد بعدد التفعيلات في البيت الواحد، ومنها تنويع البحور المستخدمة، والإكثار من الزحاف حتى لكأن السامع يسمع نثرا، وهذه جميعا خصائص يستطيع الشعر العربي الجديد - أو الشعر المرسل - أن يقدم المقابل لها والذي قد يرقى إلى مرتبة المثيل.
وتتفاوت الأعمال المسرحية الشعرية أيضا في مدى اتكائها على هذا النوع من النظم الذي يمكن أن نطلق عليه النظم الدرامي، وتتفاوت في درجة تحررها من الإيقاع الشعري كما تتفاوت أجزاؤها المختلفة في درجة اتكائها عليه أو تحررها منه. فشيكسبير دائما ما يخضع لغته لمقتضيات فنه الدرامي، وهو - كما ذكرت في مقدمة ترجمتي لمسرحية تاجر البندقية - لا يتقيد بقوالب النظم الخارجية، ويكاد يبتكر أنواع الموسيقى التي تتطلبها مواقفه الدرامية. وقد حاولت عندما شرعت في ترجمة «يوليوس قيصر» أن أحاكي النظم الذي اختاره، أو أن أمزج بين النظم والنثر، مثلما فعلت في ترجمة «روميو وجولييت» (دار غريب، 1986م)، ولكنني كنت دائما أصطدم بعقبة كأداء، وهي أنني لا أستطيع أن أضحي بأي جانب من جوانب اللغة المستخدمة تركيبا أو تنسيقا أو ألفاظا في سبيل الإيقاع الشعري؛ فلغة المسرحية تسيطر عليها دقة نادرة قد تفسدها إعادة ترتيب العبارة أو تركيب الجملة نشدانا للإيقاع الشعري. ويسيطر على المسرحية - خصوصا في المواقف الدرامية الحرجة - منطق المتآمرين ومنطق الثأر المدروس المتأني، حتى حين يبدو أن الشاعر قد أطلق العنان لمشاعر الشخصيات وجعلها تخرج ما في باطنها دون حساب أو تدبير. ولذلك فقد فضلت آخر الأمر أن أقلع عن محاولة الترجمة المنظومة وأن أستعيض عنها بإيقاع اللغة العربية الذي يتفاوت من موقف إلى موقف ، ولكنه يتجاوب في كل حالة مع إيقاع الإنجليزية المنظومة؛ فهو في رأيي يمثل «البديل» لنظم شيكسبير.
وقد مكنني هذا «البديل » من أن أضبط الصياغة العربية لأخرج المقابل (الذي كثيرا ما يصل إلى درجة المثيل) للجوهر الدرامي للمسرحية الذي ينسجه شيكسبير نسجا بارعا حاذقا، لا في الحوار فحسب، ولكن أيضا في البناء المحكم. فكل ما تقوله الشخصيات قائم على تفكير دقيق ومرسوم بتأن وتمهل، حتى في المشاهد التي تلتهب فيها المشاعر ويلوح لغير الخبير أنها كتبت عفو الخاطر.
أما السمة الأولى للغة المسرحية وهي تفاوت مستوياتها بين النظم والنثر، وبين اللغة الرفيعة (أي الأسلوب الرفيع) واللغة العامية، فيكفي للتدليل عليها أن نورد فقرات محدودة من المشهد الافتتاحي الذي يتضمن حوارا يمزج بين هذه المستويات جميعا:
Flavius:
Hence! home, you idle creatures, get you home.
نامعلوم صفحہ