ويتضح من هذا أن الإنسان قد تقدم منذ فترة طويلة جدا على أنواع الحياة الحيوانية، مثل الجوريلا والقردة العليا؛ فالجوريلا مثلا لا تقدر على نقل أكثر مما تستطيعه يداها، ومن ثم تقضي الجوريلا معظم حياتها متنقلة ببطء من مكان إلى آخر لتأمين غذائها الذي تأكله على الفور وفي نفس مكان وجوده طبيعيا. وبالرغم من أن الجوريلا تقضي الليل دائما في مكان واحد، إلا أن هذا المكان لا يحتوي على أية أملاك سوى المكان.
وعلى النقيض تماما نجد المجتمعات الإنسانية حتى في أبسط صورها عددا وحضارة؛ فالمجتمع الإنساني البسيط يقيم معسكرا أو يحتل مكانا محميا آمنا (كهف أو حائط صخري أو مكان قريب من مصدر الماء) لبضعة أيام أو بضعة أسابيع، ويترك القادرون على النشاط والتجول المعسكر بحثا عن الطعام، وبالرغم من أنهم يأكلون بعض ما يحصلون عليه من صيد أو نبات في مكانه، إلا أنهم يعودون بطعام إلى المعسكر لتغذية الأطفال وكبار السن، وبعض الطعام يعالج بالتدخين أو الشي ليمكن تخزينه بعض الوقت، أو إلى وقت الحاجة والشدة، وحينما تقل موارد الطعام في المنطقة ينتقل المعسكر كله إلى منطقة أخرى ذات وفرة غذائية، وفي خلال التنقل تنقل بعض الممتلكات أيضا مثل الخيمة أو السقف المصنوع من القش المجدول على إطار من الأغصان، وغير ذلك مثل الأسلحة والأوعية والملابس الإضافية وأدوات الإنتاج والأدوات التي تستخدم في الطقوس أو تلك المرتبطة بالعقائد والممارسات الدينية بصورها المختلفة.
فإذا كانت وسائل النقل محدودة وبسيطة فإن المجتمع يحتفظ بممتلكات محدودة قابلة للنقل، وكذلك يصبح المجتمع قليل العدد، إلا إذا كانت المنطقة وفيرة الغذاء بصورة متجددة، وهو أمر لا يدعو للتنقل.
ولا شك أن وسائل النقل وتنوعها يرتبط بالكفاءة التكنيكية عند المجموعات المختلفة، ويعكس مدى احتياجهم للنقل. ولكن النقل أيضا عامل مهم في توسيع رقعة الأرض المستخدمة ويؤدي إلى التخصص الإنتاجي في المناطق المختلفة. وقد ازدهرت كثير من الدول البدائية القديمة - كدولة الباجندا في أوغندا في أفريقيا، ودولة الإنكا في أمريكا الجنوبية - نتيجة لتنظيم محكم للطرق التي تربط أرجاء الدولة بالعاصمة. والمثال التقليدي على ذلك هو الدولة الرومانية التي ربطت أجزاء كثيرة من عالمها بالطرق الرومانية المعروفة. وفي مصر كانت ملاحة النيل وفروعه في الدلتا هي الطرق الرئيسية السريعة التي يحكم عبرها الفراعنة بلادا ذات امتداد طويل، ويحمون جبهات واسعة من الألف الرابعة قبل الميلاد ضد غارات البدو الدائمة.
وليس لدينا أدلة على أن إنسان العصر الحجري القديم قد طور وسائل انتقال معينة وخاصة عبر الأنهار. ولعله كان يعبرها مع جذوع الأشجار العائمة طبيعيا أو متعمدا، ولكننا نملك أدلة على أن الإنسان في العصر الحجري الأوسط (حضارة ماجلموس في السويد) قد استطاع عمل الأرماث أو الطوافات
rafts
في منطقة بحيرات السويد الوسطى، وإلى جانب ذلك فإنه قد صنع قوارب بواسطة تجويف جذوع الأشجار بالطرق والدق أو الحرق، ولا تزال المجموعات البدائية تصنع قوارب مماثلة في جزر الباسيفيك وأنهار النطاق المداري والاستوائي.
لكن القوارب الحقيقية قد ظهرت لأول مرة - حسب معلوماتنا الراهنة - في خلال عصر النحاس في مصر منذ أكثر من ستة آلاف سنة، وهي قوارب مصنوعة من ربط قطع مجهزة من الأخشاب بعضها إلى بعض، كما كانت هناك قوارب كبيرة مصرية تعبر البحار المحيطة بمصر، وبرغم أن التجديف بواسطة الملاحين كان هو مصدر القوة المحركة لمثل هذه القوارب الكبيرة، إلا أن الرسوم المصرية الملونة على الأواني قبيل عام 3000ق.م تضيف شراعا إلى القوارب. وقد ظلت الملاحة البحرية على الأسس المصرية آلاف السنين، ولم يحدث فيها تطور إلى السفن الكبيرة المتعددة الأشرعة إلا حوالي تاريخ الكشوف الجغرافية الكبرى في القرن الخامس عشر، وهذا يعني أن النشاط البحري لعدد من شعوب البحر المتوسط قد تبنى مبدأ الملاحة المصري: الفينيقيون والإغريق والرومان، وأساطيل الدولة الرومانية الشرقية والدول العربية المتعددة في حوض البحر المتوسط.
أما النقل على الأرض فقد ظل لفترة طويلة جدا من حياة الإنسان قائما على أساس العضلات البشرية وحدها، وفي حوالي الألف السابعة قبل الميلاد انتقلت البشرية إلى العصر الحجري الحديث «النيوليتي» في الشرق الأوسط وهضاب إيران الغربية ومنطقة القوقاز. وأهم منجزات هذا الانتقال أن الإنسان استطاع لأول مرة أن يصبح منتجا للغذاء بدلا من الاعتماد على النتاج الطبيعي وحده. وإلى هذه الفترة التاريخية ترجع بدايات الزراعة واستئناس الحيوان معا.
وسواء كان الحيوان الذي بدأ استئناسه هو الحمار أو البغل فإن الذي يهمنا هو أن إنتاج الغذاء بواسطة زراعة المحاصيل الغذائية قد أدى إلى السكن الدائم للمجموعات الزراعية في قرى ثابتة. وأصبح من الضروري نقل المحصول المنتج في الحقول لتخزينه في القرية؛ ومن ثم كان استئناس الحيوان جزءا متمما لعملية الإنتاج الزراعي، وليس منفصلا عنه، حتى وإن كان الذين استأنسوا الحيوان أولا جماعات غير زراعية الأصل.
نامعلوم صفحہ