سیاسی جغرافیہ
الأصول العامة في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا: مع دراسة تطبيقية على الشرق الأوسط
اصناف
مثل هذه المناطق الخالية كانت تعتبر لمدة طويلة أحسن وسائل الدفاع عن الدولة؛ لأن العدو يخترق الأراضي غير المواتية لمسافة طويلة قبل أن يهاجم الدولة، ومن المعروف أن بعض القادة كان يتعمد ترك مناطق خالية حاجزة، مثال ذلك أن الزعيم أتيلا طلب من بيزنطة أن تترك نطاقا بعرض مائتي كيلومتر جنوب الدانوب خالية من السكن والزراعة، وكذلك ترك البارونات الإنجليز مساحات غير مستغلة على طول الحدود بين إنجلترا واسكتلندا لتأمين الحماية، وعلى حدود لتوانيا ترك الأمراء التيوتون نطاقات من الغابات غير المأهولة يتراوح عرضها بين مائة ومائتي كيلومتر عند منطقة ممل التي تمر فيها ثلاثة طرق محصنة بالقلاع تتجه إلى جرودنو وكوفنو وأونتلسبورج، وهذا معناه أن فرسان التيوتون الذين احتلوا لتوانيا في منتصف القرن السادس عشر قد تركوا أكثر من نصف المساحة التي احتلوها فراغا حاجزا لتأمين أملاكهم الجديدة ضد السلاف.
وأغرب أنواع الحدود المهجورة كانت بين الصين وكوريا، فقد طرد السكان من نطاق عرضه حوالي مائة كيلومتر، ودمرت كل القرى والمزارع الموجودة داخل هذا النطاق، وهددت السلطات كل من يقبض عليه داخل هذا النطاق المهجور بالموت الفوري، وكانت التجارة بين الدولتين تسلك طريقا واحدا مصرحا به من قبل السلطات، وزيادة في الحيطة والحذر لم يكن هذا الطريق مفتوحا طوال العام، بل كان يؤمر بفتحه ثلاث مرات في العام لمرور القوافل.
وفي أغلب الظروف كانت هذه المناطق المهجورة كنطاقات حاجزة بين الدول والمجتمعات البدائية تفقد قيمتها لأسباب كثيرة على رأسها حدوث غزو أو تحسين العلاقات بين الدول المتنازعة، أو اضطرار الدول والمجتمعات إلى إلغائها نتيجة للضغط السكاني الداخلي والحاجة إلى أرض وموارد جديدة، ولكن هذه المناطق كانت تتحول قبل ذلك بالتدريج إلى مأوى وملجأ للمجرمين والفارين من الدولتين المتجاورتين أو إلى مأوى للثوار على أنظمة الحكم، ومن الأمثلة الحديثة على ذلك أن المناطق غير المأهولة على طول الحدود الأمريكية المكسيكية كانت مأوى للخارجين على القانون خلال العشرات الأولى من هذا القرن، ولما استفحل أمرهم اضطرت الحكومة الأمريكية إلى تجريد حملات عسكرية واستخدام الجيش والوسائل الحربية للقضاء عليهم.
ولا شك في أن المناطق الخالية عمدا - تلالا أو غابات أو مستنقعات أو أراضي جيدة غير معمورة - صالحة لقيام نطاقات حاجزة بين الدول في حالة وجود مزيد من الأرض وقليل من السكان، ومع اقتصاد زراعي أو نشاطات اقتصادية أولية، ولكن مع نمو الحضارة الصناعية والنمو السكاني الحديث مع النزاعات القومية وظهور الدول القومية بأشكالها الحديثة، لم تعد الحاجة إلى هذه التخوم المهجورة قائمة، بل على العكس ظهرت الحاجة إلى مزيد من الأرض ومزيد من الموارد، ومن ثم اختفت هذه المناطق الحاجزة تماما من خريطة أوروبا وغيرها من الدول إلا من بقايا تاريخية قديمة كإمارات لكسمبورج وليختشتاين وأندورا ونبال، واتخذت المناطق الحاجزة وضع المناطق المحايدة في الأراضي قليلة السكان ذات الموارد المحتملة ريثما يتم اتفاق الدول على تقسيمها في ظل ظروف سياسية مواتية. (2-3) المسطحات المائية والحدود السياسية
تشكل المسطحات المائية - أنهارا وبحيرات وبحارا - عقبات طبيعية أمام الاتصالات البرية المعتادة، ويلزم وجود وسيلة خاصة لعبورها - قوارب وسفن وجسور - وبذلك فإنها في الحقيقة نوع من أنواع الحدود الاستراتيجية المانعة، ولكن الأنهار والبحيرات مشكلات خاصة تختلف عن البحار والمحيطات، ومن ثم يجب التفريق بينهما. (أ) الأنهار والبحيرات
منذ القدم كانت الأنهار تعد عائقا طبيعيا تستقر بموازاته الحدود الاستراتيجية للدول مثل الراين قديما (الرومان) وحديثا (فرنسا وألمانيا وسويسرا)، وريوجراندا بين الولايات المتحدة والمكسيك ، وآمور بين الصين والاتحاد السوفيتي، والكنغو بين زائيري وجمهورية كنغو برازافيل، والزمبيزي بين روديسيا وزامبيا، وأوروجواي بين الأرجنتين من ناحية وأورجواي والبرازيل من ناحية أخرى.
وهنا يجب أن نميز بين الحدود الطبيعية والاستراتيجية، فالنهر - كمسطح مائي - عقبة استراتيجية ومن ثم يصبح حدا عسكريا ملائما، ولكنه ليس حدا طبيعيا في كل الحالات، ويعتمد ذلك على نوع النهر: هل يجري في سهل أو واد واسع أم في منطقة وعرة أو أخدودية؟ هل هو نهر عريض هادئ أم ضيق متدفق التيار؟ هل هو دائم الجريان أم موسمي المياه؟ هل يغير مجراه أم هو ثابت المجرى؟ وعلى ضوء تحديد النهر في أجزائه المختلفة يمكننا أن نقول في النهاية هل هو حدود اتصال أم انفصال.
إن النهر في أجزائه العليا غالبا غير صالح لتحديد خط سياسي طبيعي؛ لأنه يكون مجموعة من الروافد الصغيرة المنحدرة سريعا والمتأثرة كثيرا بالأمطار أو الثلوج أو الينابيع، وفوق هذا فإنه يجري فوق منطقة مرتفعة مضرسة غالبا هي في حد ذاتها منطقة انتقال حدية واسعة، ولهذا فإن الغالب أن مسارات الأنهار في مجاريها الوسطى والدنيا - حيث يتحدد النهر في مجرى واحد - هي الأجزاء التي يمكن أن تتخذ حدودا استراتيجية، وهي بالفعل كذلك تاريخيا، فالراين ليس الحد السياسي بين النمسا وسويسرا في مجراه الأعلى إلا عند قرب دخوله بحيرة بودن - كونستانزة - وبعدما ينتظم جريان مائية النهر منذ خروجه من تلك البحيرة نجده يكون في معظمه الحد التاريخي بين سويسرا وألمانيا، وبين ألمانيا وفرنسا.
والدانوب لا يكون حدا سياسيا في مجراه الأعلى، فهو لم يكن الحد الشمالي لمملكة بافاريا قديما، ويجري عبر المائيات الجنوبية حاليا، وهو يخترق شمال النمسا دون أن يصبح حدا سياسيا خارجيا أو إداريا، ويكون جزءا من حدود المجر وتشيكوسلوفاكيا، وجزءا آخر من حدود رومانيا من جانب ويوجسلافيا وبلغاريا من جانب آخر، وأخيرا يكون في دلتاه جزءا من حدود رومانيا والاتحاد السوفيتي.
وبعض الأنهار تغير مساراتها في أجزاء محددة وأخرى في أجزاء واسعة، ومن الأمثلة على ذلك أن بلدة برايزاخ القديمة - على الراين الأوسط في إقليم بادن الألماني - كانت أصلا على الضفة اليسرى للنهر؛ أي داخل إقليم الألزاس حتى القرن السادس عشر، ثم غير النهر مجراه فأصبحت على الضفة اليمنى فدخلت بذلك في الجانب الألماني، وفيما بين سويسرا والنمسا غير الراين مجراه بعد عام 1892، ولكن الدولتين اتفقتا على إبقاء الحدود بين البلدين على أساس المجرى القديم، وقد اتفق مؤتمر فيينا 1815 - بعد الحروب النابليونية - على اتخاذ مجاري الأنهار حدودا، لكن أحدا في هذا المؤتمر لم ينتبه إلى ظاهرة تغيير مجاري الأنهار. وإذا كانت هذه الحالة المقترنة بالتغيير البسيط في مجاري الأنهار، فماذا تكون الحالة لو كان الأمر يرتبط بتغيرات عديدة واسعة المدى.
نامعلوم صفحہ