تقدمات الطبعة الأولى والثانية
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الرابعة
القسم الأول: مكونات الجغرافيا الاقتصادية
1 - ميدان الجغرافيا الاقتصادية ومناهجها
2 - موارد الثروة
3 - العوامل الطبيعية والبشرية في الجغرافيا الاقتصادية
القسم الثاني: جغرافية الإنتاج الحيوي
4 - السماكة والموارد المائية
5 - الموارد الغابية
6 - الثروة الحيوانية
7 - الزراعة
8 - دراسات تطبيقية على بعض المحاصيل
تقدمات الطبعة الأولى والثانية
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الرابعة
القسم الأول: مكونات الجغرافيا الاقتصادية
1 - ميدان الجغرافيا الاقتصادية ومناهجها
2 - موارد الثروة
3 - العوامل الطبيعية والبشرية في الجغرافيا الاقتصادية
القسم الثاني: جغرافية الإنتاج الحيوي
4 - السماكة والموارد المائية
5 - الموارد الغابية
6 - الثروة الحيوانية
7 - الزراعة
8 - دراسات تطبيقية على بعض المحاصيل
الجغرافيا الاقتصادية وجغرافية الإنتاج الحيوي
الجغرافيا الاقتصادية وجغرافية الإنتاج الحيوي
تأليف
محمد رياض وكوثر عبد الرسول
تقدمات الطبعة الأولى والثانية
الجغرافيا الاقتصادية ... دراسة الإنتاج بمعناه الواسع، وتهدف في دراسة علمية إلى حصر موارد الثروة المختلفة من: طبيعية، بشرية، وتوزيعها وتوضيح وسائل الإفادة منها في ميادين الإنتاج الزراعي والتعديني والصناعي والتجاري، وما تتعرض له هذه الوسائل في كل ميدان على حدة من مؤثرات ترجع إلى العوامل الطبيعية أو البشرية التي قد تختلف من منطقة لأخرى في العالم ...
نصر السيد نصر 1960
لقد أصبح لعلم الجغرافيا الاقتصادية أو الموارد الاقتصادية أهمية كبيرة نتيجة لتعدد حاجات الإنسان، ونتيجة لانقسام العالم إلى كتل وأحلاف تحاول كل كتلة إشباع معظم حاجياتها من مواردها المحلية. كذلك خشيت الدول من أن تستأثر الأجيال الحاضرة بأجود الموارد وأرخصها فتدخلت بقصد حماية مصالح الأجيال القادمة.
محمد عبد العزيز عجمية 1963 ... راعينا أن ينصب الاهتمام على إبراز أثر الظروف الجغرافية - الطبيعية والبشرية - في مظاهر النشاط الاقتصادي والأسس والقواعد التي تتحكم في الإنتاج الاقتصادي لموارد الثروة ...
محمد فاتح عقيل، فؤاد محمد الصقار 1968
الجغرافيا الاقتصادية فرع هام من فروع الجغرافيا، وهدف دراستها سطح الأرض، لا كما تدرسه فروع جغرافية أخرى، ولكن من زاوية أخرى تمكن الدارس من أن يراقب ما يسمى بجو الأرض؛ أي ما يدور على الأرض من نشاطات وتفاعلات بشرية وطبيعية. والموارد جزء من الجغرافيا الاقتصادية؛ لأنها تتناول بالدراسة مصادر الثروة وتفاعل وسائل استغلالها مع بقية عناصر الجغرافيا الاقتصادية، نظم الاستغلال وقوانينه، النقل، التبادل والتجارة إلخ.
المؤلفان
القاهرة في أكتوبر 1970
مقدمة الطبعة الثالثة
يستأثر الموضوع الاقتصادي في الجغرافيا بنصيب وافر من الكتابات في كافة اللغات، ويرجع ذلك لسببين ليس من بينهما سهولة الموضوع أو وضوح المنهج:
السبب الأول:
أن غالبية أشكال الإنتاج والاستهلاك الاقتصادية تخضع لأرقام إحصائية عامة، وذلك برغم التفاوت الملاحظ في دقة الأرقام بين الدول، أو في تعمد تضخيمها لأسباب سياسية وإعلامية، أو تجنب ذكرها لأسباب استراتيجية. وبرغم ذلك فإنه يمكن للباحث الحصول على صورة لا بأس بها لأشكال النشاط الاقتصادي وتنظيماته على سطح الأرض.
والسبب الثاني:
هو أن النشاط الاقتصادي بشتى صوره من البدائي إلى المتقدم تكنولوجيا، يمس صميم حياة المجتمعات وحياة الدول في الوقت الراهن؛ ومن ثم فإن الدراسة الاقتصادية - جغرافية وغير جغرافية (اقتصاد بحت، أو اقتصاد اجتماعي، أو اقتصاد سياسي) - تمثل منطلقا هاما في شتى أشكال الحياة من الرخاء الاجتماعي إلى العلاقات الدولية.
وتتناول الجغرافيا الاقتصادية الموضوع الاقتصادي من زاوية لا يتناولها علم آخر، هذه هي زاوية توزيع أشكال النشاط الاقتصادي وترتيبه المكاني على سطح الأرض، وما يتداخل في ذلك التوزيع المكاني من تأثيرات نابعة عن جغرافية الأرض والناس؛ قد تصل إلى درجة التحكم في أشكال الإنتاج والاستهلاك لفترات زمنية مختلفة، نتيجة لخلفيات حضارية وتكنولوجية.
وهذه النظرة الشاملة التي تعطيها الجغرافيا الاقتصادية قد جعلت منها موضوعا هاما من موضوعات الدراسة لعدد من الدارسين في غير العلوم الجغرافية؛ نذكر منها بالتخصيص: العلوم التجارية، والاقتصادية، والسياسية.
كذلك أصبحت الجغرافيا الاقتصادية خلفية هامة لعدد من الهيئات والمعاهد التي تقوم بدراسات التخطيط والتمويل، مثل تخطيط المشروعات الاقتصادية المختلفة، تخطيط وسائل النقل واتجاهات الطرق والموانئ، تخطيط المدن والعمران.
ويضاف إلى ذلك قائمة طويلة من الهيئات والمعاهد التي تهتم بالجغرافيا الاقتصادية نذكر منها المعاهد المرتبطة بالبنوك، السكرتارية، غرف التجارة والصناعة، اتحادات المصدرين أو المستوردين، هيئات الخدمات والنقل البري والجوي والسياحة وغير ذلك.
أما بالنسبة لدارسي الجغرافية، فإن الجغرافيا الاقتصادية تقتضي تقصي حقائق كثيرة في عالم الطبيعة: التركيب الصخري والغلاف الغازي وتكوين التربة والغلاف البيولوجي للأرض كموارد فعلية أو مرتقبة للثروة الطبيعية، وتقتضي تقصي حقائق أخرى في عالم الإنسان: خلفياته الحضارية والتاريخية وتكوينه الاجتماعي والأيديولوجي وطاقته العاملة في الإنتاج، كعنصر أساسي في التشغيل الناجح لموارد الثروة الطبيعية.
وتقتضي أخيرا تفاعلات العنصرين الطبيعي والبشري على خلفية المكان الجغرافي وعلاقاته السياسية وموقعه بالنسبة لخطوط النقل العالمية.
ومثل هذه الدراسة تتسم بدينامية قل أن يكون لها نظير في فروع الجغرافيا الأخرى؛ ومن ثم فإنه من الصعب ملاحقة كل أشكال التغيير الاقتصادي التي تحدث بصفة مستمرة سنة بعد سنة.
وهذه هي أهم ما يلاقيه الكاتب في الجغرافيا الاقتصادية من مصاعب في جمع البيانات وتحليلها. ولهذا فإن كثيرا من كتب الجغرافيا الاقتصادية تتحول إلى دراسة في الجغرافيا التاريخية للنشاط الاقتصادي، خاصة مع التطورات التكنولوجية السريعة في مجالات الإنتاج العالمي.
ونظرا لأن النشاط الاقتصادي يشمل كل أنحاء العالم؛ فإنه من الصعب على أي كتاب في الجغرافيا الاقتصادية أن يعطي صورة تفصيلية كاملة للعالم، بل غالبا ما يقتصر على الصور الأساسية لأشكال الإنتاج مع دراسة تفصيلية لنماذج وأنماط هامة، وهذا هو ما راعيناه قدر الإمكان في هذا الكتاب، داعين الدارسين إلى قراءة مصادر أخرى في الموضوع لكي يكتمل لديهم ما لم نشر إليه إلا لماما.
المؤلفان
الدوحة - قطر في 20 / 10 / 1973
مقدمة الطبعة الرابعة
حدث تطور كبير في شتى أشكال الحياة الاقتصادية في العالم منذ أن صدرت الطبعة الثالثة؛ ففي خلال ربع قرن تقريبا تغيرت أشكال من القوى الاقتصادية العالمية، وتخلى الغرب عن كثير من الصناعات الملوثة، وأصبحت الدول الغربية أكبر منتج للغذاء. أما الدول النامية فإن سعيها لإقامة الصناعة، والقلقة السياسية التي تصاحب حياة هذه الدول عادة جعل الاتجاه إلى الإنتاج الزراعي أقل بريقا وأقل كما - مما يجب - للوفاء باحتياجات الناس.
لهذا فإن هذه الطبعة المعدلة قد احتوت تقديما عاما للجغرافيا الاقتصادية في شتى مضامينها استغرق ثلاثة فصول، ثم أفردنا خمسة فصول لمعالجة أشكال الإنتاج الأولي: السمكي والغابي والحيواني والزراعي في الإطار الجغرافي الذي يفسر الكثير من التطور المكاني لهذه المنتجات اللازمة لغذاء الإنسان، وهو الموضوع الذي أصبحت له الأولية والذي ستشتد أزماته خلال أوائل القرن القادم بحيث يصبح قرن البحث عن الطعام.
المؤلفان
القاهرة في 6 / 6 / 1996
القسم الأول
مكونات الجغرافيا الاقتصادية
الفصل الأول
ميدان الجغرافيا الاقتصادية ومناهجها
(1) ميدان الجغرافيا الاقتصادية (1-1) الجغرافيا الحديثة والجغرافيا الاقتصادية
يمكننا أن نحدد الجغرافيا الحديثة - بصورة عامة - على أنها المعلومات المحددة والمنظمة الخاصة بتوزيع وتنظيم المظاهر المختلفة الطبيعية والبشرية على سطح الأرض، فالجغرافيا تسعى إلى وصف وربط وتعليل مختلف ظاهرات الأرض ودراسة علاقات وتفاعلات النشاط البشري والتوزيع السكاني بالمسرح الطبيعي على مستوى العالم والقارات والأقاليم.
وللدراسة الجغرافية قيم مختلفة لأسباب مختلفة، ومن بين أهم أسباب هذه القيم ما يلي:
أولا:
أن العالم الذي نعيش فيه الآن قد بدأ ينكمش مكانيا بسبب سرعة وكثافة خطوط الاتصال، والحركة البرية والبحرية والجوية، وترتب على قصر الزمن الذي يستغرقه الانتقال من مكان إلى آخر ومن قارة إلى أخرى أن أجزاء العالم تترابط أكثر وأكثر نتيجة نمو وسائل الاتصال المرئي وغير المرئي: تليفزيون وفاكس وتلكس وتلفون مرئي، ودخولنا عصر ثورة المعلومات المعتمدة أساسا على الكمبيوتر ونظم المعلومات الجغرافية وغيرها، ويصبح لما يحدث في أي منطقة من العالم - سواء كان حدثا سياسيا أو اقتصاديا أو سكانيا - صداه في مناطق العالم الأخرى.
ثانيا:
إن التخصص الإنتاجي في أقاليم العالم المختلفة، وهو الناجم عن نمو العصر الصناعي وتكنولوجياته قد ربط أجزاء العالم بشبكة من التبادل التجاري تزداد تكاثفا من سنة لأخرى. وهذا التبادل التجاري أصبح ضرورة ملحة لحاجات الشعوب الأساسية من أجل الحياة؛ فالدول التي تعيش على العمالة الصناعية - كحال معظم دول العالم المتقدم - في حاجة ماسة إلى تصدير منتجاتها الصناعية واستيراد خاماتها التي تقوم عليها صناعاتها.
ثالثا:
ترتب على التخصص الإنتاجي الذي نجم عن الثورة الصناعية انقسام العالم إلى قسمين متميزين كان لكل منهما أسماء مختلفة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين؛ فقد سمي العالم الصناعي الأوروبي أولا عالم الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة، ثم العالم الإمبريالي، ثم العالم المتقدم بعد أن فقد معظم المستعمرات، وبعد نمو الصناعة في معظم المنطقة المعتدلة الشمالية من العالم - أمريكا والاتحاد السوفييتي واليابان - أما بقية العالم فقد كان يسمى عالم المستعمرات، ثم سمي بعد الحرب العالمية الثانية العالم المتخلف، والعالم النامي، والعالم الثالث.
1
وبرغم اختلاف التسميات فإن المضمون الأساسي لكل من هذين العالمين لم يختلف كثيرا إلا منذ أوائل الستينيات. ومع ذلك فالعلاقات بين العالمين في حجمها الكمي ما زالت علاقة التبادل التجاري بين سلع الصناعة وأسس نظم المعلومات التي ينتجها العالم المتقدم، وسلع الخامات الزراعية والمعدنية التي ينتجها العالم النامي.
لكن مشروعات التنمية الاقتصادية في دول العالم الثالث - سواء كانت مشروعات خاصة بتنمية موارد الخامات المعدنية والزراعية، أو مشروعات إقامة الصناعة في بعض المناطق - تؤدي إلى تغير مستمر في الصورة التفصيلية والعامة في الجغرافية الاقتصادية والتبادل التجاري. وبذلك فإن الصورة العامة للسكان والعلاقة بالبيئة الطبيعية آخذة في التغير في العالم الثالث؛ مما يعطي الجغرافيا عامة، والجغرافيا البشرية والاقتصادية بصفة خاصة، دينامية جديدة. ودراسة هذه الدينامية على أكبر جانب من الأهمية، وتعطي الجغرافيا عامة قيمة جديدة تضاف إلى قيمتها السابقة.
وعلى هذا النحو أصبحت الجغرافيا الاقتصادية الحديثة فرعا من فروع الدراسة الجغرافية. ومما يؤخذ دليلا على هذه الأهمية المتزايدة أن الجغرافيا الاقتصادية كانت في البداية تنطوي تحت أقسام الجغرافيا البشرية، كفرع من فروعها إلى جانب الجغرافيا الاجتماعية وجغرافية السكان والعمران والجغرافيا السياسية. لكن تضخم الجغرافيا الاقتصادية وتشعبها قد أدى بالكثير من الكتاب والمناهج الجغرافية إلى فصلها عن الجغرافيا البشرية، وبذلك تصبح قسما منفصلا في الميدان الجغرافي جنبا إلى جنب مع الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية.
وقد رأى كثير من الباحثين رأي الأستاذ هارتسهورن
R. Hartshorn
أن الجغرافيا الاقتصادية تؤلف مع الجغرافيا الطبيعية الجزء الأكبر من علم الجغرافيا ككل. وكانت الجغرافيا السوفييتية الحديثة تزيد هذا المفهوم لأهمية الجغرافيا الاقتصادية تأكيدا فتجعل للجغرافيا قسمين رئيسيين هما: الطبيعية والاقتصادية.
وتحت القسم الاقتصادي تدرس الجغرافيا السوفييتية موضوعات الجغرافيا البشرية الأخرى باعتبار أن النشاط الاقتصادي عامل ضروري لفهم وتحليل الظاهرات السكانية والعمرانية والتنظيمات السياسية على سطح الأرض.
وأيا كان الاتجاه والمنهج، فالواضح للجميع أن الحقيقة الاقتصادية في الجغرافيا تتداخل كثيرا في تحليل وتقييم الحقائق في جغرافية السكان والعمران والسياسة.
وينبع ذلك من أن «الجغرافيا الاقتصادية تدرس في مجالها العام كافة أشكال إقامة الحياة ومشكلاتها.» أي إنها تدرس كل ما هو مرتبط بحصول الإنسان على الغذاء وضرورات الحياة وكمالياتها، وذلك من أجل إشباع حاجة السكان الحياتية، سواء كانوا جمهرة الناس أو خاصتهم طبقيا أو ماديا أو فكريا.
وعلى هذا النحو فإن الجغرافية الاقتصادية تسعى في دراستها إلى تنظيم وتحليل المعلومات الخاصة بالنقاط التالية: (1)
استخدام الإنسان لمصادر الثروة الطبيعية: المعادن والتربة والمياه العذبة والمالحة. (2)
إنتاج السلع في كافة أشكالها: الخامات النباتية والحيوانية والمعدنية، الأغذية، السلع المصنعة. (3)
عمليات النقل المختلفة للسلع المنتجة إلى أسواق الاستهلاك. (4)
الخدمات والتجارة - أو النشاط الثالث - كجزء هام من النشاط الاقتصادي المعاصر، وعامل مؤثر في الإنتاج وأنماط الاستهلاك، ومن أمثلة ذلك: الأعمال البنكية والتمويل كعنصر متحكم في عمليات استخدام الأرض والاستهلاك. (1-2) تطور مفهوم الجغرافيا الاقتصادية
كانت الجغرافيا الاقتصادية في بدايتها منذ عهد العالم الألماني كارل ريتر
C. Ritter
عبارة عن توزيع الإنتاج في العالم توزيعا محصوليا، وقد أدى ذلك إلى ظهور الجغرافيا التجارية التي ارتبطت بحاجة طلاب كليات التجارة إلى هذا النوع من الدراسة استكمالا لبنائهم العلمي. وبعد ذلك أخذ مبدأ السببية يسود منهج البحث في الجغرافيا الاقتصادية، وعلى ضوئه كان تفسير نشوء الصناعة في مكان ما - على سبيل المثال - مرتبطا بوجود مصادر للثروة المعدنية أو الطاقة المحركة في المكان نفسه.
وبعد مبدأ السببية ظهر مبدأ آخر أوسع وأشمل؛ ذلك هو مبدأ التفاعل المتبادل بين المكان الطبيعي (بما في ذلك كل ظروفه الطبيعية) والإنسان. وقد ظهر هذا المبدأ بوضوح في آراء الأستاذين الألمانيين لوتجنز
2 (1921) وهاسنجر (1933). وقد ابتدع لوتجنز مصطلح «الإقليم الاقتصادي»
Economic Region ، وعرف الأستاذ ماكرتي
H. H. Mecarty
الأقاليم الاقتصادية على أنها: «مناطق جغرافية تتفق فيما بينها بأنها في نفس مرحلة التقدم الاقتصادي.» ويقسم مراحل التقدم الاقتصادي إلى: مرحلة الصيد والجمع والالتقاط، ومرحلة استخراج المعادن ، ومرحلة الرعي «بدائي وعلمي»، ومرحلة الزراعة، ومرحلة الصناعة، ومرحلة التجارة والخدمات.
وأوضح هاسنجر هذه الفكرة مؤيدا مصطلح الإقليم الاقتصادي قائلا: «إن مهمة الجغرافيا الاقتصادية هي دراسة العلاقة بين الاقتصاد والمكان الجغرافي، وهدفها يجب أن يكون تقسيم سطح الأرض إلى أقاليم اقتصادية، ودراسة أشكال ومميزات هذه الأقاليم.»
3
وما زال هذا المبدأ ساريا في كثير من الكتب الحديثة، وبوجه خاص في المؤلفات الألمانية، والخطوة الأخيرة في فلسفة الجغرافيا الاقتصادية قام بها العالم الألماني الأستاذ أو ترمبا،
4
الذي يسعى إلى إيجاد مبادئ وقوانين للبناء الاقتصادي وتطوره. وعلى ضوء هذا المسعى تصبح الأشكال الوظيفية والتركيبية للاقتصاد عبارة عن توافق مكاني بين جميع عناصر الأشكال والقوى الطبيعية والاقتصادية التي تنبع من عالم الطبيعة من جهة والاقتصاد ومبادئه من الجهة الأخرى؛ أي أن يصبح شكل ووظيفة النظام الاقتصادي السائد في مكان ما، ما هو إلا توافق بين الظروف الطبيعية لهذا المكان وقوانين الاقتصاد.
ولا شك أن التطور في الجغرافيا الاقتصادية السوفييتية رجع إلى أن الاتحاد السوفييتي كان يعيش منذ ثلاثة أرباع قرن انقلابا صناعيا وتكنولوجيا هائلا. وقد كان ذلك فرصة عظيمة للقيام بالدراسات الخاصة بهذا التغيير ومحاولة فهمه وتوجيهه بالارتباط مع سياسة الدولة. وفوق هذا فإن التخريب الشديد الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية في الاتحاد السوفييتي السابق في شتى المجالات الاقتصادية والعمرانية والسكانية قد أعطى الجغرافي السوفيتي فرصة أخرى لدراسة إعادة البناء، والاشتراك في التخطيط الذي أدى إلى هجرة الكثير من مراكز الصناعة والعمران عبر جبال الأورال إلى سيبيريا ووسط آسيا.
وفضلا عن هذا فإن التقدم العلمي الهائل قد جعل الجغرافي يشهد فتح آفاق جديدة للزراعة في أقاليم باردة أو جافة لم تكن تعرف الزراعة من قبل. كذلك فإن اهتمام التخطيط بمشكلة النقل والمواصلات جعل لهذه الدراسة أهمية خاصة في الجغرافيا الاقتصادية؛ بحيث إن بعض الجغرافيين لم يعودوا يتكلمون عن النقل على أنه «عامل» من العوامل بل «عنصر» مؤثر في الجغرافيا الاقتصادية.
وفكرة «الإقليم» في الدراسة الجغرافية - رغم سيادتها - ليست في الواقع إلا فكرة مطلقة لا نظير لها في الحقيقة.
وعلى هذا الأساس؛ فإن «الإقليم الجغرافي» في حقيقته اجتهاد عقلي، رغم أنه مستمد من معلومات حقيقية. ولا شك أن المنهج الإقليمي قد ساعد الجغرافيين ويسر لهم انتظام المعلومات الجغرافية العديدة في أنماط وقوالب واضحة وإن كانت معممة. فالإقليم إذن في الجغرافيا بفروعها المختلفة عبارة عن وحدات تماثل وحدات الزمن في الجيولوجيا أو التاريخ.
وهذه الوحدات قابلة للتغير زمانا ومكانا وقابلة للتجزؤ والتقسيم كلما زاد عدد عناصر التشابه، والفضل في إمكانية تغيير الوحدات الإقليمية - خاصة الاقتصادية - يرجع أساسا إلى العنصر الإنساني وليس إلى العنصر الطبيعي؛ وذلك نتيجة لسرعة الحركة الإنسانية بالمقارنة بالحركة الطبيعية؛ فلقد غير الإنسان في مظهر سطح الأرض في خمسة آلاف سنة ما لا تستطيعه العناصر الطبيعية (التي تعمل في خط سيرها الطبيعي دون حدوث طفرات وتغيرات مفاجئة) في مليون سنة. ولعل النشاط الإنساني من أجل الحصول على الغذاء هو في الواقع المحرك الجوهري في محاولة الإنسان تغيير مظاهر البيئة الطبيعية المحيطة به؛ لكي تكون له ولطموحه المستمر أكثر استجابة وأوفر إنتاجا مما لو تركها على حالها.
ويؤكد ذلك ما ذهب إليه الأستاذ
E. B. Shaw
في تعريفه للجغرافيا الاقتصادية إذ يقول: «إن الجغرافيا الاقتصادية هي الدراسة التي تبحث في مجهودات الإنسان والمشاكل التي تواجهه في كفاحه للعيش؛ فهي تهتم بدراسة الصناعات العالمية، والموارد الأساسية والإنتاج والنقل، وتوزيع الموارد والصناعات والمحاصيل.»
5
ويوضح الأستاذان جونز وداركنفالد مفهوم الجغرافيا الاقتصادية على النحو التالي: تشتمل الجغرافيا الاقتصادية على دراسة للصيد البري وصيد الأسماك والرعي والحرف والصناعات المرتبطة بالغابات والزراعة والتعدين والصناعة والنقل والتجارة.
6
ويتابعان تعريفهما فيقولان: إن هناك حرفا أخرى غير داخلة في الجغرافيا الاقتصادية، مثل مهن الطبيب والموسيقي والمعلم والسياسي والكاتب ... إلخ.
وإن الجغرافيا الاقتصادية تعنى فقط بالحرف المنتجة، وتسعى لمحاولة شرح أسباب تميز أو تقدم مناطق معينة من العالم بالإنتاج والصادرات، ولماذا تختص مناطق أخرى بالاستيراد. (1-3) أقسام الجغرافيا الاقتصادية
يتفق كل المختصين بشئون الجغرافيا الاقتصادية - سواء كانوا في ألمانيا أو إنجلترا أو أمريكا وفي غير ذلك من دول العالم - على أن ميدان الجغرافيا الاقتصادية يشتمل على عدد من الأقسام الهامة. فالأستاذ هانز بيش
H. Boesch
7
يقول: إن أقسام الجغرافيا الاقتصادية الرئيسية ثلاثة هي:
الأول:
يشتمل على الزراعة والغابات وصيد الأسماك.
الثاني:
يشتمل على التعدين والصناعة وإنتاج الطاقة.
الثالث:
يشتمل على الخدمات بما في ذلك النقل والتجارة.
ويوضح الأستاذ بيش دور كل من هذه القطاعات الرئيسية الثلاثة تاريخيا وتطور كل منها، فيضرب مثلا لذلك حالة فرنسا. ففي عام 1800م كان معظم النشاط الاقتصادي (80٪ منه) يدور حول الزراعة. بينما كان قطاعا الصناعة والخدمات يتقاسمان بقية الإنتاج والحرف الإنتاجية (10٪ لكل منهما). وفي عام 1950م تساوت مساهمة قطاعي الزراعة والصناعة في النشاط الاقتصادي (35٪ لكل منهما)، بينما ساهمت الخدمات ب 30٪ من مجموع النشاط الاقتصادي.
ويتوقع الخبراء أن مساهمة هذه القطاعات الثلاث في فرنسا عام 2100م ستكون 8٪ للزراعة، و12٪ للصناعة، و80٪ للخدمات،
8
ومعنى هذا أن الزراعة قد أخذت تنكمش على حساب الصناعة والخدمات.
وليس معنى الانكماش أن الإنتاج الزراعي يقل، بل هو في زيادة مستمرة، ولكن الدخل القومي من الزراعة يقل أمام ازدياد الدخل القومي من كل من الصناعة والخدمات. وليست هذه الحالة خاصة بفرنسا، بل تشاركها فيها كل دول العالم المتقدم، وتتجه إليها دول العالم النامية أيضا. وتمثل الدول المتخلفة مرحلة الاعتماد على الزراعة كأساس للدخل القومي فيها حتى الآن.
أما الأستاذ ألكسندر
J. W. Alexander
9
فيقسم الجغرافيا الاقتصادية إلى الإنتاج والتبادل والاستهلاك. ثم يعود فيفصل هذه الأقسام الثلاثة على النحو التالي: (أ)
الإنتاج
(1)
الإنتاج الأولي
:
ويشتمل على الحصول على الإنتاج الطبيعي، سواء الذي تدخل الإنسان في نموه أو الذي ينمو دون تدخل الإنسان. ومن أهم موضوعات الإنتاج الأولي: الصيد وإنتاج الغابات والتعدين والزراعة. (2)
الإنتاج الثنائي
Secondary Production :
ويشتمل على جميع أشكال المنتجات الصناعية المعدنية والزراعية، وصناعات الأخشاب والأسماك. وفي هذا المجال نجد أن قيمة السلعة تتزايد نتيجة لعمليات التصنيع. (3)
الإنتاج الثلاثي
Tertiary Production :
ويشمل ما نسميه بقطاع الخدمات بما في ذلك الصيانة والإصلاح والأعمال البنكية والائتمانية والتعليم والصحة والملاهي والمصايف والسياحة ... إلخ. (ب) التبادل
Exchange (1)
النقل:
الخاص بالبضائع والأشخاص، ويؤدي هذا إلى تغير مكان السلعة؛ وبالتالي إلى زيادة سعرها. (2)
الملكية:
وهي انتقال ملكية السلعة من يد المنتج إلى يد التاجر إلى يد المستهلك، ويؤدي تبدل الملكية إلى زيادة أسعار السلع ونشأة كل من تجار الجملة والتجزئة. (ج) الاستهلاك
Consumption
هو طريقة استخدام الإنسان للسلع لإشباع رغباته، ويمثل الاستهلاك المرحلة النهائية في الإنتاج كما يعتبر سبب الإنتاج بجميع أشكاله وسبب التبادل في مراحله المختلفة. وبذلك يكون الاستهلاك هدف النشاط الاقتصادي بجملته. ورغم صحة أي تقسيم في دراسة موضوع الجغرافيا الاقتصادية؛ نفضل أن نقسم الموضوع إلى الأقسام الثلاثة التالية:
أولا:
الإنتاج، ويشمل استخلاص وإنتاج وتصنيع الخامات الحيوية والمعدنية بكافة أنواعها.
ثانيا:
النقل والتجارة، ويشتمل على توزيع السلع المختلفة وتبادلها بين المنتج والمستهلك.
ثالثا:
الاستهلاك، وهو هدف النشاط الاقتصادي بأكمله.
الإنتاج هو القسم الرئيسي في دراسة الجغرافيا الاقتصادية، ويشغل حيزا كبيرا من هذه الدراسة؛ وذلك راجع إلى أن دراسة إنتاج الخامات واستهلاكها في صورتها الطبيعية أو تحويلها تحويلا بسيطا أو تحويلا مركبا، يكون في الواقع مرتبطا بعدد من الظروف الجغرافية الطبيعية والبشرية. وهو بذلك لا يدرس دراسة أصولية منتظمة إلا داخل نطاق العلوم الجغرافية.
أما التجارة والاستهلاك؛ فإن لهما مجالات دراسة أخرى تخرج بدرجات متفاوتة عن حيز العلوم الجغرافية، ومع ذلك فإن دراسة الجغرافيا الاقتصادية لا تتم وتتكامل إلا عن طريق دراسة التجارة والتبادل التجاري وعمليات النقل والاستهلاك؛ ذلك أنها من وجهة النظر الجغرافية لا تخرج عن كونها شروطا وظروفا بشرية تساعد على الإنتاج المتزايد أو المتناقص؛ تبعا للاستهلاك وظروف النقل والعلاقات التجارية بين الوحدات السياسية العالمية. هذا فضلا عن أنها عنصر جوهري في الموضوع الاقتصادي في الجغرافيا.
ويمكننا أن نضرب مثلا يوضح هذا الترابط الشديد بين أقسام الجغرافيا الاقتصادية وما يؤدي إلى تطور العلاقات التجارية أو الدوافع التجارية إلى آثار شاملة على أنواع الإنتاج في العالم. فقبل الكشوف الجغرافية الكبرى في أواخر القرن الخامس عشر، كان الإنتاج العالمي - في العالم المعروف - إنتاجا للكفاية الذاتية إلى أبعد الحدود، وكانت التجارة العالمية في تلك العصور مقصورة على سلع محدودة تنطوي تحت شعار «ما خف حمله وغلا ثمنه»؛ نتيجة لضعف وبطء وسائل النقل من سفن وقوافل (قوافل الجمال عبر صحراء وسط آسيا والصحراء الكبرى الأفريقية والصحراء الغربية، وقوافل البغال والخيل عبر جبال وسط آسيا، والمراكب الشراعية بين الشرق الأقصى والهند إلى ميناء السويس ومن ميناء الإسكندرية إلى ساحل البحر المتوسط الأوروبي.)
ولقد أدت هذه التجارة العالمية القليلة الحجم الوفيرة الربح إلى تنافس شديد بين عدد من موانئ أوروبا التجارية، وكان ذلك منطلق الكشوف الجغرافية التي أدت إلى اكتشاف عوالم ضخمة في الأمريكتين وأستراليا وأفريقيا.
ولقد أدى رأس المال المتراكم في أوروبا نتيجة احتكار الذهب والفضة وموارد الخام العالمية وتجارتها - إلى جانب ظروف أخرى - إلى نشوء الصناعة وانتشارها في القارة الأوروبية، وكان لذلك آثار خطيرة على العالم؛ فلقد أصبحت أوروبا مصنع العالم وفي حاجة متزايدة إلى الخامات مع تزايد الصناعة والتطورات التكنولوجية في هذا المجال.
وساعد هذا على نشوء أشكال احتكارية في إنتاج الخامات الزراعية والمعدنية. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك تشجيع بريطانيا عددا من البلاد على إنتاج القطن، وكذلك تحويل مناطق من العالم من إنتاج معين إلى إنتاج آخر يخدم كخامة تجارية. والمثال على ذلك، تهريب المطاط الطبيعي من البرازيل وزراعته في مناطق جديدة لم يكن يوجد بها من قبل، كما حدث في الملايو ومناطق أخرى من جنوب شرق آسيا.
ويمكننا أن نمضي في تعداد الأمثلة، ولكننا نكتفي بذلك لكي نوضح أن الصناعة والتجارة - مع تقدم النقل وتنوع الاستهلاك - قد أدت إلى خلق أشكال إنتاجية لم تكن معروفة، وقضت على نظم إنتاج سابقة، وحولت العالم من الكفاية الذاتية إلى التشابك الاقتصادي.
ومن ثم؛ فإن إنتاج أي إقليم لا يمكن في الحقيقة دراسته كشيء متكامل في حد ذاته، بل لا بد من دراسته داخل إطار الاقتصاد العالمي الذي يتبادل معه السلع والخدمات. ونستثني من ذلك - بطبيعة الحال - مناطق العزلة في العالم (مثلا جبال الهملايا وهضبة التبت أو جزيرة تيرادل فويجو «أرض النار» في جنوب أمريكا الجنوبية ... إلخ).
ومع ذلك فإن التشابك الاقتصادي العالمي ليس على درجة واحدة في أجزاء العالم المختلفة. ويمكننا - على ضوء الموقف التجاري - أن نقسم معظم دول العالم إلى المجموعات التالية: (1)
الدول المعتمدة على السوق العالمي:
وتتميز باستيراد الخامات المعدنية والغذائية وتصدير السلع المصنعة. ومن أوضح النماذج لهذه المجموعة من الدول الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا واليابان. (2)
الدول الموجهة إلى السوق العالمي:
وتتميز بتصدير الأغذية والخامات، ويمكننا أن نعد دول البترول في العالم وأستراليا أو جنوب أفريقيا أو الأرجنتين نموذجا لهذه المجموعة. (3)
الدول الضعيفة الاتصال بالسوق العالمي:
وهذه تتميز بضعف الإنتاج نتيجة للتخلف والكفاية الذاتية وسيطرة النظم البدائية على اقتصادياتها. وتعد أثيوبيا أو بوركينا فاسو أو باراجواي نموذجا لهذه المجموعة.
وتقسيم العالم إلى هذه المجموعات ليس في الواقع تقسيما جامدا. وهو إن كان يعطينا صورة مبسطة من أجل الوضوح، إلا أن التداخل بين هذه المجموعات يحدث الآن وبسرعة؛ نتيجة عوامل عديدة أهمها: (أ)
اتجاه شديد نحو التنمية الاقتصادية، وخاصة التصنيع في الدول المتخلفة والنامية بمساعدات أجنبية أو دولية بعد انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى (الإمبراطورية البريطانية على وجه الخصوص)، واستقلال كثير من المستعمرات. ومن الأمثلة على إمكانية التغيير في موقف الدول من ناحية السوق العالمية حالة دول البترول العربية؛ فإنه نتيجة للاستثمارات الخارجية أمكن اكتشاف حقول للبترول جعلتها في عداد الدول الموجهة إلى السوق العالمي بعد أن كانت من الدول ضعيفة الاتصال بالسوق. (ب)
اتجاه جديد نحو السوق العالمي من جانب دول الكتلة الشيوعية السابقة، وقد جاء ذلك بعد ثبات أقدام النظام الاقتصادي في هذه الدول ودخولها مرحلة جديدة بعد بناء الاقتصاد الداخلي. ومن الأمثلة الواضحة استيراد كميات كبيرة من القمح من العالم الغربي، ودخول البترول والغاز الروسي السوق الأوروبي الغربي. (ج)
اتجاه الدول الموجهة إلى السوق العالمي - إن عاجلا أو آجلا - إلى التصنيع مما يؤدي بها إلى تغير موقفها من السوق العالمي بدرجات ملحوظة. (2) مناهج الدراسة في الجغرافيا الاقتصادية
هناك عدة مناهج للدراسة في مجالات الجغرافيا الاقتصادية، ولكل منها مؤيدون ومحبذون أو معارضون. ويمكننا أن نلخص هذه المناهج فيما يلي: (1)
المنهج الإقليمي
The Regional Approach . (2)
المنهج المحصولي
The Commodity Approach . (3)
المنهج الحرفي
The Occupational Approach . (4)
المنهج الأصولي
The Principle Approach . (5)
المنهج الوظيفي
The Functional Approach . (2-1) المنهج الإقليمي
عبارة عن دراسة «الموارد الاقتصادية» مجتمعة داخل إطار إقليمي؛ كالإقليم المداري مثلا أو قارة من القارات أو قطر من الأقطار أو إقليم محدود المساحة يتميز بالتجانس في حياته الاقتصادية كدلتا النيل «ولا شك أن مثل هذا المنهج يعطي الدارس في النهاية قيمة حقيقية للإقليم الذي يدرسه. فهو يوضح التشابك الاقتصادي في الإقليم مبينا تكامله أو نواحي النقص فيه.»
10
والملاحظ أن معظم الكتاب يجمعون على وجوب تقسيم العالم إلى أقاليم اقتصادية
Economic Regions . ومثل هذا التقسيم ليس أمرا سهلا؛ فقد تكون حدود الأقاليم في بعض مناطقه حدودا طبيعية (مناخية أو نباتية، أو تتصل بمظاهر السطح المختلفة) أو حدودا بشرية (كثافة سكانية معينة؛ عرف خاص - دين خاص - نظام جمركي محدد ... إلخ) وهذا أمر واضح إذا ما أخذنا الزراعة والصناعة كل على حدة. فهناك ضوابط بشرية تلعب دورا إيجابيا في تحديد أنواع من الأقاليم الزراعية. وفي الوقت ذاته تتأثر بعض الأقاليم الزراعية بضوابط خارجية معينة، كالإقليم المداري الذي يتأثر بضوابط بشرية مصدرها أقاليم الصناعة في أوروبا وأمريكا.
هذا بطبيعة الحال إلى جانب مجموعة الضوابط الطبيعية، وفي الدراسات الإقليمية التفصيلية نجد تداخلا بين الفواصل الطبيعية والبشرية مما يؤدي في نهاية الأمر إلى صعوبة تحديد الأقاليم على أساس واحد أو اثنين.
ورغم كل هذه الصعوبات، فإن الدراسة الإقليمية تفيد - بلا شك - في دراسة التكتلات الاقتصادية في العالم
11
إذا ما أخذنا هذه التكتلات على أنها وحدات سياسية تتداخل وتترابط فيها الظروف الطبيعية والبشرية في أقاليم اقتصادية عديدة يربط بينها تخطيط وسياسة إنتاجية واقتصادية معينة. (2-2) المنهج المحصولي
يعتبر المنهج المحصولي بلا شك أقدم وأسهل مناهج الدراسة في الجغرافيا الاقتصادية، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الجغرافيا الاقتصادية - على أي منهج متبع - من معالجة محصولية للإنتاج. وفي ذلك قال عبد الحكيم: «... وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن جونز - أحد الكتاب - حاول أن يتحرر من المنهج المحصولي فلم يفلح ولم يلبث أن عاد إلى اتباعه عند دراسته التفصيلية داخل كل حرفة.
ولا يقتصر هذا على من حاولوا اتباع المنهج الحرفي ... «بل» على كثير من الكتاب الذين حاولوا اتباع المنهج الإقليمي».
12
وبعد أن كان المنهج المحصولي في البداية تعدادا للمساحة والمحصول والاستهلاك والتجارة. أدخل الكتاب الجديد أساليب جديدة في دراسة المحاصيل؛ ومن أهم هذه الأساليب ما أدخله الأستاذ
E. B. Shaw
13
من أسئلة يجب الرد عليها فيما يختص بدراسة كل محصول أو سلعة على حدة، وهذه الأسئلة هي: (1)
أين تنتج وتسوق وتستهلك؟ (2)
أين يمكن أن تنتج وتسوق وتستهلك؟ (3)
لماذا تنتج وتسوق وتستهلك؟ (4)
كيف تنتج وتسوق وتستهلك؟
ففي دراسة
Shaw
لغلة معينة زراعية أو معدنية، نجده «يبدأ بالتعريف بطبيعة الغلة والنواحي التي تستخدم فيها، مع الإشارة إلى تاريخ ظهورها واستخدامها، ثم ينتقل إلى تفصيل العوامل المختلفة التي يشترط توافرها لإنتاج هذه الغلة، وتطبيق هذه العوامل على جهات العالم المختلفة؛ لتحديد أيها يصلح لإنتاجها. ثم يميز بين ما ينتجها فعلا وما لا ينتجها من هذه المناطق الصالحة، موضحا الأسباب في كل حالة، سواء أكانت طبيعية أم بشرية، كالتعرض لأمراض وآفات معينة أو حدود بشرية خاصة. ثم ينتقل إلى تفصيل كيفية إنتاج هذه الغلة في كل منطقة، مع توضيح مركز كل منطقة في عالم الإنتاج، وهنا يشير إلى جميع مراحل الإنتاج التي تمر بها السلعة حتى تصل إلى يد المستهلك الأخير. ويختم الدراسة بتوضيح مراكز القوى الرئيسية في العالم في إنتاج هذه السلعة.»
14
ويطلق الأستاذ «شو» على المنهج المحصولي اسم «المنهج الموضوعي»
Topical
ويقسمه إلى قسمين: (أ)
المنهج المحصولي العام:
ويقوم على دراسة المحصول الواحد في العالم ككل، مبتدئا بالشروط الطبيعية والبشرية للإنتاج، ومنتهيا بالاستهلاك، موضحا في ذلك مراكز القوى الرئيسية في الإنتاج والتجارة كما سبق ذكره. (ب)
المنهج المحصولي الإقليمي:
وهو «يتناول دراسة النشاط الاقتصادي المرتبط بغلة معينة في منطقة بالذات، وقد اختار «شو» لتوضيحها نطاق الذرة في الولايات المتحدة؛ فدرس الذرة كغلة تدخل ضمن دورة زراعية تشمل مجموعة من الغلات - تدرس ربما بتفصيل أقل - ثم يدرس كل ما يقوم على هذه الغلة من نشاط اقتصادي في المنطقة - زراعيا كان أو صناعيا - فتربية الحيوان وصناعة حفظ اللحوم تدخل في دراسة الجغرافيا الاقتصادية لنطاق الذرة في الولايات المتحدة.
15 (2-3) المنهج الحرفي
ومثل هذا المنهج يعتمد على تقسيم الموضوعات الاقتصادية على أساس حرفي متضمنا دراسة الحرف كل على حدة في ترتيب تاريخي؛ أي: الأقدم فالأحدث. ومن أهم الأمثلة على مثل هذا المنهج كتاب جونز ودار كنفالد
16
بعنوان «الجغرافيا الاقتصادية»، وفيه يتناول المؤلفان الموضوع حرفيا مبتدئين بالصيد البري والبحري، ثم الحرف المرتبطة بالغابات وصناعة الأخشاب، ثم الحرف المرتبطة بالرعي القديم والحديث، ثم حرفة الزراعة، ثم حرفة التعدين، ثم الصناعة، وأخيرا التجارة والنقل.
ويبين المؤلفان في كل حرفة التطورات التكنولوجية التي أدخلت على الحرفة منذ عرفها الإنسان في الماضي حتى استخدام تكنولوجيا العصر الحديث؛ ففي الصيد البحري مثلا يدرس على حدة الصيد بالوسائل القديمة عند الجماعات البدائية المعاصرة، ثم يدرس الصيد التجاري الذي تستخدم فيه السفن والشباك الميكانيكية ووسائل التعليب الآلية. وفي الزراعة يدرس المؤلفان الزراعة البدائية والزراعية من أجل الكفاية الذاتية المحلية والزراعة التي يتدخل فيها العامل التجاري. ثم يخصصان للزراعة التجارية قسمين كبيرين؛ أولهما: الزراعة التجارية في الإقليم المداري. وثانيهما زراعة محاصيل الألياف التجارية. وفي داخل كل قسم يدرس المؤلفان كل محصول على حدة، مثل الكاكاو أو البن أو المطاط أو القطن أو الجوت.
ولكن المؤلفان لا يقتصران على مثل هذا المنهج المحصولي فقط - بعد المنهج الحرفي - بل ينتقلان إلى دراسة أنواع أخرى من الزراعة في صور إقليمية، مثل زراعات إقليم البحر المتوسط، أو زراعة الحبوب الغذائية في الإقليم الجاف وشبه الجاف، أو الزراعة المختلطة مع تربية الحيوان في إقليم شمال غرب أوروبا وكندا.
فكأن المؤلفين في حقيقة الأمر لا يقتصران على المنهج الحرفي، بل يتناولان الموضوع بشتى المناهج حسب احتياج الدراسة.
ومثل هذا المنهج يتبعه عدد آخر من المؤلفين نذكر من بينهم الأستاذ جون ألكسندر
17
وروبنسون.
18 (2-4) المنهج الأصولي
وهذا المنهج يتناول التركيب الاقتصادي والعوامل المؤثرة فيه طبيعيا وبشريا، وما يترتب على ذلك من قوانين تتحكم في الإنتاج.
ويقسم الأستاذ هانز بيش
19
العالم إلى أقاليم على أساس مركب؛ فهو أولا يقسمه على أساس: (أ) أقاليم طبيعية. (ب) أقاليم تدخل فيها الإنسان. ثم يعود فيقسم القسم الأول على أساس احتمالات الاستغلال المستقبلة، والثاني على أساس درجة تدخل وتأثير الإنسان.
وفي داخل كل قسم يدرس كلا من العوامل الطبيعية والبشرية ككل متكامل في تأثيراتها المتبادلة، أو يفصل كل عنصر طبيعي أو بشري في دراسة مفردة. ويخص بيش الإنتاج الزراعي والحيواني بمثل هذا المنهج نظرا للتداخل والتأثير الشديد للعوامل الطبيعية في الإنتاج. وقد ذكر الأستاذ شو
20
مثل هذا المنهج مبينا القوانين الأساسية المتحكمة في الإنتاج، وقد ذكر منها القانونين الأساسين التاليين: (1) ظروف البيئة الطبيعية تضع حدودا واضحة لإمكان السكن والإنتاج في جهات العالم المختلفة، أو أن إنتاج غلة بالذات يقتضي ظروفا طبيعية معينة. وإذا حاولنا تطبيقها على جهات العالم المختلفة أمكننا تحديد المناطق التي يمكن لهذه الغلة أن تنتج فيها، وأمكننا أن نحذف المناطق غير الصالحة.
وفي دراسة الإنتاج التعديني نجد شروطا طبيعية معينة تحدد طريقة الاستغلال، وبالتالي تحدد التكلفة وحجم الإنتاج وعمره، كما يتحدد شكل الاستقرار البشري في المنطقة. (2) العوامل البشرية تلعب دورا هاما في نوع الاستغلال وتحدد السكن والإنتاج في مناطق دون غيرها حتى ولو تشابهت في ظروفها الطبيعية. ومن العوامل البشرية التي يذكرها الأستاذ نصر وتؤثر على الإنتاج: المستوى الفني والمعيشي للسكان، والاستقرار السياسي والاقتصادي أو الحرب والقلاقل والثورات والعقائد التي تساعد على الاتجاه إلى أنواع من الإنتاج أو الانصراف عنها، مراكز الاستهلاك ودورها في تحديد أنواع المحاصيل أو نوع التجارة أو تركز الصناعة فيها. (2-5) المنهج الوظيفي
21
وهو من أحدث المناهج في الدراسة الجغرافية وعلى وجه الخصوص في دراسة الجغرافيا الاقتصادية. مثل هذا المنهج يسعى إلى دراسة التركيب الوظيفي للنظام الاقتصادي السائد، وبالتالي يأخذ في الاعتبار التطور التاريخي والتأثير البشري المتطور على الإنتاج أو التجارة.
ونتيجة للدراسات العديدة أمكن ملاحظة عدة مستويات من وظائف النظام الاقتصادي يمكن ترتيبها تاريخيا؛ ففي المجتمعات البسيطة أو حيث تكون المزرعة منعزلة وتكفي الاستهلاك المحلي؛ فإن الوظيفة الاقتصادية للإنتاج والاستهلاك تكون على أدنى مستوى نظرا لعدم تعقد وتشابك وظائف الإنتاج والتجارة والتسويق، كذلك لوحظ أن الصناعة والخدمات تتميزان بارتباطات وظيفية أكثر تعقيدا من الوظائف الاقتصادية في المجتمعات الزراعية، وذلك على الرغم من تعقد الزراعة الموجهة إلى السوق والتجارة الدولية.
وفي داخل التركيب الوظيفي لأي نشاط اقتصادي نجد عددا من العناصر الهامة نذكر منها: نظام ملكية الأرض الزراعية أو وسائل الإنتاج. ونظرا للتطور التاريخي للملكية؛ فإن وظائفها متغيرة وليست ثابتة. فعند معظم الشعوب الزراعية نجد ملكية الأرض وأدوات الإنتاج الأساسية فردية، ولكنها عند الجماعات البدائية وفي بعض النظم السياسية المستحدثة تبدأ الملكية من مستوى الجماعة أو العشيرة، ولا يصبح للملكية الفردية مكان ولا وظيفة داخل البناء الاقتصادي، وفي خلال عهد أمراء الإقطاع في أوروبا كانت لهم بحكم القانون القديم سلطات وسطوة على الملكية الصغيرة أو الكبيرة.
ومن العناصر الهامة الأخرى داخل التركيب الوظيفي؛ المستوى الذي يعمل عليه الفرد داخل البناء الاقتصادي؛ ففي المجتمعات البدائية نجد الفرد يعمل على مستوى الجماعة والعشيرة، وفي مجتمعات الزراعة البدائية ومناطق الزراعة الكثيفة في الدول المتخلفة يعمل الفرد على مستوى مزرعته، وفي هذه الحالات فإن وظيفة الفرد بسيطة غير معقدة لقلة تشابكها بغيرها من الوظائف الإنتاجية.
وعلى العكس من ذلك؛ فإن الفرد في الدول المتقدمة يعمل على عدة مستويات من الوظائف نظرا لترابط الإنتاج في هذه الحالات بالسوق والاستهلاك المحلي والدولي.
وعلى أساس عناصر الوظيفة؛ فإننا نجد إن دراسة الجغرافيا الزراعية يجب أن تتناول الموضوعات التالية بالدراسة: (1)
مستوى المزرعة الفردية. (2)
الأسواق المحلية للإنتاج الزراعي. (3)
وظيفة الأقاليم الزراعية داخل الاقتصاد القومي. (4)
التجارة الدولية في المنتجات الزراعية.
وفيما يختص بالموضوع الثالث؛ فإنه من الواضح أن الإنتاج الزراعي تتعدد ارتباطاته مع أنواع أخرى من الإنتاج، تكون في مجموعها كل موارد الاقتصاد القومي؛ وبالتالي تخضع لاعتبارات أعلى من مستوى الزراعة. وفي حالة التجارة الدولية للإنتاج الزراعي يزداد التعقيد في وظيفة الإنتاج نظرا لارتباطه بالسوق الدولي بما فيه من عناصر خارجة عن الدولة. •••
هذه المعالجة السريعة للمناهج في دراسة الجغرافيا الاقتصادية لا تؤدي بالضرورة إلى تفضيل منهج على آخر حيث إننا لا نرى لذلك ضرورة معينة، فكما سبق أن ذكرنا، فإن في الإمكان دراسة الموضوع الاقتصادي من زاوية أو أكثر، كما أن هناك موضوعات يحسن دراستها من جانب معين بناء على منهج معين؛ من أجل إبراز قيمة النشاط الاقتصادي المعني داخل ترابط دولي أو إقليمي أو دراسته في حد ذاته أو لتوضيح مكانته العالمية.
ومن الأمثلة على ذلك أن المنهج الإقليمي يوضح قيمة أقاليم العالم الإنتاجية، بينما يوضح المنهج المحصولي قيمة المحصول محليا ودوليا، وهذان المنهجان هما أكثر المناهج شيوعا في الدراسات الاقتصادية، أما المنهج الحرفي؛ فإنه يبدأ من نقطة انطلاق اقتصادية تاريخية موزعا أنواع الاقتصاد السائدة على العالم بغض النظر عن تعمد فكرة الإقليم الجغرافي، ثم يدرس الإنتاج على أسس محصولية أو إقليمية. وأخيرا فإن المنهجين الأصولي والوظيفي لا يمثلان في حد ذاتهما مناهج قائمة بذاتها في دراسة الجغرافيا الاقتصادية قدر ما هما فلسفة وأسس وقواعد للدراسة يلتزم بها الدارسون في المعالجة الموضوعية لأنواع النشاط الاقتصادي.
وربما كان الأوفق أن نسميهما بالمدخل الأصولي والوظيفي بدلا من المنهج.
وعلى أية حال فإن المدخل الأصولي أكثر ميلا للأخذ بالقواعد الجغرافية العامة في الدراسة، وينص صراحة على دراسة عوامل الإنتاج داخل قالبين كبيرين؛ القالب الطبيعي والقالب البشري، وتفاعلهما معا.
أما المدخل الوظيفي؛ فينطلق من زاوية معينة هي: وظيفة النشاط الاقتصادي المعين داخل أنواع النشاط المختلفة؛ وبالتالي دراسة تركيب وبناء الاقتصاد وترابطه وتشابكه على مستويات الفرد والدولة والعالم.
وأخيرا؛ فإن إيجاد ائتلاف دائم للمناهج قد يعوق التقدم الفكري؛ فإن تعدد المناهج والمداخل بلا شك يعطي الموضوع الواحد قيما عديدة من زوايا عديدة، وبالتالي يتم دراسته على أمثل الطرق.
هوامش
الفصل الثاني
موارد الثروة
(1) ماهية موارد الثروة
موارد الثروة مصطلح شائع الاستخدام في كتابات الجغرافيا الاقتصادية، وتعني كلمة «موارد» المصادر والأصول التي يشتق منها النشاط البشري قيمة اقتصادية معينة هي الثروة. ويشوب مفهوم «الثروة » لبس كثير؛ إذ إنها تعني عند غالبية الناس معادلة قوامها كمية من الأملاك والنقود. ويؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى تداخل معنى النقود والثروة بحيث يصبحان بديلين لبعضهما، بينما هما في الحقيقة معنيان مختلفان؛ فالنقود بالمعنى الاقتصادي عبارة عن الواسطة التي نشتري بها شيئا؛ أي إنها رمز لمعاملات التبادل. أما الثروة فتعني الأرض والسلع والخدمات، أو ما يسمى بالمصادر الطبيعية للثروة «مشغلة» في صورة قيمة اقتصادية معينة بواسطة الإنسان وأنظمته الحضارية والتقنية.
فالإنسان يستمد مقومات حياته الضرورية من البيئة الطبيعية: الهواء والماء والضوء والحرارة والأرض والغذاء والمأوى والملبس. وقد عاش الإنسان قديما على هذه المصادر عشرات الآلاف من السنين، وما زال الإنسان الحديث يعيش عليها، لكنه أدخل إلى جانب ذلك منتجات اقتصادية أخرى ارتفع بها عن مستوى «مجرد الحياة» إلى مستوى «تطييب الحياة».
وقد تسمى هذه المنتجات الاقتصادية المضافة إلى ضرورات الحياة باسم «الكماليات». وأيا كان اسمها فإنها تصبح بمرور الوقت «ضرورات» للحياة كالسيارة والساعة والراديو والسياحة والأدوات المنزلية الحديثة وغير ذلك كثير. وهذه المنتجات أيضا مستمدة من موارد الثروة الطبيعية: الهواء والضوء والماء والأرض والتربة والنبات والحيوان والمعادن.
وهناك اتفاق بين كثير من الباحثين في الموضوع الاقتصادي مؤداه تقسيم مصادر الثروة إلى قسمين: المصادر الطبيعية والبشرية. وهناك من يزيد فيقسم الموارد البشرية إلى قسمين آخرين هي الموارد البشرية (الإنسان وأعداده) والموارد الحضارية (الإنسان ونوعيته).
وهذه التقسيمات هي من باب التفصيل والإيضاح؛ ذلك أن الموارد هي كل ما يستغله الإنسان من خامات الطبيعة؛ فهي في مجموعها نتيجة التفاعل بين النشاط الإنساني بمستوياته التكنولوجية المختلفة والخامات الطبيعية. ومن ثم فإن هناك مصادر للثروة لم يستخدمها الإنسان في الماضي لقصور تكنولوجيته، أو لأن المبادئ الاقتصادية التي تحكم نشاطه لم تتطرق إلى تلك المصادر؛ وبذلك ظلت هذه المصادر خارج قائمة المصادر الطبيعية للثروة، حتى أدرك الإنسان قيمتها، أو طور تكنولوجية تمكنه من استخدامها؛ مثال ذلك البترول أو المطاط أو المواد المشعة.
وبالمثل فإن هناك احتمالات لوجود مصادر جديدة للثروة في أعماق الأرض أو الفضاء قد يستخدمها الإنسان في المستقبل. ومثل هذه المصادر المحتملة لا تدخل الآن قائمة موارد الثروة الحالية، لكنها ستكون كذلك فيما بعد.
ومعنى هذا بعبارة أوضح أن العالم الطبيعي مليء بمصادر تقدم نفسها إلى العقل الإنساني فيأخذها على صورتها الطبيعية أو يشكلها على نحو يفي بأغراض تخدمه، وكلما تزايد احتياج الإنسان اتسع أفق تفكيره في استخدام هذه المصادر الطبيعية بشتى الأشكال.
وتوضح لنا حالة ألسكا أن مجرد وجود المورد لا يعني ضرورة استغلاله؛ فرغم ما في ولاية ألسكا من موارد فإنها لا تتسع إلى سكنى ملايين الناس، بل إن نصف مليون يعد تفاؤلا كبيرا في الوقت والظروف الراهنة. ففيما بين 1741 و1867 امتلك الروس ألسكا وجنوا أرباحا طائلة من الفراء والأحياء البحرية، ولم يعرفوا عن ذهب ألسكا ولا بترولها الوفير من حقول برودوه باي في الشمال.
وما زال صيد الفراء وتعدين الذهب موجودان، لكن الحرفة الأساسية في ألسكا الآن هي تعليب السلمون الذي تنتج منه ألسكا أكثر من نصف الإنتاج العالمي، بالإضافة إلى تصدير البترول. وفي ألسكا إمكانية لصناعة الورق، لكن يقف دون ذلك المسافات البعيدة.
وبالرغم من أن في إمكان ألسكا أن تقدم ربع الاستهلاك الأمريكي للورق، فإن نمو هذه الصناعة لن يزدهر في ألسكا طالما وجدت موارد غابية في داخل الولايات المتحدة وفي كندا؛ لأنهما أقرب إلى السوق الاستهلاكية من موارد ألسكا. وقد أقيمت مقارنات بين ألسكا والسويد، لكن المقارنة نسيت أن هناك مائة مليون شخص في دائرة قطرها ألف كيلومتر مركزها ستكهولم، وأن هناك أقل من مليون شخص في مساحة مماثلة مركزها كتشيكان في جنوب ألسكا، فالبعد المكاني وعدم رخص وسائل النقل الجوي تجعل ما في ألسكا من موارد مجرد احتياطي يمكن استخدامه حينما تتغير وسائل النقل نتيجة للاحتياج الشديد.
وعلى هذا فقد تكون المصادر الطبيعية محدودة أو متناهية العدد بينما تصبح لا متناهية العدد إذا ما صاغها الإنسان في صورة موارد للثروة.
فنحن إذن لا نرى موجبا للتفريق بين الموارد الطبيعية والبشرية؛ لأنهما لا يمكن أن يصبحا ثروة طالما لم يستغلها الإنسان ، وفي هذا المعنى قال الأستاذ زيمرمان:
1 «الكون بلا إنسان خال من الموارد لإن الموارد مقترنة بالإنسان وحاجاته.» ومع ما ذهبنا إليه من رأي فإننا لا نعارض أيضا أولئك الذين يقسمون الموارد إلى قسميها الرئيسيين.
وإذا نحن أخذنا به في بعض ما سيجيء من كتابنا فإن المقصود به ليس التقسيم في حد ذاته لطبيعة انقسام موضوع الموارد إلى قسميه الطبيعي والبشري، ولكن المقصود به الفصل من أجل توضيح الصورة فقط. ويجب أن يكون في اعتبارنا أن الموارد هي نوع واحد فقط؛ هي تلك التي تكون مصادر الثروة في وقتنا الراهن أو ما يمكن أن تكون كذلك في المستقبل.
وفيما يختص بالموارد البشرية يقصد بها الإنسان كعامل من عوامل الإنتاج وهدف له بدلا من اعتباره موردا اقتصاديا كما في رأي البعض. أما الموارد الحضارية فهي الموارد التي أظهر فيها الإنسان ابتكاره، فلم تعد موارد طبيعية على الإطلاق، وتنقسم أعمال الإنسان في هذا المجال إلى مجموعتين من الموارد؛ الأولى: الموارد الزراعية، والثانية: الصناعية. وهما لا وجود لهما بالفعل في عالم الطبيعة.
ويمكن لنا أن نعبر عنهما بالتحويل البسيط والمركب لعناصر طبيعية من أجل التحكم في الإنتاج، بدل الاعتماد على الاستغلال الهدمي المرتبط باستغلال الثروة كما هي في الطبيعة (صيد الأسماك، قطع الأشجار، صيد الحيوان).
ويذكر الأستاذ زيمرمان
2
أن دراسة الموارد تشتمل على مواضيع البحث التالية: (أ)
دراسة لموارد القوى الموجودة في الطبيعة. (ب)
دراسة الإنسان والحيوان. (ج)
دراسة الحضارات البشرية التي أثرت وتؤثر على النواحي الإنتاجية. (د)
دراسة العلاقة بين الطبيعة والإنسان والحضارات.
ويمكننا أن نلخص ذلك على أنه يتناول دراسة مكونات الموارد الطبيعية والبشرية معا في تفاعلاتهما المختلفة. أما عجمية فنجده بعد أن يقسم الموارد إلى قسمين رئيسيين: الموارد الطبيعية والموارد البشرية يقسمها على ثلاثة أسس هي: (1)
من حيث عمر المورد:
وهنا نجد موارد متجددة وموارد فانية. (2)
من حيث أماكن وجودها:
فهناك موارد ثروة أوسع انتشارا، وغيرها محدود بأماكن جغرافية محددة. (3)
من حيث مظهرها:
وهذه الناحية تتناول المورد البشري على وجه الخصوص من نواحي القدرة الإنتاجية والسياسات الاقتصادية للدول المختلفة، وأثر ذلك على الإنتاج من ناحية أخرى.
ولا شك أن قيمة الموارد تختلف من زمن إلى آخر، كما تختلف من جماعة إلى أخرى في عالمنا المعاصر. وهذا بدون ريب مرتبط بالمستوى الفني والمعيشي الذي تصله الجماعات في الماضي والحاضر. فقبل اكتشاف الزراعة كانت الموارد الطبيعية الصرفة هي مصدر غذاء الإنسان؛ حيث كان يعتمد على الحيوان البري أو الأحياء المائية. وإلى جانب هذا أو ذلك اعتماده على الثمار والجذور النباتية.
وفي كل هذا لم يكن للمورد الزراعي أو المعدني أي معنى بالذات، ولكن حين عرف البدائيون قيمة المعدن (النحاس مثلا) كرأس سهم أو حربة أصبح لهذا المعدن بالذات قيمة معينة لهم؛ بل إن طريقة صهره وتشكيله أصبحت سرا للجماعة من الحدادين التي تصنعه. ومن هنا كانت بداية فكرة «سر المهنة» التي انتهت إلى فكرة أسرار الدولة العسكرية، وخاصة في مجالات الطاقة النووية في الوقت الراهن. (2) أنواع الموارد الطبيعية
يمكن تقسيم الموارد إلى نوعين رئيسيين هما: (أ)
الموارد العضوية أو الحية:
وتشمل هذه الموارد الغابات والمراعي الطبيعية والحياة البرية للحيوان، والأسماك وأشكال الأحياء المائية الأخرى. (ب)
الموارد غير العضوية:
وتشتمل هذه الموارد على: الهواء، والماء، والمعادن، وموارد الطاقة السائلة والحجرية، والتركيبات الصخرية المستخدمة في الحياة الاقتصادية؛ كالرمال والأحجار.
أما التربة، فهي مورد حيوي، وتتشكل من تفاعل الموارد العضوية وغير العضوية معا؛ فهي في الأصل مفتتات وذرات كونتها عوامل التعرية والنقل من مواد غير عضوية (الصخور)، أضيف إليها المواد العضوية المتحللة من الحياة النباتية والحيوانية ومخلفات الإنسان المختلفة؛ ولهذا فإن التربة كمورد يقع بين النوعين السابقين. (3) الماء كمثال على تعدد وتغير استخدام الموارد
تتعدد استخدامات الإنسان للمورد الطبيعي الواحد حسب قدراته التقنية واحتياجاته الحياتية، وأهمية الموارد العضوية وغير العضوية واضحة. لكننا سنتناول المياه - على سبيل المثال - ببعض التفصيل لبيان الزوايا العديدة التي يستخدم فيها من خلال النشاط الإنساني المتغير.
الماء كمورد طبيعي: هو العنصر الأساسي في جميع أشكال الحياة العضوية، بما في ذلك الإنسان، ولكن له إلى جانب ذلك دورا هاما في عمليات التعرية للصخور - سواء كانت تعرية بحرية شاطئية أم تعرية نهرية أو مياه التساقط (الأمطار) أم تعرية جليدية - وقد كانت هذه العمليات التحاتية التي تقوم بها المياه، بالإضافة إلى عمليات نقل المفتتات الصخرية، سببا جوهريا في نشأة التربة الفيضية وتربات السهول الإرسابية. وهذه هي أهم مناطق السكن البشري المتكاثف، وإلى جانب هذا الدور البناء، فإن الماء أيضا يقوم بدور هدام في تعرية التربة في بعض الحالات (كتعرض التربة مباشرة للأمطار الغزيرة) وجرفها من مكانها، وبالتالي إفقار مناطق غنية.
وإلى جانب هذا الدور الهام في التربة وفي الحياة البيولوجية على سطح الكرة الأرضية؛ فإن الإنسان يستخدم الماء على الأوجه التالية: (1)
الاستخدام المنزلي: الشرب، والطهي، والاستحمام، وإزالة المخلفات والتنظيف. ومعظم أوجه الاستخدام هذه قديمة قدم الإنسان نفسه. ولكن كمية الماء المستخدمة في هذا المجال قد ازدادت أضعاف ما كانت عليه في الماضي؛ نتيجة التقدم الهائل في مد شبكات المياه إلى المدن والمساكن. (2)
استخدامات الزراعة، وخاصة بالوسائل الكثيرة التي ابتدعها الإنسان لري الحقول في المناطق الجافة أو المناطق ذات الأمطار المتذبذبة. وبرغم أن مناطق كثيرة تعتمد على المطر في الزراعة، فإن الزراعات الحديثة المستخدمة في التجارة تحتاج إلى تدبيرات مختلفة لتأمين المياه وسد احتياجات الزراعة في سنوات المطر الشحيحة، وهذا ما جعل الدول تبني السدود وتنظم جريان الأنهار لأغراض مختلفة (النقل المائي وتوليد الطاقة) إلى جانب استخدام المياه في الري؛ ومن ثم فإن الاستخدام الزراعي للمياه في تزايد مستمر. (3)
الاستخدام العمراني في المدن لمكافحة الحرائق، ري الحدائق، نظافة الشوارع، استخدامات الهيئات العامة مثل المستشفيات والمدارس، نقل المخلفات بواسطة شبكات المجاري. (4)
الاستخدام الصناعي: يتزايد حجم الماء المستخدم في الصناعات المختلفة، وتوليد البخار وتبريد الآلات وإعداد السلع المنتجة. (5)
توليد الطاقة: اختلف كثيرا في الماضي عن الحاضر؛ ففي الماضي كانت طاقة المياه تستخدم في إدارة الطواحين، لكنها تستخدم الآن بكميات كبيرة في إدارة التوربينات الضخمة المولدة للكهرباء. (6)
النقل المائي الداخلي في الأنهار والقنوات . (7)
مورد غذائي بما في المياه من أسماك. وفي بعض المناطق أصبح نمط الغذاء على الأسماك النمط الغذائي السائد تعويضا عن البروتينات الحيوانية. (8)
الأغراض الترويحية والرياضية كالنزهات بالقوارب والتسلي بصيد الأسماك والسباحة وإقامة منشآت سياحية وترفيهية.
ويوضح شكل
2-1
استخدامات المياه في الولايات المتحدة الأمريكية من 1900 إلى أوائل السبعينيات، ويمكننا أن نلخص نتائج هذا الشكل على النحو التالي؛ علما بأنه في حد ذاته لا يحتاج إلى تعليق كبير:
أولا:
إن مجموع استخدامات المياه لشتى الأغراض الموضحة كانت نحو 36 مليار جالون يوميا في أول القرن، زادت إلى 440 مليارا بزيادة قدرها 12,2 مرة. وهي زيادة مذهلة في حوالي ثلاثة أرباع قرن، وتوضح لنا كيف يمكن أن يكون الماء موردا طبيعيا حساسا في بناء الدول اقتصاديا وحياتيا.
شكل 2-1: استخدام المياه في الولايات المتحدة. (1) الري. (2) استخدام السكن الريفي. (3) استخدام العمران المدني. (4) المياه المستخدمة في الطاقة الكهربائية والبخارية.
ملاحظات: (1)
لاحظ الكمية الكبيرة من المياه المستخدمة في أغراض الري والصناعة وتوليد الطاقة. (2)
النمو السريع للطلب على الماء خاصة في قطاع الصناعة وتوليد الطاقة بين 1950-1960 الذي ارتفع بمقدار 50٪ عن الفترة السابقة. (3)
ازدياد الطلب على الماء بنسب أعلى للطاقة على وجه الخصوص خلال الستينيات وما بعدها.
ثانيا:
كانت أنصبة أوجه الاستخدام للمياه في القطاعات المختلفة على النحو الآتي:
سنة 1900
قطاع الاستخدام
سنة 1970
الكمية ٪
الكمية ٪
13,5 مليار جالون
37,5
استخدامات الري.
163 مليار جالون
37
4,5 مليار جالون
12,5
استخدامات السكن الريفي.
9 مليار جالون
2
4,5 مليار جالون
12,5
استخدامات العمران المدني.
27 مليار جالون
6,2
9,0 مليار جالون
25,0
استخدامات الصناعة.
114 مليار جالون
25,9
4,5 مليار جالون
12,5
توليد الطاقة.
127 مليار جالون
28,9
ويعني ذلك أن الزيادة، برغم ارتفاعها في كل القطاعات، قد وضحت بصورة هائلة في قطاعات توليد الطاقة والاستخدامات الصناعية والري، بينما كان ارتفاعها محدودا في قطاعات الاستخدام الريفي والعمراني.
ثالثا:
ولزيادة الإيضاح فإنه إذا كانت الزيادة العامة في كمية المياه المستخدمة قد تضاعفت 12,2 مرة خلال الفترة المذكورة، فإن الزيادة في القطاعات كانت مرتبة على النحو التالي:
قطاع توليد الطاقة
28,2 مرة
وبذلك يمثل أعلى زيادة مسجلة.
قطاع الصناعة
12,6 مرة
يمثلان معا.
قطاع الري
12,0 مرة
نموا مشابها للزيادة العامة.
قطاع المدن
6,0 مرات
يمثلان نموا.
قطاع الريف
2,0 مرات
أدنى بكثير من الزيادة العامة. (4) الموارد الطبيعية من حيث التجدد والنضوب
تنقسم الموارد الطبيعية إلى نوعين رئيسيين، وذلك من حيث عمرها: (1)
الموارد المتجددة:
وهذه هي مجموعة الموارد غير القابلة للفناء، إلا إذا حدثت كارثة كونية. (2)
الموارد الفانية:
وهذه هي مجموعة تتميز بإمكان نضوبها وعدم تجددها.
ومن الأمثلة على الموارد المتجددة: الهواء، والماء، وأنواع من الصخور.
وبالرغم من أن النشاط البشري - خاصة خلال العصر الصناعي وحياة المدن - قد أفسد الهواء بما يخرج من المصانع والمعامل والمحركات من غازات ضارة وأبخرة وأجسام طائرة «كالهباب» وبما يلوث الماء من توجيه المجاري لطرح نفايات العمران والمصانع فيه، فضلا عن الزيوت المعدنية التي تنجم عن السفن والقوارب التي تستخدم هذا الوقود في الملاحة، فإن الهواء والماء يتجددان طبيعيا. ولا شك أن اهتمامات العالم الآن بموضوع البيئة، والمشروعات التي تطرح على بساط البحث بهذا الصدد، هي من قبيل المحافظة على هذين الموردين الحيويين، وترتب على ذلك ظهور جماعات الضغط السياسي من أنصار البيئة وجماعة السلام الأخضر في دول كثيرة، وخاصة في دول الغرب.
وهناك أنواع من الصخور كالتكوينات الجيرية والرمال وغير ذلك، توجد في القشرة الأرضية وعلى سطحها بكميات هائلة، وهي برغم أنها لا تتجدد على نحو ما يحدث في الماء والهواء فإن كثرة وجودها يضعها على قدم المساواة مع الموارد الطبيعية التي لا تفنى.
أما الموارد الطبيعية الفانية فهي كثيرة، مثال ذلك التربة والنبات والحيوان الطبيعي وأنواع كثيرة من المعادن، كلها قابلة للنضوب، ويصعب تجددها طبيعيا إلا من خلال العمليات الطبيعية التي تستغرق آلاف الأضعاف من حياة البشر. وحتى في هذا المجال؛ فإن التجدد هنا يجب أن يؤخذ بحذر شديد؛ لأن الطبيعة لا تكرر أحداثها من ناحية، ولإن الوراثة في عالم الطبيعة العضوي (نبات وحيوان) تغير - بدون شك - أشكال الحياة البيولوجية على مر الزمن.
ولهذا فإن المحافظة على الموارد الطبيعية القابلة للنضوب أو الفناء قد أصبحت دعوة العلم والمخططين الاقتصاديين معا. ومعنى المحافظة هو: الاستخدام الحريص للموارد الطبيعية وعدم الإفراط فيها ، وحمايتها من الاستغلال التلقائي غير المسئول، والاستغلال الهدمي الذي يسعى إلى أعلى مردود استثماري في وقت قصير. ويمكن أن تتم المحافظة على الموارد بإحكام الرقابة على أشكال استخدامها وإدارتها بطريقة تبقيها فترة طويلة. وفي هذا يقول مونكهاوس: «المحافظة ليست توقيف الإنتاج (عند حد معين أو توقيفه نهائيا) بقدر ما هي الإبقاء على ميزان ملائم في استخدام البيئة.»
3
ومن أهم الموارد الطبيعية التي تحظى بالكثير من العناية في الدرس والتخطيط لصيانتها وحفظها التربة والغابات والمراعي الطبيعية والحياة الحيوانية والمياه والثروة المعدنية، وفيما يلي بعض الوسائل التي تتخذ في هذا الصدد. (5) المحافظة على الموارد الطبيعية من الفناء (5-1) التربة
سبقت الإشارة إلى أن عوامل التعرية كثيرا ما تتسبب في ضعف أو إزالة التربة وجرفها تحت ظروف خاصة ناجمة عن جهل الإنسان في استخدامه للأرض.
وذلك أن إزالة الغطاء الغابي من أجل الزراعة يؤدي إلى تعريض التربة للأمطار والعوامل المناخية الأخرى المؤدية لجرف التربة، وهذه الحالة كثيرة الظهور في المناطق المدارية أو المناطق الهضبية ذات التربة قليلة السمك؛ بينما لا يظهر تعرية التربة في المناطق السهلية أو المناطق الفيضية سميكة التربة، وعلى هذا فإن قلة سمك التربة ودرجة انحدار السطوح عاملان جوهريان في سرعة تعرض التربات للجرف والإزالة.
وغني عن البيان ما للتربة من أهمية حيوية بالغة الخطورة في حياة الإنسان والحيوان والنبات الطبيعي؛ فإن المناطق المعراة عن التربة لا ينبت بها نبت وتصبح قاحلة غير صالحة لإقامة الهرم الإيكولوجي.
والتربة - بعبارة وجيزة - المصدر الأول لعدد كبير من السلع الطبيعية والتي ينتجها الإنسان: الأخشاب، الأعشاب، الحيوان، الزراعة بكافة محاصيلها. وعلى هذه السلع يعيش الإنسان في صورة استهلاك مباشر أو يحولها إلى خامات صناعية مثلا، كالقطن أو المطاط أو الصوف أو الورق.
وبناء على هذه الأهمية الحيوية بالنسبة لإنتاج السلع الأولية والصناعية، فإن الاهتمام بحسن استخدام التربة وعدم إهمالها أصبح اهتماما متزايدا. فالتربة يجب أن تحرث بعناية، دون إفراط، من أجل تجددها طبيعيا. ولهذا يجب أن تترك فترات للراحة ، أو بزراعة أنواع من النبات يعطيها بعض ما تفقد من مكونات الخصوبة، ويجب أن تعطى التربة حاجتها من المخصبات والأسمدة العضوية والمعدنية لتعديل خصائصها وزيادة طاقتها الإنتاجية وتعويضها عن الجهد الذي تسببه الزراعة.
ولكن هناك في العالم مناطق كثيرة لا تتمتع فيها التربة بهذه العناية، بل يكون استخدامها بمثابة استغلال هدمي لفترة معينة ثم تترك الأرض، وقد فقدت خصوبتها أو تعرت تماما. ومثل هذا يحدث في مناطق الزراعة المتنقلة أو مناطق السهول الواسعة قليلة السكان، أو في غياب سلطة تحد من هذا «التخريب» في مورد الثروة.
وهناك طرق كثيرة لحفظ التربة من التعرية نذكر منها (1)
تدريج المسطحات المنحدرة «السفوح» لمنع نقل التربة، وذلك بواسطة مدرجات مبنية «الجلول»، وتختلف مساحة مسطح التربة بين الدرجة والأخرى حسب درجة الانحدار؛ إذ تضيق الدرجة كلما كان السفح شديد الانحدار، ولهذا تتراوح المدرجات بين الاتساع الكبير - كما في جنوب شرق آسيا - وبين المدرجات الصغيرة التي تسمح غالبا بزراعات شجرية كما هو الحال في الجبال العالية كسويسرا ولبنان. (2)
بناء حوائط عبر المسيلات والوديان لمنعها من نقل التربة إلى أسفل. (3)
حرث الأرض كنتوريا؛ أي موازية مع خطوط الكنتور، وليس عموديا عليها؛ كي لا تصبح خطوط المحراث مجاريا يسهل على الماء الانحدار فيها ونقل التربة. (4)
استخدام نظام الحوض «الحياض» في المناطق شديدة الأمطار لحفظ التربة داخل حدود كل حوض. ويبنى الحوض برفع حوافه قليلا بالطين إذا كانت المناطق سهلية أو يقوى الطين بأعشاب وحجارة إذا كانت المنطقة منحدرة. (5)
إقامة ساتر من الأشجار لصد الرياح وكسر قوتها؛ وبالتالي إضعاف قوتها في تعرية التربة ونقلها. (6)
إعادة تشجير المناطق المهددة بالتعرية، وزراعة الأعشاب تحت الأشجار لكي تقوم بإعادة خصب التربة، بينما تحمي الأشجار التربة من العمل المباشر لعوامل التعرية «مياه أو رياح». (7)
اتباع دورة زراعية يزرع فيها أنواع من الأعشاب أو النباتات التي تغطي التربة (كالبرسيم)؛ وذلك لتقوية الخصوبة وإراحة التربة بين محصول مجهد وآخر، وإبقاء التربة تحت غطاء نباتي يمنع التأثير المباشر لعوامل التعرية. (8)
إيجاد توازن بين أعداد الحيوان وطاقة المراعي الطبيعية؛ وذلك من أجل عدم استهلاك كل الأعشاب والحشائش النامية طبيعيا. كما أن أظلاف الحيوان - إذا كثرت - تؤدي إلى تشقق التربة ومن ثم يسهل على المطر أو الرياح تعريتها.
وهناك وسائل أخرى كثيرة تتبع في مناطق مختلفة حسب إيكولوجية المناطق من أجل الحفاظ على التربة، خاصة وأن احتياجات أعداد السكان المتزايدة في العالم من المحاصيل النباتية للغذاء والصناعات المختلفة قد أصبحت تشكل تهديدا خطيرا لموارد العالم الزراعية والرعوية. (5-2) الغطاء النباتي الطبيعي
يتكون الغطاء النباتي الطبيعي من قسمين رئيسيين هما: الغابات، والحشائش. وقد كانت الغابات، بمختلف أنواعها، تغطي مساحة أكبر بكثير مما هي عليه الآن، وهناك أسباب تاريخية وتقنية وعمرانية أدت إلى تقلص مساحة الغابات. ومن بين هذه الأسباب: (أ)
احتياج الإنسان إلى إزالة الغابات وإحلال الحقول الزراعية محلها. (ب)
احتياج الإنسان إلى الأخشاب من أجل الوقود وبناء البيوت والأدوات والآلات والسفن، وعمل الفحم النباتي، وعمل الورق وبعض المنسوجات الصناعية.
ويمثل الاحتياج الأخير أكبر شكل من أشكال استغلال الغابات في الوقت الحاضر، بينما قل الاحتياج نوعا ما بالنسبة لاستخدام الأخشاب في أعمال البناء، وقل كثيرا في عملية الفحم النباتي. وبرغم زوال معظم هذه الأسباب، فإن استهلاك الإنسان من الأخشاب قد تزايد لكثرة عدد السكان ولأن الاحتياجات الصناعية تقوم على استخدام الغابات بشكل أوسع عشرات المرات من الاستخدام البشري فيما قبل الصناعة.
وقد أدى سوء الاستخدام للموارد الغابية إلى تدهور كمي ونوعي في غابات مناطق كثيرة، كما تسبب في تعرية التربة أو تحويلها إلى مناطق مستنقعية، ولهذا فإن العالم يتهدده مجاعة في الخامات الغابية جعلته يبدأ في تنفيذ خطة للمحافظة على الثروة الغابية بإعادة التشجير، وعمل دورة في استغلال الغابات.
4
ويطبق هذا التنظيم بقوة القانون في الدول التي تعتمد على الأخشاب كمصدر هام من مصادر الدخل القومي مثل دول إسكندنافيا.
وإلى جانب ذلك؛ فإن التجارب العلمية قد أدت إلى إيجاد خامات مختلفة لصناعة الورق مثل بقايا النباتات والأعشاب، وكذلك شاع استخدام مخلفات نباتية في عمل أخشاب صناعية كالخشب الحبيبي، وذلك من أجل الحد من استهلاك صناعة الورق للموارد الغابية بصورة متزايدة؛ نتيجة شيوع استخدام الورق في حياتنا المعاصرة، وكذلك للحد من الصناعات الخشبية.
5
أما بالنسبة للمراعي الطبيعية؛ فقد لوحظ أنها تتعرض للإهمال والتدهور؛ نتيجة للرعي المتزايد الذي يستهلك خصوبة المراعي؛ ونتيجة لطغيان الرمال في المناطق الهامشية الصحراوية على حشائش السفانا كما هو الحال في أفريقيا. وأهم علاج للمحافظة على المراعي الطبيعية هو تقليل عدد حيوان الرعي بحيث يتوازن مع مساحة المرعى، ومحاولة استعادة المراعي بزراعتها ببعض بذور الأعشاب. (5-3) الحياة الحيوانية الطبيعية
منذ أن تمكن الإنسان من استئناس أنواع من الحيوان، نجد أن الميزان الطبيعي في أعداد الحيوان قد اختل كثيرا؛ فالحيوان المستأنس قد زاد عدده بصورة كبيرة نتيجة حماية ورعاية الإنسان، في الوقت الذي قلت فيه الحيوانات المعادية للإنسان بصورة اقتربت من الفناء، وكذلك اقتربت من الفناء كثير من الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها كحيوان الفراء
6
أو مصدر الغذاء الإنساني من حيوانات برية كالغزال والوعل، أو أحياء بحرية وأسماك.
وقد سارعت بعض الحكومات إلى إقامة معازل للحيوان البري خشية انقراضه نهائيا كما هو الحال في كثير من بلاد أفريقيا، وفي الوقت نفسه هناك اتفاقات دولية على تحديد عدد ما يصاد سنويا من الحيتان بعد أن انقرضت في المحيطات الشمالية، وتقوم الدول المختلفة بوضع قوانين خاصة لحماية مصايد أسماكها من الصيد الكثير، سواء من جانب رعايا الدولة أو أساطيل الصيد الأجنبية (تمد دول كثيرة مياهها الإقليمية مسافات شاسعة لكي تنفذ فيها قوانينها وتمنع النشاط الاقتصادي الأجنبي). وهناك أيضا قوانين أخرى لتأمين حياة الطيور البرية ومنع صيدها في مواسم معينة تجنبا لانقراضها، خاصة أنواع الطيور المهاجرة. (5-4) المعادن
تختلف المعادن عما سبق من موارد الثروة الطبيعية في أنها موارد فانية غير متجددة. ومن ثم يصاحب التعدين في أحيان كثيرة ظاهرة مدن الأشباح حينما ينضب المعدن في مكان ما.
7
ولهذا أصبح من الضروري على الحكومات اتخاذ القوانين التي من شأنها المحافظة على الثروة المعدنية بوسائل شتى نذكر منها: (1)
استخدام مصادر الثروة المعدنية بحكمة، فلا تتبدد في عدد قليل من السنين، إذا كان الإسراف هو سمة استغلالها. (2)
تحسين وسائل استخراج المعادن كي لا تترك بقايا معدنية كثيرة في ركائز الخام دون استغلال، ويعتمد ذلك على قدرات تكنولوجيا كل عصر. (3)
إعادة استخدام «خردة» المعادن المستخدمة لتقليل الاحتياج إلى هذه المعادن من مصادرها. (4)
استخدام «بدائل» صناعية أو معدنية للخامات المعدنية المهددة بالتناقص السريع، مثل الألمنيوم بدلا عن النحاس، وكذلك اللدائن الجديدة (البلاستيك والصوف الزجاجي ... إلخ). (5)
في أحيان يوقف الإنتاج أو يقلل في معدن من المعادن ويترك كاحتياطي مستقبلي، وتستهلك مصادر معدنية أخرى بديلة أو يعتمد على واردات هذا المعدن من الخارج.
ومن الطبيعي أن هذه نظرة تتجلى فيها الأنانية الاقتصادية، كما تفعل الولايات المتحدة في مصادرها من النحاس أو البترول. وقد قامت ليبيا بتقنين إنتاجها من البترول كنوع من المحافظة على هذه الثروة القومية من الاستغلال الجشع الذي كان يتم بواسطة شركات البترول المنتجة فيها، بغض النظر عن إمكانية النضوب السريع لهذا المورد القومي الليبي. (5-5) المياه
المياه مورد متجدد، ولكن الاستهلاك البشري تضاعف كثيرا بينما الدورة الهيدرولوجية ثابتة. ويوضح الشكل (
2-2 ) مبسطا لهذه الدورة، ومنه تتضح الحقائق الآتية: (1)
ضآلة كمية مسطحات الماء على اليابس من أنهار وبحيرات، فهي تبلغ 2,8 من سطح البحار والمحيطات.
شكل 2-2: الدورة الهيدرولوجية على المحيطات (الأرقام بآلاف الكيلومترات المكعبة).
كمية مسطح المياه في المحيطات
13320000كم مكعب
كمية المياه المتبخرة
3363كم مكعب
كمية الأمطار على المحيطات
2980كم مكعب (2)
إن الجزء الأكبر من المياه المتبخرة من المحيطات تسقط ثانية على المحيطات بحيث لا يصل منها إلى اليابس سوى 2٪ فقط. (3)
تشترك كمية البخر الواردة من المحيطات إلى اليابسة (380كم3) مع البخر من مسطحات مياه اليابسة (630كم3) في كافة أشكال التساقط (مطر، ثلوج ... إلخ) بحيث تصل الكمية الساقطة إلى 1010كم3، وهو ما يساوي 33٪ فقط من التساقط على البحار. (4)
يعود نحو 37٪ من الأمطار على اليابس إلى البحار والمحيطات في صورة تصريف الأنهار. وهذه الكمية (380كم3) هي نفس الكمية التي خرجت من المحيطات في صورة البخار. (5)
بذلك نرى توازنا في الدورة، لكن استخدام الإنسان لمجموع المياه السطحية والجوفية ومن الجليد الذائب هي دائما في ازدياد مما يهدد بنقص مستمر في موارد المياه العذبة على الأرض. وهذا هو لب مشكلة المياه على سطح الكرة الأرضية، خصوصا إذا نظرنا إلى الشكل (
2-3 ) الذي يوضح مكونات الدورة الهيدرولوجية.
الدورة الهيدرولوجية على اليابس.
كمية صافي بخار الماء المنقول لليابس
380كم مكعب
كمية التبخر من المياه على اليابس
360كم مكعب
كمية المطر الساقط على اليابس
1010كم مكعب
كمية التصرف النهري إلى المحيط
380كم مكعب
Strahler, A.N. “The Earth Scienes” 2 ed., Harper & Row N. Y. 1971, fig. 33.2.
شكل 2-3: المكونات الرئيسية للدورة الهيدرولوجية على الأرض.
فإن المياه الجارية في الأنهار والبحيرات لا تشكل سوى 17 في الألف من مجموع المياه على السطح، بينما تشكل المياه الجوفية 62 في الألف، والمياه التي تحتبس في الثلاجات الدائمة 215 في الألف.
ومن هذه الأرقام البسيطة يتضح لنا اعتماد الإنسان المعاصر مباشرة على كمية ضئيلة جدا من المياه الجارية والمياه الجوفية، ويشكلان معا 82 في الألف من الدورة الهيدرولوجية، والقليل جدا من فائض ذوبان الجليد حسب المواسم الحرارية، ويجب أن نعلم أيضا أن الإنسان حتى الآن لم يستغل كل المياه الجوفية.
وبالرغم من هذه الضآلة؛ فالماء حتى الآن هو مورد الحياة على سطح الأرض، يحتاجه الإنسان كجزء هام من تكوينه البيولوجي، وتحتاج الزراعة والصناعة أضعاف استخدامات الإنسان المباشرة.
وفي كل الحالات فإن تزايد عدد البشر والاتجاه إلى سكن المدن وازدياد مجهودات الإنسان في توسيع الزراعة والصناعة، هو العامل الحاسم في خطورة موضوع المياه الآن؛ لأن الاستهلاك يزيد على التعويض السنوي الطبيعي؛ فقد زاد استخدام الإنسان المباشر في المدن الأمريكية بمقدار 12 مرة في الفترة من 1900 إلى 1970. ويبلغ متوسط استهلاك الفرد من المياه في الحضارة الغربية إلى نحو 500-650 لتر ماء يوميا في شتى منافع الحياة، مقابل 25 لترا في الدول النامية.
وتظهر مشكلة نقص المياه حادة في النطاق الجاف من العالم - كما هو الحال في معظم جهات العالم العربي، أو غالبية أستراليا - بينما هناك سعي لتصريف المياه الزائدة في أقاليم المطر الغزير مثل نطاق الغابات الاستوائية. وفي هذه الحالة أو تلك، هناك إنفاقات كثيرة إما لحفظ المياه بحجزها وتوزيعها مقننة خلال العام، وإما بتحديد مساراتها وتحسين تصريفها، وأوضح الأمثلة على ذلك مساهمة مصر في تخزين وضبط مياه النيل.
وقد ذكرنا أن مشكلة المياه في الدول الصناعية ناجمة عن زيادة احتياجات الصناعة وتوليد الطاقة؛ مما قد يسبب أزمة في الاحتياجات الزراعية أو احتياجات السكان والعمران من المياه. وعلى هذا النحو فإن للمياه مشاكل مختلفة الأوجه في مناطق كثيرة من العالم، ولكل مشكلة معالجة خاصة، وذلك في إطار المحافظة على الموارد المائية وحسن استخدامها، وهناك عدة وسائل لتنفيذ سياسة المحافظة على الماء نذكر منها: (1)
خزن المياه وتوزيعها على مدار السنة بحسابات مسبقة على الاحتياجات المختلفة للإنسان والأنشطة الاقتصادية المختلفة، ويقتضي ذلك إنشاء السدود وبحيرات التخزين والقنوات أو الأنابيب التي تمر فيها المياه إلى المناطق التي تحتاجها، كالنيل والسند والفولتا ... إلخ. (2)
تقليل تلوث المياه بالرقابة على المصارف المختلفة المتجهة إلى الأنهار، أو توجيه هذه المصارف بعيدا عن الأنهار. (3)
معالجة مياه الصرف والمجاري وإعادة استخدامها في الزراعة أو الصناعة أو الشرب. (4)
استخدام المياه الجوفية بحكمة حتى لا تنضب بسرعة. (5)
منع هدر المياه نتيجة التسرب الذي يحدث في الأنابيب أو تبطين القنوات لمنع التسرب إلى القشرة الأرضية أو تقليل التبخر من القنوات بواسطة تصغير مسطحها المعرض للشمس، فضلا عن طرق الري الحديثة بالرش أو التنقيط. (6)
إعادة استخدام المياه التي استخدمت في ذات المصنع بعد تنقيتها أو معالجتها، خاصة في الصناعات التي تستهلك كمية كبيرة من المياه. (7)
وأخيرا تحديد الاستهلاك في قطاعات الصناعة والاستخدام العمراني برفع سعر استهلاك المياه إذا زادت عن حد معين.
والخلاصة: إن المحافظة على الموارد منذ الآن هو عمل خير من أعمال المستقبل للأجيال القادمة، حتى ولو ظهرت موارد بديلة أو جديدة يتفتق عنها ذهن وتقنية المستقبل.
ولا بد لنا قبل دراسة الإنتاج من أن نقوم بدراسة العوامل المختلفة التي تؤثر تأثيرا مباشرا أو غير مباشر في الإنتاج. وبما أن الإنتاج عبارة عن تحويل الموارد إلى ثروة نتيجة لعمل الإنسان ومجهوده؛ فالإنتاج إذن يتكون من قطبين أساسيين هما:
أولا:
العوامل والعناصر الطبيعية.
ثانيا:
الإنسان بعدده ونظمه وسياساته.
ولهذا لا بد من أن نفرد دراسة خاصة لهذين العنصرين كل على حدة؛ لتوضيح فاعلية هذه العوامل الطبيعية والبشرية منفردة ومجتمعة معا.
هوامش
الفصل الثالث
العوامل الطبيعية والبشرية في الجغرافيا الاقتصادية
(1) عناصر البيئة الطبيعية (1-1) التضاريس
إن أول تقسيم اقتصادي للعالم يبدأ بتقسيم سطح الكرة الأرضية بين البحر (71٪) واليابس (29٪) من مجموع مساحة قدرها 510 ملايين كيلومتر مربع.
والتقسيم الثاني يتخذ أساسا له الارتفاع والانخفاض عن مستوى سطح البحر. وبعبارة أخرى، هناك الأشكال الرئيسية التالية: الأرصفة القارية، السهول بأنواعها، الهضاب والجبال.
الأرصفة القارية
حقيقة أن خط الشاطئ يفصل بين الأرض والماء. ولكن دراسات الأعماق أكدت أن جزءا من اليابس يغوص تحت سطح البحر لمسافات كبيرة في بعض الأحيان، وقد سمي هذا القسم الرصيف أو الجرف القاري، وحدد بما هو أقل من 200 متر تحت مستوى سطح البحر، وبعد ذلك تبدأ الأعماق البحرية في الظهور.
ويتراوح عرض الرصيف القاري من منطقة إلى أخرى بين بضعة كيلومترات فقط وبين عشرات أو بضع مئات من الكيلومترات. وللأرصفة القارية أهمية كبرى منذ القدم: فهي أهم مراكز صيد السمك واستخراج الإسفنج واللؤلؤ.
وحتى في وقتنا الحاضر فإن أهم مراكز صيد الأسماك هي الأرصفة القارية، رغم ما أصبح للصيادين من إمكانيات عملية كبيرة ناجمة عن تقدم صناعة سفن الصيد وتجهيزها بالأجهزة اللاسلكية لتأمينها ضد أخطار العواصف المفاجئة. وإلى جانب صيد الأسماك فلقد ظهر مؤخرا وجه آخر من أوجه استغلال الأرصفة القارية؛ ذلك أنه قد أمكن استخراج البترول من عدد من الأرصفة القارية نذكر منها: مياه فنزويلا، ومياه الخليج العربي، وخليج السويس.
وربما تتفتح للعالم آفاق جديدة في استغلال الأرصفة القارية فيما بعد (المعادن مثلا)؛ مما يؤدي إلى تسابق الدول على مزيد من تحديد مياهها الإقليمية والمياه الاقتصادية لمنع دول أخرى من استغلالها.
السهول
على سطح الأرض نجد أن الارتفاع عن مستوى سطح البحر يختلف من مكان لآخر في القارات المختلفة، والعادة أن يبدأ التدرج من الساحل بمنطقة سهلية ترتفع باستمرار إلى الداخل؛ ولكن هناك بعض المناطق تضيق فيها السهول الساحلية إلى درجة كبيرة أو تشرف الحافات الصخرية فيها على البحر إشرافا مباشرا.
وقد أدت الاختلافات التضاريسية إلى ظهور عدد من الأشكال العامة على سطح القارات بعضها أصلح للسكن والاستقرار البشري والنشاط الاقتصادي من البعض الآخر.
وقد اتفق الكتاب على أن أصلح أشكال التضاريس للاستقرار والنشاط الاقتصادي هي السهول، وترتفع السهول عن مستوى سطح البحر إلى حوالي خط 200 متر، وإذا كان لهذه السهول استمرار سهلي على ارتفاعات أعلى سميت السهول العليا، وهذه ترتفع حتى حدود 500 متر فوق مستوى سطح البحر.
ويقدر أن 55٪ من مساحات القارات تشتمل على السهول والسهول العليا، ونصيب القارات من السهول مختلف، ولا شك أن أكبر القارات التي تتميز بطابع سهلي هي أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية. ففي أوروبا تحتل السهول حتى 200 متر ارتفاعا عن مستوى سطح البحر 57٪ من مساحة القارة.
وتشمل سهولها العليا 27٪ ويعني ذلك أن المناطق التي تقع تحت مستوى 500 متر فوق سطح البحر من القارة الأوروبية تساوي 84٪ من مساحة أوروبا الإجمالية.
ورغم أن في أمريكا الجنوبية سهولا أضخم من سهول أوروبا؛ فإن مجموع مساحة السهول والسهول العليا في أمريكا الجنوبية معا هي 69٪ من مجموع المساحة الكلية للقارة.
وهناك قارات أخرى تحتل فيها السهول مكانا صغيرا، ومن أوضح القارات في هذا المجال أفريقيا؛ فالسهول التي لا ترتفع عن 200 متر فيها تكون 15٪، وتلك التي لا ترتفع أكثر من 500 متر تكون 35٪ من مجموع مساحة القارة.
وترجع أهمية السهول إلى أن استواءها وتدرجها النسبي وانخفاضها عن الجبال، قد جعلها عادة المناطق التي تضم أجود أنواع التربة وأقلها تعرضا للجرف والتعرية، كما أنها تساعد على مد شبكات المواصلات السهلة الضرورية للنشاط الإنساني. وإذا كانت السهول تشكل أهم مناطق العالم من حيث الإنتاج الزراعي، فإن في عدد منها مصادر كبيرة للثروة المعدنية. وقد أدت السهولة وإمكانية الزراعة والتعدين إلى أن أصبحت السهول أهم مراكز النشاط البشري، وفيها تظهر غالبية مدن العالم الكبيرة.
وإذ وزعنا مناطق السهول الكبرى في العالم نجدها تمتد في أوروبا في صورة سهل كبير يبدأ من فرنسا وإنجلترا في الغرب، ويتسع شرقا إلى السهول الكبرى الروسية، ويمتد وراء جبال الأورال إلى سهول سيبيريا الغربية وتركستان.
هذا هو أكبر سهل متصل في العالم القديم، ويقابل ذلك في العالم الجديد السهول الوسطى العظمى في أمريكا الشمالية الممتدة من خليج المكسيك حتى المحيط المتجمد الشمالي، والسهول الوسطى العظمى في أمريكا الجنوبية الممتدة من البحر الكاريبي حتى سهول بتاجونيا. وتضم أستراليا أيضا سهولا واسعة وسطى تقسم القارة إلى قسمين؛ الأول: جبلي في الشرق، والثاني: هضبي في الغرب.
ولا تضم آسيا الشرقية والجنوبية مثل هذه السهول الواسعة الامتداد المتصلة ببعضها، بل إننا نجد سهول هذه المناطق من آسيا تنفصل عن بعضها بواسطة كتل عالية.
ومن أهم السهول المحلية سهل الصين العظيم وسهول سيام «تايلاند»، وسهل الهندوستان وسهول أخرى صغيرة في فيتنام والعراق. أما أفريقيا فهي أقل قارات العالم سهولا، ولكنها قد عوضت عن ذلك بظاهرة الأحواض المنبسطة العالية في داخلية القارة مثل حوض السودان الجنوبي وحوض الكنغو وحوض تشاد.
وأخيرا؛ فإن قارة القطب الجنوبي عبارة عن هضبة عالية لا سهول فيها، وكلها مغطاة بالجليد الدائم. (1-2) المناطق السلبية أمام السكن البشري
ليست كل مسطحات الأرض صالحة للسكن أو الإنتاج؛ فهناك عوائق نسميها سلبيات لا تساعد على انتشار الإنسان بكثافة أو إيجاد وسيلة حياة يمكن أن تنمو وتغني المكان، وليس معنى هذا أن مناطق السلبيات غير مأهولة أو غير منتجة، وإنما هي مأهولة بأعداد قليلة من الناس تكيفت على البيئة تكيفا يشبه التكيف الإيكولوجي للنبات أو الحيوان.
مثال ذلك: سكان الجبال العالية حيث ينخفض الضغط الجوي كثيرا ولا يطيقه سكان السهول، أو سكان البادية الذين احترفوا حياة الجفاف، فبات من الصعب على غيرهم أن يقلدوهم في مضامير حياة الصحارى.
والأقاليم السلبية تفتقد عنصرا حيويا هاما أو عدة عناصر معا، وهذه الأقاليم هي كما نتبينها من الشكل (
3-1 ): (1)
أقاليم البرد الدائم في شمال آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، وكلها تكاد ألا تكون صالحة للزراعة إلا بطرق علمية حديثة وفي مساحات معينة، وتدجين البذور على النمو في فترة قصيرة جدا.
شكل 3-1: المناطق السلبية أمام السكن البشري. (2)
أقاليم الجفاف الباردة (التندرا) والحارة (الصحارى الحارة والدافئة) والهضاب العالية كالتبت، وهذه الأقاليم تمتد في العالم القديم في محور من الشمال الشرقي في منغوليا إلى الجنوب الغربي حتى موريتانيا عبر الهضاب الإيرانية الأفغانية والصحراء العربية الأفريقية. ولولا أنه يخطها أنهار منابعها خارج الصحارى لكانت قفرا من كل شيء تقريبا؛ لكن الأودية النهرية المحدودة: سرداريا وأموداريا في وسط آسيا والفرات ودجلة والنيل في الشرق الأوسط ساعدت على تكييف حياة زراعية مستقرة كانت أولى مدنيات العالم. (3)
أقاليم الجبال لا تفتقد عنصرا حيويا واحدا بل عدة عناصر؛ منها البرودة في السفوح العليا والجفاف وعدم وجود تربة في السفوح الوسطى والفيضانات الجارفة في السفوح الدنيا، والصخر العاري، والبعض المستوي منه وشبه المستوي يسمح بنمو أعشاب قليلة صالحة للرعي. وفي الوديان السفلى استقر الإنسان بأعداد محدودة يحترف الرعي وزراعة الأعلاف، والجبال تمتد في سلاسل ضخمة في كل القارات عدا أفريقيا التي تتميز بكتلة هضبة الحبشة وحافات الأخدود الأفريقي. والجبال في المناطق الحارة مستحبة السكن، بينما هي غير مرغوبة في العروض الشمالية؛ لأنها تزيد من البرودة حدة. وعلى العموم؛ فالجبال سلبية بحكم أنها تمثل عقبة في الحركة والنقل لوعورتها، ومن ثم كان التجاء الناس قدر الإمكان للعيش في المناطق السهلية.
ولا يمنع ذلك من وجود استثناءات نتيجة لتلطف المناخ في الجبال المدارية والاستوائية ولوجود الكثير في الثروات المعدنية فضلا عن المراعي الجبلية والغابات، وكثرة وجود مساقط المياه التي تقام عليها محطات توليد الكهرباء مثل ما هو قائم في أوروبا وأمريكا بكثرة. (1-3) التربة والخصوبة الطبيعية
التربة عامل على جانب كبير من الأهمية في التأثير على الغطاء النباتي الطبيعي والمزروع، والتربة في حد ذاتها هي النتاج النهائي لتفاعلات عديدة أهمها: (1)
الصخر المحلي. (2)
الظروف المائية. (3)
النبات.
فعوامل التعرية الطبيعية تؤثر بشدة على السطح الصخري وتحول جزءه الظاهر إلى أجزاء صغيرة تتفاعل مع المطر أو الرطوبة الجوية أو الحرارة أو الجليد ... إلخ . ومع البقايا العضوية للنبات والحيوان بطريقة كيميائية وبيولوجية فتعطينا تلك الطبقة السطحية التي نسميها التربة. وتتراوح التربة في مدى سمكها فهي قد لا تبلغ بضعة أقدام في المناطق المعتدلة أو العروض الوسطى وعشرات الأقدام في المناطق الرطبة. وكلنا نعرف أن أهمية التربة راجع إلى أنها الطبقة التي ينمو عليها النبات، منها يغتذي ويحصل على الماء اللازم للحياة، وخصب التربة يرجع إلى تركيبها الطبيعي والكيميائي وعناصر الغذاء فيها وتخلخلها ومساميتها وغير ذلك من العناصر، وبعض أنواع التربات مفككة تجرفها الأمطار معها إذا ما فقدت الغطاء النباتي العشبي أو الشجري الذي يحميها، والبعض الآخر متماسك يصمد في وجه عوامل التعرية الطبيعية وقتا طويلا.
وهناك تربات تتجدد باستمرار كالتربة الفيضية أو البركانية؛ وبالتالي فإن التربة المتجددة لا تصل أبدا إلى مرحلة النضوج من حيث القدم والاستقرار، ولكن ذلك لا يؤثر بطبيعة الحال على خصوبتها. ولما للتربة من أهمية بالغة فإن هناك أقساما خاصة بالبحث والدراسة تركز نشاطها على التربة إما لزيادة الخصب وإما لتجنب جرف التربة ودراسة أنجح المحاصيل على أنواع التربات المختلفة، وقد اتفق العلماء على أن هناك أنواعا من التربة المتشابهة في مناطق مختلفة مما دعاهم إلى تقسيم عام للتربة، وأهم أنواع التربات ما يلي: (1)
التربة القطبية:
وهي قليلة السمك جدا وغير صالحة في الوقت الحاضر للزراعة. (2)
تربة البودزول
:
وتنتشر في الغابات المخروطية، وهي غنية بالمواد العضوية. (3)
التربة البنية
Brown :
وهي كثيرة الانتشار في المناطق الممطرة من العروض الوسطى. (4)
التربة السوداء
Chernozem :
وتربة البراري، وتكثر في المناطق العشبية من العروض المعتدلة، ولها شهرة عالمية بخصبها العالي (أوكرانيا - براري أمريكا الشمالية). (5)
التربة الصحراوية:
وهي رملية غير صالحة للزراعة في الوقت الحاضر. (6)
تربة اللاتريت
Laterite :
وتكثر فيها عناصر الحديد وتقل المواد العضوية وتنتشر في غالبية النطاق المداري. (7)
التربة الفيضية:
وهي من التربات الخصبة المتجددة، وتكثر في مناطق السهول النهرية. (8)
التربة البركانية:
وهي من أخصب تربات العالم في مناطق البراكين والطفوح البركانية.
موضوع الخصوبة الطبيعية والإنتاجية
توضح الخريطة (
3-2 ) الخصوبة الطبيعية للأرض، ويتضح منها أن التربات الرسوبية الهوائية «اللوس»، وخاصة في أوكرانيا وجنوب روسيا وغرب سيبيريا، وحوض الهوانجهو والسهول الوسطى الأمريكية والبمباس الأرجنتيني هي مناطق مؤهلة طبيعيا لخصوبة عالية؛ ومعنى ذلك أن أجزاء من العروض الوسطى هي الأخصب، أما نطاقات الجبال وأقاليم الجفاف والبرودة الشديدة فهي طبيعيا قليلة الخصوبة أو منعدمة؛ لأن شرطا طبيعيا غير متوفر مثل قصر فصل الإنبات لحد عدم إمكانية الزراعة، سواء كان ذلك هو البرودة المستمرة أو الجفاف المستمر. أما بقية الأقاليم فهي متوسطة الخصوبة إلى متدنية، سواء كان ذلك في النطاق المداري أو العروض الوسطى.
شكل 3-2: الخصوبة الطبيعية للأرض: (1) خصوبة عالية. (2) خصوبة متوسطة إلى منخفضة. (3) قليلة أو منعدمة الخصوبة.
أما خريطة الإنتاجية الزراعية (شكل
3-3 ) فتوضح تلاقيا واضحا نتيجة الخصوبة الطبيعية في مناطق كثيرة في شرق آسيا، وسهول روسيا، وأوكرانيا، وأمريكا، وشرق الأرجنتين، ولكن العوامل البشرية تلعب دورا في رفع الإنتاجية في أرض أصلا متوسطة أو متدنية الخصوبة طبيعيا.
شكل 3-3: الإنتاجية الزراعية: (1) إنتاجية عالية. (2) إنتاجية متوسطة. (3) إنتاجية منخفضة أو منعدمة.
وقد وضح ذلك في غرب أوروبا وشمال الهند وشرق الولايات المتحدة وجنوب الصين، والعوامل البشرية متعددة، ولكن على رأسها تحسن تقنية الزراعة والبذور واستخدام الهندسة الوراثية في اختيار البذور وتهجينها، وفضلا عن ذلك استقرار البنية التحتية وأداء السوق الداخلي والدولي، وكل ذلك في البلاد المتقدمة.
أما في الهند والصين؛ فإن كثافة السكان ربما كانت عاملا تاريخيا في تكثيف الزراعة التقليدية، ولكن تحسين البذور واستخدامات تقنية كثيرة قد ساعدت على ارتفاع الإنتاجية في الهند والصين ومصر. (2) العنصر البشري (2-1) نمو السكان العالمي
يعيش الآن على سطح الكرة الأرضية 5,7 مليار (1995) من البشر. فهذه الحقيقة المجردة قد لا تعني أكثر من دلالتها الضخمة إذا ذكرناها وحدها؛ لكن أهميتها ومخاطرها نتبينها من النظرة التاريخية إلى أعداد السكان في الماضي.
جدول 3-1: تقديرات وأعداد السكان (سنة 1850 = 100).
السنة
العدد بالمليون
نسبة التزايد
1650
550
46
1750
725
60
1850
1200
100
1950
2400
200
1995
5716
476
فإذا كان سكان العالم 100 سنة 1850 فإنهم كانوا أقل من النصف قبل ذلك بقرنين، وتزايدوا بعد قرن ونصف (1850-1995) بمقدار أربع مرات وسبعة أعشار؛ أي نحو خمس مرات. معنى هذا أن النمو تزايد ببطء أولا، ثم تسارع بشكل لا يكاد أن يكون له ضابط؛ فقد استغرق قرنا (1850-1950) ليتضاعف مرة واحدة، واستغرق نصف قرن ليتضاعف 2,7 مرة في الفترة من 1950-1995.
ويتوقع الديموجرافيون تزايد أكبر في العشرين سنة القادمة بحيث يصلون إلى نحو ثمانية مليارات عام 2022، هذا إذا لم تمارس الدول سريعة النمو ضوابط كاسحة لتقلل نسبة النمو من 2-3٪ إلى 1-2٪ فقط.
وقد يأتي يوم لا تستطيع تكنولوجيا إنتاج الغذاء مواصلة نمو إنتاج الغذاء لتقابل نسبة نمو سكان العالم. ولا بد لنا من أن نطور عاداتنا الغذائية فنقترب كثيرا من الهندوس آكلي النباتات فقط، بل وأن نطور زراعات بعض الأعشاب البحرية؛ لتكوين خمائر تكون أساس الغذاء المقبل. (2-2) التوزيع المكاني لسكان العالم
لا ينتشر الناس بدرجات أو كثافات متشابهة في أرجاء العالم، بل هناك مناطق غير معمورة لمعاداتها للسكن البشري الدائم ولنقص شروط إنتاج غذاء ما، كالصحارى الجافة والأقالنسبة المئوية من العمالة العامةاليم القطبية فضلا عن قارة أنتاركتيكا غير المأهولة إلا ببعض معسكرات للباحثين والعلماء يأتون موسميا إليها، وكذلك الجبال العالية ومناطق التندرا قليلة السكان جدا؛ إما لقلة ضغط الهواء، وإما لاستمرارية فصل البرد، الذي يمنع تولد النبات الذي هو أساس إيكولوجية الحياة الطبيعية (شكل
3-4 ).
ومقابل هذا نجد تركيزا كبيرا للسكان في أقاليم معينة كما توضحها الأرقام التالية: شرق آسيا 14400 مليون: الصين (1222 مليونا) اليابان (125) جمهورية الصين (تايوان) (21) كوريا الشمالية (23) كوريا الجنوبية (44) هونج كونج (5,6).
جنوب آسيا 1668 مليونا: الهند (936 مليونا) إندونيسيا (198) باكستان (141) بنجلاديش (115) فيتنام (71) الفلبين (67) تايلاند (58) ميانمار (برما) (45) ماليزيا (19) كمبوديا (10) لاووس (5) سنغافورة (3).
أوروبا 504 ملايين: ألمانيا (82) فرنسا (58) بريطانيا (58).
الأمريكتين 774 مليونا: الولايات المتحدة (263) البرازيل (162).
أفريقيا 728 مليونا: نيجيريا (112) مصر (63).
إقليم السوفييت السابق 293 مليونا: روسيا (147) أوكرانيا (51).
أوشينيا 28 مليونا: أستراليا (18).
بقية آسيا 348 مليونا: تركيا (62) إيران (68).
يتضح من هذا التوزيع ما يلي: (1)
54,3٪ من سكان العالم يتركزون في شرق وجنوب آسيا. (2)
أقل من نصف سكان العالم ينتشرون في بقية أجزاء العالم. (3)
وبالرغم من ذلك؛ فإن كثافة السكان إلى الأرض توضح أن هناك منطقتين كثيفتي السكان هما: شرق وجنوب آسيا من ناحية، وأوروبا من ناحية ثانية. وفيما بينهما توجد نقاط محدودة المساحة كثيفة السكان تتمثل في واحات وأحواض الأنهار في تركستان وإيران والمشرق العربي ، وخاصة وادي النيل ودلتاه في مصر. وفي خارج العالم القديم نجد مناطق محدودة من الكثافات السكانية العالية متمثلة في: شرق الولايات المتحدة، ومنطقة البحيرات العظمى الأمريكية الكندية، وحول المدن الكبيرة: سان فرانسسكو ولوس أنجيلوس ومدينة المكسيك وريودجانيرو وبيونس أيرس ومنتفديو وسانتياجو في الأمريكتين، وحول سدني وملبورن في أستراليا، وحول كيبتاون وجوهانسبرج ولاجوس في أفريقيا.
شكل 3-4: الصورة العامة لكثافة السكان في العالم.
ومن هذا التوزيع للكثافات السكانية يتضح أنها تزيد حول المدن الكبرى في العالمين؛ المتقدم والنامي، وفي السهول الزراعية التقليدية في الصين والهند والسهل الأوروبي العظيم، ومناطق جزرية ذات تربات خصبة واقتصاد وفير وعلى رأسها جاوه في إندونيسيا وجزر الفلبين وكوبا في الكاريبي.
ولا شك أن عدم التكافؤ في التوزيع العددي والكثافات السكانية راجع إلى مجموعتي العوامل الطبيعية والبشرية.
وللعوامل الطبيعية قوة لا تنكر في إمكانية السكن؛ فالصحراء والتندرا والغابات الاستوائية الكثيفة تساوي بيئات طاردة للسكن إلا بأعداد قليلة، والنمط الحضاري لدى المجتمعات المختلفة هو أهم عنصر بشري في إمكانية الحصول على الثروة الزراعية أو الصناعية من الأرض بطريقة أكثر أو أقل؛ ومن هنا الاختلاف بين الدول والشعوب المتقدمة وتلك في العالم النامي حيث الاختلاف مرده الأول اختلاف منسوب الحضارة المادية. (2-3) القوة العددية والنوعية للسكان
الإنسان في مجموعاته المختلفة السلالية واللغوية، وخاصة السياسية، مصدر طاقة هائلة؛ لأنه ببساطة العامل المحرك لجميع أعماله ونشاطاته الاقتصادية، وهكذا فالدول التي تتمتع بعدد سكاني أكبر تشعر بقوة أكثر من الدول الأقل سكانا، ومن أوضح الأمثلة المعاصرة الصين والولايات المتحدة؛ فرغم التفوق الضخم في التسليح الذي للولايات المتحدة؛ فإنها ما تزال مترددة وستتردد كثيرا في دخول صدام مباشر مع الصين، وذلك للتفوق الساحق الذي تملكه الصين في عدد سكانها؛ أي في مواردها البشرية.
ومثال آخر: فقد كانت فرنسا تخشى التفوق الألماني السكاني، وكان هتلر ومعاونوه يدركون أهمية القوة السكانية فكانت الدولة تشجع الأسر على زيادة أعدادهم بمختلف وسائل الترغيب المادية.
وليست قوة السكان كامنة في المقدرة العسكرية فقط، بل إن العدد الكبير من السكان يجعل في الإمكان التفوق في المنافسة الاقتصادية، فرغم الاختلاف السياسي بين أمريكا وبريطانيا وفرنسا واليابان من ناحية، والصين من ناحية أخرى، فإن هذه الدول تخطب ود الصين؛ لأنها تكون في الواقع سوقا لا نهاية له لاستهلاك المصنعات الأمريكية أو الإنجليزية أو الفرنسية أو اليابانية.
ومن ناحية أخرى؛ فإن عدد السكان الكبير يجعل في إمكان اليابان بأجور عمالها القليل - بالقياس إلى أجور العمال في أوروبا أو أمريكا - أن تنافس بنجاح عددا من الصناعات الأمريكية والأوروبية (أجهزة الإلكترونيات على سبيل المثال) لولا ما تكبل به الولايات المتحدة اليابان من معاهدات وحرب تجارية. (3) الغذاء (3-1) المصدر الأولي للغذاء
جاء في تقديرات لمنظمة الصحة الدولية أن مليارا من السكان يستهلكون عشرة ملايين من أطنان الغذاء سنويا، وفي تقدير «متنبئ الموارد للمستقبل»: أنه إذا ظلت الطاقة الشمسية والتوزيع المناخي العالمي على ما هو عليه الآن، فإن الحد الأقصى النظري لإنتاج المواد العضوية (النباتية) بواسطة التمثيل الضوئي هو مائة مليار طن سنويا. وقد انطلق هذا التقدير من النقاط الآتية: (1)
الشمس هي المصدر الأولي للطاقة، وتشع موجات من الطاقة الكهرومغناطيسية وجزيئات سريعة في الفضاء. (2)
حيث إن هذا الإشعاع يمثل كل الطاقة المتاحة على الأرض (باستثناء نسبة ضئيلة ناجمة عن تحلل العناصر المشعة في التكوين المعدني الأرضي) فإنه يمكن استخدامها لتقدير كمية الطاقة المتاحة للإنسان. وهكذا فإن كمية الخضريات التي تختزن الطاقة الشمسية بالتمثيل الضوئي هي مصادر الغذاء الأولية.
لكن المواد العضوية الجافة (= ناقص الرطوبة) ليست كلها مواد غذائية، وحتى النباتات المزروعة لا تؤكل كلها، بل ربما أقل من نصفها، وفي المراعي الطبيعية يجب أن نستخدم معامل 12 إلى 1 لتحويل الطاقة من النبات إلى الحيوان إلى الغذاء البشري.
وهكذا فإن أرقام الإنتاج يجب أن تهبط إلى حوالي مليار طن سنويا بدلا من تقدير «متنبئ الموارد للمستقبل» الذي بالغ إلى حد أن الإنتاج يمكن أن يصل إلى حدود مائة مليار طن!
وعكس ذلك يمكن رفع تقديرات هيئة الصحة العالمية السابقة بالنسبة لاستهلاك الغذاء؛ لكي نعوض الفاقد في عمليات كثيرة ربما بلغت 30٪ فاقدا قبل الحصاد و30٪ أخرى فاقدا لما بعد الحصاد، كما يجب أن نعوض الفاقد الناجم عن أن الإنسان لا يأكل كل أجزاء المحصول، فبعض أجزائه غير صالحة للغذاء البشري. وأخيرا لكي نعوض أيضا معامل تحويل الغذاء من النبات للحيوان للإنسان.
وواضح من هذه التقديرات والاجتهادات أن العمليات الزراعية ليست كالصناعة؛ فإن حساباتها معقدة لتداخل عناصر كثيرة من البذرة إلى التربة إلى المحصول إلى الحصاد إلى التخزين والنقل والبيع، ويرى البعض أن العمليات الزراعية كلها تعمل بكفاءة أقل من 15٪ من الحد الأقصى للقدارات الإنتاجية. (3-2) المساحة المزروعة عالميا
هناك تقديرات كثيرة عن المساحات التي يمكن زرعها على سطح الأرض؛ ففي 1930 قال الأستاذ فوست:
1
إن نحو 30٪ من مساحة الأرض يمكن أن تستزرع، وهذا قد يصل إلى نحو 4000 مليون هكتار (الهكتار = 2,5 فدان) تحت الزراعة! ورأى بيرسون وهاربر عام 1945
2
أن نحو ألف مليون هكتار أو نحو 7٪ من أرض العالم قابلة لإنتاج الغذاء؛ أي أقل مما هو مزروع حاليا.
ويقول كيللوج
3
عام 1950 إنه من المعقول أن 20٪ من أرض التربات المدارية غير المستغلة في أفريقيا وأمريكا والجزر الكبيرة مثل مدغشقر وبورنيو، يمكن استزراعها، وهو ما يعطينا نحو 400 مليون هكتار جديدة للزراعة؛ كما يرى أن الزراعة الحالية في تربة البودزول والتي توجد شمال النطاق المعتدل، يمكن أن نستزرع منها نحو 10٪ بدلا من الواحد في المائة الحالية، فإذا أمكن تنمية البنية الأساسية ووسائل النقل في هذه المناطق؛ فإن ذلك يعطينا نحو 120 مليون هكتار أخرى للاستزراع.
أما ددلي ستامب
4
فلم يحدد رقما نهائيا لإمكانات الاستزراع، لكنه بعد إنقاص مساحة المناطق شديدة البرودة أو شديدة الجفاف، أو تلك الجبلية الوعرة، فإن الباقي من سطح الأرض يساوي نحو 40٪ ويقول: يجب إنقاص مساحات أخرى من هذا المتبقى بسبب تربات فقيرة أو عدم وجود تربة صالحة، أو مناطق المطر الشديد الجارف.
وهذه الأرقام تمثل اجتهادات وليست دراسات معمقة مفصلة، إنما هي تأخذ في الاعتبار قضايا عامة في الأقاليم الجغرافية. والمستحسن دراسة كل إقليم على حدة، وأن نأخذ في الاعتبار أقاليم «كوبن» المناخية لما هو معروف من ارتباط وثيق بين الزراعة والمناخ.
ويرى روبنسون
5
في 1972 أن ستة مليارات من الهكتارات من سطح الأرض قابلة للزراعة؛ لكن نحو 1,3 مليار هي التي تزرع فقط، ويقدر أن الفرد يحتاج لغذائه نحو هكتار واحد، لكن المساحة المزروعة حاليا تعطي الفرد 0,6 هكتار، وهذا أمر فيه تفاوت كبير بين الشعوب ولو أمكن زراعة 6 مليارات هكتار لارتفع نصيب الفرد على أساس عدد السكان الحالي (قريبا من 6 مليارات نسمة) إلى نحو 1,6 هكتار.
ويوضح الرسم البياني رقم (
3-5 ) توزيع الاستخدامات الرئيسية على سطح الأرض «هيئة الفاو 1987»، ومنه يتضح أن الأرض المزروعة فعلا هي 11٪ من سطح الأرض، يليها 25٪ مراعي دائمة و31٪ غابات، والباقي استخدامات أخرى أو غير مستخدمة، وتساوي ثلث سطح الأرض.
شكل 3-5: استخدامات سطح الأرض اقتصاديا 1986.
التوزيع المكاني للمساحات المزروعة عالميا
يوضح الشكل (
3-6 ) كيف تتفاوت القارات في مساحة الأرض الزراعية. فقارة آسيا تستحوذ على نحو ثلث المساحات المزروعة عالميا، تليها أمريكا الشمالية ثم الاتحاد السوفييتي (السابق) ثم أفريقيا فأمريكا الجنوبية. وبرغم صغر مساهمة أوروبا من ناحية المساحة فإن إنتاجها كبير بسبب استخدام طرق الزراعة الحديثة؛ لدرجة أن الفائض كبير، وقد لا يجد سوقا. ففي فترة الثمانينيات وصف الإنتاج الزائد في بريطانيا بأنه بحيرات من الحليب وتلال من الزبد. وتخصصت بلاد أوروبية في منتجات معينة كاللحوم والجبن والدهون الحيوانية والنباتية والألبان منزوعة الماء ... إلخ؛ نتيجة الدعم الحكومي ودعم أجهزة السوق الأوروبية المشتركة لهذا الاتجاه الإنتاجي لتعويض ما كانت عليه أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية من اعتماد كبير على واردات زراعية وغذائية من بلاد العالم النامي «المستعمرات السابقة».
وتضع السوق المشتركة قيودا كثيرة الآن على واردات المنتجات الزراعية والأغذية من الدول النامية خوفا من انتشار آفات معينة. ولكن هذا لم يمنع من نمو أمراض في أوروبا أشهرها ما عرف أخيرا ب «جنون البقر» في إنجلترا. ومثل هذه الأشياء غالبا ما تحدث ولا تمثل نكسة على المسار الطويل، وإنما تزيد من المعرفة العلمية بعوالم الأحياء البيولوجية فيما بعد.
شكل 3-6: استخدام الأرض في قارات العالم 1986 بمليون هكتار.
وعلى العموم، فإن معظم بلاد العالم تحاول رفع إنتاجية الحقول باستخدام أنواع كثيرة من المخصبات، التي أصبحت تشكل نسبة كبيرة من تجارة العالم في الوقت الحاضر، وكذلك تسعى الدول إلى زيادة مساحة الأرض الزراعية بشق قنوات للري وإقامة السدود وبحيرات التخزين. وتتضح هذه الحقيقة من ارتفاع أرقام الأرض المروية في العالم كما يوضحها جدول (
3-2 ).
جدول 3-2: زيادة مساحات الزراعة المروية 1976-1986 (بمليون هكتار).
القارة
1976
1986
نسبة الزيادة ٪
العالم
194
227,5
117
أفريقيا
9,6
11
114
أمريكا الشمالية
24
25,5
106,2
أمريكا الجنوبية
6,7
8,4
125,4
آسيا
123,9
144
116,2
أوروبا
13,3
16,2
121,8
أوشينيا
1,6
1,8
112,5
الاتحاد السوفييتي
15,3
20,4
133,3
مجموع العالم المتقدم
51,8
61,8
119,3
مجموع العالم النامي
142
165,7
116,7
ويتضح من الجدول السابق أن آسيا هي الأولى في مساحة الأرض المروية، بينما أفريقيا وأمريكا الجنوبية ما زالت تحبو في هذا المجال، وأن الدول المتقدمة أقل من النامية باعتبار أن معظم الدول المتقدمة تقع في العروض المعتدلة ذات الأمطار الوفيرة والأنهار العديدة.
كفاية الغذاء
ليس عدد السكان وحده أو المنسوب التكنولوجي للشعوب هما العاملين المحددين لصفات سكان الدول، بل يجب أن نضيف عاملا ثالثا له مفعوله في قوة أو ضعف أداء السكان؛ ذلك هو مقدار ما يحصل عليه الفرد من غذائه من سعرات حرارية تساعد على القوة أو الضعف الجسدي للإنسان. وتوضح الخريطة (
3-7 ) توزيع السعرات الحرارية الإجمالية (الناجمة عن الغذاء البروتيني النباتي والحيواني والسكريات ... إلخ).
ومنها يتضح تفاوت ملحوظ بين مناطق الوفرة التي تزيد فيها السعرات عن 2500، ومناطق النقص والجوع التي تقل فيها عن ذلك. وواضح أن الوفرة تتركز أساسا في العالم المتقدم في شمال وجنوب القارات عدا جنوب آسيا ووسط أفريقيا حيث تتدنى السعرات إلى أقصاها في نطاق يمتد من السودان إلى ناميبيا، وترتفع نسبيا في غرب وشرق أفريقيا وفي جنوب آسيا.
شكل 3-7: الغذاء: السعرات الحرارية، مناطق الوفرة والجوع.
والوفرة والجوع لا يرتبطان بكمية غذاء معينة فقط، بل أيضا بنوعية الغذاء. فقد تكون الكمية كبيرة من نوع قليل السعرات، بينما غذاء مماثل الكمية متنوع الأطعمة يعطي نتائج أفضل.
وقد ينجم الجوع في أماكن أصلا متوسطة أو حدية السعرات، ولكن كوارث طبيعية كالفيضان والسيول والزلازل، أو كوارث الحروب، سواء كانت محلية أو خارجية، هي التي تسبب الجوع وتؤدي فعلا إلى وفيات كثيرة بسبب الجوع الفعلي؛ وذلك كما يحدث دائما في بنجلادش حيث تسبب الفيضانات غرق جانب من المحاصيل، وبخاصة الأرز، أو الحرب الأهلية في رواندا وبورندي أو الجفاف في أثيوبيا وإقليم الساحل الأفريقي جنوب الصحراء الكبرى، أو حرب لبنان أو البوسنة ... إلخ.
ويترتب على ذلك ليس فقط عدم توفر الأطعمة، بل هرب الناس وتكدسهم كلاجئين في أماكن داخل الدولة أو خارجها يكتظ بها الناس، وفي مثل هذه الحالات تتضافر جهود الأمم المتحدة وبعض الدول الغربية على إرسال معونات غذاء عاجلة وتدبير مأوى مؤقت لأولئك الذين فروا من ديارهم وأصبحوا مباءة لأمراض قاتلة.
ويرى الكثير من الخبراء أن المشكلة الحقيقية تكمن في سوء توزيع الغذاء العالمي، أكثر منها مشكلة إنتاج واستهلاك، ويعني هذا أن فائض الغذاء لدى دول معينة يمكن أن يوازن قلة الغذاء في بلاد أخرى، لكن في المقابل نجد جدلية أخرى مقولها: لماذا تطعم الدول الغنية دولا فقيرة؟ وبالتالي هناك توجهات في بعض دول أوروبا وأمريكا إلى التراجع في المساحات المزروعة، أو مزارع الحيوان لكي لا يكون هناك فائض كبير؛ علما بأن هذه الدول تدفع دعما لتثبيت الأسعار عن حقيقتها؛ حتى لا يتأثر دخل الفلاح وتصبح هناك فجوة في الدخل بين الريف والمدن.
وهكذا نرى أن المشكلة متشعبة؛ فهي ليست فقط قلة إنتاج الأغذية في بلاد الجوع، بل هي مشكلة فقر أساسي في هذه الدول تجعلها غير قادرة على التنمية الغذائية بالشكل الضروري؛ فهناك إذن دورة فقر، تؤدي إلى تخلف إنتاجي، تؤدي إلى نقص الغذاء.
ولا يقتصر الأمر على تلك الدورة في بلاد العالم النامي الفقيرة، بل هناك مدخلات سياسية بين الدول الغنية والفقيرة، بين مساعي الأمم المتحدة التي تتسم بالإغاثة الإنسانية في بعض أشكالها وبين الاستراتيجيات العالمية التي تقودها الدول الكبرى من بين الدول المتقدمة، بمسعى عام للسيطرة العالمية أو على الأجزاء الهامة استراتيجيا من العالم.
مثال ذلك: صراعات القوى في البحر المتوسط والخليج العربي على البترول، وحركة نقله عبر السويس إلى البلاد الجائعة للبترول في أوروبا. وصراع القوى الغربية والشرقية - سابقا - على نفس المنطقة مما أدى إلى تفعيلات كثيرة في السياسات الداخلية والخارجية لدول المنطقة، ومن بينها سياسة تأمين واردات الغذاء. (4) النظم الاقتصادية والحضارية
النظم الاقتصادية هي باختصار القوالب التي تحدد نوع النشاط الإنساني في مجال استغلال الموارد الطبيعية، وتتقرر أشكال هذه النظم داخل النسيج المتشابك الذي يخلقه الإنسان كجماعة، ويعيش داخل ما يقره هذا النسيج من قواعد وقوانين وأنظمة وعادات وقوالب سلوكية وتربوية وأنماط خلقية، وهذا النسيج هو ما نسميه باختصار «المضمون الحضاري».
وبما أن الأنظمة والمبادئ الاقتصادية هي جزء من المضمون الحضاري لأي شعب أو مجموعة بشرية، في أية مرحلة من مراحل النمو والتطور؛ فإن النظم الاقتصادية تتأثر بهذا المضمون وتؤثر بدورها في المضمون الحضاري.
وأهم ما يتأثر به النظام هو التقدم التكنولوجي الذي يؤدي إلى إحداث تطورات كمية تدريجية باستمرار في النشاط الاقتصادي، ويؤدي أيضا في أحيان أخرى إلى إحداث ثورات في النظام الاقتصادي ككل، وهو ما نسميه بالتغيير الكيفي. هذه التغيرات الكيفية هي التي أدت إلى اختلاف النظم الاقتصادية في العالم على مر الزمن. ورغم أن التطور الكمي التدريجي ذا فائدة كبرى في تحسين الإنتاج، فإنها فائدة لا تدرك إدراكا فوريا؛ ولهذا فإن دراستها تحتاج إلى إسهاب كبير. أما التغيرات الكيفية فهي أظهر أنواع التغير، وجعلت من النظم الاقتصادية مراحل تاريخية ليست بالتأكيد محتمة الوقوع في كل جهات العالم، وإنما حدثت في مناطق معينة، ومنها انتشرت إلى مناطق أخرى في أزمنة متفاوتة.
وعلى الرغم من أن هناك اختراعات قديمة كان لها صدى وتأثير واسع في تغير النظم والمبادئ الاقتصادية، نذكر منها اكتشاف النار، صهر المعادن، اكتشاف العجلة، اكتشاف البارود، وأخيرا اكتشاف الطاقة النووية، فإنه رغم أهمية ذلك فلقد عاشت النظم الاقتصادية والحضارية انقلابين خطيرين أثرا تأثيرا كيفيا على الحياة والنشاط الاقتصادي البشري، هذان هما اكتشاف الزراعة واستئناس الحيوان من ناحية، واكتشاف طاقة البخار من ناحية ثانية، وهما ما نسميهما بالانقلابين الزراعي والصناعي.
وعلى ضوء هذين الاكتشافين الخطيرين يتفق كل العلماء على أن الإنسانية من مهدها إلى يومنا هذا قد مرت بثلاثة أنماط اقتصادية تسمى كل مرحلة منها بأهم نشاط فيها. وهذه هي:
أولا:
نمط الجمع والصيد.
ثانيا:
نمط الزراعة.
ثالثا:
نمط الصناعة.
ولا يعني هذا بالضرورة - كما سبق القول - أن كل الجماعات البشرية قد مرت في هذه المراحل أو الأنماط الثلاثة بحيث نجد كل المجموعات المعاصرة في مرحلة الصناعة، ويوضح شكل (
3-8 ) الأنظمة الاقتصادية المعاصرة على سطح الأرض.
شكل 3-8: أشكال الحياة الاقتصادية المعاصرة: (1) اقتصاديات متقدمة. (2) الحضارة الزراعية الشرقية. (3) الرعاة. (4) زراع الجبال. (5) زراع ورعاة. (6) زراع. (7) زراعة بدائية. (8) صيادون متخصصون. (9) صيادون وجماعون أوليون. (4-1) نمط الجمع
في عالمنا المعاصر جماعات ما زالت تعيش في عزلة جغرافية أدت بها إلى استمرار حياة قوامها الجمع، وهذه هي ما نسميها اليوم الجماعات البدائية، والحقيقة أن عدد هذه الجماعات محدود جدا. ومن الأمثلة على ذلك الإسكيمو في شمال أمريكا، والصيادون في تيرا دل فيجو وأقزام أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وجماعات أخرى متفرقة في جزر المحيط الهادي وأدغال أسام وغير ذلك من مناطق العزلة. وإذا وزعنا أماكن هؤلاء البدائيين على خريطة العالم لراعتنا المساحة الكبيرة التي يحتلونها، ولكن هذه المساحات في الواقع لم تظهر بعد أهميتها للعالم الصناعي إلا في صور محدودة - اكتشاف بعض موارد الثروة الصناعية مثل صحراء كلهاري والماس - ولكنها بلا شك تكون احتياطيا للزحف الاقتصادي العالمي إذا ما اشتدت الأزمة السكانية والغذائية والمعدنية. ومع كبر مساحة الأراضي التي يحتلها البدائيون إلا أن أعدادهم ضئيلة جدا. ومن أوضح الأمثلة على ذلك أن الإسكيمو يحتلون إقليما يمتد من جرينلاند إلى شرق سيبيريا يبلغ طوله قرابة عشرة آلاف كيلومتر، ومع ذلك؛ فإن كل عددهم لا يتجاوز خمسين ألفا، بل حسب الإحصائيات الدقيقة 43 ألفا فقط. والأمثلة المماثلة كثيرة.
ويقوم هؤلاء البدائيون بنشاط اقتصادي منوع، ولكن كله ينطوي تحت ثلاثة أقسام: أولها: جمع الثمار والنباتات التي تنمو بريا. والثاني : صيد الحيوان البري. والثالث: صيد الأسماك والحيوانات البحرية «مثل عجل البحر أو الحوت». والغالب أن جماعات صيد الأسماك والحيوانات البحرية جماعات متخصصة في هذه الحرفة، ولا بأس من جمع النباتات كعمل ومورد غذائي إضافي تقوم به النساء غالبا. وفي جماعات الصيد البري؛ فإن الرجال يتخصصون في عمليات الصيد الخطيرة، هذا بالإضافة إلى صيد أسماك نهرية إذا وجدت مصادر قريبة، وتقوم النساء بجمع النباتات. ومن الطبيعي أن مثل هذا النشاط غايته الحصول على الغذاء فقط، وبالكاد يفلحون في ذلك. ومن ثم فإن دراسة نشاط هذه الجماعات لا يدخل في نطاق دراستنا لصعوبة الحصول على أية أرقام، وتهم دراستها علوم إنسانية أخرى كالإنثروبولوجيا الحضارية أو تاريخ النظم الاقتصادية. (4-2) نمط الزراعة وتربية الحيوان
أما الزراعة فقط كشف عنها في الشرق الأوسط، ويرجع تاريخ أقدم كشف عن الزراعة إلى حوالي الألف الثامنة ق.م في قرية أريحا على نهر الأردن، وقد تكون هناك مناطق عرفت الزراعة قبل أريحا، ولكن البحث لم يهتد إليها، وفي مصر والعراق وإيران كانت الزراعة أحدث نسبيا، بين 6000 و5000ق.م وفي حوض السند أحدث من ذلك. وربما كانت في الصين حوالي 4000ق.م وفي الدانوب وأوروبا الوسطى بين 4000 و2000ق.م وفي أمريكا الوسطى حوالي 2000ق.م.
ومع الزراعة عرف الإنسان استئناس الحيوان، وبذلك حدث تغيير جذري في حياة الجماعات التي عرفت الزراعة ومارستها، وأهم نواحي التغيير ما يلي:
أولا:
لم يعد الاقتصاد مجرد اقتصاد جمعي - أي قائم على نتاج الطبيعة من نبات وحيوان وأسماك دون التدخل في هذه العمليات - بل أصبح الاقتصاد يقوم على الإنتاج، وبعبارة أخرى التدخل البشري والتحكم - إلى حد كبير - في مصدر الغذاء نباتيا كان أم حيوانيا.
ثانيا:
لم تكن فكرة التخزين قائمة في اقتصاديات الجمع، ولكن لإن المحصول الزراعي عبارة عن محصول واحد خلال العام، فقد ظهرت فكرة التخزين لكي يتاح للمزارعين أن يستهلكوا المحصول خلال العام كله؛ لأنه لم يكن في الإمكان إنبات محصول آخر في الماضي، حيث تعتمد الزراعة على المطر أو فيضان الأنهار فقط دون أن تظهر فكرة تخزين المياه لزراعة محصول ثان.
ومع فكرة التخزين ظهرت أهمية علوم البناء والحساب ودراسات الفلك، وظهور التقويم لتحديد مواسم الزراعة، وغير ذلك من العلوم التي تعتبر الآن الأصول الأولى لمعارفنا العلمية الحديثة كما حدث في مصر وبلاد الرافدين.
ثالثا:
إن الانصراف إلى الزراعة وقتا طويلا من العام وضرورة الإجادة في فنونها قد أدى إلى ضرورة التجمع في أماكن ثابتة، وبناء مساكن ثابتة في مناطق الحقول.
ونظرا لإن المجتمع قد زاد عدد أفراده نتيجة للوفرة والغنى النسبي عن مجتمع الصيد؛ فإن الروابط بين أفراد التجمع السكني الواحد قد أصبحت أكبر من أن تتسع لها رابطة الدم التي تحكم أعضاء مجتمع الصيد القليل العدد في تنظيماته العشائرية. ومن ثم أصبحت الأسرة أهم دعامة للمجتمع الزراعي تليها الروابط الاقتصادية التي تجمع أفراد القرية معا ضد غيرهم من أهالي القرى المجاورة أو الرعاة المجاورين.
رابعا:
كان نتيجة التخصص الإنتاجي ظهور طبقة مهمتها الدفاع عن المنتجين، وأدى هذا في النهاية إلى ظهور أمراء الحرب وبداية الدولة السياسية كما عرفها التاريخ في مصر الفرعونية، ودول العراق (سومر، آشور، بابل)، ومدن اليونان المستقلة، وروما وفارس والصين ... إلخ.
خامسا:
نظرا لظروف طبيعية معينة؛ فقد تخصصت جماعات بشرية في الرعي، وكان ذلك في مناطق الحشائش في وسط آسيا ونطاقات الحشائش المدارية، بالإضافة إلى الرعي في النطاق الجاف الممتد من الصحراء الكبرى الأفريقية إلى منغوليا. ومع هذا التخصص انقسم العالم إلى قسمين حضاريين متعارضين: الأول: الزراع المستقرون الذين يعيشون في ظل الحماية العسكرية لجيوش منظمة وأسوار وحصون وقلاع. والثاني: الرعاة المتنقلون مع الكلإ والماء، والذين يرتبطون فيما بينهم برباط الدم في صورة القبيلة والعشيرة وأقسامها. والذين تربطهم بالزراع المستقرين علاقة إيجابية في معظم الأحيان وسلبية في أحيان أخرى. والعلاقة الإيجابية هي التبادل التجاري المستمر فيما بين النوعين الاقتصاديين. أما العلاقة السلبية فهي الحرب التي كانت تظهر في صورة غارات صغيرة من الرعاة على أطراف مناطق الزراعة في صورة شبه دائمة أو الغزوات الرعوية الضخمة التي تحطم الدول وتثير الفوضى في نظام الاقتصاد الزراعي المستقر. ومن أوضح الأمثلة على الغزوات الكبيرة غزوات المغول الرعاة التي انتهت مرة بسقوط إمبراطورية الصين، ومرة أخرى بسقوط الدولة الإسلامية في العراق، وفي مرة ثالثة بتأسيس إمبراطورية المغول في الهند.
ولقد انكسرت شوكة الرعاة مرات عدة في خلال التاريخ، وكذلك في الوقت الحاضر لا تظهر للرعاة شوكة قوية إلا في مناطق محلية محدودة جدا من العالم، وقد جاء ذلك نتيجة لجهود السياسة المعروفة باسم «تثبيت أقدام البدو» أي جعلهم مستقرين بخلق نظم اقتصادية مستقرة «كالزراعة أو الرعي الحديث في مزارع أو العمل في التعدين أو الصناعات أو حرس الحدود.»
وقد صادف الاتحاد السوفييتي نجاحا كبيرا في هذه السياسة، ولكن ذلك لا شك جاء نتيجة سياسة القمع التي مارستها روسيا القيصرية قبل نشوء النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي السابق، وكذلك نجحت السعودية في تهدئة البدو منذ عصر الملك عبد العزيز.
ومن المناطق القليلة في العالم التي ما زال فيها الاضطراب السياسي يعتمد على التقسيم الاقتصادي والحضاري الرعوي والزراعي منطقة كردستان، ولكن علينا أن نتذكر أن الثورات الكردية في هذه المنطقة، وإن ارتبطت بنموذج الأكراد الرعوي في الحضارة إلا أن المسألة يذكيها في الوقت الحاضر تيارات سياسية كردية تدعو إلى إنشاء دولة قومية للأكراد منذ أواسط هذا القرن، وبالمثل نفسر الصراع بين الهوتو والتوتسي في رواندا وبورندي.
وقد دخلت على الزراعة والرعي منذ نشأتهما تطورات كمية عديدة انتهت إلى تقسيم هاتين الحرفتين في وقتنا الحالي إلى أقسام عدة أهمها:
أولا: في مجال الزراعة (1)
الزراعة البدائية أو المتنقلة:
وهي التي تمارس الآن في النطاق المداري من أفريقيا، ولا تعرف هذه الزراعة المخصبات أو تربية الماشية إلا في صورة محدودة، ومن ثم فإن على المزارع أن ينتقل من حقله إلى حقل آخر مرة كل خمس أو ست سنين بعد أن يزرعه زراعة مستمرة تفقد فيها الأرض خصوبتها. والإنتاج هنا هو للاستهلاك المحلي دون فائض يذكر، ولا يمكن دراسة هذا النوع من النشاط كما هو الحال في اقتصاديات الجمع والصيد ضمن مجالات الجغرافيا الاقتصادية، وإنما مجاله علوم اجتماعية أخرى. (2)
الزراعة الكثيفة أو زراعة المحراث:
وهذه نشأت في أودية الأنهار المتجددة خصبها مثل سهول: العراق، والنيل، والصين، والهند، أو في مناطق التربة الخصيبة والمطر الوفير مثل سهول ووديان أوروبا، وتتميز هذه الزراعة أولا باستخدام المحراث الخشبي الذي تطور إلى المحراث الآلي فيما بعد. وتتميز أيضا بعدم الانتقال من حقل لآخر نظرا لتجدد الخصب بواسطة الفيضان أو بواسطة المواد العضوية المتخلفة عن الحيوانات. وتتميز من ناحية أخرى بتربية الحيوان والاستفادة من ألبانه ومنتجاته، ومنه كأداة من أدوات العمل الزراعي؛ مما ساعد على تنوع في الغذاء النباتي والحيواني، وساعد على زيادة الرفاهية، ومعظم دول العالم القديم المجيدة قامت على هذا النوع من الاقتصاد الزراعي والحيواني المستقر. وظل هذا هو النمط الاقتصادي السائد حتى نشوء الصناعة، وما زال يوجد في أكثر مناطق العالم سكانا في أوروبا وشرق وجنوب آسيا والشرق الأوسط.
وهذا النوع من النشاط يمكن دراسته إلى حد بعيد لوجود إحصاءات وأرقام عن الإنتاج في غالبية الدول التي تعيش عليه، وقد أخذت معظم الدول الزراعية بعدة مبادئ بعد الانقلاب الصناعي والتطور العلمي الحديث. ومن جراء ذلك زادت رقعة الأرض المزروعة، وزادت إنتاجية الفدان وأمكن التوسع الرأسي بواسطة إنشاء الخزانات والترع، وأصبحت مساحات كبيرة من هذا النوع من الزراعة تنتج محاصيل تجارية، وأهمها القطن والأرز والشاي والبن ... إلخ.
وتمر مناطق الزراعة الكثيفة في العالم بتقلبات سياسية وأيديولوجية بعد احتكاكها الشديد بالعالم الصناعي، وبعد أن أخذت عنه، ليس فقط مبدأ الإنتاج التسويقي العالمي، بل طرائق الحياة الصناعية ماليا وسياسيا وإداريا وبعض أساليب الحياة الاجتماعية التي تميز العهد الصناعي. ومن أهم هذه النواحي الاجتماعية انكماش الوحدة الاجتماعية من العائلة الممتدة (الجد والأبناء والأحفاد وحدة اجتماعية مالية) إلى الأسرة بمعناها الضيق (الوالدين والأبناء غير العاملين) فضلا عن الملكيات الصغيرة والتي لا تسمح بتنمية زراعية حديثة وكبر أحجام القرى والمدن؛ مما يؤدي إلى كثافة سكانية عالية.
وهذه التقلبات ليست أمرا سهلا كما حدث في بلاد أخرى من العالم، إنما هي مسألة غاية في التعقيد نظرا لعمق الجذور التاريخية وتأصلها في شعوب الزراعة الكثيفة، وبالتالي تماسك البناء الاجتماعي على قواعد اقتصادية بدأت في التخلخل والاهتزاز.
ولهذا فإن أحداث العالم الخطيرة التي نعاصرها ليست في الواقع التسلح النووي وثورات أمريكا اللاتينية، بل هي الثورة الاقتصادية الاجتماعية في الصين، وإندونيسيا، والهند، والصدامات العسكرية في جنوب شرق آسيا، والشرق الأوسط، والثورة الاجتماعية والسياسية نحو التكامل العربي في آسيا وأفريقيا. (3)
الزراعة الواسعة:
وهذه تظهر فقط في نطاقات الأرض السهلية الضخمة ذات السكان قليلي الكثافة، وبعبارة أخرى تظهر في العالم الجديد: سهول كندا والولايات المتحدة، البرازيل والأرجنتين وأستراليا. كما تظهر أيضا، ولكن على ضوء سياسة مغايرة في سهول أوكرانيا وسيبيريا الغربية والتركستان. وأهم ما يميز الزراعة الواسعة كثرة استخدام الوسائل الآلية في إعداد الحقل وزرعه وجني المحصول وتعبئته. ولكن لمثل هذه الأرض مشكلات مماثلة لمشكلات الزراعة الكثيفة من حيث تأمين الماء وتوفير المخصبات ومحاولة رفع إنتاجية الفدان والتوسع الرأسي والأفقي ... إلخ.
ولكن لا تظهر بها مشكلات أخرى خاصة بالزراعة الكثيفة مثل: الازدحام السكاني، ومشاكل سوء التغذية، والمشكلات الاجتماعية الأخرى المترتبة على التزام التقاليد، واستمرار وجود الأسر كبيرة العدد التي تكون وحدة اقتصادية متكاملة مهما كان العدد، ولا تظهر بها أيضا تنوعات محصولية في مساحات صغيرة نتيجة للملكيات الفردية المفتتة. بل إن الزراعة الواسعة تعتمد على زراعة محصول واحد في مساحات شاسعة. ولذلك فمن أهم مشكلاتها تسويق المحصول الضخم الذي يحتاج إلى صوامع لتخزينه وسكك حديدية في صورة شبكة لنقل المحصول إلى مدن الاستهلاك الرئيسية وتثبيت الأسعار في شكل إعانات حكومية حتى لا يقل الدخل الريفي كما في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
ثانيا: في مجال الرعي (1)
الرعي التقليدي:
وهذا لا يزال ساريا في معظم المناطق المتخلفة، وأهم مجال له نطاق الأعشاب في المناطق المدارية من أفريقيا، بالإضافة إلى رعاة المناطق الجبلية في وسط وغرب آسيا وشمال غرب أفريقيا، ورعاة النطاق الصحراوي في أفريقيا وآسيا. ومعظم الإنتاج الرعوي التقليدي لا يدخل ضمن النشاط الاقتصادي الدولي إلا في صورة محدودة: مثلا: بعض إنتاج الصوف أو الجلود أو الألبان والأجبان.
وينطبق ذلك خاصة على مثل هذا النشاط في وسط أوروبا بصفة خاصة ومناطق جبلية أخرى بصورة عامة، أما في مناطق الحشائش المدارية الأفريقية والصحراوات الأفروآسيوية؛ فإن المبدأ السائد في الرعي هو العدد لا النوع؛ ذلك أن النظام الحضاري لمثل هذه الجماعات كان يجعل لرءوس الماشية قيمة النقود في مجتمعنا المعاصر؛ وبالتالي فعدد الرءوس ثروة مجمدة يتزوج بها الأفراد ويدفعون الغرامات التي تقررها المحاكم القبلية، مثل: الدية أو التعويض بسبب القتل الخطأ، وبمقدار ما يملك الشخص من رءوس الماشية يرتفع قدره في المجتمع.
وعلى ذلك؛ فإن الثروة الحيوانية عند هؤلاء الجماعات تختلف في حقيقتها عن مفهوم الثروة المستغلة كامل الاستغلال، فلا لحمها يؤكل إلا في مناسبات دينية وطقسية ولا يستفاد من لبنها عن طريق تحويله إلى منتجات الألبان المعروفة، بل يشرب فقط دون تحويل، وجلودها تستخدم في نواح نفعية محدودة.
وخلاصة القول: إن قيمة هذه الثروة الحقيقية أقل بكثير من عددها لضعف الحيوان وقلة وزنه، ولإصابة الجلود بأمراض تجعل استخدامها فيما تستخدم فيه من أغراض معاصرة أمرا صعبا. ولا أدل على ذلك من أن في أفريقيا قرابة 181 مليونا من رءوس الماشية لا يدخل منها في الإنتاج الحديث سوى عشرين مليونا على أكثر تقدير في مزارع المستوطنين الأوروبيين في أفريقيا الجنوبية وبعض مناطق الإنتاج المحلي في أفريقيا المطلة على البحر المتوسط ومصر.
وبما أن عدد الماشية في العالم قرابة 1277 مليونا، فمعنى ذلك أن حولي 14٪ من الثروة العالمية من الماشية في أفريقيا لا تستغل الاستغلال الواجب.
وثمة مثل صارخ آخر: فالهند تشتمل على 199 مليونا من رءوس الماشية وحدها، وحالة ماشية الهند كحالة ماشية أفريقيا التقليدية، ويرجع ذلك إلى نظرة التقديس التي يعطيها الهندوس للأبقار، فلا يذبحونها ولا يفيدون منها بل يتركونها تمرح وتتوالد وتضعف وتهزل.
وبذلك فإن 15٪ من ثروة العالم من الماشية بلا قيمة تذكر في الهند، ولا أدل على ذلك من أن متوسط وزن لحم البقرة
6
في الهند 80 كيلوجراما وفي النيجر 115 كيلوجراما، بينما هي في جنوب أفريقيا 222 كيلوجراما، وفي نيوزيلندا 180 كيلوجراما، وفي الولايات المتحدة 279 كيلوجراما، وفي النمسا 274 كيلوجراما، وتبلغ أقصاها في بلجيكا 308 كيلوجرامات.
ولا شك أنه يمكننا أن نجد داخل الرعي التقليدي نوعين أساسيين: الأول: هو الرعي التقليدي البحت، كما هو واقع عند الجماعات الرعوية في النطاق المداري الأفريقي والآسيوي، والثاني: هو ما نجده من تربية للحيوان في مناطق الجبال الأوروبية من ناحية ومزارع السهول الأوروبية من ناحية ثانية. والنوع الثاني يدخل في مجال استغلال الثروة على أحسن الوجوه الحديثة، بل إن بعض مناطق هذا النوع - كما هو الحال في النمسا وسويسرا والدانمرك وهولندا وبلجيكا - قد تصل فيها العناية بالحيوان درجة أكبر من نظم الرعي الواسعة التي سنجدها في العالم الجديد. (2)
الرعي الواسع أو الحديث:
وهذا النوع يظهر بوضوح في بلاد العالم الجديد بالإضافة إلى مناطق معينة في الاتحاد السوفييتي السابق دخلتها أنظمة هذا النوع من الرعي.
وهكذا يتفق الرعي الواسع في مناطق وجوده إلى حد كبير مع القارات التي تمارس الزراعة الواسعة. وهناك أنواع عديدة لأنظمة الرعي الواسع يتفق كل منها مع ظروف معينة تنتظم عليها طريقة الرعي.
ومن أهم أسس الاختلاف في هذا الميدان نوع الحيوان؛ فرعي الخنازير في الولايات المتحدة يختلف في تنظيماته عن رعي الأغنام في أستراليا.
وكذلك فإن نوع الحشائش والظروف الطبيعية تظهر كأساس آخر لاختلاف شكل الرعي، فتربية الماشية في الأرجنتين تختلف عن مثيلها في الاتحاد السوفييتي، وأخيرا تؤثر الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في شكل الإنتاج وسوق التصريف، وذلك بالإضافة إلى عامل التخصص في نوع ما من أنواع الحيوان.
مثال ذلك: تربية أنواع معينة من المرينو (يسمى كاراكول) في جنوب أفريقيا من أجل الصوف، أو توجيه أصواف أستراليا إلى بريطانيا.
ومن جراء ذلك؛ فإن الرعي الواسع يقوم على أسس علمية متخصصة، ويختلف بذلك عن الرعي التقليدي في معظمه في ظاهرة هامة هي عدم الهجرة الموسمية الحيوانية من مكان إلى آخر، بل إن الرعي الحديث يقوم على أساس توفير الغذاء الحيواني في مناطق معينة وذلك بزراعته، ومن أوضح الأمثلة على ذلك زراعة الذرة في الولايات المتحدة التي تتجه في غالبيتها إلى مزارع الحيوان.
وأهم ما يميز الرعي الواسع اتجاهه إلى السوق، سواء من حيث اللحم أو الألبان أو الصوف أو الجلود بحيث يتم استغلال الحيوان استغلالا كاملا. (4-3) نمط الصناعة والخدمات
في أواخر القرن الثامن عشر ظهرت إلى العالم الثورة الصناعية، وكان مهد هذه الثورة بريطانيا، وفي الربع الثاني من القرن التاسع عشر انتشرت إلى فرنسا، وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت قد أصبحت النظام الاقتصادي السائد في ألمانيا والسويد والولايات المتحدة وإيطاليا وروسيا واليابان، واليوم تنتشر الصناعة في بقية أجزاء العالم بخطى سريعة، وبالمقارنة بانتشار الزراعة؛ فإن الصناعة قد انتشرت بسرعة تبلغ أضعاف سرعة انتشار الزراعة، والسبب في هذا - بلا شك - راجع إلى أن متطلبات إنشاء الصناعة بشرية أكثر منها طبيعية؛ فطالما وجدت الخامات المعدنية أو الزراعية، فإن في الإمكان إقامة المصنع الملائم طالما توفرت الأيدي العاملة المدربة ورأس المال وسوق الاستهلاك، هذا بالإضافة إلى تقدم وسائل المواصلات، وتبادل المعلومات في عهد انتشار الصناعة، عن بداية الزراعة، وارتفاع الرصيد العالمي من الخبرات والمعارف النفعية العلمية (التقدم في الطب والهندسة والعلوم والجيولوجيا ... إلخ).
وتنقسم الصناعة إلى أقسام أهمها الصناعات الثقيلة والصناعات الخفيفة، ويمكن أن نقسمها مرة أخرى على أساس إنتاج السلع الاستهلاكية من ناحية والسلع الإنتاجية أو الآلات من ناحية ثانية.
ولقد أدت الصناعة إلى إحداث تغير جذري في التركيب الاجتماعي والسكاني في المناطق التي دخلتها، وكان أكبر مظاهر هذا التغير التركز السكاني الشديد في المدن، والهجرة من الريف إلى المدينة، وانتقال مركز الثقل في أعمال الناس من الزراعة إلى الصناعة، ولا أدل على ذلك من أن 80٪ من السكان كانوا يعملون بالزراعة في العالم في منتصف القرن 18 وقد أصبحوا الآن قرابة 40٪ فقط. وما زالت الدول الزراعية في العالم تتسم بنسبة كبيرة من الذين يعملون في الزراعة مثل باكستان 47٪، الهند 66٪، تايلاند 62٪، المغرب 34٪، مصر 33٪، بينما انخفضت هذه النسبة بصورة ضخمة في الدول الصناعية. ففي اليابان 5٪ يعملون بالزراعة، وفي النمسا 7٪، وجمهورية التشيك 7٪، وفرنسا 5٪، وألمانيا 3٪، وفي كندا 3٪، وفي الولايات المتحدة 3٪، وفي بلجيكا 3٪، وفي بريطانيا 2٪، والواضح أن نسبة العاملين بالزراعة في انخفاض مستمر (قارن ذلك بالطبعة الثالثة من هذا الكتاب).
7
ومن المميزات الهامة للصناعة أن نقطة التقاء عوامل الصناعة جميعا: العمال، رأس المال، الإدارة، الطاقة المحركة، الخامة، نقطة الالتقاء هذه هي مكان محدود جدا من سطح الأرض، هذا المكان هو المصنع، وبالتالي؛ فإن مساحات جميع مصانع الأرض لا تحتل سوى مناطق غاية في الصغر بالقياس إلى المساحات الضخمة من سطح الأرض التي يشغلها النطاق الزراعي أو الرعوي أو الغابي، ومع هذا الصغر المتناهي فإن الصناعة تحتوي على تركز سكاني لا مثيل له إلا في مناطق الزراعة الكثيفة القديمة في وادي النيل الأدنى والشرق الأقصى. كما أن هذا الصغر المتناهي ينتهي بسوق ضخمة تغمر في مساحتها مسطح الأرض جميعا أو تكاد أن تكون كذلك.
ولذلك فإن مناطق الصناعة - رغم صغر مساحتها - تكون أقاليم متميزة، بل عوالم لها صفاتها الخاصة الاجتماعية والاقتصادية، فمثلا منطقة الرور في ألمانيا أو برمنجهام في بريطانيا أو بتسبرج في الولايات المتحدة لا تساوي إلا مساحات صغيرة جدا من مجموع مساحات ألمانيا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة، ومع ذلك فلقد أدى نشوء هذه العوالم الجديدة إلى نشوء فروع وأقسام جديدة تماما في المعارف الإنسانية، فعلم السكان المدني وعلم النفس الصناعي أمثلة قليلة على مدى الإضافات الحديثة للعلوم الإنسانية إذا ما تركنا كل العلوم التجارية والهندسية والقانونية المترتبة على نشوء الصناعة جانبا.
وفوق كل هذا؛ فإن الصناعة قد سببت أو كانت فعلا المحرك الحقيقي لنشوء نظرية جديدة كل الجدة على العالم هي التي صاغها كارل ماركس وتلاميذه، وانتهت إلى تقسيم العالم إلى معسكرين عالميين؛ المعسكر الاشتراكي الذي يتغير تحت سمعنا وبصرنا، والمعسكر الغربي بما فيه من اتجاهات تحاول أن تكسب المعركة ضد الاشتراكية بوسائل شتى تبدأ من الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية في تقارب أصبح واضحا في أوروبا الشرقية بصفة خاصة.
وكما بدأت الصناعة في صورة مقدمات الصناعة في خلال العصور التاريخية منذ نشأة الزراعة الكثيفة: احتياج الإنتاج إلى أدوات ظلت تتطور من الخشب إلى المعدن، واحتياج الدول الزراعية إلى أسلحة تدفع بها عن نفسها غارات الجيران أو تتسع على حسابهم، واحتياج السكان المستقرين إلى بيوت دائمة بدلا من الأكواخ أو الخيمة؛ فإن ميدان الخدمات قد بدأ بداية مبكرة في العصور الوسطى الأوروبية والإسلامية؛ متمثلا في صور أولية من الأعمال البنكية والتأمين والتسليف.
وقد زادت هذه الخدمات في الفترة التي تلت الكشوف الجغرافية وتراكم الثروة في أوروبا نتيجة شحن الذهب والفضة وغير ذلك من المعادن والجواهر من العالم الجديد إلى إسبانيا وهولندا وبريطانيا وفرنسا، وعدد من بيوت المال العالمية المعاصرة ترجع في أصولها إلى بضعة قرون خلت مثل بنك روتشلد في فرنسا.
ولقد زاد قطاع الخدمات في العالم بعد الصناعة زيادة كبرى، وأخذت أشكاله قواعد علمية وصبغات دولية؛ فالبنوك وشركات التأمين أحد مظاهر هذا التطور الحديث في عالمنا المعاصر مرتبطة بمراكز عالمية لإعادة التأمين أو بنوك مركزية.
ومع تطور علاقات الدول وازدياد النشاط التجاري وترابط السوق العالمية، ظهرت إلى الوجود حاجات جديدة تدخل في قطاع الخدمات، ومن أهم هذه الخدمات التعليم والصحة والمواصلات، وأخيرا انتشار التخاطب العالمي بواسطة اللاسلكي وأجهزة الراديو والتليفزيون والصحافة والأقمار الصناعية.
ومع الضغط الشديد الذي تفرضه الحياة المعاصرة أصبحت السياحة والاصطياف جزءا لا يتجزأ من حياة الإنسان، مما اقتضى نمو هذا النوع كجانب هام من الخدمات، هذا فضلا عن الخدمات المرتبطة بالتسويق والإنتاج كجمعيات التعاون التي تطورت إلى حركة التعاون الزراعية والصناعية وبورصة الأسعار واتحادات الصناعات وغير ذلك. (4-4) الزراعة ومفهوم التخلف
لقد ارتبطت الزراعة في المفهوم السياسي والشعبي في معظم جهات العالم في الوقت الحاضر بالتخلف الاقتصادي؛ فالدولة التي لا توجد بها صناعة تسعى جاهدة لإقامة الصناعة داخل أراضيها، ولا شك أن سبب هذا الاندفاع نحو الصناعة مرتبط بحركات التحرر من الإطارات الاحتكارية الصناعية الكبرى التي بدأت بالاستعمار في صوره الأولى في القرون الثلاثة الماضية، وانتهت بتجمعات دول الصناعة في صورة أسواق احتكارية كبرى من أهمها وأوضحها السوق الأوروبية المشتركة.
ومما لا شك فيه أن المجتمع الريفي، حتى في أكثر دول العالم تقدما من الناحية التكنولوجية، له مميزات مختلفة عن مجتمعات المدينة للدرجة التي أدت إلى استخدام مصطلح فلاح أو مزارع مرادفا للتجمد والمحافظة أو التخلف.
ورغم إن ذلك المفهوم قد انتقل من المجتمع الصناعي الرأسمالي إلى بدايات تكوين النظرية الماركسية وتطبيقاتها الأولية في الاتحاد السوفييتي والصين، فإن الماركسية والاشتراكية في صورها العديدة (باستثناء الأحزاب الاشتراكية في دول أوروبا الغربية والوسطى) قد أضافت الفلاحين إلى العمال في حزمة ثورية واحدة، ولا شك أن ذلك مرتبط أساسا بدور الفلاحين الثوري الذي اتضح خلال الحرب العالمية الثانية (في يوجسلافيا السابقة ودول شرق أوروبا والاتحاد السوفييتي السابق) وفي الصين وجنوب شرق آسيا (الذي يتكون السواد الأعظم من سكانها من الفلاحين، وقلة قليلة من العمال في صناعات محدودة)، وكذلك في جهات أخرى من العالم (كوريا وأمريكا اللاتينية وأجزاء من العالم الغربي).
ولا يعني ذلك التطور زوال الفوارق بين المجتمعين الريفي والصناعي المديني زوالا تاما، ولكن لا شك في أن انتشار وسائل النقل والإعلام وتصنيع الزراعة و«تصنيع الفلاح» أيديولوجيا، والتبادل السكاني بين الريف والمدينة نتيجة ازدياد السكان يساعد على التقريب بين المجتمعين الريفي والمدني.
ويبدو أن الفلاحين في مناطق كثيرة قد بدءوا يعبرون الخط الفاصل بين مجتمعي الريف والمدينة، ولكن الانتقال التام قد لا يحدث إطلاقا لاختلاف نمط السكن ونوع ومكان العمل وأدوات الإنتاج والسلعة المنتجة.
هوامش
القسم الثاني
جغرافية الإنتاج الحيوي
الفصل الرابع
السماكة والموارد المائية
(1) مفهوم الموارد المائية
تتمثل الموارد المائية في قسمين أساسيين هما: (1)
الموارد النهرية. (2)
الموارد البحرية.
والقسم الأول على جانب كبير من الأهمية وهو يضم الأنهار والبحيرات العذبة، والحقيقة أنه من أهم الموارد جميعا، فمنه يستقي الناس وبدونه لا حياة بشرية ولا إنتاج زراعي ولا حياة حيوانية.
ومصدر الموارد النهرية - بلا شك - هو البحر والمحيط؛ فمنه تتبخر المياه، ثم تسقط في صورة مطر بعضه يؤدي إلى إشباع حاجة النبات والحيوان والإنسان مباشرة، وبعضه يشبع هذه الحاجة بطريق غير مباشر في صورتين أساسيتين هما: المياه العذبة الجارية «البحيرات والأنهار» والمياه العذبة الجوفية (التي تظهر أحيانا في صورة ينابيع طبيعية وفي أحيان أخرى في صورة آبار حفرها الإنسان).
ونظرا لهذه الأهمية للموارد المائية العذبة (في صورة مطر أو مياه سطحية أو جوفية)، فإنه لا يمكن دراستها إلا في داخل تفاعلاتها مع الظروف الحياتية الأخرى التي تنتج في النهاية الغطاء النباتي والحيواني والحقول المزروعة على سطح الأرض.
وبتقدم الفكر الإنساني أصبح للموارد العذبة أهمية أخرى تتمثل في تخزين المياه من أجل غرضين قد يكونا معا الهدف من إنشاء السدود وقد يكون أحدهما فقط هو الهدف. والغرضان هما:
أولا:
تنظيم المياه كاحتياطي لإمكان الزراعة في مواسم الجفاف أو للتوسع الزراعي.
ثانيا:
رفع منسوب الماء في مكان ما من النهر من أجل إيجاد مسقط صناعي للماء لإدارة التوربينات المولدة للطاقة الكهربائية. ويظهر الغرض الأول من السدود في المناطق الجافة حيث تدعو الحاجة إلى تنظيم تصريف الأنهار وتكوين احتياطي للزراعة. أما الغرض الثاني فأوضح ما يكون في المناطق الجبلية التي تخلو من مصادر الطاقة الطبيعية (الفحم أو البترول)، ولكن النمو الصناعي في الدول المتخلفة (ومن قبل في الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة) قد جعل الغرضين هدفا أساسيا من إقامة المنشآت الهندسية على الأنهار، ومن أهم الأمثلة على ذلك سد أسوان الذي أقيم عام 1902 من أجل تخزين المياه لاحتياجات الزراعة المصرية. وفي الخمسينيات من هذا القرن عدل سد أسوان بحيث أصبح يولد الطاقة إلى جانب كفاية احتياجات الزراعة. وفي الستينيات أنشئ السد العالي في أسوان أيضا، من أجل الغرضين معا.
وإلى جانب أهمية الموارد المائية العذبة كمياه للشرب والزراعة ومصدر للطاقة، فإن الأنهار والبحيرات كانت دائما مصدرا من مصادر الغذاء الأساسية منذ القدم: الأسماك.
وما زالت أسماك المياه العذبة تكون جانبا هاما في إنتاج الأسماك العالمية، ولكن في الوقت الحاضر اتجهت الدول - نتيجة للدراسات - إلى ما يسمى بمزارع الأسماك، وهي تعنى بتربية الأسماك في بحيرات صناعية، ومراقبة نموها، وتوفير غذائها، وكل ذلك على أساس أساليب علمية لها نتائج على أكبر جانب من الأهمية بعد انتشارها في كثير من دول العالم.
وكما سبق أن قلنا : فإن تعدد نواحي النشاط المرتبط بمصادر المياه العذبة يجعل هناك استحالة معالجتها كوحدة كاملة إلا بارتباطها بموضوع هذا النشاط؛ فمثلا لا يمكن معالجة أهمية الأنهار في الزراعة إلا مع النشاط الزراعي، أو أهمية الأنهار كمصدر للطاقة إلا بالارتباط بمصادر الطاقة العالمية الأخرى لبيان تناسبها مع المصادر الأخرى.
وكذلك؛ فإن أهمية الأنهار كمصدر للأسماك يجب أن تعالج ضمن نشاط صيد الأسماك البحرية والنهرية معا أو معالجتها مع موضوع النقل باعتبار الأنهار وسائل للنقل الداخلي، وهذا هو بالضبط ما سنفعله.
أما الموارد البحرية فهي في الوقت الحاضر أقل تعددا في صور استغلالها من مصادر المياه العذبة؛ فإن كان كلاهما يستغلان في النقل وصيد الأسماك؛ فإن هناك أوجها أخرى من صور استغلال البحر ما زالت قيد البحث؛ فمثلا استغلال طاقة المد والجزر أو استغلال التيارات البحرية وما تنطوي عليه من اختلاف في درجات حرارة المياه، أو الاستفادة من قوة الأمواج كمصدر للطاقة، وأخيرا الاستفادة من البحر في صورة زراعة أنواع من الطحالب المعينة التي يعدنا العلم بتحويلها إلى خمائر قد تساعد على حل مشكلة الغذاء للسكان المتزايدين في العالم.
كل هذه صور من أوجه استغلال البحر ما زالت قيد البحث العلمي، وبعضها تعدى ذلك إلى المرحلة التجريبية مما قد يطمئن الإنسان على أن ذلك المسطح المائي الشاسع من سطح الكرة الأرضية (المحيط يشغل 71٪ من سطح الكرة الأرضية) قد يكون ذا فائدة أو قد يكون احتياطيا ضخما للإنسان بحاجياته المتعددة المتزايدة.
وفوق كل هذه الاحتمالات؛ فإن هناك وجها آخر من أوجه الاستفادة من البحر تنتظره المناطق الجافة من العالم بفارغ الصبر؛ ذلك هو تحويل الماء المالح إلى ماء عذب بواسطة الطاقة، وهو ما يعرف باسم تحلية مياه البحر.
لن يحقق هذا المشروع مصدرا لمياه الشرب في الصحارى فقط، بل إن إنتاج الماء العذب على صورة تجارية من البحر قد يساعد على زيادة رقعة الزراعة في المناطق الصحراوية غير البعيدة عن مسطحات البحار، وإن كانت تكلفة ذلك ما زالت عالية بحيث يرتفع سعر الماء كثيرا . (2) صيد الأسماك
حتى الآن ما زال النقل وصيد الأسماك هما أهم أوجه استغلال البحر، أما الأسماك فتكون مصدرا من مصادر الغذاء؛ لقد تضاعف إنتاج الأسماك منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية؛ ففي عام 1938 كان مجموع إنتاج الأسماك العالمي 20 مليون طن متري
1
زاد 44,8 مليون طن متري عام 1964، وقفز إلى 101 مليونا عام 1993،
2
ورغم هذا التضاعف في الإنتاج والاستهلاك؛ فإن الأسماك ما زالت تكون مصدرا قليل الأهمية بالمقارنة باستهلاك مصادر غذائية أخرى أشيع من السمك، مثال ذلك القمح والأرز اللذان بلغ إنتاج أولهما 564 والثاني 524 مليونا من الأطنان عام 1993.
3
صيد الأسماك من الشواطئ البحرية حرفة قديمة، ولكنها في الوقت الحاضر تطورت وأصبحت تستخدم أساليب حديثة جدا؛ مما يجعلنا - في دراسة إنتاج الأسماك - نترك جانبا الإنتاج المحلي الصغير في كثير من شواطئ الدول، والذي ينتقل إلى الاستهلاك المباشر في المناطق الداخلية القريبة.
وبهذا فإننا سنركز الكلام على الصيد التجاري في المناطق الغنية بالأسماك، والذي أصبح صناعة قائمة بذاتها؛ نتيجة استخدام الوسائل الآلية في الصيد والتعليب والتجميد، ويستهلك في أسواق بعيدة تماما عن مصادر استخراجه.
وثمة ملاحظة أخرى قبل البدء بالدراسة هذه هي: أن استخدامنا لكلمة صيد الأسماك لا تعني فقط الأسماك بشكلها البيولوجي المعروف، بل تشمل إلى جانبها القشريات مثل الجمبري «قريدس» والإستاكوزا «لوبستر» والكابوريا «السرطان» من بين أنواع عديدة للقشريات، كما تشمل الأصداف البحرية لما في داخلها من غذاء محبوب عند بعض الناس، وأخيرا تشمل الحيوانات المائية التي نعد من بينها الحوت والدرافيل وعجل البحر وفيل البحر ... إلخ. (3) التوزيع الجغرافي لأهم مصايد الأسماك
شكل 4-1: مصايد الأسماك.
إن نظرة واحدة إلى خريطة مصايد الأسماك توضح لنا أهم مراكز الصيد التجاري العالمي التي يمكن أن نلخصها فيما يلي:
أولا:
سواحل وبحار غرب أوروبا الممتدة من ساحل إسبانيا الشمالي إلى ساحل النرويج والبحر الأبيض الشمالي، في شمال روسيا من ناحية، وإلى أيسلندة من ناحية ثانية.
ويشتمل على عدد من المناطق الرئيسية لصيد السمك تسمى الشطوط، وأهم هذه الشطوط دوجربانك في وسط بحر الشمال، وشطوط جزر فارو «شمال إنجلترا» وشطوط جزر لوفوتن «شمال النرويج»، بالإضافة إلى مسطحات الماء الهامة في بحر المانش وبحر البلطيق وخليج بسكي وبحار أيرلندا بارنتس.
ثانيا:
سواحل شرق أمريكا الشمالية الممتدة من خليج المكسيك حتى لبرادور، وتشتمل على عدد من الشطوط الهامة، نذكر منها جراند بانك وشطوط سن بيير وسابل وجورج، وكلها بين بوسطن ونيوفوندلاند.
ثالثا:
سواحل شرق آسيا الممتدة من الصين إلى اليابان إلى كمتشكا. وتشتمل على مناطق هامة للصيد نذكر منها بحر اليابان والبحر الأصفر.
رابعا:
مصايد بيرو وشيلي التي انتقلت منذ الستينيات إلى منطقة صيد عالمي جيد من حيث الكمية، وليس النوع.
ويلي ذلك مناطق أخرى للصيد أقل أهمية من المناطق الثلاث الأولى، وهذه هي:
خامسا:
سواحل البحر المتوسط وسواحل المغرب على الأطلنطي والبحر الأسود «جنوب أوروبا».
سادسا:
سواحل غرب أمريكا الشمالية من ألسكا حتى كاليفورنيا.
سابعا:
بحار الفليبين وإندونيسيا والملايو وسيريلانكا والهند «جنوب وجنوب شرق آسيا».
ثامنا:
مصايد أستراليا الشرقية وميلانيزيا.
تاسعا:
السواحل الجنوبية الشرقية لأمريكا الجنوبية في مصايد أروجواي والأرجنتين.
عاشرا:
مصايد جنوب أفريقيا.
وبالإضافة إلى هذه المصايد البحرية يجب علينا أن ندرس أيضا أهم مراكز صيد الأسماك من المياه العذبة؛ أي الأنهار والبحيرات.
4
وسبب دراسة هذه المصادر ضمن المصادر البحرية أن هذا هو المجال الوحيد لدراسة هذا النوع من الثروة بدلا من أن نفرد له بابا خاصا، هذا بالإضافة إلى أن الإحصائيات غالبا ما تدمج الإنتاج من كلا النوعين العذب والمالح معا.
وأخيرا؛ لأن أنواعا من الأسماك التي تصاد في المياه العذبة تقضي بعض وقتها في المياه المالحة في فترة من دورة حياتها، وفيما يلي أهم مراكز صيد المياه العذبة التي تدخل أيضا ضمن الصيد التجاري:
أولا:
مصايد جنوب شرق أوروبا، وأهم الأنهار التي يمارس فيها الصيد التجاري هي الدانوب، الدنيبر، الدون، الفولجا.
ثانيا:
مصايد البحيرات العظمى في أمريكا الشمالية وبعض بحيرات كندا.
ثالثا:
مصايد السلمون في غرب كندا وشمال غرب الولايات المتحدة؛ وقد كان لهذه المنطقة أهمية خاصة في الماضي، حيث كانت تنتج 70٪ من سلمون العالم في أوائل القرن الحالي.
رابعا:
مصايد ألسكا، وسيبريا، واليابان؛ وهذه تتخصص في السلمون، وقد حلت محل مصايد غرب كندا وأصبحت تنتج الآن ما يوازي 75٪ من سلمون العالم.
خامسا:
مصايد شرق آسيا؛ وخاصة أنهار الصين العظمى وأنهار جنوب شرق آسيا، وهذه المصايد تكون مصدر غذاء كبير للسكان المزدحمين في هذه المنطقة يعوض عن نقص في الغذاء الحيواني.
وإلى جانب هذه المناطق الرئيسية، هناك مناطق صيد المياه العذبة المحلية التي لا يدخل معظمها في التجارة الدولية، ومن أهم هذه المناطق الأنهار المدارية الضخمة مثل الأمازون وروافده في أمريكا الجنوبية، ومصب المسيسيبي في الولايات المتحدة والكنغو في أفريقيا.
وأهم مصدر لأسماك المياه المالحة هو بلا جدال مناطق الأرصفة القارية والشطوط غير العميقة في البحار الباردة نوعا. «الشط هنا لا يعني خط الساحل أو منطقة الساحل إنما
Bank
يعني منطقة من قاع البحر مرتفعة عما حولها، ولكنها مغمورة بالمياه.»
وبحار المنطقة الدافئة غنية بأنواع عديدة من السمك على عكس البحار الباردة التي تفتقر إلى التنوع، ولكنها غنية عدديا؛ وبالتالي فهي من الناحية التجارية أهم من أسماك البحار الدافئة، ومن الأسماك ما لها مسار للهجرة الواضحة، خاصة تلك التي تعيش في المناطق الباردة. ولهذه الأسماك مناطق للتوالد تهاجر إليها ثم تبدأ الدورة بعودة الأسماك الصغيرة إلى المناطق الباردة، وحركة الهجرة هذه تسهل عملية الصيد في مواسم معينة. وقد كان الصيد قديما قريبا من الشواطئ الساحلية وبدخول البخار إلى السفن توغل أسطول الصيد العالمي إلى داخل البحار والمحيطات حيث توجد أماكن غنية بالسمك، وكان ذلك التغير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ وكان من جراء ذلك أن مصايد أيسلندة وبحر بارنتس «شمالي النرويج وروسيا» طغت على مصايد بحر الشمال، وكذلك امتد نفوذ صيادي نيوانجلند إلى مصايد نيوفاوندلاند ولبرادور. وعلى هذا النحو امتدت المصايد إلى أواسط شمال المحيط الهادي وإلى المحيط الجنوبي، وأصبح صيد السمك حرفة تستغرق كل وقت المشتغلين بها، وأصبح قطاعا له أهميته في الاقتصاد العالمي الحديث.
والحركة الموسمية للأسماك تثير بعض المشكلات غير المعروفة للوقت الحاضر، مثلا التغيرات الطفيفة في الملوحة والحرارة في الماء تؤدي إلى تغير فجائي في اتجاه الأسماك، ومن أوضح الأمثلة على ذلك أن السردين وهو أهم سمك في سواحل ومصايد البرتغال، قد اختفى فجأة من المياه البرتغالية بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت النتيجة كارثة مالية في البرتغال، وفي الوقت ذاته زاد السردين في سواحل المغرب.
وكان سمك الباكلاه
Cod
هو أهم صيد تجاري في أوروبا لقرون طويلة، ويصاد هذا السمك في بحر الشمال وحول جزر لوفوتن في شمال النرويج بين يناير وأبريل، ويتأخر الموسم إلى ما بين مايو ويونيو في المناطق التي تقع إلى الشمال من النرويج، وعلى أساس موسم الصيد تجد القرى الساحلية تعج بالحركة أو تكاد تكون مهجورة. ومعظم الصيد يعلب أو يملح أو يجفف أو يجمد من أجل الحفظ.
وقد سمى البرتغاليون نيوفاوندلاند ولبرادور باسم أرض الباكلاه
Tierra de Bacalao ؛ نظرا لأنهم كانوا يصطادونه من هذه المياه لأجيال طويلة، وفي حوض البحر المتوسط يقبل الناس على الأسماك المملحة والمجففة كنوع من لذائذ الطعام بينما هي في البرتغال تكون الغذاء الأساسي للسكان.
والبحر المتوسط عامة فقير في الأسماك، ويحصل سكان إيطاليا وإسبانيا على الأسماك غالبا من ألمانيا أو خليج بسكي، كما أن الأسماك المحفوظة اليابانية والنرويجية والواردة من أمريكا الشمالية أصبحت تباع في كل مكان.
وفي المناطق المدارية تتكاثر الأسماك كما في المناطق الأقل حرارة، وعلى الأخص على السواحل الغربية للقارات حيث تؤدي التيارات الباردة نوعا، القادمة من النطاقات الباردة إلى الشمال والجنوب من النطاق المداري، إلى تلطيف درجة حرارة الماء «تيار همبولت في أمريكا الجنوبية، تيار بنجويلا في أفريقيا الجنوبية الغربية وتيار كناريا في سواحل المغرب والصحراء الغربية، وتيار أستراليا الغربي.» وعلى العموم؛ فإن مصايد المناطق المدارية ما زالت قليلة الأهمية وأدوات الإنتاج فيها أقرب إلى البدائية، وأهمية هذه المصايد ترجع إلى أن إنتاجها يستهلك في المناطق القريبة.
ونظرا لأن الصيد البحري موسمي الإنتاج في غالبيته، فإن أسواق الأسماك في غالبيتها موسمية أيضا، مثلها في ذلك مثل أسواق الزهور، وتباع الأسماك المصادة في حلقات ومزادات على الشاطئ، ثم تصدر إلى الداخل بواسطة قطارات السمك وشاحنات معدة لهذا الغرض.
ولقد كانت الحيتان مصدرا هاما للزيوت والشحوم الصناعية ولحاجة الاستهلاك البشري أيضا. وتعد منتجات الحوت هذه مسئولة عن 10٪ من تجارة الزيوت والشحوم العالمية في الوقت الراهن.
وكان المحيط الأطلنطي أهم مصدر لصيد الحوت، وبالتدريج انتقل مركز ثقل صيد الحوت إلى مناطق أخرى، وخاصة المحيط الجنوبي الذي كان إنتاجه عام 1910 يساوي 50٪ من الحوت، وفي 1930 أصبح نصيبه 90٪ من جميع صيد الحيتان في مختلف بحار العالم. وقد أدت القوانين الدولية إلى إنقاص الحيتان التي تصاد من المحيط الجنوبي بحيث لا تزيد عن 60٪ من مجموع الكمية المصادة من العالم.
ويتم صيد الحيتان بواسطة وسيلتين: الأولى من مراكز على الشاطئ تبدأ منها السفن وتعود إليها، والوسيلة الثانية سفينة مصنع ومعها سفن الصيد الصغيرة. والوسيلة الثانية أسرع وتأتي بنتائج أطيب؛ لأن مركز التموين والشحن متحرك مع سفن الصيد.
وأول دول العالم في صيد الحيتان هي اليابان التي أخذت تنافس بريطانيا والنرويج منذ 1948، وأصبحت لها الصدارة حتى أوائل السبعينيات، وفي موسم 1958-1959 كان لليابان 53 مركزا شاطئيا لصيد الحيتان، و23 سفينة مصنع و416 سفينة صيد تعمل كلها في مختلف بحار العالم، وبلغ مجموع الصيد في ذلك الموسم 64,169 حوتا، وتلى اليابان النرويج ثم بريطانيا. وفي موسم 1974 انخفض الصيد إلى 31627 حوتا كان نصيب الاتحاد السوفييتي 15266 حوتا، واليابان 10095، ثم بيرو 1812، وجنوب أفريقيا 1817 حوتا. وفي عام 1982 هبطت الأعداد المصادة إلى 1611 حوتا فقط (اليابان 57٪، أيسلندة 22٪، الاتحاد السوفييتي 10٪). وكانت اللجنة الدولية لصيد الحيتان قد قررت وقف صيد الحيتان تماما اعتبارا من 1988 خوفا من انقراض الحيتان، ويبدو أن الدول التزمت بهذا القرار.
جدول 4-1: تطور الإنتاج العالمي من الأسماك.
السنة
الإنتاج مليون طن
السنة
الإنتاج مليون طن
1938
20
1975
69,5
1960
33,5
1984
82,7
1968
64
1993
101,2
يتضح من هذه الأرقام أن هناك اتجاها مستمرا للزيادة في إنتاج الأسماك عالميا، والملاحظ أن النمو في إنتاج السمك ربما كان هو المحصول الأول الذي يتصدر نمو باقي محاصيل الغذاء؛ فقد تضاعف الإنتاج مرتين ونصف المرة خلال خمسة عشر عاما من 1954-1968، وهي نسبة نمو ليس لها مثيل في أي محصول غذائي آخر في العالم، وربما جاء ذلك نتيجة انتهاء الحرب العالمية والتطور الكبير الذي حدث في سفن ووسائل الصيد.
أما فترة النمو الثانية (1968-1993) أي 25 عاما، فقد تضاعف فيها الإنتاج بمقدار 163٪. وهذا يعني أن هناك حدودا للنمو مهما بلغت وسائل الصيد من تكنولوجية حديثة.
هذا فضلا عن أن منظمة الفاو في اجتماع دولي عقدته عام 1995 أوصت بتخفيض كمية صيد السمك وتخفيض أساطيل الصيد، مع الاهتمام بإقامة مزارع سمكية في أنحاء العالم.
ولكن هذا التقدم السريع في كمية الإنتاج لم تقابله زيادة مماثلة في قيمة السمك، راجع إلى أن كميات كبيرة من الزيادة في الإنتاج السمكي، تتمثل في صيد أسماك ذات قيمة منخفضة، تصنع وتستخدم كغذاء حيواني. وسيجيء شرح ذلك فيما بعد.
وعلى أية حال؛ فإن الزيادة في الكمية والقيمة العامة للإنتاج العالمي من الأسماك تعد ارتفاعا لا نظير له في أي من قطاعات الإنتاج الزراعي.
جدول 4-2: أهم الدول المنتجة للسمك 1993.
الدولة
الإنتاج ألف طن
الدولة
الإنتاج ألف طن
الصين
17567
تايلاند
3348
اليابان
8460
كوريا ج
2649
بيرو
8451
النرويج
2562
شيلي
6038
الفلبين
2264
الولايات المتحدة
5939
كوريا ش
1750
روسيا
4461
أيسلندة
1718
الهند
4175
دانمرك
1534
إندونسيا
3638
إسبانيا
1330
ومن دراستنا لتطور الإنتاج العالمي نجد أن الزيادة الإنتاجية لم تكن متكافئة على أقاليم العالم الأساسية في صيد الأسماك، ويمكن أن نقسم إنتاج الأسماك على النحو التالي:
أولا: الدول المتقدمة
وهذه الدول كانت تحتل الصدارة في إنتاج الأسماك في العالم قبل الحرب العالمية الثانية، وتمثلها دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة وكندا واليابان، وقد كان التقدم في الإنتاج أبطأ ما يكون في مصايد أمريكا الشمالية ومتوسطا في أوروبا الغربية.
أما اليابان فكانت أكثر هذه الدول تقدما بحيث احتلت مكان الصدارة بين الدول المتقدمة في صيد الأسماك.
5
هذا التقدم البطيء راجع - بلا شك - إلى الافتقار في الموارد السمكية في أراضي الصيد التقليدية في بحر الشمال وخليج بسكاي ونيوفوندلاند وغرب كندا، ولولا التقدم التكنولوجي الكبير في سفن ومعدات الصيد لظلت هذه الدول على إنتاجها القديم، ولتقهقرت بذلك عن دول العالم الأخرى.
ويعزى الخبراء تقدم اليابان من بين هذه المجموعة من الدول المتقدمة إلى الأسباب التي أدت إلى تقدم إنتاج الأسماك في الاتحاد السوفييتي السابق؛ أي استخدام أساطيل صيد متحركة في محيطات العالم دون تقيد بقواعد شاطئية كما هو الحال في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية.
ثانيا: الدول ذات التخطيط المركزي
وتشتمل هذه الدول على كتلة العالم الشيوعي وعلى رأسها الآن الصين، ولقد نجحت دول العالم الشيوعي السابق في أوروبا نجاحا كبيرا في رفع إنتاجيتها إلى قرابة ثلاثة أضعاف إنتاجها فيما قبل الحرب العالمية، والتقدم الحقيقي راجع إلى زيادة إنتاج الاتحاد السوفييتي بعد تعميمه أساطيل الصيد الضخمة المنتشرة في محيطات العالم أجمع؛ ونتيجة لذلك أصبح إنتاج الاتحاد السوفييتي في عام 1960 قرابة ثلاثة ملايين طن، زاد إلى قرابة أربعة ملايين طن في عام 1963، وإلى ستة ملايين عام 1968 ثم إلى 11,32 مليون طن عام 1989.
أما الصين فكان إنتاجها من الأسماك سنة 1960 يحتل المركز الثالث في العالم بعد بيرو ثم اليابان، وقد بلغ الإنتاج في تلك السنة 5,8 مليون طن، ويحوط الأرقام كثير من الشك حول الكمية والأنواع المضادة، أما إنتاجها عام 1989 فقد بلغ 11,22 مليون طن، وبذلك تحتل المكانة الثانية عالميا في إنتاج الأسماك، ثم تقدمت جميع الدول عام 1993 بحوالي 17,5 مليون طن.
ثالثا: الدول النامية
في مجموعة هذه الدول نلحظ أكبر زيادة في الإنتاج العالمي، ولكن ليست كل الدول النامية كذلك؛ فدول الشرق الأدنى لم يزد إنتاجها إلا ببطء شديد، ودول أفريقيا إنتاجها متذبذب، أما أكبر زيادة حقيقية فتركزت في أمريكا اللاتينية التي ارتفع فيها الإنتاج قرابة ثلاثة أضعاف في السنوات العشر 1954-1964.
وهذه الزيادة راجعة إلى حد بعيد إلى زيادة هائلة في مصايد بيرو وشيلي اللتين كانتا تشكلان حوالي 19٪ من الإنتاج العالمي أو ما يعادل قرابة 12 مليون طن بعد أن كانتا تنتجان معا أقل من نصف مليون طن عام 1954.
وهذا النجاح الفائق الحد راجع إلى صيد أنواع عديدة من الأسماك الرخيصة الثمن السهلة الصيد، مثل الأنشوجا قرب سواحل بيرو وفي مياهها الإقليمية الواسعة.
6 (4) الأنماط العالمية لاستهلاك الأسماك
لقد أدى صيد مثل هذه الأسماك من بيرو وشيلي وغيرهما إلى إحداث تغيرات هامة في استهلاك الأسماك؛ فلقد زاد الاتجاه إلى الأغراض غير الغذائية البشرية، ويعني ذلك ارتفاع نسبة السمك الموجه إلى إنتاج غذاء حيواني ضمن مركبات غذائية أخرى تصنع معا وتقدم غذاء للدواجن والخنازير، وتجد لها سوقا متسعة ومتزايدة في أمريكا الشمالية وأوروبا، وقد كان هناك 15٪ من إنتاج العالم للسمك الذي يتجه إلى الغذاء الحيواني في عام 1954. وفي عام 1964 زادت النسبة إلى 30٪ من إنتاج العالم، وذلك راجع بلا شك إلى زيادة إنتاج بيرو وشيلي من هذا النوع، هذا بجانب دخول أنواع من الأسماك في تركيبة بعض الأسمدة الزراعية.
وفي الوقت الذي زاد فيه اتجاه السمك إلى الغذاء الحيواني نرى هبوطا واضحا في تسويق السمك الطازج من 40٪ إلى 30٪ نتيجة تقدم عمليات التصنيع والتخزين في الثلاجات، ويعني هذا أن أسواق السمك التقليدية في المناطق المجاورة للمصايد لم تعد قادرة على استهلاك الإنتاج الكبير. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يعني هذا أن هناك أسواقا جديدة قد فتحت أمام السمك في مناطق بعيدة عن المصايد تستدعي التصنيع والتجميد.
ومن ناحية ثالثة؛ فإن ذلك يعني أن المستهلكين قد أصبحوا يفضلون أنواعا معينة من الأسماك المحفوظة مجمدة وغير معلبة، ويتضح ذلك جليا من هبوط نصيب السمك المعلب وزيادة نصيب السمك المجمد بسرعة كبيرة حتى وصل إلى 15٪ من مجموع الصيد العالمي عام 1983.
ولا شك أن نمو هذا النمط من الاستهلاك راجع إلى عدد من الاستخدامات الفنية منها التجميد الفوري للسمك عقب صيده، ويتم ذلك في سفن المصنع الكبيرة، ومنها تغير نظم التوزيع والتسويق نتيجة لانتشار بناء الثلاجات الضخمة لحفظ الأسماك مجمدة، ولانتشار أنواع من محلات البيع الاستهلاكية التي تحتوي على ثلاجات خاصة بالأسماك.
ولا شك أيضا في أن الزيادة في استهلاك أسماك الغذاء راجعة إلى ازدياد الطلب عليها في أمريكا الشمالية وشمال وغرب أوروبا، وقد ساعد ذلك على زيادة إنتاج السمك في إسكندنافيا (النرويج على وجه الخصوص) واليابان.
أما القشريات فهي أقل وزنا ولكنها أغلى ثمنا من الأسماك . وزاد الإقبال عليها في الدول المتقدمة باعتبارها نوعا من أطايب الطعام، ولما كان معظم إنتاجها في المناطق المدارية؛ فقد استفادت من ذلك الطلب المتزايد دول أمريكا اللاتينية وغيرها في الشرق الأقصى لزيادة تسويق هذه القشريات في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية.
وهكذا فإن ارتفاع استهلاك القشريات من ناحية وأسماك الغذاء الحيواني من ناحية أخرى أديا إلى زيادة كبيرة في إنتاجهما على حساب تجارة الأسماك المملحة والمدخنة التي تناقصت بنسبة كبيرة. (5) التدخل الحكومي والتقدم التكنولوجي
لا شك في أن التقدم السريع في الإنتاج والتطور الذي طرأ على عمليات التسويق بإنشاء الثلاجات وغير ذلك؛ ما كان له أن يتم في معظم جهات العالم (باستثناء الدول الرأسمالية الحرة) إلا بتوجيه وتدخل ومساعدات حكومية؛ فالبحر - كما قلنا سابقا - ما زال مجالا مفتوحا أمام الاستغلال، والطفرة في إنتاج الأسماك لن تؤدي إلى استهلاك يخل بالتوازن الطبيعي في مورد متجدد ضخم كالأسماك، خاصة نتيجة لاتفاقيات دولية تحرم استخدام المفرقعات في الصيد، أو تحرم الصيد في مناطق توالد السمك، أو تحدد عدد ما يصاد من الحيتان سنويا.
ولا شك أن البحر ما زال في حاجة إلى دراسات كثيرة من الناحية العلمية كي يصبح مصدرا من أهم وأكبر مصادر الغذاء العالمية، مثال ذلك استخدام الطحالب في غذاء رواد الفضاء.
وفي سبيل ذلك نرى الدول المتقدمة تزيد من اهتمامها بتحسين أساطيل الصيد، وتقدم معونات للشركات من أجل شراء سفن حديثة ومعدات جديدة، بالإضافة إلى قيام المؤسسات والهيئات العلمية بأبحاث مستمرة عن قاع البحار من الناحية الطبيعية، وعن أحياء البحر بيولوجيا.
أما الدول النامية: فإنها حتى الآن مضطرة إلى تطوير مصايدها بمساعدة شركات احتكارية أجنبية؛ لنقص رأس المال ونقص الخبرة الفنية في الصيد وأساليبه الحديثة.
وقد شجعت بعض حكومات الدول النامية على تطوير أنواع وأشكال من تعاونيات الصيد والصيادين، كما أن بعض هذه الحكومات قد أصدر تشريعات بالتدخل المباشر في الصيد والتصنيع والتسويق من أجل تطوير وإنماء دخلها من حصاد البحر.
7
ولا شك أن التقدم في صناعة السفن الخاصة بالصيد ضد أخطار البحر، بالإضافة إلى السرعة وقلة استهلاك الوقود بالنسبة لقوارب الصيد الملحقة قد أدى إلى طفرة كبيرة في عمليات الصيد البحري.
ومن أهم المنجزات إنشاء واستخدام السفن الجديدة التي يطلق عليها
Large Stern Trawlers
في ألمانيا والاتحاد السوفييتي واليابان وبريطانيا وبولندا، وميزة هذه السفن أنها قادرة على إجراء عمليات التصنيع والتجميد في عرض البحر والبقاء مدة طويلة تحت أية ظروف مناخية.
وقد أدى نجاح هذه السفن منذ أوائل الخمسينيات إلى الاهتمام بصناعة سفن صغيرة أوتوماتيكية الآلات، وذلك للصيد في المناطق غير البعيدة عن الشواطئ، وبذلك يمكن استغلال أبعاد المحيط القريبة والبعيدة عن الشواطئ.
وفي مقابل هذا التقدم التكنولوجي الكبير عند الدول المتقدمة، نجد أن الدول النامية قد جهزت قوارب الصيد القديمة لديها بمحركات ديزل خفيفة بدل الشراع، كما جهزتها أيضا باللاسلكي لإعطاء درجة لا بأس بها من الأمان للصيادين، وهذا يوضح الفارق الكبير بين الدول المتقدمة التي تزداد قوة وإنتاجا والدول النامية التي تطور أدوات إنتاجها بمبتكرات أصبحت قديمة. وتسعى الدول المتقدمة إلى زيادة تقدمها بإنتاج سبائك جديدة من الصلب أو الألمونيوم واللدائن الصناعية بمواصفات معينة من أجل بناء قوارب الصيد.
8
وهناك أيضا عدة خطوات في تطور طريقة الصيد نوجزها فيما يلي: (1)
استخدام أجهزة لقياس تردد الصدى
Sonar
في أعماق البحار لمعرفة تجمعات الأسماك. (2)
تغير كامل في شباك الصيد من أقطان وحبال طبيعية إلى مواد وألياف مصنعة. (3)
تشغيل التروس آليا بصورة تامة قضى على الجهد العضلي في شد الشباك، بل وأدى إلى إمكانية الصيد باستخدام تروس أكبر وأعماق أبعد. (4)
استخدام سفينتين معا لإلقاء وشد الشبكات الكبيرة أوتوماتيكيا بواسطة رافعات هيدروليكية، وقد أدى هذا إلى ثورة في صيد التونة الأمريكية، وتعرف هذه الطريقة باسم
Seining ، ولا يستخدم فيها الطعم الحي. وقد امتدت هذه الوسيلة إلى أيسلندة وغيرها من مناطق الصيد الرئيسية للتونة. (5)
نوع جديد من الشباك التي تسمى شباك الخياشيم
Gillnet
أو الستائر العائمة
Driftnet
يبلغ عرض الشبكة 10-15 مترا، وطولها نحو ستين كيلومترا تتعلق جوانبها العائمة على سطح البحر بعائمات، بينما تشد تقالات معدنية الجانب الآخر كالستارة الهائلة تجرها السفن اليابانية أو التايوانية العديدة، وتكتسح بها متعلقة من خياشيمها كل أشكال الحياة البحرية من أسماك وفقمات وقشريات، بل وحيتان أيضا. لذلك احتجت نيوزيلندا وأستراليا والسلام الأخضر على هذا النوع من الصيد الذي أسمته الصحافة «حائط الموت». والمعتقد أن اليابان وتايوان قللتا من استخدام هذه الشباك الهائلة، فانخفض بذلك محصولهما من الأسماك المصادة من مياه الباسيفيك الجنوبي كثيرا. (6) مشاكل العمالة في الصيد الحديث
إن قفزة الإنتاج السمكي راجعة إلى تغير ظروف الصيد من صيد ساحلي موسمي إلى التعمق في عرض المحيط؛ مما جعل الصيد عملية دائمة بواسطة سفن المصنع وقوارب الصيد، وقد أدى هذا إلى تغير جذري في نوع العمالة؛ فبعد أن كانت عمالة موسمية وقريبة من قرى الصيادين حيث أسرهم ومسكنهم أصبحت حرفة تقتضي تغيب الصيادين عدة شهور عن ذويهم. كذلك حدث تغير آخر هام؛ فبعد أن كان الصياد يملك أو يساهم في قارب الصيد الذي يعمل عليه أصبحت السفن الكبيرة ملكا لشركات ومؤسسات ضخمة رأسمالية أو حكومية.
وقد أدى هذا إلى أن أصبحت حرفة صيد الأسماك الحديثة قاصرة على المتخصصين فقط نظرا للإقامة الطويلة في البحر، وعلى هذا أصبح هناك وجه للمقارنة بين الصياد الحديث وعامل المصنع على اليابس. لكن هناك أوجه اختلاف كثيرة؛ فما هي ساعات العمل؟ وما هو التأمين الاجتماعي؟ وما هي الرعاية الصحية؟ وما هي تعويضات الوفاة أو العجز الجزئي أو الكلي أو العاهات؟ وما هو الحد الأدنى للأجور؟ ولهذا فإن صعوبات كثيرة تزداد خاصة أمام ملاك السفن الصغيرة أو الشركات الصغيرة في تجنيد الصيادين.
وعلى العموم؛ فإن عدد الصيادين أخذ في الانكماش في الدول المتقدمة نتيجة القضاء على حرفة الصيد الموسمي القديم، والتركيز على الصيادين المتخصصين المتفرغين كل الوقت لهذه الحرفة، ومن ثم فإن تقويض أركان الصيد الموسمي قد خلق مشكلة بطالة بين الصيادين القدماء، وقلل من الدخول الثانوية التي كان يجنيها الصيادون الموسميون.
ومع تحول الصيد إلى حرفة دائمة واحتياجها إلى تقدم مستمر في وسائل الصيد؛ فإن المنافسة بين الشركات الصغيرة والكبيرة قد انتهت إلى صالح الشركات الكبيرة؛ لأنها أقدر على شراء أو استخدام المبتكرات الجديدة، وأقدر على دفع أجور أعلى أو تعويضات أكبر، ومن ثم تزداد الاحتكارية بشدة في حرفة الصيد الحديثة.
ونتيجة للاستثمار المستمر لشركات الصيد في الاستخدامات، ونتيجة لطول مدة بقاء السفن في عرض البحار ومناطق الشطوط، فإن كمية المنتج من السمك قد زاد زيادة هائلة، لكن لم يقابل هذه الزيادة سوى زيادة طفيفة في أسعار السمك لا تقابل التكلفة إلا في أصناف قليلة من الأسماك الفاخرة.
وقد أدى هذا إلى تذمر الصيادين؛ لإن أجورهم تتحدد في صورة نسبة مئوية من قيمة الصيد، أو أن يكون هناك أجر ثابت تضاف إليه نسبة مئوية من قيمة الصيد، وقد أدى ذلك إلى نزاع مستمر بين الصياد والمالك حول رفع أنواع من تكلفة العمل والإدارة قبل حساب الأنصبة. (7) دراسة حالة البحر: الاستنزاف البشري والتوازن البيئي
حالة (1):
ظهور الفقمات بعدد كبير في فيوردات النرويج أدى إلى انزعاج صيادي الأسماك النرويجيين؛ لأن الفقمات تأكل الكثير من الأسماك التي كان يمكن للصيادين الانتفاع بها، فضلا عن تقطيع شباك الصيد، ولكن أنصار السلام الأخضر والبيئيين يرون أن هذا الغزو سببه انقطاع رزق الفقمات في المحيط الشمالي وشمال الأطلنطي نتيجة أساطيل الصيد الأوروبية والأمريكية؛ مما أدى بهم إلى اللجوء إلى السواحل حيث الأسماك متوفرة.
وقد كان النرويجيون يصطادون الفقمات من أجل فرائها منذ أواخر القرن الماضي، وقدر الصيد بنحو 300 ألف فقمة عام 1970 سنويا، ولكن احتجاج الإيكولوجيين أدى إلى انخفاض الفقمات المصادة إلى 20 ألفا عام 1989، بينما الحصة المصرح لهم بها تصل إلى 40 ألفا سنويا.
حالة (2):
ظهور 20 من الحيتان الرمادية الحدباء مرة أخرى في بحار سيبريا الشرقية في أواخر الثمانينيات؛ أدى إلى حالة من السرور بين الإيكولوجيين، فقد كان المعتقد أن هذا النوع من الحيتان قد انقرض تماما، ويبدو أن منع صيده كان من الكفاءة بحيث عادت هذه الحيتان القطبية إلى بحر أوختسك غربي كمتشكا.
حالة (3):
انخفاض حاد في أواخر السبعينيات في السردين والأنشوجة في سواحل ناميبيا؛ هدد صناعة السماكة التي قدر الاستثمار فيها نحو مائة مليون دولار خاصة بتعليب السردين والأنشوجة. ففي 1960 زادت الكمية السنوية على مليون طن من هذه الأسماك الصغيرة، لكنها تراجعت إلى 106 ألف طن فقط، وقد أقيمت دراسات علمية لمعرفة سبب هذا الانخفاض دون كثير من الجدوى.
هوامش
الفصل الخامس
الموارد الغابية
(1) توزيع الموارد الغابية
يقدر الإخصائيون أن الكثير من سطح الأرض كان مغطى بالغابات والأحراش بمختلف أنواعها، ولكن الإنسان قد قطع ما يقرب من نصف هذه المساحة ولا يوجد من الغابات سوى مساحة قدرها 33٪ من اليابس.
وتتوزع الغابات الراهنة في منطقتين أساسيتين هما النطاق البارد والحار، وتتوزع غابات النطاق البارد في:
أولا:
حزام الغابات المخروطية الذي يمتد من سواحل المحيط الأطلنطي في أسكتلندا والنرويج والسويد عبر فنلندا وشمال روسيا وسيبريا وكمتشكا ومعظم اليابان في العالم القديم، وفي العالم الجديد يمتد هذا الحزام من سواحل ألسكا الجنوبية وغرب كندا وشمال غرب الولايات المتحدة عبر وسط كندا وشرقها إلى نيوفوندلاند.
ثانيا:
غابات النطاق الجبلي في العروض المعتدلة الباردة، وأهم مناطقها جبال الألب الأوروبية وجبال القوقاز وإيران والأناضول من ناحية، وجبال الأبلاش في شرق الولايات المتحدة وجبال الروكي في غرب الولايات المتحدة من ناحية ثانية، والألب الأسترالية وجنوب شيلي من ناحية ثالثة.
أما غابات النطاق الحار فتتركز حول المنطقة الاستوائية، وأهم مراكزها في حوض الأمازون في أمريكا الجنوبية وفي الكنغو وساحل غانة في أفريقيا وفي جنوب شرق آسيا، وعلى وجه الخصوص في ميانمار (برما) وتايلاند وإندونسيا.
ويختلف الموردان الغابيان الحار والبارد عن بعضهما اختلافا كبيرا؛ ففي قلب النطاق المداري تقع غابات المطر الحارة، وهي - من الناحية النباتية - أفخم وأضخم أنواع النمو الشجري في العالم وأكثرها تنوعا.
1
ولهذا يمكن باختصار وصف الغابات المطيرة الحارة بأنها الوفرة الشجرية المتميزة بالفوضى المتناهية، فالأشجار من جميع الأنواع والأطوال ودرجات الصلابة تنمو إلى جوار بعضها، وأسباب هذا التنوع غير معروفة تماما، ولكن يبدو - حسب معلوماتنا الراهنة - أن الظروف الأيكولوجية في هذا النطاق بما فيها من حرارة مستمرة تجعل النمو مستمرا (لا فصليا على عكس الحال في المناطق الباردة)؛ وبالتالي فالأشجار تصل إلى النضج بسرعة كبيرة، ويؤدي هذا إلى طفرات في النوع النباتي مما يؤدي إلى ظهور أنواع وعائلات شجرية جديدة، وترتب على ذلك أننا نجد في مساحة الهكتار الواحد ما بين 15 و30 نوعا شجريا.
ورغم هذا الغنى وتلك الوفرة في النوع، فإن لذلك مساوئ واضحة في جانب الاستغلال الاقتصادي؛ فإن التبعثر النوعي يؤدي إلى زيادة كبيرة في تكلفة جمع نتاج الغابة الحارة، فلا شك أن قطع أخشاب الموجنة كان يمكن أن يكون أقل كلفة إذا ما كانت هناك مساحات كبيرة لا ينمو فيها سوى شجر الماهوجني.
ومع ذلك؛ فإن هناك بعض التعويض لمسألة التنوع الشجري، فكثير من شجر الغابة الحارة يعد في حد ذاته مخزنا عظيما للخشب، ذلك راجع إلى إن أنواعا عديدة من الشجر تنمو إلى أحجام هائلة، ويكفي أن نعرف أن بعض هذه الأنواع ينمو إلى ارتفاع يتراوح بين خمسين وستين مترا. وعلى هذا فإن كمية الخشب الذي يمكن أن يقطع من الهكتار الواحد كبيرة. وهذا هو السبب الذي يجعل البرازيل وإندونيسيا من الدول الكبيرة في إنتاج الأخشاب.
ومعظم أشجار النطاق الحار صلبة وثقيلة جدا مما يجعل بعضها لا يطفو لثقله وبعضها يصعب تشغيله، وهذا هو السبب الذي يدعو دولا مدارية بها موارد غابية إلى استيراد أخشاب من دول النطاق البارد والمعتدل، ولكن هناك أنواعا قليلة من أشجار الغابة الحارة التي يسهل تشكيلها والتي استغلت منذ عهود متناهية في القدم في صناعة أنواع القوارب البدائية.
وعلى حافات الغابات الحارة المطيرة تنمو الغابات المدارية والموسمية التي تتميز بقصر السيقان، وبعدم التكاثف بالمقارنة بالأشجار الاستوائية، وكذلك تتميز بفصل نمو وفصل توقف؛ مما يجعلها تدخل ضمن نطاق الغابات النفضية، وهي أكثر قابلية للاستغلال التجاري من الغابات الاستوائية.
أما غابات النطاق البارد والمعتدل فتتميز بقلة التنوع، وبالتالي بظهور أنواعها في مساحات كبيرة، وبوجود خليط من الأشجار ذات الأخشاب اللينة والصلبة، ونظرا لإمكان وسهولة استغلال هذه الغابات فلقد قامت منذ القدم قرى ومدن صغيرة إلى جوار الغابات وظيفتها الاقتصادية الأولى استغلال المورد الغابي القريب، وتدل أسماء بعض المدن والقرى على وظيفتها الحالية أو السابقة مثل
Village
أو
Maple Wood
أو
Oak Ridge ... إلخ. وهذه الأسماء تدل أيضا على نوع الشجر المستغل.
ولقد ساعد عدم التنوع الشجري، وسيادة نوع معين من الشجر في منطقة معينة على إمكانية التخصص الاقتصادي منذ القدم، وعلى إمكانية استخدام وسائل الإنتاج بالجملة؛ مما يؤدي إلى الاقتصاد في الوقت والتكلفة.
وتتوزع أشجار الأخشاب الصلبة واللينة في النطاق البارد والمعتدل توزيعا جغرافيا منتظما؛ فالأخشاب الصلبة تنمو في القسم الجنوبي من هذا النطاق؛ أي في اتجاه المناطق الحارة، بينما الأخشاب اللينة تنمو في اتجاه المناطق الباردة؛ أي: في القسم الشمالي، وينطبق هذا التوزيع على قسمي الغابات الباردة؛ أي في الحزام البارد والنطاق الجبلي على حد سواء.
ويتميز نطاق الغابات الصلبة
2
بأشجار عديدة أهمها البلوط
Oak ، والقسطل
Chestnut ، والإسفندان
Maple ، والبتولا
Birch ، والزان
Beech ، وكانت غابات الأشجار الصلبة في الماضي تغطي أوروبا من البحر البلطي إلى البحر المتوسط، وسهول روسيا وسيبيريا الغربية وشمال الصين وكوريا، وأجزاء من اليابان، ومنشوريا وشرق الولايات المتحدة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية.
وفي النصف الجنوبي تظهر غابات الأشجار الصلبة في مناطق محدودة في النطاق الجبلي الساحلي الضيق في جنوب شيلي، وفي جنوب شرق أستراليا ونيوزيلندة وأقصى جنوب أفريقيا.
أما نطاق الغابات ذات الأشجار اللينة
3
فيحتل مساحات ضخمة في صورة نطاق مستمر أو حزام - كما سبق أن ذكرنا - وهذا الحزام يمتد في أوروبا وآسيا لمسافة تقرب من 11 ألف كيلومتر من سيبيريا الشرقية إلى إسكندنافيا وشمال اسكتلندا، النطاق أضيق ما يكون في إسكندنافيا، ويتسع تدريجيا صوب الشرق حتى يصل عرضه إلى قرابة 3000 كيلومتر في سيبيريا الشرقية. أما في أمريكا فيمتد من ألاسكا إلى نيوفوندلاند، وهو ضيق في الشرق ويتسع في الغرب حتى يغطي النطاق الساحلي من جنوب ألاسكا إلى شمال غرب الولايات المتحدة، وفي شرق الولايات المتحدة نجد نطاقا صغيرا من الأشجار اللينة في جبال الأبلاش.
وتتميز الأشجار اللينة بأنها مخروطية الشكل إبرية الورق، وأهم أنواعها الصنوبر
، والشربين
Fir ، والتنوب
Spruce ، والشوح
Larch .
وهناك مناطق انتقالية بين الغابات الصلبة واللينة الأشجار داخل النطاق البارد والمعتدل، وأشجار هذا النطاق البارد أصغر في الحجم والارتفاع من أشجار الغابات الحارة.
ولكن هناك استثناء واحدا: فأطول أشجار العالم قاطبة توجد داخل نطاق الصنوبر والشربين في شمال كاليفورنيا؛ تلك هي أشجار السيكويا
Sequoia
العملاقة ذات الخشب الأحمر التي يبلغ طولها قرابة 90 مترا، وقطرها حوالي ستة أمتار. وثمة نوع آخر يسمى شربين دوجلاس يرتفع إلى قرابة 75 مترا، ولكن قطره أصغر بكثير من السيكويا؛ إذ يصل إلى قرابة مترين فقط.
ولسنا بحاجة إلى أن نؤكد أهمية المناخ والتربة في نمو الغابات
4
فهناك احتياجات من الماء والرطوبة للأنواع المختلفة من الأشجار، وهناك أيضا احتياجات من الحرارة، ولكن الذي يهمنا أن النمو الشجري أسرع في المناطق التي تتمتع بموسم حراري أطول؛ ولهذا فإن برامج التشجير أسرع تنفيذا في المناطق الدافئة عن المناطق الباردة.
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أن كمية الإنتاج الخشبي في جنوب شرق الولايات المتحدة أكبر من شمالها الغربي، رغم أن الشمال الغربي أكبر في مساحة الأشجار. والمثل الأوضح: هو النمو الوفير للغابة الاستوائية والنمو البطيء للغابة المخروطية. ولكن النمو السريع يعرقله نمو نباتات طفيلية متسلقة تساعد على شد الأشجار بعضها إلى بعض بصورة تحتم جهدا أكبر في قطع أشجار الغابة الاستوائية عن الغابة الباردة. (2) الضوابط الطبيعية والبشرية في استغلال الغابات
هناك عدد من الضوابط التي قد تساعد أو تعرقل استغلال الغابات؛ وأول هذه الضوابط: التضاريس. وثانيها: الأنهار. وثالثها: الحيوان. ورابعها: الإنسان.
أولا: التضاريس
من المعروف أن التضاريس غير المنتظمة - وبعبارة أخرى الجبال ومنحدراتها - تشجع على النمو الشجري؛ لإن ظروف انحدارها ووعورتها لا تشجع الإنسان على استخدام هذه المنحدرات كما هو الحال في السهول إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارا؛ ولكن يجب أن تتوافر لهذه المنحدرات الجبلية شروط مناخية أخرى، فالمطر والحرارة العالية ينجم عنهما غابات الجبال الحارة، والمطر والحرارة المنخفضة ينجم عنهما غابات النطاق البارد. أما الحرارة العالية والمطر القليل فيؤدي إلى نمو الأعشاب الحارة، والمطر القليل مع الحرارة المنخفضة يؤديان إلى الأعشاب الباردة، وعلى هذا؛ فإن الظروف الطبيعية الأخرى باشتراكها مع عامل التضاريس قد ساعدت على النمو الغابي طبيعيا في المنحدرات الجبلية، وزاد على ذلك تدخل العامل البشري الذي ترك المنحدرات الوعرة على حالها الغابي.
شكل 5-1: خريطة: نطاقات الغابات الرئيسية.
وعلى هذا يمكن أن نؤكد القاعدة التالية: «إن الغابات تميل إلى السيطرة على المظهر الجبلي الوعر إذا كانت ظروف التربة والمناخ ملائمة.» ويدل على ذلك بوضوح امتداد النطاق الغابي في أمريكا الشمالية إلى العروض الوسطى في جبال الكاسكيد والروكي والأبلاش.
ولا شك في أن وعورة التضاريس تقف حجر عثرة في سبيل استغلال المورد الغابي، فالانحدار الشديد يعرقل نقل الآلات إلى الغابة ويعرقل نقل الشجر المقطوع، ومن الأمثلة على ذلك أن هناك موارد غابية ممتازة، ولكن استغلالها في جبال النرويج وفي غرب كندا أمر يكاد يكون متعذرا نظرا لوجود شلالات كثيرة عالية ومندفعات مائية عديدة تعرقل نقل الأخشاب إلى السهول الساحلية.
ثانيا: الأنهار والمجاري المائية
إن وجود المجاري المائية أمر على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لاستغلال الموارد الغابية؛ ففي كل من نطاق الغابات الباردة والحارة، تكون المجاري المائية الشرايين الرئيسية لنقل الأشجار المقطوعة من الغابة إلى مكان استخدامها في محطات المناشر، وفي النطاق البارد ينتظم قطع الأشجار حسب موسم تجمد الأنهار وذوبانها، في هذه المناطق يقوم المشتغلون بهذه الحرفة بقطع الأشجار ونقلها إلى مجاري الأنهار المتجمدة طول فصل الشتاء، وحينما تذوب مياه النهر المتجمدة يمتلئ النهر بهذه الكميات الكبيرة من الأخشاب في مسار مستمر حتى محطات المناشر.
واتجاه الأنهار إلى مناطق السوق أمر على جانب كبير من الأهمية؛ فأنهار السويد وفنلندا وجنوب كندا تتجه إلى السوق؛ وبالتالي فإن هناك توفيرا كبيرا في تكلفة النقل، ويرتبط بالاتجاه إلى السوق اتجاه النهر جغرافيا، فالأنهار التي تتجه شمالا - إلى المناطق القطبية، كأنهار سيبيريا وشمال روسيا وكندا - تكون عقبة أمام النقل الرخيص. فالمنابع تذوب مياهها قبل المصبات؛ وبالتالي فإن المياه القادمة من الجنوب تصطدم بالجليد المتراكم في الشمال؛ مما يؤدي إلى فيضان المياه على جوانب المجرى الطبيعي، وعلى هذا فإن كتل الأشجار المقطوعة تقف أمام حواجز الجليد هذه، وبعضها يطفو مع المياه المندفعة خارج المجرى؛ مما يجعل هناك فاقدا في الكمية والزمن وزيادة في الكلفة.
أما أنهار المناطق الحارة فهي دائمة الجريان، ولا تتعرض للعقبات التي تتعرض لها أنهار المناطق الباردة؛ ولذلك فهي أصلح لنقل الأشجار المقطوعة، ولا يعيب هذه الأنهار إلا الذبذبة الموسمية الناجمة عن فترة الجفاف القصيرة التي تؤدي إلى خفض منسوب المياه في النهر بعض الشيء؛ مما قد يؤدي إلى توقف نقل الخشب إلى موسم الفيضان في الأنهار والروافد الصغيرة.
أما الأنهار الكبيرة؛ فإن مياهها تكاد تحتفظ بمستوى قليل الذبذبة لكثرة ما يرد إليها من مياه الروافد والأمطار، وخاصة الأمازون والكنغو.
ثالثا: دور الحيوان
للحيوان دور هام ذو شقين بالنسبة لاستغلال الموارد الغابية ونموها؛ الشق الأول: هدمي. والثاني: نفعي.
ويتمثل الشق الهدمي في أن هناك أنواعا من الحيوان مسئولة عن القضاء على أجزاء من الغابات أو بطء نموها؛ نظرا لتغذيتها على الأشجار في مرحلة نموها، ومن أهم أعداء الأشجار الماعز وفصائله العديدة، والغزال الجبلي في المناطق المعتدلة والباردة، إلى جانب الأرانب وحيوانات الأشجار القارضة كالسنجاب.
وعلى الرغم من الأخطار التي تسببها هذه الحيوانات فإن هناك قوانين تحميها من الصيد الجائر في غالبية دول الغابات الباردة، كما أن أخطار الماعز لم يتنبه لها المسئولون في دول الغابات الحارة إلا مؤخرا.
أما الشق النفعي: فيتمثل أساسا في حيوانات المناطق الحارة؛ ففي تايلاند وميانمار والهند، أمكن استخدام الفيلة والجاموس في جر الأشجار المقطوعة، وخاصة أشجار التيك من الغابة إلى مجاري الأنهار، أما في غابات أفريقيا؛ فإن ذباب تسي تسي قد قضى على الحياة الحيوانية الضخمة داخلها؛ وبالتالي فإن جر الأشجار المقطوعة يستلزم جهد عدد كبير من الرجال والآلات والجرارات. وفي غابات أمازونيا الضخمة لا توجد حيوانات ضخمة مستأنسة مثل جنوب شرق آسيا من ناحية، ومن ناحية ثانية فهناك في الأمازون وروافده نوع مفترس من الأسماك يسمى بارانيا
يهاجم أي حيوان أو إنسان يقف دون حذر في مياه النهر القريبة من الضفة.
رابعا: دور الإنسان
إن للإنسان دورا هاما أكبر بكثير من أي أثر طبيعي آخر، ولقد سبق أن ذكرنا أن الغابات كانت تحتل مساحة كبيرة من سطح الأرض، وأن الإنسان قد قضى على جانب كبير منها رغبة منه في إيجاد الأرض اللازمة للزراعة، خاصة بعد انتقاله إلى مرحلة الزراعة، وفي خلال العصور الطويلة قبل اكتشاف الزراعة، ومنذ اكتشافها حتى وقتنا الحاضر فإن الإنسان دائم الاستغلال لهذا المورد المتجدد، وقد أصبح الآن أكثر حرصا على تجديده بما يخطه من قوانين وبما ينشئ من حيازات خاصة بالأشجار.
ولقد كان استخدام الإنسان للأخشاب كوقود أحد أوائل أوجه استغلال الغابات، وما زال هذا الوجه يكون نسبة كبيرة من الاستغلال الحالي. وتدل على ذلك النسب التالية التي توضح استغلال الإنسان للغابات:
استغلال الخشب كوقود *
41٪ من الإنتاج
استغلال الخشب كمادة بناء
40٪ من الإنتاج
استغلال الخشب في قضبان السكك الحديدية والمناجم
8٪ من الإنتاج
أوجه أخرى لاستغلال الخشب
10٪ من الإنتاج *
معظم الدول النامية، وبخاصة المدارية، تستخدم الخشب للوقود المباشر أو عمل فحم نباتي، وفي أفريقيا المدارية يشارك الخشب في الطاقة المنتجة من جميع مصادرها بنسبة أعلى من 80٪، وتنخفض هذه النسبة إلى 36٪ في الهند وباكستان، وترتفع إلى 63٪ في تايلاند وسريلانكا. أما في البرازيل فتنخفض النسبة إلى 33٪ بينما ترتفع في دول أمريكا الوسطى إلى ما فوق 40٪.
ولكن هذه النسبة تتغير في الدول المتقدمة. ففي الولايات المتحدة يستخدم 14٪ من الإنتاج في الوقود، ويخصص أخشاب البناء 52٪، ويستغل الباقي في أغراض أخرى كصناعة الورق وخشب الابلاكاج (المعاكس) وغير ذلك انظر جدول (
5-1 ).
ويمكننا القول: إن احتياج الإنسان للأخشاب هو أحد الأسباب الرئيسية للاستغلال الحديث للموارد الغابية العالمية. ويدل على ذلك أن أكبر سوق للغابات ومنتجاتها تتركز في العروض الوسطى والباردة؛ أي بعبارة أخرى في مناطق الإنتاج الكبير، في الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا وأمريكا الشمالية.
أما نطاق الغابات الحارة: فإن استغلاله ما زال في مرحلة متأخرة على وجه العموم، ولا شك أن من أهم أسباب هذا التخلف؛ أولا: قلة السكان «كما هو الحال في أمازونيا». ثانيا: التخلف الاقتصادي وقلة التصنيع كما هو الحال في كل البلاد المدارية. وإلى جانب ذلك؛ فإن هناك عاملا جغرافيا يجب أن نقدر أهميته؛ ذلك هو بعد النطاق الغابي الحار مكانيا عن سوق الاستهلاك العالمي للأخشاب المتركز - كما قلنا - في العروض الوسطى. ولا نقصد بالبعد استحالة النقل بل زيادة السعر نتيجة لتكلفة النقل الباهظة بالنسبة لسعر الخشب عالميا.
5
وعلى هذا فإن أضخم مورد غابي - وهو النطاق الحار - لا يستغل كما يجب نظرا لظروف المنافسة وتركز سوق الاستهلاك في النطاق الغابي المعتدل والبارد. ويزيد على ذلك ارتفاع تكلفة قطع أشجار الغابة الحارة نظرا لظروفها الطبيعية التي أوجزناها من قبل.
وإذا كانت الغابة الحارة ما زالت بعيدة عن أن تؤدي دورها المطلوب في حصيلة العالم من الأخشاب نظرا لظروفها الطبيعية والمنافسة الاقتصادية للغابات المعتدلة والباردة؛ فإن التنوع الشجري في الغابة الحارة جعلها في موقف المحتكر بالنسبة لعدد من المستخرجات الغابية لا نظير له في الغابات الباردة والمعتدلة. ومن أهم هذه المستخرجات جمع المطاط الطبيعي واللبان وأنواع من العقاقير والثمار، فضلا عن أنواع من الأخشاب الراقية التي تسمى في الألمانية الأخشاب النبيلة
Edelholz
كالأبنوس والساج وخشب الورد والموجنة.
إنتاج الأخشاب
جدول 5-1: الإنتاج العالمي للأخشاب سنة 1993 بمليون متر مكعب (عن منظمة الفاو).
الخشب المستدير للصناعة ٪
خشب الوقود وخشب الفحم ٪
الولايات المتحدة
402500
26٪
الهند
262,782
14٪
كندا
173133
11,3٪
الصين
200,060
10,6٪
روسيا
185500
10,3٪
البرازيل
194,270
10,3٪
الصين
100608
6,5٪
إندونيسيا
149,063
7,9٪
البرازيل
77808
5٪
نيجيريا
109,789
5,8٪
السويد
58530
3,7٪
الولايات المتحدة
93,300
4,9٪
ماليزيا
44957
2,9٪
روسيا
48,952
2,56٪
إندونيسيا
3954
2,5٪
إثيوبيا
45,254
2,4٪
فنلنده
35483
2,3٪
زائير
41,293
2,2٪
فرنسا
33615
2,1٪
كينيا
36,710
1,95٪
ألمانيا
32361
2,1٪
الفلبين
35,980
1,9٪
اليابان
32209
2,1٪
تايلاند
35,313
1,8٪
مجموع الإنتاج العالمي 1,528 مليار متر مكعب
مجموع الإنتاج العالمي 1,875 مليار متر مكعب
ولقد كان المطاط الطبيعي أهم مصدر للمطاط في العالم حتى أوائل هذا القرن؛ حينما أمكن زراعته في مزارع علمية في جنوب شرق آسيا. وكان أهم مصدر للمطاط الطبيعي الغابات الاستوائية في البرازيل وأفريقيا، ولكن المنافسة الشديدة لمطاط جنوب شرق آسيا قد جعل الذين كانوا يشتغلون في هذه الحرفة ينقلون اهتمامهم إلى أنواع أخرى من مستخرجات الغابة الاستوائية. ومن أهم هذه المستخرجات الجديدة نوع مطاطي يعرف باسم
Balata
ينمو في غابات أمازونيا، ويستخدم في تغطية أسلاك الاتصالات الموجودة في قاع البحار وكرات رياضة الجولف ... إلخ.
أما اللبان الأمريكي
Chiclet
فيستخرج من نوع شجري يسمى زابوت ينمو من المكسيك إلى البرازيل، ويحصل على هذا السائل اللزج في الفصل المطير من مايو إلى أكتوبر، ويمكن للشجرة الناضجة أن تقدم حوالي 12 كيلوجراما سنويا، ورغم الجهد الذي يبذله جامعو اللبان والأخطار التي يتعرضون لها في موسم المطر والمستنقعات من الناموس والملاريا فإن حقيقة ما يحصلون عليه من دخل يوازي جزءا من خمسة أجزاء من ثمن اللبان الذي يصدر أساسا إلى الولايات المتحدة. ونظرا لاتساع استهلاك اللبان، وقلة ما يمكن أن تنتجه أشجار الزابوت، فلقد اتجهت صناعة اللبان إلى الحصول على أنواع من الخامة من أشجار أخرى في الشرق الأقصى.
ومنذ القدم عرف الإنسان البدائي القيمة العلاجية لأنواع من أشجار الغابة الحارة، وعرف أن بعضها يحتوي على سموم يمكن استخدامها في الحربة والسهم من أجل الصيد والقتال، ومن أهم المنتجات الطبية في الوقت الراهن الكافور والكنين.
وأهم مصدر للكافور سفوح الجبال في جنوب الصين وتايوان واليابان، وأجود أنواعه ينمو على ارتفاع 1200 متر. وأهم مصدر للكنين الطبيعي سفوح الجبال في بيرو وإكوادور وكولومبيا وبوليفيا فوق ارتفاع 1300 متر. وكما حدث للمطاط حدث للكنين؛ فقد انتقلت زراعته إلى جاوه وسريلانكا والهند ومدغشقر في مزارع علمية، وأصبحت جاوه الآن تحتكر إنتاج الكنين.
وإلى جانب العقاقير؛ فإن أنواعا عديدة من أشجار المنطقة الحارة وبعض أشجار المنطقة المعتدلة يحصل منها على مادة دباغة الجلود، ولكن أكبر مصدر في الوقت الحاضر غابات المنجروف في مستنقعات السواحل الاستوائية.
أما ثمار الغابة الاستوائية والمدارية فمتنوعة وعديدة، نذكر منها جوز الهند وزيت النخيل والأناناس، ويقابل ذلك جمع ثمار النمو العشبي والشجري في الغابات المعتدلة والباردة.
وأخيرا فإن أنواعا من النمو الشجري الحار يمكن استخدامه في عمل أنسجة معينة كالقبعات والسلال.
السياسات الحكومية
معظم الغابات في معظم الدول ملكية حكومية؛ ففي فرنسا تمتلك الدولة 37٪ من الغابات، وفي فنلندا تمتلك الدولة 60٪، وفي كندا 90٪، وفي الولايات المتحدة 27٪؛ ولهذا فإن الغابات تعتبر من الموارد التي تهتم بها الحكومات - شرقية أو غربية - اهتماما مباشرا، خاصة وأن إدارة الغابات تتم بواسطة أجهزة حكومية؛ لهذا السبب عنيت الحكومات بتدريب المتخصصين في الشئون الغابية وزيادة استثماراتها بواسطة الأبحاث العلمية. وتسعى الدول النامية إلى مثل هذا الوضع، ولكن التدريب ورأس المال والبحوث ما زالت تنقصها بشدة.
والسبب الرئيسي الذي يؤدي إلى امتلاك الحكومات لموارد الغابات يقع في المقارنة بين الفائدة العملية التي يحصل عليها الفرد المالك من الغابة أو من الحقل؛ فإن النمو الشجري «أشجار الأخشاب» يستغرق سنوات عديدة بالمقارنة بنمو محصول من المحاصيل الزراعية.
6
لهذا نرى أن الملاك الفرديين يفضلون اجتثاث الأشجار الطبيعية وإحلال محاصيل فصلية محلها إذا كانت الظروف الطبيعية والعملية تسمح بذلك؛ ولهذا السبب بالذات وقعت ملكية الغابات على عاتق الدولة في معظم دول العالم.
وعلى الرغم من وقوع حوالي 75٪ من مساحات الغابات العالمية ملكا للحكومات فإن هناك اتجاها؛ متزايدا في الدول النامية إلى زيادة رقعة أملاك الدولة من الغابات بواسطة شراء الغابات التي تقع في حوزة الأفراد.
ومن الأمثلة على ذلك إيران التي أصدرت قرارا في عام 1963 بتأميم كل الغابات، وربما كان الدافع لمثل هذه الدول الخوف من امتداد الزراعة إلى البقية الباقية من موارد الغابات، وربما كان الدليل على ذلك أن الدول النامية التي لا تعاني من الضغط السكاني لم تتخذ مثل هذه الخطوات، ومن أهم الأمثلة على ذلك دول أمريكا اللاتينية التي ما زالت الملكية الفردية كبيرة في مناطق غاباتها.
ومع ذلك؛ فإن هناك اتجاها في أمريكا اللاتينية إلى التدخل الحكومي بصورة معتدلة، والمثال على ذلك القوانين المكسيكية الجديدة التي تفرق بين الملكية من ناحية وتنظيم استغلال الغابات من ناحية أخرى، وذلك بغرض المحافظة على الموارد الغابية وتنميتها تبعا لسياسة التشجير. أما الدول كثيفة السكان في آسيا؛ فإن الحكومات مضطرة إلى التدخل التدريجي خوفا على مصادر الغابات من الاضمحلال، وفي أفريقيا ما زالت المشكلة غير ظاهرة، خاصة وأن هناك انقلابا تدريجيا بين قوانين الملكية القبلية ونمو الملكية الفردية. وأخيرا فإن الدول المتقدمة تتدخل بطريق غير مباشر من ناحيتي الأبحاث العلمية وتشجيع نظام التعاون بين ملاك الغابات، خاصة وأنه لا توجد وسيلة حتى الآن للتدخل الحكومي من أجل تثبيت أسعار معينة للأخشاب دوليا.
تجارة الأخشاب الدولية
بلغت صادرات الخشب المستدير (كتل خشب من جذوع الشجر
Logs ) عام 1987
7
نحو 117,4 مليون متر مكعب، بينما كانت جملة الورادات 124,4 مليون متر مكعب، وكان أكبر المصدرين هم: الولايات المتحدة 19,1٪ روسيا السابق 16,7٪، فرنسا 4,6٪، وألمانيا الغربية 3,4٪ في العالم المتقدم، بينما كانت ماليزيا هي الأولى في العالم النامي بنسبة 19,5٪، ثم كولومبيا 2,2٪، وجابون وإندونيسيا لكل نحو 1٪.
وكانت جملة الصادرات حسب القارات كالآتي: أمريكا الشمالية 24,5٪، أوروبا 22,8٪، آسيا 21,6٪، روسيا 16,6٪، أوشينيا 8,7٪، أفريقيا 3,4٪، وأخيرا أمريكا الجنوبية 2,2٪.
أما تجارة الواردات العالمية؛ فتظهر نمطا مغايرا، ليست أكبر الدول أو الأقاليم المصدرة أقلها استيرادا للأخشاب في كل الحالات، مثال ذلك روسيا وأوشينيا وأمريكا الجنوبية التي تستورد كميات ضئيلة، وذلك لكفاية ما لديها من أخشاب، بينما تظهر آسيا على أنها مصدر ومستورد كبير، وذلك لكميات الاستيراد الضخمة لليابان «37,4٪ من الصادرات العالمية» والصين 10,3٪. كما تظهر بعض الدول المصدرة على أنها أيضا مستوردة بكميات كبيرة مثل السويد «صادرات 1,5٪، واردات 7٪ من التجارة العالمية» وربما كان ذلك مرتبطا بسياسات الحفاظ على الغابات السويدية أو الكندية من هذا النوع من الأخشاب، وقد كانت تجارة الواردات العالمية عام 1987 على النحو التالي: آسيا 56٪، أوروبا 36,5٪، أمريكا الشمالية 6,9٪، بينما لم تتعد أفريقيا وأمريكا الجنوبية وروسيا وأوشينيا نسبة 1٪ لكل منها.
شكل 5-2: خريطة: التجارة الدولية للأخشاب.
وهناك تجارة أخرى في أنواع الخشب ومنتجاته بعد النشر والتصنيع في صورة ألواح وخشب الأبلكاش، ولب الخشب لصناعة الورق وغير ذلك، وكلها أشياء هامة، لكننا سنأخذ نموذجا جغرافيا خاصا بتجارة الأخشاب المدارية (معظمها صلب، ومنها في آسيا أخشاب لينة أيضا)، وذلك لبيان تجارة الخشب المداري إلى بلاد رئيسية في العالم المتقدم، وكيف تحتاج دول الشمال إلى أخشاب معينة من الجنوب مثلما تحتاج إلى بترول الجنوب، والكثير من خاماته الزراعية والمعدنية؛ هذا فضلا عن أن معظم أخشاب الشمال تتحرك في تجارة محدودة ببلاد الشمال مثل روسيا إلى أوروبا الغربية كما يتضح من الخريطة (
5-2 ). أما تجارة الأخشاب المدارية في أواسط الثمانينيات فيوضحها الجدول (
5-2 ).
والملاحظ أن آسيا هي الشريك الأول في هذه التجارة؛ فكل واردات اليابان هي من آسيا «+ أستراليا والباسيفيك الغربي»، وكذلك واردات سنغافورة. أما معظم واردات أوروبا من الأخشاب المستديرة فقادمة من أفريقيا وواردات الولايات المتحدة قادمة من أمريكا الجنوبية، بينما آسيا هي الشريك الأول لكافة الدول المستوردة من أخشاب الألواح وخشب الأبلكاش.
جدول 5-2: (أ) صادرات الأخشاب المدارية.
القارة
أخشاب الكتل المستديرة
ألواح
أبلكاش
ألف متر3 ٪
ألف متر3 ٪
ألف متر3 ٪
آسيا
13494
88,6
3629
90,0
3275
100
أفريقيا
1771
11,6
أمريكا ج
399
10
مجموع
15265
100
4028
100
3275
100 (ب) المستوردون الكبار للأخشاب المدارية.
الدولة
أخشاب الكتل المستديرة ألف متر
3
ألواح ألف متر
3
أبلكاش ألف متر
3
مجموع ألف متر
3
اليابان
13494
1248
935
15677
الولايات المتحدة
399
1462
1861
سنغافورة
984
412
1396
فرنسا
833
358
1241
ألمانيا
372
507
879
هولندا
532
532
إيطاليا
516
516
بريطانيا
466
466
وبذلك تتحدد جغرافيا أقاليم تصدير الأخشاب المستديرة الثقيلة بالقرب المكاني: آسيا إلى اليابان «والصين» وأفريقيا إلى أوروبا وأمريكا الجنوبية إلى أمريكا الشمالية؛ فعامل القرب المكاني بالنسبة للأوزان والأحجام الثقيلة يلعب دورا هاما في أسعار السلع والمنافسة الدولية.
هوامش
الفصل السادس
الثروة الحيوانية
(1) توزيع الثروة الحيوانية في العالم
تعتمد أعداد الحيوان على أشياء كثيرة؛ منها مساحات المراعي وجودتها ونوعية الحيوان والغرض من رعايته أو تربيته والمستوى الحضاري ومدى استخدامهم لسلالات مفضلة تستجيب للغرض أو الأغراض، سواء كان اللحم أو الحليب أو كليهما، ويترتب تبعا لذلك القيمة المادية للحيوان.
لكن إن انطبق ذلك على حيوانات معينة منتجة للحم والحليب والصوف والجلود؛ فإنه عند جماعات تاريخية أو معاصرة نجد وظائف أخرى.
فقد كان هناك حيوان الجر والحمل والركوب: الإبل والخيل والحمير والبغال، وكان هناك تقدير اجتماعي أكثر منه مادي للحيوان عند جماعات نطلق عليها الآن البدائيين.
ويعني هذا وظيفة اجتماعية للأبقار والغنم والماعز والإبل والخنازير تدل على مدى ثراء الملاك، ومن ثم درجاتهم الاجتماعية، ويترتب على ذلك دفع المهور والدية والغرامات بأعداد من الحيوان حسبما تقرره اعتيادات المجتمع. وأخيرا هناك الأبقار التي ترتبط عند الهندوس بقيمة دينية.
ويترتب على ذلك كله أن الثروة الحيوانية موضوع معقد أكثر من الثروة الزراعية بصفة عامة.
ولهذا نجد اختلافا كبيرا في عدد وقيمة الحيوان الذي يمكن تقسيمه تقسيما أوليا إلى الثروة الحيوانية في بلاد العالم المتقدم وبلاد العالم النامي، ويؤدي هذا التقسيم إلى اختلاف في طريقة الرعي وطبيعة المراعي وقدر اللحوم والألبان المنتجة بين العالمين المتقدم والنامي. وهنا يجب أن ندرك دور الحيوانات في البلاد الشرقية حيث كان الحيوان، ومن بينها الأبقار، تستخدم في الأعمال الزراعية ومن ثم نجد تقسيما فرعيا داخل العالم النامي بين عالم البحر المتوسط والشرق الأوسط والهند والصين، وبين عالم أفريقيا المداري.
أين توجد المراعي؟
يوضح الجدول (
6-1 ) أن بكل قارات العالم مساحة من المراعي، وأول ما يسترعي الانتباه هو أن المراعي المدارية في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وأجزاء من أستراليا الشمالية تختلف عن مراعي الإقليم المعتدل أو مراعي سهول وسط القارات عنها في غرب القارات. ومرد الاختلاف الأساسي هو كمية المطر ودرجة الحرارة اللتان ينتجان حشائش مختلفة من حيث نسيج الحشائش والأعشاب وأطوالها وكثافتها؛ ففي حشائش النطاق المداري النبات أطول وأخشن وأكثف، بحيث قد لا يساعد على تكاثف الحيوان.
أما أعشاب النطاق المعتدل فهي أقصر وأنعم وأقل غزارة، باستثناء أراضي المستنقعات التي تنمو فيها أنواع عديدة من العشب والحشائش والقصب والغاب.
ومن ناحية المساحة نجد أن القارات الجنوبية الثلاث تستحوذ على نحو 54٪ من مساحات المراعي العالمية برغم أن مساحات القارات الثلاث هي 42٪ فقط من اليابس. كذلك نلاحظ أن مراعي السهول الغنية في أمريكا الشمالية والاتحاد السوفييتي (سابقا) تستحوذ وحدها على 33٪ من المراعي العالمية. وبقية المراعي 13٪ موزعة على أوروبا وبقية آسيا، وسبب هذه القلة راجع إلى وجود تزاحم بين الزراعة والسكان المتكاثفين وبين المراعي التي غالبا ما تنزاح إلى الأرض قليلة الخصب أو المنحدرات الجبلية العديدة في الألب وسلاسل آسيا الضخمة.
ولكن يعوض النقص في المراعي الطبيعية أن الحيوان في أوروبا يتداخل فيما نعرفه باسم الزراعة المختلطة، وفي آسيا يتداخل بكثرة في الزراعة الشرقية، وهذا أو ذاك يؤدي إلى رفع أعداد الحيوان في أوروبا وآسيا كما سيأتي ذكره.
أين تتركز الثروة الحيوانية؟
هناك مؤشرات كثيرة حسب نوع الحيوان، وربما كانت أعداد الماشية خير مؤشر على التكاثف أو القلة.
تبلغ أعداد الماشية (الأبقار والثيران فقط) عالميا 1255 مليون رأس موزعة كالآتي: آسيا 388 مليون رأس، أوروبا 128 مليونا، أمريكا الشمالية 166 مليونا، الاتحاد السوفييتي 122 مليونا، أفريقيا 161 مليونا، أمريكا الجنوبية 258 مليونا، وأوشينيا 32 مليونا. ويعني هذا أن القارات الجنوبية التي تستحوذ على 54٪ من مساحة المراعي تستحوذ على 35,5٪ من رءوس الماشية، وأن بأمريكا الشمالية والاتحاد السوفييتي السابق 22,5٪ وبأوروبا وآسيا 22,5٪ من الماشية منها 15٪ في الهند وحدها؛ فليست العبرة إذن بمساحة المرعى قدر إمكانات توفير الغذاء للماشية.
ما هي القيمة الفعلية لرءوس الماشية؟
هناك مؤشران يمكن بواسطتهما إضافة القيمة الفعلية إلى العدد؛ هذان هما كمية الحليب ووزن البقرة، ومن حيث كمية الحليب نجد تفاوتا كبيرا بين أكثر من 6000كجم في الولايات المتحدة أو 5600كجم في هولندا أو الدانمرك وبين متوسط أقل من 1000كجم حليب في أفريقيا «عدا جنوب أفريقيا» ونحو 700كجم في الهند.
ومن حيث أوزان الحيوان المذبوح «بدون الرأس والأحشاء» تتكرر الظاهرة نفسها بين متوسط أكثر من 230كجم في أوروبا وأمريكا الشمالية و121كجم في آسيا و146كجم في أفريقيا.
والملاحظ (جدول
6-1 ) نمو في أعداد الحيوان بصفة عامة عدا الحمير التي استقر عددها، لكن النمو يختلف من قارة لأخرى؛ ففي أمريكا الشمالية تناقصت أعداد الأغنام والماعز، وتناقص عدد الخنازير في أمريكا الجنوبية وكذلك الأغنام والماعز، بينما زادت أعداد الماعز والأغنام والخنازير في آسيا وأفريقيا.
جدول 6-1: الثروة الحيوانية في العالم
FAO. Production, vol. 41, 1987 .
القارة
السنة
مساحة المراعي «بمليون هكتار»
أعداد الحيوان «بالمليون»
ماشية
أغنام
ماعز
خنازير
جاموس
إبل
خيل
حمير
العالم
1967
3000
1079
1028
375
559
118
11
62
42
1987
3220
1277
1157
501
840
138
18,7
66
41
أفريقيا
1967
843
132
127
109
6
2
8
4
10
1987
787
161
195
162
12
2,5
14
3,5
11,7
أمريكا الشمالية
1967
374
173
32
20
81
10
4
1987
367
166
18
14
92
19
3,6
أمريكا الجنوبية
1967
408
189
127
27
77
17
5
1987
469
258
109
20
53
0,9
14,6
3,8
آسيا
1967
449
274
188
143
215
87
3
5
9
1987
678
388
329
283
410
134
4,2
17
20
أوروبا
1967
91
123
133
13
119
0,5
9
3
1987
84
128
138
13
187
0,3
4,5
1,5
أوشينيا
1967
462
26
224
3
0,6
1987
451
32
225
1,4
5
0,5
الاتحاد السوفييتي سابقا
1967
373
97
135
5
58
0,2
0,3
8
1987
374
122
142
7
79
0,3
0,2
5,8 (2) الرعي التقليدي والرعي الحديث
سبق أن ذكرنا في الفصل الثاني نبذة عن أنواع الرعي العام، وقسمناه إلى قسمين رئيسيين هما: الرعي التقليدي، والرعي الحديث. ويمكن أن نميزهما باسمين آخرين هما: الرعي المتنقل، والرعي التجاري.
ويتشابه النوعان معا في أنهما يمثلان: (1)
استغلالا كثيفا للأرض بشروطها الطبيعية. (2)
يمارس كل منهما في مساحات واسعة تكفي احتياج الحيوان . (3)
يظهران في مناطق الكثافة السكانية القليلة.
ولكنهما يختلفان فيما بينهما اختلافا واضحا كما يظهر في الجدول المقارنة الآتية:
المميزات
الرعي المتنقل
الرعي التجاري
التوزيع
العالم القديم أساسا.
العالم الجديد بما فيه أستراليا وجنوب أفريقيا.
المكان والملكية
تنقل مستمر مع العشب والماء ملكية قبلية.
استقرار وملكية فردية وأسوار حول الملكيات وزراعة غذاء الحيوان في بعض الأماكن.
المسكن
أنواع مساكن سهلة النقل.
مساكن مستقرة.
الحيوان
أنواع عديدة: واحد رئيسي والباقي ثانوي؛ مثلا أبقار بجانبها ماعز وخراف.
نوع واحد فقط متلائم مع ظروف البيئة.
الهدف
إنتاج الغذاء والملبس والمأوى وبعض عمليات المقايضة التجارية مع الجيران.
إنتاج اللحوم والجلود أو اللحوم والأصواف من أجل التجارة خارج منطقة الرعي.
النقل
في عمليات المقايضة تسير الحيوانات على أقدامها من مناطق الرعي إلى خارجها.
تنقل الحيوانات بواسطة وسائل النقل الآلي في أغلب الحالات من المرعى إلى مناطق تجارتها.
عمر الحرفة
آلاف السنين.
حوالي مائة سنة فقط.
ولقد نشأ الرعي أساسا في آسيا وأفريقيا، وانتقل إلى أوروبا، ثم إلى أمريكا بعد الكشوف الجغرافية، ولكن يمكن اعتبار آسيا فعلا المصدر الأساسي للرعي التقليدي، ولو أن في أفريقيا الآن عشرات الملايين من السكان تعتمد في حياتها على الرعي التقليدي.
أما في أوروبا فلقد تغير الرعي وهدفه كثيرا نتيجة لوقوعه في قلب المنطقة التي نشأ فيها التقدم التكنولوجي المعاصر، وعلى هذا يمكننا أن نقول: إن الرعي المتنقل يوجد حاليا في المراكز الرئيسية التالية:
أولا:
بعض مناطق وسط آسيا.
ثانيا:
أقصى شمال أوراسيا.
ثالثا:
غرب وجنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا والصحراء الكبرى.
رابعا:
أقاليم السفانا الأفريقية.
ويتميز كل إقليم من هذه الأقاليم بحيوان رئيسي؛ ففي وسط آسيا تتغير الظروف الطبيعية؛ وبالتالي نوع الحيوان الرئيسي من الأبقار إلى الإبل إلى الحصان.
أما في شمال أوراسيا فأهم حيوان هو الرنة الذي يتلاءم مع ظروف البرد القارسة، وفي غرب وجنوب آسيا وشمال أفريقيا والصحراء يسود الجمل حيوانات الرعي الأخرى، أما في سفانا أفريقيا فإن الأبقار هي الحيوان الرئيسي إلى جانب الماعز والخراف.
وليس في وسعنا أن ندرس الرعي التقليدي في جميع أشكاله
1
وذلك لتعدد هذه الأشكال، ولقلة ما تساهم به هذه الموارد في الثروة القومية والتجارة الدولية؛ ولهذا فإننا سنركز فقط على أشكال الرعي التجاري في العالم القديم والحديث معا. (3) الرعي التجاري
إن أهم أهداف الرعي التجاري هو رعاية الحيوان من أجل: (1)
بيعه في صورة حيوانات حية أو لحوم ومنتجاته المباشرة، وأهم الصوف والجلود. (2)
ألبانه ومنتجاتها. (3)
الاشتراك في الأعمال والدخول الزراعية.
وهناك مناطق تشترك فيها هذه الأهداف الثلاثة أو هدفان، كما أن هناك مناطق تقوم أساسا لأحد هذه الأهداف فقط، وسوف نعالج كل هدف على حدة تحت عناوين تربية الحيوان، الألبان، وأخيرا الزراعة المختلطة. (4) تربية الحيوان
يمتد نطاق تربية حيوان الرعي الواسع في القارات التالية انظر خريطة (
6-1 ): (1)
أمريكا الشمالية:
من كندا إلى وسط المكسيك، ويتركز في القسم الغربي من القارة. (2)
أمريكا الجنوبية:
من البرازيل الشرقية إلى جنوب الأرجنتين. كما يظهر أيضا في منطقة صغيرة من الشمال في سواحل وجبال فنزويلا. (3)
أفريقيا:
يظهر نطاق تربية الحيوان في القسم الجنوبي من أنجولا، ويمتد في ناميبيا وجنوب أفريقيا وزمبابوي. (4)
أوشينيا:
معظم أراضي أستراليا ونيوزيلندا أراضي رعي جيدة. (5)
آسيا:
وسط آسيا فقط حول بحر قزوين وارال. وهذه الحرفة حديثة دخلت المنطقة بناء على سياسة الاتحاد السوفييتي السابق، وحلت محل الرعي المتنقل.
وأهم حيوانات الرعي التجارية في هذه المناطق هي الأبقار والأغنام والماعز.
ولا يعني أن أكبر عدد من هذه الحيوانات موجود في هذه المناطق من العالم، بل إن هذه المناطق فقط هي التي تتميز بتربية الحيوان بغرض التجارة.
وتتميز تربية الحيوان باتباع الأساليب العلمية فيما يختص بغذاء الحيوان وتحسين سلالته من أجل أغراض معينة كاللحم أو الصوف، ووقاية الحيوان من الحيوانات المفترسة ومن الأوبئة.
وفي مناطق كثيرة تستخدم أساليب علمية للحفاظ على الحيوان ، مثل إدخال الحيوان في حمامات بها مواد كيميائية كما يطعم ضد الأمراض، كذلك تضبط مصادر المياه الطبيعية في المنطقة، وغالبا ما نجد مناطق الرعي الحديث تتميز بالآبار الارتوازية التي تدار بالكهرباء أو مراوح الهواء من أجل تأمين الماء للحيوان. أما الغذاء فهو إلى حد كبير العشب الذي ينمو طبيعيا، ولكن يزاد عليه أنواع مزروعة من البرسيم والحبوب وغيرهما.
ويلاحظ أيضا اتباع الوسائل العلمية من أجل الوصول بعدد الحيوان إلى الحد الأمثل بالمقارنة بالمصدر الطبيعي للغذاء؛ ولهذا فإن كثافة الحيوان تختلف من منطقة لأخرى حسب ظروفها الطبيعية. ومن أوضح الأمثلة على ذلك أن المناطق الجافة في جنوب غرب الولايات المتحدة تقل فيها الكثافة الحيوانية بشدة لأنه - حسب الدراسات - يحتاج الثور الواحد إلى ما يقرب من مائة فدان لكي يستطيع أن يشبع حاجته من الغذاء، بينما تهبط المساحة المطلوبة إلى ما بين 25 و75 فدانا للحيوان الواحد في مناطق الاستبس في جبال الروكي، وإلى ما بين 10 و25 فدانا في السهول العظمى.
وقد حدد الخبراء احتياج الثور أو البقرة بما يوازي احتياج الحصان، وما يوازي احتياج خمسة أغنام؛ ولهذا فإذا ذكر أن منطقة قدرتها تساوي عشرة، فإن ذلك يعني أنها تستطيع أن تفي بحاجة عشر بقرات من الغذاء، أو عشرة خيول، أو خمسين رأسا من الأغنام.
ولهذا؛ فإن مساحة الملكيات في أراضي الرعي التجاري غالبا ما تزيد عن ألف فدان، وهناك مساحات من الملكيات في جنوب وجنوب غرب الولايات المتحدة أكثر من 2500 فدان للملكية الواحدة.
وأكبر ملكية رعوية في الولايات المتحدة هي في تكساس حيث تصل إلى مساحة 865000 فدان، ولكن أكبر ملكيات الرعي في العالم تلك التي توجد في أستراليا؛ فهناك عدد من الملكيات يصل إلى 5000 ميل مربع «3,2 مليون فدان»، وأكبرها جميعا تصل إلى 1200 ميل مربع «7,6 مليون فدان».
ومن أهم وأبسط الأشياء المميزة للرعي الحديث فكرة إقامة سور حول مزرعة الحيوان، وعلى بساطة الفكرة إلا إن لها دورا هاما؛ فالسور: أولا: يحمي المنطقة من أن ترعى فيها حيوانات أخرى لئلا تفقد المنطقة جزءا من العشب الطبيعي المعد لغذاء الحيوان. وثانيا: يقوم السور عازلا بين الحيوانات داخله وخارجه؛ وبذلك يمنع انتقال الأوبئة والتهجين غير المستحب بين أنواع الماشية. وأخيرا؛ فإن السور له أهميته الخاصة كخط دفاعي أول ضد الحيوان المفترس واللصوص.
المميزات الطبيعية والبشرية
معظم مناطق الرعي التجاري السابق ذكرها تقع داخل النطاق المناخي الجاف أو على حدود الجاف، ولكنه ليس صحراويا، والاستثناء الوحيد مناطق المطر في نيوزيلندا والبرازيل وفنزويلا، ونتيجة للدراسة والتجربة؛ فقد عرف أن كمية المطر التي تقل عن 500ملم لا تصلح للزراعة في العروض المعتدلة؛ وبالتالي فهي أحسن المناطق للرعي. والحد الأدنى للأمطار في مناطق الرعي التجاري هو 250ملم في السنة، وأقل من ذلك يعتبر مخاطرة بالنسبة للحيوان.
ولا يعني هذا اقتصار الرعي على هذه المناطق فقط، بل نجد نطاق الرعي يمتد في بعض المناطق الباردة في كندا حيث تنمو غابات مخروطية، ويمتد كذلك في بعض المناطق المدارية كما هو الحال في البرازيل وأفريقيا.
وفي هذه النطاقات المناخية المختلفة نجد أنواعا من الحشائش المختلفة، ففي المناطق المدارية حشائش السفانا في أفريقيا وأستراليا وأقاليم اللانوس في فنزويلا وكامبوس في البرازيل وجران شاكو في بارجواي وبوليفيا والأرجنتين.
شكل 6-1: مناطق الرعي الواسع والألبان والزراعة المختلطة.
شكل 6-2: توزيع الأغنام في العالم.
ويلاحظ أن هذه الحشائش ذات نسيج خشن، كما أنها تنمو إلى ارتفاعات كبيرة مما يجعل قيمتها الغذائية أقل من حشائش النطاق المعتدل. ومناطق حشائش النطاق المعتدل تسمى بأسماء مختلفة مثل: «الاستبس» في وسط آسيا، و«البراري» في أمريكا الشمالية، و«البمبا» في الأرجنتين.
وهذه الحشائش أنعم من السفانا وطويلة أيضا وتعد في الواقع أحسن مناطق الأعشاب لتربية الحيوان.
أما درجة الحرارة؛ فإنها عادة ذات تأثير على الحيوان والإنسان معا في المناطق الجبلية في النطاقات المعتدلة، ولقد كان نتيجة ذلك تنقل فصلي من الوادي إلى أعالي الجبال في الصيف، سعيا وراء العشب النامي في منحدرات الجبال العالية.
أما درجات الحرارة العالية؛ فتعد - إلى حد ما وحسب المعلومات المعاصرة - عائقا أمام التربية التجارية للحيوان. ولهذا فإن نطاقات السفانا المدارية في أستراليا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية ما زالت أقل أهمية من النطاقات المعتدلة في المراعي التجارية.
أما النواحي البشرية المرتبطة بالرعي فتتلخص أولا في ارتباط نطاقات الرعي عامة بالمناطق القليلة السكان، وتتميز ثانيا بنوعين من أنواع الاستقرار البشري: الأول : النوع المبعثر من المساكن داخل المراعي. والثاني: النوع المتجمع في شكل قرى ومراكز الخدمات وتركيب سكان هذه القرى من ناحية الوظائف الاقتصادية يتركز حول الخدمات. ويتضح ذلك من النموذج التالي:
جدول 6-2: التركيب الوظيفي لقرية تورنجتون «ولاية وايومنج: الولايات المتحدة.»
نوع النشاط
النسبة المئوية من العمالة العامة
الزراعة
حرف أولية 5٪
4٪
التعدين
1٪
البناء
حرف الصناعة 17٪
9٪
الصناعة
8٪
التجارة
30٪
خدمات مهنية
14٪
خدمات خاصة
قطاع الخدمات 78٪
8٪
الإدارة
8٪
النقل
8٪
الأعمال المالية
5٪
خدمات وإصلاحات
5٪
ويوضح المثال السابق كيف أن أنماطا جديدة من وظائف المدن قد نشأت في مراكز الرعي الحديث. والحقيقة: أن الرعي الحديث قد نشأ بواسطة الجماعات الأوروبية الأصل التي هاجرت إلى أرجاء العالم الجديد، ووجدت في المناطق القليلة المطر أرضا جيدة لرعي الحيوان، ولكن الظروف الطبيعية في أقاليم الرعي الجديدة اختلفت عنها في أوروبا مما دعا إلى دراسات وتطبيقات عديدة انتهت إلى الصورة التي نجد عليها الرعي التجاري الحالي. (5) أنماط الرعي الحديث
المراعي في الولايات المتحدة
تختلف أنماط الرعي الحديث باختلاف نوع الحيوان الذي تدور حوله الحرفة؛ فلا شك أن احتياجات الأبقار من الغذاء ودورة حياة الأبقار الموسمية والسنوية تختلف كلية عن الأغنام أو الخنازير أو الإبل أو الخيل، كما أن منتجات الأبقار من لحوم معينة وألبان وجلود تختلف عن جلود ولحوم وألبان وصوف الأغنام؛ ومن ثم فإن أنواع المراعي وحياة الراعي ودورة الحياة السنوية والإنتاج والتسويق، تختلف من مكان إلى آخر حسب النوع الرئيسي للحيوان الذي يرعى.
ونظرا لاتساع نطاق الرعي في وسط الولايات المتحدة وغربها، واختلاف الظروف الإيكولوجية؛ فلقد أصبح الرعي الحديث في الولايات المتحدة يتناول عددا من الحيوانات المختلفة لكل منها مناطقه الخاصة؛ فالأبقار ترعى أساسا في نطاق السهول العليا، وداخل نطاق الذرة في وسط السهول الوسطى، وتنتشر في مناطق أخرى من وديان وهضاب الغرب، أما الأغنام فإنها موجودة في كل مكان، ولكن أهم مراكزها هي في الجنوب والغرب، ومن بينها أغنام الموهير التي تتركز الآن في وسط تكساس.
وبفضل القوانين الحكومية المختلفة وزراعة غذاء الماشية واتساع شبكة النقل الحديدي، أصبح رعي الحيوان في الولايات المتحدة من أكثر مناطق العالم تقدما، لكنه لا يساهم إلا بنسبة ضئيلة في التجارة العالمية؛ وذلك لإن ارتفاع مستوى المعيشة يوجه كل الإنتاج للسوق الداخلي الذي يستوعب واردات من اللحوم ومنتجاتها من الخارج أيضا.
الرعي في الأرجنتين
تشمل منطقة الرعي في الأرجنتين مساحة واسعة من حدودها الشمالية حتى جزيرة تيرادلفويجو، فيما يسمى بأقاليم جران شاكو في الشمال، والبمبا في الوسط، وبتاجونيا في الجنوب.
وسهول البمبا في الواقع من أحسن مناطق الرعي خاصة بعد إضافة البرسيم إلى غذاء الحيوان من الأعشاب الطبيعية، وتحسين سلالة الأبقار، وتتلقى سهول البمبا قدرا من الأمطار يتراوح بين 450ملم في الغرب وألف ملم في الشرق، موزعة على مدار السنة بزيادة كبيرة في الصيف. ودرجة الحرارة معتدلة خاصة في الشتاء؛ مما يسمح باستمرار الرعي في الهواء الطلق، ولا يخلق ضرورة لتخزين الغذاء الحيواني للشتاء، ولكن قلة الأنهار في البمبا تجعل من الضروري إنشاء مصادر للمياه في صورة آبار تدار بمراوح الهواء ومخازن كبيرة للمياه يتسع الخزان الواحد منها إلى 3500000 لتر من الماء.
وتقسم الملكية الواحدة
Estancia
بواسطة الأسلاك الشائكة إلى عدة أقسام حسب جودة الحشائش وموسم نموها، وحسب نوع وسلالة الأبقار ومراحل عمرها، وبهذا لا يسمح باستهلاك الغذاء في فترة نموه، إنما بعد اكتمال نموه.
وهذه سياسة ممتازة في المحافظة على الغذاء وإعطائه للحيوان بعد أن يكون قد أصبح فعلا أكثر فاعلية وأكبر كمية في الغذاء، ويؤدي هذا التقسيم إلى عدم اختلاط السلالات من ناحية، وإلى التدرج في تسمين الحيوان، حتى إذا اقترب موسم بيعه يكون قد بلغ الحد الأعلى من التسمين مع المحافظة على نقاء السلالة وتنظيم مورد العشب والبرسيم للأجيال التالية.
ولقد أدت زراعة البرسيم في المناطق المتوسطة والقليلة المطر إلى تحويل ملايين الأفدنة إلى مناطق رعي يتكاثف فيها الحيوان؛ وبذلك أمكن رفع إنتاجية المراعي. ومما يدل على ذلك أن قدرة البرسيم على تغذية الحيوان تساوي أربع مرات قدرة الحشائش الطبيعية، وبعبارة أخرى أمكن زيادة عدد الحيوان بمقدار قد يصل أحيانا إلى أربع مرات قدر ما كان، أو أصبح في الإمكان تسمين الحيوان في فترة تقل بمقدار سنة عما يمكن للعشب الطبيعي أن يقدمه من غذاء لازم للتسمين.
ولقد كانت الملكيات في غالبيتها كبيرة، وعدد كبير منها كان يتجاوز 25 ألف فدان، ولكن قوانين الإصلاح التي قدمتها الحكومات بدءا من حكومة «بيرون» السابقة قد أدت إلى تقسيم هذه الملكيات الواسعة.
وكذلك ساعد على تقدم حرفة الرعي شبكة الخطوط الحديدية التي جعلت كل مناطق البمبا في حدود لا تبعد أكثر من 70 كيلومترا عن أي خط حديدي. ولذلك؛ فإن النقل الحديدي يؤمن سلامة وصول الحيوان إلى موانئ التصدير أو المذابح الحكومية، ويقلل فقدان الوزن، وقد أدى اهتمام الحكومة بهذا المورد إلى أن تكون الأرجنتين بين دول العالم الكبرى في تصدير لحوم الأبقار، وتساهم بنسبة كبيرة في تصدير لحوم الأغنام.
2
رعي الأغنام في أستراليا
وتتركز تربية الأغنام في أستراليا في منطقتين؛ الأولى: في الجنوب الشرقي. والثانية: في الجنوب الغربي. وتتميز مراعي الجنوب الشرقي بأنها منطقة جبلية مطيرة ذات أعشاب جيدة، يضاف إليها زراعة أنواع أخرى من الغذاء الحيواني، وهذه المنطقة أيضا تكون أكبر مركز لرعي الماشية الأسترالية، وعلى هذا فإن منطقة الجنوب الشرقي هي منطقة تسمين الحيوان؛ وبالتالي فإن أهم أغراضها التجارية تصدير اللحوم.
أما مراعي الغرب الجافة وشبه الجافة؛ فإن رعي الأغنام يتجه أساسا إلى إنتاج الصوف، وتتميز هذه المنطقة بضرورة القيام بحفر الآبار من أجل تأمين المياه، إلى جانب إقامة خزانات كبيرة لخزن مياه المطر الفصلي، ومثل هذه الإجراءات من أجل تأمين المياه نلحظها في حوض مري دارلنج في الإقليم الأوسط، والإقليم الواقع إلى غرب جبال أستراليا الشرقية. وتتضافر جهود أصحاب المراعي والحكومة معا في سبيل تأمين الماء اللازم، وإلى جانب الماء؛ فإن على الرعاة تأمين غذاء للماشية للفصل الجاف.
وعلى عكس شبكة النقل الحديدي الممتازة في مراعي الأرجنتين، نجد أن معظم مراعي أستراليا في الوسط والغرب تتميز بفقر النقل الحديدي؛ مما يؤدي إلى سير الحيوانات على أرجلها مسافة بضع مئات من الكيلومترات إلى أقرب خط حديدي في حالة حدوث جفاف؛ لكي يمكن نقلها إلى مناطق أوفر ماء أو غذاء، ولكن هذه العملية مكلفة فلا يستطيعها سوى أصحاب المراعي الأثرياء.
3
وإلى جانب مشكلات الجفاف والنقل هناك مشكلة الأرانب التي تعاني منها مراعي أستراليا بشدة، فقبل اكتشاف أستراليا لم يكن فيها أرانب، وحتى سنة 1863 كانت الأرانب تربى في مزارع مسورة في إقليم فكتوريا في أقصى الجنوب الشرقي، ثم تهدم السور بعد حريق؛ فأفلتت الأرانب وتوالدت وانتشرت بسرعة عظيمة في كل أرجاء القارة، ورغم إقامة ما طوله الآن 165 ألف كيلومتر من الأسوار بطول القارة فإن الأرانب ما زالت تقضي على المراعي وتشرب المياه التي تعد لحيوان الرعي، وقد بلغ عددها نحو 500 مليون أرنب عام 1950.
وفي تلك السنة اكتشف العلماء «فيروس» يقتل الأرانب ولا يضر الأغنام. وقد تم حقن خمسمائة أرنب بهذا الفيروس، وأطلقت في أرجاء أستراليا، وساعد الناموس على نقل الفيروس إلى الأرانب؛ مما أدى إلى موت ملايين منها، ولكن هناك خوفا من أن تستطيع الأرانب أن تنجب سلالة لها مناعة ضد الفيروس، ومما يوضح خطورة الأرانب أن كل ستة أرانب تموت يؤدي إلى توفير الغذاء لرأس من الغنم.
وإلى جانب مشكلات الأرانب، هناك مشكلة الكلاب البرية التي تنتشر في القسم الشرقي على الحدود بين الصحراء والمراعي.
وقد دلت الإحصائيات على أن هذه الكلاب قد قتلت 45 ألف رأس من الأغنام في منطقة بروكن هيل في عام واحد، ولكن المكافأة التي تعطى لقتل هذه الكلاب قد أدت إلى تناقص عددها.
وهناك غير ذلك: مسألة انتشار النباتات الشوكية التي تقضي على مساحات العشب، والتي تحارب بشدة بواسطة مصلحة استصلاح الأراضي، وكذلك مشكلة أمراض الماشية المختلفة.
ورغم هذه العقبات فإن مراعي أستراليا غنية وواسعة؛ مما جعل منها دولة ذات أهمية كبرى في تصدير اللحوم والألبان والجلود والصوف، ومراعي أستراليا مسورة ومنظمة حسب مواسم البرسيم المزروع على غرار الطرق العلمية للرعي في الأرجنتين وغيرها من الدول المتقدمة. (6) إنتاج اللحوم
يوضح الجدول (
6-3 ) أن الإنتاج العالمي لجميع أنواع اللحوم 1994 قد بلغ 193,8 مليون طن، وأن أكبر أنواع اللحوم هي لحوم الخنازير التي بلغت 39,5٪ من مجموع اللحوم، تليها لحوم البقر والجاموس بنسبة نحو 29٪، ثم نسبة لحوم الدواجن بنسبة 25٪، وأخيرا الأغنام والماعز بنسبة نحو 5٪ فقط.
كما يتضح أيضا أن الصين هي أكبر منتج للحوم بجميع أنواعها «21٪ من العالم» وإن كانت هذه الصدارة ترجع إلى ضخامة إنتاج لحم الخنازير التي تمثل نحو خمسي لحوم الخنزير العالمية، وكذلك إلى ارتفاع لحوم الأغنام «صدارة العالم بنسبة 14٪» والدواجن «12٪ من العالم» بينما تتدنى نسبة لحوم البقر والجاموس في الصين إلى نحو 4٪ فقط. هذه الضخامة في إنتاج اللحوم ترجع - بلا شك - إلى الاستهلاك المحلي الكبير لكتلة السكان الضخمة في الصين «1,2 مليار شخص».
جدول 6-3: الدول العشر الأولى في إنتاج اللحوم في 1994. *
الدولة
إنتاج جميع أنواع اللحم ٪
لحم الخنزير ٪
لحم البقر والجاموس ٪
لحم الغنم ٪
لحم الدواجن ٪
الصين
41,4
21,3
31,1
40,6
2,2
4,1
1,4
14,3
6,1
12,6
الولايات المتحدة
32,0
16,5
7,6
9,9
11,0
19,8
0,15
1,5
13,0
26,9
البرازيل
8,0
4,1
1,2
1,6
3,1
5,6
0,13
1,2
3,4
7,2
روسيا
7,3
3,8
2,4
3,1
3,3
6,0
0,25
2,5
1,3
3
فرنسا
6,1
3,1
2,1
2,8
1,6
3,0
0,16
1,7
1,8
4
ألمانيا
5,7
2,9
3,5
4,6
1,5
2,7
0,04
0,4
0,6
1,3
الهند
4,1
2,1
0,4
0,5
2,4
4,4
0,64
6,5
0,4
0,9
إيطاليا
4,0
2,0
1,3
1,7
1,1
2,1
0,08
0,08
1,1
2,3
إسبانيا
3,7
1,9
2,0
2,7
0,4
0,8
0,24
2,4
0,8
1,7
الأرجنتين
3,7
1,9
0,1
0,2
2,7
4,9
0,08
0,7
0,6
1,3
العالم
193,80
76,56
55,48
9,82
48,32 *
Fisher weltalmanach, Frankfurt, 1996 .
وفي مقابل الصين نجد الولايات المتحدة تتصدر دول العالم في إنتاج لحوم البقر بنسبة تكاد تبلغ خمس الإنتاج العالمي، وكذلك ترتفع لحوم الدواجن إلى أكثر من ربع الإنتاج العالمي، بينما تتدنى نسب إنتاج لحم الخنزير إلى العشر، وتهبط لحوم الأغنام كثيرا.
وسبب صدارة الولايات المتحدة في إنتاج لحوم البقر والدواجن راجع إلى الاستهلاك المحلي الكبير ذو المنسوب المادي العالي، كما يرجع أيضا إلى أن الأبقار الأمريكية ذات أوزان كبيرة لحسن رعايتها وتغذيتها، ويتضح ذلك من أن وزن البقرة الأمريكية هو في حدود 275كجم مقابل البقرة في الصين التي تبلغ في المتوسط 109كجم؛ أي أقل من نصف الأمريكية.
4
ونلاحظ من الجدول أيضا انخفاض نسبة إنتاج لحوم الأغنام برغم كثرة الأغنام في أستراليا «نحو 20٪»، وأوروبا 12٪، ولكن معظم الأغنام هذه تربى للصوف أكثر منها للحوم. أما أغنام آسيا وأفريقيا «= 25٪ معا»، فهي تساهم - بلا شك - في غذاء الملايين من السكان في دول القارتين، سواء كان ذلك نتيجة لتفضيلها كما في الشرق الأوسط، أو أنها بديل لحم الأبقار ذات الوظيفة الاجتماعية والزراعية في معظم آسيا وأفريقيا المدارية، أو لتعويض نقص لحوم البقر التي تمنع الاعتبارات الدينية ذبحها كما هو الحال عند أتباع الديانة الهندوسية.
تجارة اللحوم الدولية
حتى أوائل الستينيات كانت 94٪ من صادرات اللحوم الطازجة والمبردة والمجمدة حكرا على خمس دول كلها تقع في النصف الجنوبي من العالم. تلك هي: الأرجنتين، وأورجواي، وجنوب أفريقيا، وأستراليا، ونيوزيلندا. وكذلك نجد أن أكثر من 80٪ من تجارة اللحم الدولية تستوردها سبع دول في النصف الشمالي من العالم، هي بالترتيب: بريطانيا، والولايات المتحدة، وألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، واليابان، وكندا.
ولا يعني هذا أن الدول المصدرة الخمس أكثر دول العالم غنى بالثروة الحيوانية؛ فهذه الدول تمتلك فقط ما يقرب من 9٪ من عدد ماشية العالم و30٪ من أغنام العالم، وكذلك فليست الدول المستوردة السبع أفقر دول العالم من حيث الثروة الحيوانية، بل إنها معا تمتلك قرابة 21٪ من ماشية العالم.
والحقيقة إن عدد السكان في كلا المجموعتين من الدول مختلف اختلافا ضخما؛ فعدد سكان الدول الخمس المصدرة معا 55 مليونا، بينما عدد السكان في مجموعة الدول المستوردة 514 مليونا؛ أي النسبة واحدة إلى عشرة، ولكن هذه المقارنة بين أعداد السكان في حقيقة الأمر غير كافية؛ فإن مساحة الأرض وكثافة السكان هي الفارق الحقيقي بين المجموعتين؛ فمساحة الدول المصدرة للحوم كبيرة بالقياس إلى دول المجموعة الأخرى، باستثناء كندا والولايات المتحدة. ويضاف إلى ذلك أن مستوى الدخل والمعيشة في الدول المستوردة عال على وجه العموم؛ مما يؤدي إلى استهلاك كميات كبيرة من البروتينات الحيوانية.
5
ولكن هذه الصورة اختلفت كثيرا بعد 30 سنة، وقد دخلت دول أوروبية وأمريكية مضمار تصدير اللحوم؛ هي الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وهولندا وأيرلندا، إلى جانب احتفاظ أستراليا بصدارة نسبية، واستمرار نيوزيلندة من بين قائمة الدول المصدرة للأغنام، ويتضح ذلك بجلاء من الجدول (
6-4 )، والذي نرى منه شيئا من التخصص في أنواع اللحوم لكل دولة. فأستراليا تصدر لحوم الأبقار والأغنام، والولايات المتحدة وفرنسا أبقار ودواجن وألمانيا أبقار وخنزير ... إلخ.
ومنذ أوائل الستينيات حتى الآن فإن 70٪ من واردات اللحوم تتجه إلى سبع دول في نصف الكرة الشمالي (بريطانيا، الولايات المتحدة، ألمانيا، إيطاليا، فرنسا، اليابان، روسيا)، وليس ذلك بمستغرب حيث إن هذه هي الدول الغنية التي تتمتع شعوبها برفاهية كبيرة.
والخلاصة أن أكبر الدول التي تمتلك رءوسا من حيوانات التربية والرعي ليست بالضرورة هي التي تتصدر قائمة المصدرين؛ فهناك موضوعات كثيرة ترجح أن مثل هذه الدول تستهلك معظم إنتاجها من اللحوم محليا مثل البرازيل، أو تصدر وتستورد معا بكميات كبيرة كالولايات المتحدة التي تستهلك الكثير من اللحوم نظرا لارتفاع متوسطات الدخل الفردي وارتفاع أشكال الحياة المرفهة. وفي هذا تتشابه أوروبا جزئيا مع الولايات المتحدة فهي على قائمة التصدير والاستيراد معا خاصة دول أوروبا الغربية.
وتحتل أستراليا ونيوزيلندة مكانا جيدا في دول التصدير برغم إنهما لا يملكان أعدادا كبيرة من الماشية، ويرجع السبب إلى أن قلة السكان في الدولتين يجعل الاستهلاك المحلي صغيرا مما يسمح بفائض كبير للتصدير في صورة لحوم أو ماشية وأغنام حية.
جدول 6-4: التجارة العالمية للحوم سنة 1991، أهم الدول المصدرة بألف طن.
الدولة
لحم البقر
لحم الأغنام
لحم الخنزير
لحم الطيور
أستراليا
674,3
165,8
ألمانيا
612,2
224,5
فرنسا
377,6
457,4
الولايات المتحدة
340,5
564
هولندا
306,1
771,1
275,4
أيرلندة
281,4
نيوزيلندة
236
374,5
الدانمرك
471,6
بلجيكا/لكسمبورج
278,1
كندا
220,4
برازيل
303
المجر
193,2
أهم الدول المستوردة للحوم بألف طن سنة 1990.
الدولة
لحم البقر
لحم الأغنام
لحم الخنزير
لحم الطيور
الولايات المتحدة
699,7
233,8
إيطاليا
450,8
503,2
فرنسا
376,4
124,7
290,8
اليابان
376,1
64,6
343,4
301,4
ألمانيا
250,9
550
302,4
روسيا
200
260,0
بريطانيا
130
البلاد العربية
220
وكذلك فإن تخصص جزء من الثروة الحيوانية في أوروبا وروسيا وأمريكا الشمالية في إنتاج الألبان يخرج هذا الجزء من التعامل كمصدر للحم؛ ومن ثم كان الاستيراد الكبير للحوم في أوروبا وأمريكا، بينما يستهلك الروس معظم إنتاجهم محليا، وربما كان ذلك استمرارا لسياسة الاتحاد السوفييتي السابقة في الاتجاه نحو الكفاية الذاتية قبل التصدير أو الاستيراد.
وأخيرا؛ فإن ظهور البلاد العربية، وخاصة دول الخليج في قائمة الاستيراد راجع - بدون شك - إلى ضعف الإنتاج المحلي وإلى الثراء الناجم عن البترول؛ مما يؤدي إلى استيراد كبير، وخاصة لحوم الأغنام والدواجن. (7) إنتاج الصوف وتجارته
في عام 1968 بلغ إنتاج الصوف العالمي 2,8 مليون طن من الصوف الخام، وانخفض قليلا عام 1994 إلى 2,7 مليون طن، والصوف الخام يحتوي على ما يتراوح بين 40٪ و65٪ من الشوائب.
جدول 6-5: إنتاج الصوف النقي «1994».
الدولة
الكمية
الدولة
الكمية
أستراليا
735
ج. أفريقيا
78
نيوزلندة
278
أوروجواي
78
الصين
249
بريطانيا
59
روسيا
180
باكستان
52
كازاخستان
100
الجزائر
50
الأرجنتين
91
شكل 6-3: مناطق توزيع الماشية والأغنام في أمريكا الجنوبية.
كانت دول النصف الجنوبي في 1968 تحتكر نحو ثلثي إنتاج الصوف النقي عالميا، وذلك أمر طبيعي؛ نظرا لتركز مراعي الأغنام في مراعي الجنوب باستثناء الاتحاد السوفييتي الذي اعتنى بثروته من الأغنام في مراعيه الواسعة، شبه الجافة في وسط آسيا، ولكننا نرى انخفاض نسبة احتكار الجنوب إلى نحو النصف في عام 1994 بعد أن دخلت الصين (التي احتلت المرتبة الثالثة) وباكستان والجزائر، وكلها لديها مزارع شبه جافة صالحة للأغنام.
وفي إنتاج الصوف علينا أن نراعي ثلاثة أنواع رئيسية هي: المرينو والمختلط، وأخيرا صوف السجاد.
وأحسن هذه الأنواع هو المرينو أو كاراكول، ويربى في المناطق شبه الجافة في غرب أستراليا وجنوب أفريقيا وناميبيا وتركيا ومناطق من آسيا الوسطى وهضاب إيران والأناضول وتكساس في الولايات المتحدة. والأغنام هنا تربى للصوف أساسا باستثناء وسط آسيا وإيران وتركيا، حيث تربى للصوف واللحم معا (مناطق الرعي التقليدي).
أما الصوف المختلط فيظهر في مناطق المراعي الأوفر مطرا كما هو الحال في نيوزيلندة وغرب أوروبا وأوروجواي والأرجنتين وشرق أستراليا - وهنا تربى الأغنام للصوف واللحم معا - أما صوف السجاد الأقل رتبة فيظهر في مراعي الدول المدارية في أفريقيا ومع رعاة كردستان وأفغانستان وجبال إيران؛ التي اشتهرت هي ووسط الأناضول بإنتاج أفخر أنواع السجاد العالمي الفارسي والتركي.
ولهذا فأرقام الإنتاج السابقة لا توضح النوع، وبالتالي القيمة النقدية للإنتاج. فإذا عرفنا أن نحو 75٪ من أصواف أستراليا هي من المرينو، وأن 20٪ فقط من صوف الاتحاد السوفييتي هو من المرينو، و3٪ من صوف نيوزيلندة هو من هذه الأصواف الراقية، لأمكننا أن نكون فكرة واضحة عن قيمة الإنتاج الحقيقية. وثمة مثال آخر؛ فإن إنتاج جنوب أفريقيا صغير لكنه عالي القيمة؛ لأن 90٪ منه من صوف المرينو.
وفي مجال التجارة الدولية للصوف نجد أن الدول المنتجة الكبيرة هي الدول المصدرة للصوف، وخاصة في دول الجنوب، وإن معظم تجارة الواردات تتجه إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان. (8) إنتاج الألبان
بعد مضي فترة، منذ استئناس الحيوان عرف الإنسان الإفادة من أول إنتاج للحيوان مباشر له وهو اللبن، ولكن شرب اللبن طازجا تدرج بعد ذلك إلى عدة معارف انتهت إلى ما نسميه بتصنيع الألبان أو منتجات الألبان، وما زالت قبائل رعوية كثيرة بدائية تعيش فقط على شرب الألبان دون أن تستطيع الوصول إلى تحويله إلى منتجاته. والحقيقة إن الحاجة إلى حفظ اللبن فترات أطول من أجل تخزين الطعام في المناطق الجافة وشبه الجافة الرعوية والزراعية، هي التي أدت بالإنسان إلى اكتشاف خصائص اللبن وإمكانية استخلاص موارد غذائية منه أطول عمرا وأصلح للحفظ من اللبن الطازج؛ ومن ثم كان اكتشاف الزبد والسمن والجبن والمش بأنواعها العديدة.
وفي الوقت الحاضر يصنع اللبن في شتى الأشكال (مركز، مسحوق ... إلخ) تصنع منتجاته في صور عديدة: زبد وسمن وأجبان مختلفة، في معظم دول العالم المتقدمة والمتخلفة على حد سواء؛ ولكن أهم مناطق الإنتاج الحديث الذي يدخل في التجارة الدولية تتركز في ثلاثة نطاقات أساسية هي انظر خريطة (
6-1 ). (1)
النطاق الأوروبي:
ويمتد من موسكو شرقا إلى بريطانيا وشمال فرنسا غربا، ويشمل جنوب السويد والنرويج والدانمرك وهولندا وبلجيكا وشمال ألمانيا وبولندا وشرق البلطيق ووسط روسيا الأوروبية وجنوب فنلندا. ويمتد هذا النطاق مسافة تقرب من 3500 كيلومتر. (2)
النطاق الأمريكي:
ويمتد من ساحل الأطلنطي بين كوبيك وواشنطن، ويتوغل مسافة تقرب من 3000 كيلومتر إلى البحيرات العظمى والبراري، وبذلك يشمل جنوب شرق كندا وشمال شرق الولايات المتحدة. (3)
النطاق الأسترالي:
ويمتد في جنوب شرق أستراليا إلى تسمانيا ونيوزيلندة، وتوزيع هذه النطاقات يوضح ارتباط الألبان ومنتجاتها بالنمط الحضاري الغربي الصناعي والمديني، ولا شك في أن ذلك مرتبط بأسعار الألبان ومنتجاتها المصنعة التي هي في الحقيقة عالية نسبيا إذا ما قيست بالأرز على سبيل المثال. والغالب أن ارتفاع أسعار الألبان ومنتجاتها مرتبط بتكاليف حفظها بالطرق العلمية والصناعية الحديثة المكلفة. ولا أدل على تركز النطاقات وارتباطاتها بالمدن من حالة الولايات المتحدة، حيث ينتشر النطاق مع سلسلة المدن الكبيرة الصناعية التجارية بين شيكاجو وواشنطن ونيويورك وبوسطن.
وكذلك ارتباط النطاق الأوروبي بسلسلة العواصم والمدن الكبرى، ولا شك في أن وسائل النقل الحديثة، وخاصة سيارات الألبان المجهزة بصهريج كبير؛ قد ساعدت على اطراد نمو إنتاج الألبان بتسويقها طازجة في المدن الكبرى أكثر من نقل الألبان بواسطة القطارات.
ولكن تموين المدن بالألبان الطازجة ليس كل شيء؛ فالمدينة تحتاج إلى منتجات الألبان في صورها العديدة؛ ومن ثم نشأت في بعض المدن صناعة منتجات الألبان؛ ونظرا لأن اللبن الطازج يفسد بسرعة فقد أدى هذا إلى ظهور مناطق إنتاج الألبان قريبة من المدن.
6
أما منتجات الألبان فهي ليست سريعة التلف؛ ولذلك فإن مراكز تصنيع الألبان لا توجد بالضرورة في كل المدن، بل تتركز في مناطق قد تكون بعيدة عن المدن الكبيرة بعض الشيء، وفي هذا المضمار يلاحظ أن مناطق صناعة الجبن أقرب إلى المدن من مناطق صناعة الزبد.
ونظرا لأن الزبد يحتاج إلى كمية من اللبن أكبر من الجبن؛ فإن الزبد أضمن الوسائل لحفظ اللبن من الخسارة؛ ولذلك فإن مناطق صناعة الزبد أبعد من مناطق صناعة الجبن بالنسبة لمراكز الاستهلاك، وهذا في حد ذاته يفسر ارتفاع أسعار الزبد
7
عن الجبن لما يستهلكه من لبن وما يتكلفه من نقل أطول من الجبن.
وإذا قلنا: إن نطاقات الألبان الثلاثة مرتبطة بالمدن والاستهلاك الكبير وشبكة المواصلات، فإن ذلك لا يعني أن الشروط الطبيعية لظهور مثل هذه النطاقات أمر غير ذي بال، ومن البديهي أن تشارك الظروف الطبيعية مشاركة كبيرة في ظهور مثل هذه النطاقات، ويتضح أثر هذه الظروف إذا ما درسنا منطقة تموين المدينة الواحدة بالألبان أو ما يمكن أن يسمى حظيرة اللبن
Milkshed
فهناك مدن تحيطها حظيرة اللبن إحاطة شبه كاملة، وهناك مدن تتركز منطقة تموينها باللبن في جانب منها فقط، أو يطغى جانب على الآخر. ومن أوضح الأمثلة على ذلك أن حظيرة اللبن الخاصة بمدينة شيكاجو تمتد في نطاق مستمر مسافة 250 كيلومترا شمالي المدينة، بينما تقل سماكة الحظيرة في الجنوب إلى مسافة 65 كيلومترا.
ومن أهم الشروط الطبيعية لحيوان الألبان أن تكون المنطقة مطيرة، على عكس نطاقات تربية الحيوان التي تنتشر في مناطق شبه جافة وجافة، ويرتبط حيوان اللبن أيضا بدرجات حرارة منخفضة وخاصة صيف غير حار، ولهذا نجد أن مناطق الألبان موزعة في المناطق الباردة نسبيا.
وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل إنتاج بقر اللبن الممتاز أقل إذا ما نقل البقر إلى مناطق حارة نسبيا. وإلى جانب شروط المطر والحرارة نجد أن نطاقات الألبان تظهر في مناطق التربة الفقيرة نسبيا، هنا نجد زراعة غذاء الماشية أنسب محصول؛ وبالتالي تتغذى عليه أبقار اللبن، واختلاف نوع التربة هو الذي يفسر شكل حظيرة اللبن حول المدن الكبرى. فانكماش سماكة حظيرة ألبان شيكاجو في الجنوب راجع إلى خصب التربة؛ مما يؤدي بالمزارعين إلى الاتجاه إلى زراعة المحاصيل الأوفر ربحا مثل القمح أو الذرة.
وأخيرا فإن الأرض السهلية المنبسطة أكثر تشجيعا على زراعة الحبوب وغيرها بينما الأرض المضرسة أصعب؛ وبالتالي تترك لنمو الحشائش، وهكذا تظهر فيها مناطق رعي وتربية حيوان الألبان.
وفي أوروبا نجد أن ملكيات حيوان اللبن أقل من الولايات المتحدة.
8
وسبب هذا مرتبط بمساحات الأرض الكبيرة في أمريكا والصغيرة في أوروبا، ونظرا لصغر المساحات في أوروبا؛ فإن الحيوان لا يرعى العشب طبيعيا كما هو الحال في معظم ملكيات الولايات المتحدة، بل تزرع الأرض من أجل الغذاء الحيواني، بالإضافة إلى استيراد كسب بذرة القطن من أمريكا وذرة من الأرجنتين، وبالإضافة أيضا إلى محاصيل درنية كالبطاطس والبنجر واللفت، ونظرا لنمو المدن الأوروبية؛ فإن استهلاكها من اللبن الطازج يجعل حظائر اللبن الخاصة بهذه المدن تحتاج إلى ألبان طازجة من أيرلندا، وقد أدى هذا إلى أن تتخصص المناطق المتطرفة من نطاق الألبان الأوروبي في إنتاج الزبد والجبن، بينما تكاد مراكز النطاق تكفي المدن الأوروبية حاجتها من اللبن الطازج؛ ولهذا فإننا نرى مراكز تصنيع الألبان توجد في فنلندا والسويد والنرويج والدانمارك وأيرلندا وسويسرا، وكلها على هامش نطاق الألبان الرئيسي، ولكل من هذه المناطق شهرة معينة في نوع ما من أنواع المنتجات، لقد تخصص الدانمركيون في الزبد، والهولنديون في أجبان معينة، والسويسريون في أنواع أخرى.
إنتاج اللبن وتجارته
يكون إنتاج اللبن العالمي من حيث الوزن جزءا كبيرا من الإنتاج الغذائي؛ ففي السنوات الأخيرة ظل إنتاج لبن البقر يتراوح بين 350 و450 مليون طن، ولا يمكننا الكلام عن إنتاج اللبن بصورة مطلقة، بل علينا أن نضع في الاعتبار عدد حيوان اللبن وإنتاجية الأنواع المختلفة من الحيوان.
وفي سنة 1987 كانت أعلى إنتاجية توجد في الولايات المتحدة، حيث تدر البقرة في المتوسط 6214كجم في العام، تليها هولندا والدانمارك بنحو 5600 كيلوجراما، ثم اليابان 5264كجم، وتتراوح بعد ذلك في أوروبا الغربية والوسطى بين 3000كجم و4500 كيلوجرام، وفي كندا إلى 4857 كيلوجراما. ثم تهبط في نيوزيلندة إلى 3498. وأستراليا 3460، وفي الاتحاد السوفييتي إلى 2415 كيلوجراما في السنة.
وعلى الرغم من الإنتاجية الكبيرة للبن فإن الجزء الذي يدخل التجارة الدولية قد يصل إلى جزء من مائة من مجموع الإنتاج (بما في ذلك منتجات الألبان). ولا شك في أن ذلك راجع إلى إن معظم منتجات اللبن تستهلك محليا.
جدول 6-6: متوسط إنتاجية البقرة بالقارة «كجم/سنة» 1987.
القارة
الإنتاجية كجم
القارة
الإنتاجية كجم
أفريقيا
473
أمريكا ش
4042
آسيا
810
أوروبا
3778
أمريكا ج
1004
أوشينيا
3449
الاتحاد السوفييتي
2415
العالم
2090
ويتضح من هذا الجدول كيف أن هناك فروقا ضخمة في إنتاجية البقرة بين العالم النامي والمتقدم. فأفريقيا تساوي أقل من ربع المتوسط العالمي وترتفع آسيا إلى نحو 39٪ من المتوسط العالمي، بينما تكاد أمريكا الجنوبية تبلغ نصف المتوسط، أما العالم المتقدم فيرتفع عن المتوسط كثيرا: أمريكا الشمالية تكاد أن تصبح ضعف المتوسط، وأوروبا 180٪، وأوشينيا 165٪، ولا يرتفع الاتحاد السوفييتي السابق عن المتوسط العالمي إلا قليلا 115٪.
ويوضح الجدول (
6-7 ) أن أوروبا على رأس العالم في الإنتاج، وإذا أضفنا إليها الاتحاد السوفييتي أصبح إنتاجهما معا قرابة 60٪ من إنتاج ألبان العالم، كما يوضح إن معظم ألبانها من الأبقار، كذلك الحال في الأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا.
أما آسيا فتتميز بأنها الوحيدة التي تنتج ألبانا من جميع أنواع حيوان اللبن، وأن أكثر ألبانها من الجاموس والأبقار، وعلى هذا نستطيع أن نستخلص أن نطاقات الألبان الرئيسية الثلاثة في العالم تعتمد اعتمادا كليا على ألبان البقر .
وعلى الرغم من الكمية الهائلة من الألبان المنتجة في أوروبا؛ فهي أكبر مستورد لمنتجات الألبان، ويوضح الشكل التالي هذه الحقيقة بناء على أرقام 1994.
جدول 6-7: الإنتاج العالمي للألبان (ألف طن متري).
القارة أو الإقليم
ألبان البقر
ألبان الجاموس
ألبان الأغنام
ألبان الماعز
مجموع الألبان
1987
1968
1987
1968
1987
1968
1987
1968
1987
1968
أوروبا
178487
147179
76
79
3738
2931
1691
1670
183992
151860
الاتحاد السوفييتي
102880
81600
2812
100
1564
600
107256
8235
أمريكا الشمالية
83907
61517
348
84255
61517
أمريكا اللاتينية
27631
22800
132
324
27763
23164
الشرق الأدنى
43203
6537
32474
1159
3701
2211
3778
1560
83156
11465
الشرق الأقصى
20325
18065
59
1296
59945
أفريقيا
12055
7558
1400
1267
450
1698
788
16420
8800
أوشينيا
13495
13320
13495
13220
العالم
461658
363800
33951
19400
8864
5780
8048
6300
512521
395300
إنتاج وتجارة منتجات الألبان.
الفئة
ألبان مجففة
ألبان طازجة ومركزة
جبن
زبد
أهم المنتجين
منتشر في قارات الشمال.
منتشر في قارات الشمال.
هولندا، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، بريطانيا، روسيا، الولايات المتحدة.
هولندا، ألمانيا، فرنسا، روسيا، الولايات المتحدة، أوكرانيا، نيوزيلندة.
أهم المصدرين
نيوزيلندة، هولندا، ألمانيا، فرنسا.
هولندا، ألمانيا.
هولندا، ألمانيا، فرنسا، دانمرك.
نيوزيلندة، هولندا، ألمانيا، فرنسا، بلجيكا.
أهم المستوردين
منتشر عالميا.
منتشر عالميا.
ألمانيا، إيطاليا، بريطانيا.
ألمانيا، بريطانيا، روسيا. (9) الزراعة المختلطة
إن أهم صفة لهذا النوع من النشاط الاقتصادي هو أنه يجمع بين عملين في وقت واحد، هما: الزراعة وتربية الحيوان معا؛ وبالتالي يكون الدخل مزدوجا، وإذا نظرنا إلى الموضوع نظرة واسعة شاملة لوجدنا أن معظم فلاحي العالم يملكون عددا من رءوس الماشية أو الأغنام أو الماعز إلى جانب بعض الدواجن، وكلما كان الفلاح أكثر ثروة كانت لديه رءوس أكبر عددا.
والغرض من ذلك إلى جانب الحصول على دخل إضافي من بيع الحيوانات؛ زيادة تأمين موارد الأسرة الغذائية من اللحم واللبن والزبد والجبن والبيض من ناحية، وضمان تسميد الأرض وزيادة خصبها بواسطة مخلفات الحيوان من ناحية ثانية، وعلى هذا فالزراعة المختلطة بمعناها العام واسعة الانتشار في غالبية مناطق الزراعة العالمية، ولكن للزراعة المختلطة معنى خاصا أضيق؛ ذلك هو تربية أعداد كبيرة نسبيا من الحيوان للإفادة منها تجاريا؛ أي بغرض التسمين ثم البيع، ولهذا فإن جزءا من النشاط الزراعي يرتبط ارتباطا وثيقا بالحيوان، ومعنى هذا أن الغذاء الحيواني له حسابه في الدورة الزراعية، وبهذا فإن الزراعة المختلطة بمعناها الضيق تقتصر على مساحات معينة من الأراضي الزراعية في العالم موزعة على النحو التالي: (1)
النطاق الأوروأسيوي: ويمتد هذا النطاق من سواحل الاتحاد السوفييتي على بحر اليابان إلى موسكو مع خط حديد سيبيريا. ومن موسكو يمتد في سهول وسط روسيا وشمال أوكرانيا إلى البلقان وشرق أوروبا ووسط أوروبا وفرنسا، وينتهي في شمال أسبانيا. (2)
النطاق الأمريكي: يمتد في السهول الأمريكية الوسطى بين جبال الأبلاش وسهول البراري، ويقع إلى الشمال من خليج المكسيك والجنوب من البحيرات العظمى (أي نطاق الذرة في حوض المسيسبي). (3)
مناطق متفرقة: (أ) الساحل الشمالي الغربي للولايات المتحدة. (ب) جنوب البرازيل. (ج) وسط الأرجنتين. (د) جنوب أفريقيا. (ه) وسط المكسيك.
وأهم مميزات هذه المناطق التي تجعل في الإمكان ازدواج النشاط ما يلي: «الظروف الطبيعية»: تتميز هذه المناطق بتربة متوسطة الجودة «بودزول»، وأحيانا «شرنوزم»، وكمية من المطر تتراوح بين 50سم و150سم معظمها في الصيف حيث يحتاج النبات مياها أكثر خلال فصل نموه. أما درجة الحرارة فتتراوح حسب الإقليم؛ ففي سيبيريا شتاء بارد وصيف دافئ، وفي أوروبا شتاء مائل للبرودة وصيف معتدل، وفي الولايات المتحدة شتاء مائل للبرودة وصيف دافئ. ولهذا تتأثر فترة النمو النباتي وتتراوح بين 120 يوما في الاتحاد السوفييتي و220 يوما في الولايات المتحدة.
وعلى هذا؛ فإنه يمكن للذرة «140 يوما» أن تنمو في معظم جهات الزراعة المختلطة، وأخيرا فإن غالبية مناطق الزراعة المختلطة توجد في المناطق ذات السفوح المستوية وليست المضرسة. «الظروف البشرية»: تظهر غالبية المزارع المختلطة في مناطق الكثافة السكانية المتوسطة، أعلى نسبة في أوروبا الوسطى في الاتحاد السوفييتي، ورغم أن كثافة السكان في جنوب أفريقيا أو الأرجنتين أو سهول المسيسبي أقل من أوروبا فإنها - وبالنسبة للبلاد التي تقع فيها - مناطق كثافة كبيرة نسبيا.
وإلى جانب الكثافة السكانية تتميز هذه المناطق بوجود تجمعات مدن كبيرة عديدة ، ويعني هذا ازدياد الحاجة إلى غذاء كثير وقوة شرائية كبيرة لا تتوافر إلا عند سكان المدن، بالمقارنة مع سكان الريف.
ولقد شجعت أسواق المدن على وجود شبكة ممتازة للنقل البري والحديدي والنهري؛ لتربط بين أطراف مناطق الإنتاج المختلط والمدن.
وأصبح أمام المزارعين الحرية في أن يختاروا بين زراعة المحاصيل الغذائية أو تحويلها إلى لحم ، ومزايا تحويل المحصول إلى لحم عديدة، من أبسطها أن نقل محصول الذرة من الحقل إلى السوق يتكلف أضعاف نقل الحيوان. فقد قدر الإخصائيون أن كل ستة كجم من الذرة تتركز في صورة كجم واحد من لحم الخنزير إذا ما أكلها الحيوان، وكل عشرة كجم ذرة تتركز في صورة كجم واحد في الماشية، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية ثمن كجم اللحم أكبر من ثمن عدة كيلوجرامات من الذرة، وأمام هذا الموقف نجد المزارعين في المزارع المختلطة أكثر حرية في التصرف وأكثر مرونة، ويمكنهم باستمرار أن يجنوا الربح الأوفر، فإذا ما ارتفعت أسعار اللحوم ركزوا اهتمامهم على تحويل المحصول إلى اللحوم، وإذا ما ارتفعت أسعار المحاصيل باعوها مباشرة، وهم بذلك أحسن حظا من رعاة الماشية أو المزارعين فقط.
ولقد أدت الظروف الاقتصادية في نطاقات الزراعة المختلطة إلى نشوء أنواع من القرى والمدن التي تقدم الخدمات اللازمة لمثل هذا النشاط، ومن الأدلة على ذلك؛ التركيب الوظيفي كما يظهر في الصورة التالية:
جدول 6-8: التركيب الوظيفي لقرية ومدينة في نطاق الزراعة المختلطة (الولايات المتحدة).
نوع النشاط
قرية بلومفيلد (أيوا)
مدينة واترلو (أيوا)
عدد السكان
2688
840001
عدد العاملين
1000
36000
الزراعة
4٪ حرف أولية 4٪
1٪ حرف أولية 1٪
الصناعة
9٪ قطاع الصناعة 18٪
42٪ قطاع الصناعة 18٪
البناء
9٪
5٪
التجارة
33٪ قطاع الخدمات 78٪
22٪ قطاع الخدمات 52٪
النقل
8٪
5٪
خدمات التجارة
6٪
5٪
خدمات خاصة
24٪
17٪
إدارة حكومية
7٪
3٪
ويوضح التركيب الوظيفي لقرية بلومفيلد أن الاتجاه الأكبر للسكان هو الخدمات، بينما في مدينة واترلو؛ فإن الاحتياج إلى حفظ اللحوم وتعبئتها والصناعات المرتبطة بذلك قد أدت لى زيادة قطاع الصناعة.
دور الزراعة والحيوان في الزراعة المختلطة
للزراعة المختلطة ثلاثة أدوار: أولها: غذاء الحيوان. والثاني: بيع المحصول النقدي. والثالث: كفاية أسرة المزرعة .
أما محصول الغذاء الحيواني؛ فهو في الولايات المتحدة الذرة، وهو يكون 23٪ من مساحة أراضي الدولة المزروعة، ولكنه في ولايات نطاق الذرة يرتفع إلى أكثر من 40٪ من مساحة الأرض الزراعية (ولاية الباما 48٪، وولاية أيوا 46٪ على سبيل المثال).
وللذرة تأثير كبير على تسمين الحيوان من ناحية، كما أن إنتاجية الفدان منه وفيرة، وفي حوض الدانوب تكون الذرة الغذاء الرئيسي للحيوان، أما في بقية أوروبا فالغذاء نباتات درنية مثل البطاطس واللفت والبنجر والشعير.
إلى جانب غذاء الحيوان هناك المحصول النقدي، وهو غالبا القمح في أوروبا وأمريكا، وقد اتجهت بعض مزارع الولايات المتحدة إلى إحلال فول الصويا محل الشعير أو القمح.
وأخيرا، هناك المحاصيل التي تحتاجها الأسرة لغذائها، وتتكون من مساحات صغيرة من القمح والكرنب والفاصوليا والبسلة ... إلخ.
ولكي تفي الأرض بهذه الغلات المختلفة؛ فإن تنظيم الأرض والمحصول في صورة دورة زراعية أصبح أمرا واجبا في الزراعة المختلطة، ويأتي ذلك عن طريق تقسيم الأرض إلى أربعة أقسام من أجل زراعة قسمين أو ثلاثة وترك الباقي للراحة، أو زراعته محاصيل مغذية للتربة كالبرسيم.
أما الحيوان، فدوره الهام يتركز في أنه حقيقة أكبر مصدر للدخل في المزرعة، إلا في حالات خاصة «انخفاض سعر اللحوم.»
وتمارس الزراعة المختلطة تربية الخنازير أو الماشية أو الأغنام أو الدواجن، أو اثنين أو أكثر من هذه الأنواع.
تتركز تربية الخنازير في نطاق الذرة في الولايات المتحدة وفي أوروبا في ألمانيا وهولندا وبلجيكا والدانمرك، أما الماشية فتتركز في نطاق يقع إلى الغرب من بحيرة متشجان في الولايات المتحدة. وفي بريطانيا وغرب أوروبا وشمالي إيطاليا، وفي جنوب البرازيل وشرق الأرجنتين، وعدد الخنازير في الولايات المتحدة 59 مليونا؛ 80٪ منها مركز في نطاق الذرة، أما في أوروبا فعددها 110 ملايين منها 17 مليونا في ألمانيا الغربية و7 ملايين في الدانمرك.
هوامش
الفصل السابع
الزراعة
(1) ماهية الموارد الزراعية (1-1) حجم الموارد الزراعية
ما من حرفة إنسانية لها مثل الزراعة في تأثيرها على المظهر العام لسطح الأرض، وذلك بالرغم من أن مساحة الأراضي المزروعة في العالم لا تكون إلا قرابة عشر مساحة القارات، فمساحتها لا تزيد عن 42٪ من مساحة الغابات و60٪ من مساحة المراعي. ولكن مناطق الصناعة في العالم أصغر بكثير من مساحة الأراضي الزراعية، وإن كان لها مثل تأثيرها على تغيير مظاهر سطح الأرض، وإنما في نطاقات محدودة جدا من العالم.
وتبلغ مساحة الأرض الزراعية 14,6 مليون كيلومتر مربع موزعة على النحو التالي:
جدول 7-1: توزيع مساحة الأرض الزراعية بالقارات (الأرقام بمليون هكتار).
القارة
مساحة القارة بدون المسطحات المائية
مساحة الأرض الزراعية ٪ من مساحة الأرض الزراعية عالميا
أفريقيا
2963
185
13
أمريكا الشمالية
2137
273
19
أمريكا الجنوبية
1752
141
10
آسيا
2677
451
31
أوروبا
471
139
9
أوشينيا
824
50
3
الاتحاد السوفييتي
2227
232
16
العالم
13051
1471
100٪
ويوضح جدول (
7-1 ) وشكل
7-1
أن أمريكا الشمالية تستحوذ على نسبة كبيرة من الأراضي الزراعية العالمية، ويرجع ذلك إلى وجود مسطحات كبيرة من السهول المروية بكميات وفيرة من الأمطار وأعداد كبيرة من الأنهار، وبخاصة المسيسبي وروافده الكثيرة الكبيرة، فضلا عن ملاءمة المناخ للإنبات، وتمتد هذه السهول شمالا إلى كندا، لكنها في الشمال تقع في ظل ظروف مناخية غير ملائمة للبرودة الشديدة.
ويلي الاتحاد السوفييتي السابق أمريكا الشمالية في مساحة الأراضي الزراعية، وهنا أيضا سهول غير قابلة للزراعة في الشمال على غرار السهول الكندية، وإلى الجنوب منها سهول عظيمة الاتساع من البحر الأسود إلى جنوب سيبريا الغربية ملائمة مناخا وتربة للزراعة.
ويلي ذلك في الأهمية الزراعية السهول الأوروبية في الغرب والوسط والسهول الخصبة الصغيرة في شمال إيطاليا والمجر وحوض الدانوب الأدنى.
أما أكبر مساحة زراعية فتوجد في آسيا التي تستحوذ على نحو ثلث الأراضي الزراعية في سهول كبرى منفصلة؛ الهندوستان وسهل الصين العظيم وسهول الأحواض النهرية الكبرى في جنوب شرق آسيا.
وأخيرا، تحتل أفريقيا وأستراليا المراكز الأخيرة لكثرة صحاريها وكثرة المساحات الاستوائية غير الملائمة بدرجة ما للزراعة إلا لأنواع معينة من الحاصلات. (1-2) السكان الزراعيون والعاملون في الزراعة
1
لا تقتصر أهمية الموارد الزراعية على مساحة الأرض التي تشغلها بل إنها تشغل أيضا أكبر عدد من سكان العالم، وعليها تقوم حياة حوالي نصف السكان؛ ففي عام 1987 كان عدد سكان العالم قرابة خمسة مليارات. وكان سكان الريف 46٪ من مجموع السكان ، وبلغت القوة العاملة 2,24 مليار العاملون في الزراعة منهم 48٪.
شكل 7-1: توزيع المساحة الزراعية بالقارة 1986 بمليون هكتار.
ولكن التقدم الفني وازدياد الاعتماد على الآلة في الزراعة من ناحية، واستيعاب الصناعة والخدمات لعدد أكبر من السكان من ناحية ثانية يجعل نسبة السكان الزراعيين متناقصة في العالم كله، وإن كانت بدرجات أكبر في الدول المتقدمة والدول الاشتراكية عن الدول النامية ، انظر جدول (
7-2 ).
وأقل نسبة للسكان الزراعيين في الوقت الحاضر بريطانيا 2,1٪، تليها الولايات المتحدة 2,9٪، ثم هولندا 4,1٪، ثم كندا 2,8٪، وسويسرا 3,9٪، وأستراليا 5,5٪، وأعلى نسبة بين الدول الكبرى هي الصين 69٪، والهند 64٪، ومن الدول المتخلفة نجد 78٪ مالاوي، و76٪ أثيوبيا، و69٪ زمبابوي، وفي بولندا ويوجسلافيا هبط عدد السكان الزراعيين من 60٪ و76٪ على التوالي عام 1944 إلى 20٪ و22٪ على التوالي عام 1987.
أما عدد العاملين في الزراعة فقد تناقصوا أيضا في غالبية الدول بالنسبة لعدد السكان المنتجين في الدولة، ففي الولايات المتحدة نقص عدد العاملين من 19٪ إلى 2,6٪ بين عامي 1944 و1987، وفي الاتحاد السوفييتي من 50٪ إلى 15٪، وفي سويسرا من 21٪ إلى 4,6٪، والمكسيك من 65٪ إلى 32٪، وفي مصر من 71٪ إلى 42٪، وإندونيسيا من 66٪ إلى 51٪.
وفي مقابل ذلك زاد عدد العاملين في الزراعة في الهند من 66٪ إلى 67,5٪ في الفترة ذاتها، ويمكن أن نفسر حالة الهند على ضوء العمالة الزراعية التي تشمل الرجال فقط، فقد تناقص عددهم في الفترة ذاتها من 70٪ إلى 65٪، ويعني ذلك أن الزيادة في العاملين الزراعيين في الهند ترجع إلى زيادة مشاركة النساء. أما في إندونيسيا فإن استمرار الارتفاع راجع إلى زيادة العاملين من الجنسين، وربما كان لذلك ارتباط بقوانين الإصلاح الزراعية وزيادة الملكيات الصغيرة التي تستوجب مجهود الجنسين، بعد تفكيك الملكيات الاحتكارية والإقطاعية الكبيرة. (2) الموضوع الرئيسي في الإنتاج الزراعي: الغذاء
رغم تعدد أشكال وأنماط الزراعة في الوقت الراهن من بدائية إلى كثيفة إلى واسعة، ومن زراعة المحاصيل الغذائية إلى زراعة المحاصيل النقدية، رغم كل هذا؛ فإن الهدف الرئيسي من الزراعة ما زال أولا: الحصول على الغذاء. وثانيا: توفير المنتجات الزراعية للملبس وغيره من الأغراض الصناعية في مجتمع اليوم.
ولا شك أنه من الطبيعي أن يكون توفير الغذاء موضوع الزراعة الأول، ولقد زادت أهمية الحصول على الغذاء من الزراعة بعد التزايد السكاني العالمي الذي يهدد بحدوث انفجار سكاني عنيف في العالم.
ولهذا سينصب كلامنا في الإنتاج الزراعي أولا: على المواد الغذائية، وثانيا: على الخامات الزراعية اللازمة للتصنيع.
ورغم أهمية إنتاج الخامات الزراعية من أجل الصناعة، وخاصة بالنظر إلى دخولها التجارة العالمية بشدة وبكمية أكبر من الحاصلات الغذائية، فإن الإنتاج الغذائي ما زال على أكبر جانب من الأهمية، فالخامات الزراعية من أجل الصناعة قد أصبحت لها بدائل من المواد المصنعة، مثل النايلون والبرلون وغير ذلك من أسماء، وهذه البدائل الصناعية تنافس بشدة المنتجات الزراعية كالقطن والكتان والحرير والجوت والمطاط.
أما الحاصلات الغذائية؛ فلم يحل محلها بديل حتى الآن؛ وبالتالي لا منافسة ولا مساعدة لحل أزمة الغذاء العالمي، إنما على العكس يزداد الضغط عليها من أجل توفير إنتاج أكبر وتبادل تجاري أكثر، ولا أدل على ذلك من ازدياد التجارة في القمح والحبوب من الولايات المتحدة إلى الاتحاد السوفييتي السابق وإلى الهند وجمهورية مصر العربية في الأعوام الماضية القليلة.
ورغم أن دول الاتحاد السوفييتي السابق قد تستطيع في الأعوام القادمة أن تزيد إنتاجها من الحبوب الغذائية، فإن استمرار غوث البلاد الفقيرة التي تجتاحها كوارث طبيعية هي إنذار لهذه الدول بأن تحسن موقفها السكاني والتنموي لكي تتحرر من الجوع وسطوة الدول الكبرى.
جدول 7-2: نماذج من نسبة سكان الريف والعاملين بالزراعة حسب نوع الزراعة «نسب مئوية من مجموع السكان ومن مجموع القوة العاملة 1987.»
الدولة
سكان الريف
العاملون بالزراعة
الدولة
سكان الريف
العاملون بالزراعة (أ) الزراعات المدارية تقليدية وحديثة بأفريقيا (ب) زراعات المناطق الموسمية بآسيا
تنزانيا
80
82,3
بنجلادش
71
70,5
غينيا
76
76,2
الصين
69
69,5
زمبابوي
69
69,2
الهند
63
67,5
نيجيريا
65
65,8
باكستان
55
51,5
كوت ديفوار
58
58,5
إندونيسيا
46
51,0 (ج) زراعات البحر المتوسط (د) زراعات أوروبا الغربية «معظمها آلي»
تركيا
47
51,1
فرنسا
7
6,1
مصر
40
42,0
الدانمرك
5
5,3
تونس
27
27,1
النمسا
5
6,5
سوريا
25
26,0
السويد
4,8
4,3
اليونان
23
26,1
ألمانيا
4,5
5,2
إسبانيا
12
12,4
هولندا
4
4,2
إيطاليا
7
8,3
بريطانيا
2
2,2 (ه) الزراعات الواسعة في العالم الجديد
البرازيل
26
26,2
الأرجنتين
11
11,1
المكسيك
31
31,9
كولمبيا
29
29,5
كندا
3,7
3,8
الولايات المتحدة
2,9
2,6
وربما كان السبب في عدم وجود بديل صناعي للغذاء الطبيعي حتى اليوم سببا مزدوجا:
أولا:
إن الغذاء الطبيعي - في اعتقاد الناس أجمعين - أفضل وأصح وأكثر ملاءمة للإنسان بتركيبه العضوي الحالي من أي أطعمة مركبة صناعيا.
ثانيا:
إن معارف عصرنا لم تبلغ بعد الحد الذي يمكنها من اكتشاف غذاء إنساني كامل الفائدة مثل الغذاء الطبيعي من اللحوم والخضر والحبوب.
وبناء على هذا فإن اهتمام المخططين في الوقت الحاضر بالزراعة من أجل الغذاء أمر واضح ومفهوم وجوهري، ولا تقتصر جهود تأمين الغذاء على الزراعة، بل هناك أيضا محاولات لزيادة إنتاج الأسماك. ومع ذلك فرغم الطفرة الكبيرة في إنتاج الأسماك؛ فإن إنتاجها ما زال ضئيلا بالمقارنة بمحصول الأرز أو القمح أو الذرة، كذلك فإن عادة أكل الأسماك ليست متأصلة في معظم شعوب الأرض، بل هناك كثير من الشعوب البدائية التي تحرم أكلها، كما أنها ما زالت غالية نسبيا مما يجعلها غذاء اعتياديا في مناطق صيدها وغذاء مكلفا في غير مناطق الصيد.
ومن الأدلة على ذلك، أن عددا قليلا من دول العالم يزيد فيها استهلاك السمك عن اللحوم، وهذه هي مناطق الصيد مع الفقر والاكتظاظ السكاني، ومن هذه الدول اليابان التي يبلغ استهلاك الفرد فيها سنويا من اللحوم 6 كيلوجرامات، مقابل 23 كيلوجراما من الأسماك، والبرتغال 16كجم من اللحم مقابل 19كجم من الأسماك، والفلبين 10كجم من اللحوم مقابل 15كجم من الأسماك.
والملاحظ من جدول (
7-3 ) النتائج الآتية: (1)
النمو في الإنتاج الزراعي والغذائي سنة 1993 إلى 1994 محدود، ولكنه أعلى بمقدار الربع عن 12 سنة سابقة. (2)
لكن النمو بالنسبة للفرد صغير لا زيادة سكان العالم، بل في أفريقيا بالذات هو متناقص. (3)
في أوروبا النمو الزراعي والنمو في نصيب الفرد صغير جدا؛ لإن ذلك مرغوب من أجل إنقاص الفائض. (4)
أما في كمنولث الدول المستقلة (السوفييتية سابقا) فإن التناقص جاء نتيجة أحداث سياسية وعدم أمان اقتصادي مع فوضى وقلة الالتزام بنظام معين. (5)
في مجموعة الدول النامية النمو الإنتاجي العام ممكن ومستمر ولكن نصيب الفرد ما زال أقل من منسوب السبعينيات والثمانينيات. (6)
نمو إنتاج الغذاء تحسن من سنة لأخرى ببطء، ويمكن القول نظريا إن إنتاج الغذاء ومخزونه يمكن أن يغذي كل سكان العالم.
كذلك يمكن رفع إنتاج الغذاء بدرجة كبيرة لو رفعت أوروبا والولايات المتحدة القيود على الإنتاج، وأعيدت زراعة أراضي البور وزراعة أراضي كمنولث الدول المستقلة بكفاءة؛ فالواضح أن إنتاج الغذاء يقع تحت طائلة القوانين والاتجاهات في كل دولة حسب الأوضاع الاجتماعية والقومية؛ ومن ثم الاختلاف بين دولة وأخرى. (7)
ونتيجة لهذا فقد ظهرت فروق في توزيع إنتاج الغذاء في العالم؛ مما أدى إلى وقوع نحو 20٪ من سكان العالم «نحو 800 مليون شخص» في الدول النامية تحت خط الجوع ونقص الغذاء (تقدير
FAO ). وينقسم هؤلاء على الأماكن الآتية: أفريقيا جنوب الصحراء 37٪، جنوب آسيا 24٪، شرق آسيا 16٪، أمريكا اللاتينية 13٪، شمال أفريقيا 8٪؛ أي نحو 300 مليون في أفريقيا جنوب الصحراء و64 مليونا في أفريقيا الشمالية، وفي آسيا الجنوبية والشرقية 320 مليونا، ومائة مليون في أمريكا الجنوبية. وفي المجموع زادت السعرات الحرارية لسكان الدول النامية في الفترة من 1972-1992 من 2135 سعرا إلى 2510 سعرات؛ أي بزيادة 18٪. ولكن أفريقيا تمثل استثناء لهذا؛ فقد ساءت الأحوال في 43 دولة، وتناقصت السعرات الحرارية. وحسب تقديرات هيئة ال
FAO ؛ فإن إنتاج الغذاء في الدول النامية يجب أن يزيد في 10-12 سنة القادمة بمقدار 60٪ لكي يتواءم الغذاء مع النمو السكاني.
جدول 7-3: مؤشرات الإنتاج الزراعي والغذائي وتطور نصيب الفرد على أساس أن إنتاج الفترة 1979-1981 = 100.
المنطقة
الإنتاج الزراعي بأكمله
إنتاج المواد الغذائية
1993
للفرد
4
للفرد
1993
للفرد
1994
للفرد
العالم
127
102
130
103
128
103
131
104
أوروبا دون كمنولث روسيا
105
101
105
101
105
101
105
101
أمريكا الشمالية والوسطى
106
89
116
96
107
89
117
96
الولايات المتحدة
102
90
113
99
102
90
113
99
أمريكا الجنوبية
132
103
138
105
136
106
143
109
البرازيل
141
109
150
114
147
114
157
119
آسيا دون كمنولث روسيا
158
125
161
125
159
125
161
125
الصين
175
146
178
147
176
147
178
147
الهند
160
123
165
124
162
124
167
125
أفريقيا
136
94
139
93
138
95
141
95
أستراليا وأوشينيا
120
98
116
93
122
100
118
95
والمعادلة الصعبة أن النمو السكاني يجب أن يتناقص مقداره السنوي كثيرا كي يمكن إطعام الناس؛ لإن إنتاج الغذاء محكوم بظروف إيكولوجية وطبيعية، فلا يمكن إحداث طفرات فجائية فيه. (8)
مشكلات الغذاء: إن انسياب فائض الغذاء من مصادر إنتاجه الكبرى إلى سوق الاستهلاك في العالم النامي بصفة خاصة يعوقه الكثير من الإشكاليات على رأسها ما يأتي: (أ)
حيث إن الإنتاج الأكبر هو في الدول المتقدمة، فإن تصدير الغذاء يتخذ طابعا سياسيا تفرضه الدول المتقدمة على الدول النامية للضغط عليها من أجل اتباع سياسات معينة. (ب)
نقص العملات الحرة، وتدهور العملات المحلية في الدول النامية يزيد من الأعباء المالية ويرفع قيمة الديون لحساب الدول المتقدمة. (ج)
نقص وسائل التخزين وارتفاع تكلفة النقل يزيد من مشكلات تصدير الغذاء للعالم النامي. (2-1) أفريقيا: دراسة حالة
أولا:
على سبيل المثال في أجزاء من أفريقيا؛ فإن ضعف القوة الشرائية ونقص وسائل النقل الداخلية تشكل جانبا كبيرا من مشكلة تعادل سعر السوق داخل الدول الأفريقية الكبيرة المساحة بين المواني والداخل، ليس فقط بالنسبة للغذاء المستورد بل بالنسبة لإنتاج الغذاء المحلي ونقله إلى أسواق المدن.
وهذا هو ما يعوق تنمية الزراعة في داخلية الدول، وبعبارة أخرى: فإن تحسين وسائل النقل هو أحد شروط النمو الزراعي، وكذلك الإكثار من صوامع التخزين من أجل حسن توزيع المحاصيل على السوق الداخلي، وينطبق هذا أيضا على الدول الأفريقية التي تنتج محاصيل الزراعات التجارية مثل البن والكاكاو وخامات الزراعة الصناعية؛ كالقطن وفول السوداني ونخيل الزيت، وبخاصة إيجاد وسائل تخزين حديثة كي تتمكن من التصدير في الوقت المناسب في شكل نوع من التحكم في سعر الخامات المصدرة.
ثانيا:
تساهم القلاقل والثورات والانقلابات والحروب بين الدول في أفريقيا زيادة مشكلة الغذاء بخاصة والزراعة بعامة، وقد وضح ذلك في السنوات العشر الماضية، حيث ظهرت المجاعات نتيجة الثورات والحروب الداخلية مثل ما حدث في السودان والصومال ورواندا وبورندي وأنجولا وليبيريا.
ثالثا:
في العشرين سنة الماضية، وحسب تقديرات هيئة الفاو، فإن إنتاج الغذاء العالمي زاد بمقدار الثلث، بينما لم يزد نصيب الفرد بمقدار 3٪ فقط. وكانت الزيادة الإنتاجية في الدول النامية بمقدار 44٪ وزيادة نصيب الفرد بمقدار 14٪.
ومما يزيد من هذا وضوحا أن الدول كثيفة السكان كالصين قد زاد إنتاجها الغذائي بمعدل 77٪، ونصيب الفرد 47٪، وعلى التوالي كانت الزيادة في الهند 67٪ و25٪، وإندونيسيا 92٪ و49٪، والبرازيل 56٪ و19٪.
وفي أفريقيا حدث العكس، فقد تناقص الإنتاج الغذائي بالنسبة للفرد بنحو 5٪ في أفريقيا نتيجة لنمو سكان عال، وفي أمريكا اللاتينية لم تستطع دول أن ترفع نصيب الفرد من الغذاء مثل: الأرجنتين، وفنزويلا، وبيرو ، وجوايانا، وبارجواي، وكذلك غالب دول أمريكا الوسطى.
ويعطي الجدول التالي تفاوت بعض الدول في نصيب الفرد في الغذاء.
ويلاحظ في هذا الجدول أن معظم الدول التي تناقص فيها نصيب الفرد في مدة الدراسة هي: (أ) دول نامية. (ب) دول متقدمة، الأولى نتيجة لظروف متعددة أهمها زيادة السكان واضطراب الأحوال، والثانية نتيجة لسياسة معينة مرسومة لخفض المخزون وتقليل الإنتاج لكي توفر الدولة الدعم الذي تعطيه للمزارعين.
جدول 7-4: تباين نصيب الفرد من الغذاء في بعض الدول للفترة 1979-1992.
الدولة المتناقصة
قيمة التناقص ٪
الدولة المتزايدة
قيمة الزيادة
الصومال −6,0
غانا وتايلاند +0,3
مالاوي −5,0
بريطانيا وهولندا +0,4
سوريا −3,4
بولندا +0,9
زيمبابوي −3,3
باكستان +1,0
نيكاراجوا ورومانيا −3,2
مصر +1,4
السودان وسريلانكا −2,2
ألمانيا +1,5
موزمبيق وجنوب أفريقيا −2,1
الهند +1,6
النيجر −2,0
إندونيسيا ونيجيريا +2,0
ميانمار (بورما) −1,9
الدانمرك +2,2
السويد −1,5
الصين +2,9
إيطاليا −0,6
بنجلادش −0,3
والولايات المتحدة −0,2
ومن بين أسباب التدهور العام الآتي: (1)
تراجع خصوبة التربة نتيجة سوء إدارة المزارع ونقص التسميد وتعرية التربة والإكثار من قطع الأشجار. (2)
سوء استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة في الزراعة. (3)
نقص وسائل النقل للسوق مما يؤدي إلى فقدان جزء من المحصول، وتساعد قلة وسائل التخزين على تعرض المحصول للأحوال الجوية. (4)
من المعوقات في بعض الدول السياسات الزراعية، والتسيب في تنفيذ القوانين؛ مما يؤدي إلى الطغيان على الأرض الزراعية بواسطة نمو المدن والصناعات. وفي أحيان تخفض الدولة «في أفريقيا بعامة» قيمة المحصول الغذائي بدرجة كبيرة؛ لضمان الغذاء لسكان المدن بسعر رخيص، ويترتب على ذلك فقدان الحافز لدى المزارع لزيادة الإنتاج، بل ويقتصر على إنتاج ما يقرب من احتياجه المباشر «وجيرانه» فقط. (5)
الفقر الشديد لدى السكان لا يساعد على وجود سوق استهلاكية منوعة وكبيرة. (6)
تقوم الدول ذات الإنتاج الغذائي والمخزون الكبير في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية بتقديم مساعدات غذائية في أحيان كثيرة للدول النامية، خاصة في حالات الشدة والمجاعة، ولكن ذلك قد لا يستمر طويلا؛ فهناك معونات تدفعها الدولة للمزارعين، وكذلك الرأي الذي بدأ يأخذ نصيبا من التأييد هو: لماذا ندفع معونات من أجل محاصيل نقدمها هدية لشعوب أخرى؟ (2-2) استخدام الأسمدة والمخصبات والآلية الحديثة
وصلت الدول المتقدمة إلى مرحلة الإشباع في استخدام الأسمدة بحيث لا يجدي اقتصاديا مزيد من الاستخدام، أما الدول النامية فينقصها كثيرا استخدام هذه المخصبات، والدول التي استخدمتها بكفاية ظهرت فيها زيادة ملحوظة في الإنتاج الزراعي والغذائي في بلاد العالم النامي.
وقد وصل استهلاك العالم من الأسمدة في 1992-1993 إلى الوضع الآتي «بمليون طن»: أسمدة نيتروجينية 73631، أسمدة فوسفاتية 31525، وأسمدة بوتاسية 20775.
أكبر مستهلك للنيتروجينيات: الصين 20403، الولايات المتحدة 10304، الهند 8426، روسيا 2622، فرنسا 2154، إندونيسيا 1696، ألمانيا 1680، باكستان 1653، بريطانيا 1326، كندا 1273، أوكرانيا 1247، المكسيك 1230، تركيا 1206، إيطاليا 906، البرازيل 865، إسبانيا 765، مصر 745، بنجلادش 713، بولندا 683، كوريا الشمالية 153، اليابان 572، النمسا 124.
الفوسفات: الصين 6758، الولايات المتحدة 4044، الهند 2908، روسيا 2622، فرنسا 2154، البرازيل 1346، أوكرانيا 900، اليابان 699، أستراليا 690، تركيا 658، كندا 598، إيطاليا 596، إندونيسيا 593، ألمانيا 490، إسبانيا 388.
الأسمدة البوتاسية: الولايات المتحدة 4635، الصين 1994، البرازيل 1373، روسيا 1350، فرنسا 1348، الهند 884، أوكرانيا 750، ألمانيا 672، اليابان 513، ماليزيا 510، بريطانيا 420. (2-3) أسعار المنتجات الزراعية
غالبا متذبذبة، بعضها يرتفع كالكاكاو والمطاط وبعضها راكد أو متراجع، ولكن في المجموع هناك على المدى ارتفاع في معظم الأسعار الغذائية والصناعية، والارتفاع له أسبابه التي منها أن المحصول يتناقص؛ نتيجة ظروف مناخية في أوروبا أو سياسية في غيرها. (2-4) أوضاع الزراعة والغذاء في المناطق والقارات (1)
في أفريقيا:
أخذ الغذاء صورة أزمات شديدة، ولكن في بعض الدول هناك تحسن محسوس، والإنتاج الغذائي الآن يكون 75٪ من إنتاج السبعينيات بالنسبة للفرد؛ نتيجة ازدياد السكان، وقد بلغ عدد الجوعى أو قليلي التغذية نحو 172 مليونا حسب تقديرات «الفاو». وترتب على ركود الإنتاج عند حدود معينة استيراد الغذاء بالقدر الذي تسمح به مالية كل دولة أو أعلى منه.
وتقدر «فاو» أن أفريقيا استوردت 1993 نحو 23 مليون طن من الحبوب، وأن 25 دولة وصلتها معونات غذائية عاجلة حيث لم تقدر ميزانية الدول على دفع قيمة الاستيراد، والحالة سيئة في شمال ووسط وشرق أفريقيا. أما غرب وجنوب القارة فالوضع أحسن ويتحسن، وسبب التدهور الظروف المناخية والتصحر والقلقلة السياسية، وفشل السياسة الزراعية والحروب الداخلية والقبلية والإرهاب؛ كما حدث في السودان والصومال ورواندا وبورندي وليبريا وزائير ... إلخ. (2)
أمريكا اللاتينية:
ارتفع الإنتاج والإنتاجية بشكل يمكن من تحسين الغذاء بالنسبة للفرد برغم النمو السكاني الكبير، ولكن الجوع أو نقص الغذاء موجود بين سكان المدن الفقراء في البرازيل ودول الإنديز. (3)
الهند:
نجحت «الثورة الخضراء» في الوصول إلى الأهداف الإنتاجية المرسومة، وذلك خاصة باستخدام بذور جديدة محمية من الأمراض، وقد ارتفع الإنتاج الزراعي عامة والغذائي خاصة، وارتفع معه نصيب الفرد من الغذاء؛ فقد ارتفع إنتاج الحبوب إلى الرقم القياسي 2115 مليون طن؛ وذلك نتيجة ارتفاع إنتاج القمح والأرز. (4)
الصين:
نمو محدود لعام 1993 على العام السابق بنسبة 1٪، وتراجع بسيط في إنتاج الغذاء؛ فقد هبط إنتاج الأرز من 1800 إلى 1756 مليون طن 1994، والقمح من 1064 إلى 1020 مليون طن، والسبب سوء الأحوال الجوية في بعض المناطق، وقلة الأسمدة، وقلة البذور ذات الجودة، وقلة الآلات الزراعية في مناطق أخرى.
والمطلوب أيضا تحسين البنية التحتية في المناطق الريفية، وخاصة الطرق، بالإضافة إلى الانتباه إلى موضوع خصوبة الأرض ومعالجته، وعلى عكس الغذاء نرى زيادة كبيرة في الإنتاج الحيواني «الألبان واللحوم» والخامات الصناعية وبخاصة القطن.
والخلاصة، إن المساحة الكبيرة للصين مسئولة نوعا عن عدم عدالة ما يخص الفرد من غذاء؛ فالمناطق البعيدة عن الطريق غير المناطق الريفية أو مناطق المدن المخدومة بوسائل نقل بقدر معقول. (5)
كمنولث الدول المستقلة «الاتحاد السوفييتي السابق»:
تناقص الإنتاج عن الاحتياج؛ هبطت الحبوب من 952 مليون طن عام 1993 في روسيا إلى 850 مليونا، وفي أوكرانيا من 427 مليونا إلى 370 مليونا، وكذلك كان هناك هبوط في حاصلات أخرى، وأصبحت هذه الدول أكبر مستورد للأغذية في العالم عام 1994. وفي مناطق متعددة كان هناك نقص في الفاكهة والخضر واللحم والألبان، وكان لهذا أثره على طبقة فقراء المدن.
وفي المجموع تراجع استهلاك الخضر بمقدار 6٪ في روسيا، والبيض بمقدار 16٪ والزيوت النباتية20٪، واللحوم 25٪، والسمك 49٪، وارتفع نصيب الفرد من البطاطس بنحو 8٪. ولا شك أن ذلك راجع إلى عدم الاستقرار والفوضى الناجمة عن الانفصال بين الدولة والاقتصاد وعدم وجود أداة وسيطة بينهما في فترة الانتقال، وكذلك نقص رءوس الأموال والآلات الزراعية بالعدد المناسب والسيارات والشاحنات والبذور عالية الجودة والأسمدة والمخازن والصوامع وعدم تكوين الفلاحة الفردية بعد النظم الجماعية السابقة. (6)
الولايات المتحدة:
الدولة الوحيدة التي تنتج كل الحاصلات عدا الفواكه المدارية؛ مشكلاتها أنها تنتج فائضا مستمرا، وتدفع الدولة دعما ماليا كبيرا للفلاحين، وبعد 1993 هبط الإنتاج بدرجة ملحوظة، لكنه عاد للارتفاع بشدة في 1994 في إنتاج الغذاء والخامات الزراعية. فقد ارتفع إنتاج الحبوب من 260,2 إلى 335,6 مليون طن، وكذلك الحال لنباتات الزيوت والسكر والفواكه واللحوم، والولايات المتحدة تتصدر قائمة الدول المصدرة للمنتجات الزراعية؛ فقد بلغت قيمتها سنويا نحو 45 مليار دولار، وقد نصت اتفاقية «الجات» على تحرير التجارة العالمية، وسوف يؤثر ذلك على زيادة الدعم الأمريكي للمزارعين في مواجهة منافسة الدول الأوروبية لأمريكا. (2-5) الآلية في الزراعة
يوضح الجدول (
7-5 ) أن استخدام الآلية الحديثة في الزراعة يكاد أن يقتصر على الدول المتقدمة «63٪ من الجرارات» «79٪ من الحصادات الآلية «الكمباينر»»، وارتفاع نسبة الكمباينر في الدول المتقدمة راجع إلى أن شروط تشغيلها، وبخاصة مساحات المحصول الواحد الواسعة، بالإضافة إلى قلة العمالة الزراعية، غير واردة في الدول النامية حيث المحاصيل متعددة في مساحات صغيرة، والعمالة اليدوية كثيفة.
ويوضح ثانيا تفوق كل من اليابان والولايات المتحدة في الاستخدامات الآلية؛ لأن الطلب على العمالة الصناعية، وأنشطة الخدمات كبيرة في مثل هذه الدول، وبالذات اليابان التي تستخدم 30٪ من الحصادات الآلية برغم صغر مساحة الأراضي الزراعية.
أما أنصبة البلاد الأوروبية من الآلية فهي أقل من تلك في اليابان والولايات المتحدة؛ لصغر مساحة الأراضي الزراعية، ولكثافة السكان في بعض المناطق مثل إيطاليا وإسبانيا وهولندا.
وأخيرا، فلأن الجرارات أرخص بكثير من الحصادات؛ ولأنها متعددة الوظائف في العمل الزراعي؛ من حرث وتخطيط ونقل، وتشغيلها كطلمبات متنقلة لرفع المياه؛ إنها موجودة بنسبة لا بأس بها في كثير من الدول النامية، وخاصة ذات المساحات الزراعية الواسعة مثل الصين وكازاخستان وباكستان وتركيا.
جدول 7-5: الآلية والتقنية الحديثة في الزراعة «العدد بالآلاف سنة 1992.»
الدولة
الجرارات ٪
آلات الكمباينر ٪
العالم
26137
100
3861
100
الولايات المتحدة
4810
18,4
662
17,0
اليابان
2003
7,6
1158
30,0
إيطاليا
1470
5,6
48
1,2
فرنسا
1460
5,6
154
4,0
ألمانيا
1322
5,0
120
3,1
روسيا
1300
4,9
380
9,8
بولندا
1172
4,5
84
2,1
الهند
1136
4,3
3
0,07
الصين
774
2,9
51
1,3
إسبانيا
760
2,9
49
1,2
كندا
740
2,8
48
4,0
البرازيل
735
2,8
11
1,2
تركيا
723
2,7
48
0,3
بريطانيا
500
1,9
47
1,2
أوكرانيا
440
1,7
103
2,6
أستراليا
315
1,2
57
1,4
باكستان
283
1,1
2
0,05
كازاخستان
220
0,8
88
2,2
الأرجنتين
206
0,7
50
1,3
أوزبكستان
187
0,7
8
0,2 (3) التوسع الأفقي والرأسي في الإنتاج الزراعي
نتيجة لضغط السكان على الموارد الغذائية اتجه البحث إلى توسيع رقعة الأرض الزراعية وكمية إنتاجها (راجع شكل
7-1 ).
ومناطق التوسع الزراعي محدودة في النصف الشمالي من العالم؛ ففي أوروبا لا يكاد يكون هناك احتياطي واسع للتوسع الزراعي المكاني، وإن كان ذلك ممكنا فقط في مناطق محدودة من السويد وأشباه الجزر الأوروبية الجنوبية، وفي روسيا ما زال في الإمكان التوسع المكاني على الحافة الجنوبية للغابات المخروطية، ولكن التوسع الزراعي الروسي محدود أيضا ومرتبط باستنبات أنواع نباتية سريعة النمو لكي تتلاءم مع الصيف القصير في المناطق الشمالية.
وفي أمريكا الشمالية ما زالت مجالات التوسع ممكنة في كندا على غرار روسيا بالنسبة للنطاق البارد، وفي الولايات المتحدة يمكن التوسع في بعض المناطق شبه الجافة في الغرب والجنوب الغربي. وكذلك الحال في المكسيك التي يمكن أن توسع رقعة أراضيها الزراعية في المناطق شبه الجافة في الشمال.
أما التوسع المكاني في آسيا فمحدود يماثل ذلك أوروبا وأمريكا الشمالية، وكل ما يمكن أن يقال إن هناك احتمالا لتوسع أراضي الزراعة في النطاق الجاف الغربي الآسيوي، وفي القارات الجنوبية الثلاث نجد أكبر احتمالات التوسع الزراعي المكاني في سهول أمريكا الجنوبية: الكامبوس والجران شاكو والبمبا، ولكن ذلك سيكون على حساب المراعي.
وفي أفريقيا يمكن التوسع على حساب أراضي الرعي التقليدي في النطاق المناخي السوداني شمال وجنوب خط الاستواء، وفي أستراليا مساحات كبيرة قابلة للزراعة متركزة في صورة كبيرة في أقاليم السهول المدارية والموسمية في الشمال.
ومن هذا يتضح أن إمكانيات التوسع الأفقي الزراعي متركزة في صورة كبيرة في أقاليم السهول المدارية في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وأستراليا، وبصورة أقل في النطاق الجاف من أفريقيا وآسيا الغربية والوسطى وأمريكا الشمالية.
ولكن التوسع الأفقي يواجه عدة مشكلات مادية واجتماعية وسياسية؛ فمعظم أراضي النطاق المداري والنطاق الجاف توجد بها دول فقيرة، ومشكلات هذه الدول عظيمة كبيرة تدور حول رأس المال والأبحاث العلمية والخبرات الفنية، وكلها ناقصة أو موجودة بصورة سطحية، ولكن هناك منطقة واسعة يمكن استغلالها فورا نظرا لوجود الخبرة والأبحاث ورأس المال بصورة أكبر من أفريقيا وأمريكا الجنوبية، تلك هي أراضي الإقليم الموسمي من أستراليا الشمالية، ولكن العائق الرئيسي هو سياسة أستراليا التي تمنع هجرة العناصر الصفراء إليها من أجل بقاء أستراليا بيضاء وبدون مشكلات عنصرية واجتماعية كما هو الحال في جنوب أفريقيا وفي الولايات المتحدة.
أما التوسع الرأسي فيعني محاولة زيادة كمية الإنتاج من الحقل، وقد بدأ التفكير في هذا النوع من التوسع في الدول التي استنزفت مساحة الأرض التي يمكن التوسع فيها مثل جمهورية مصر العربية.
2
ولا يمكن التوسع الرأسي إلا على أساس علمي، ومن أهم وسائل زيادة الإنتاجية استخدام المخصبات لزيادة غذاء النبات، واستخدام الدورة الزراعية لمنع إجهاد الأرض، واستنباط أنواع جديدة من المحصول بواسطة التهجين والتطعيم من أجل إنتاج أكبر.
ولقد دخلت دول عديدة حقل التوسع الرأسي بغرض زيادة المحصول من مساحة الأرض المزروعة حاليا، مثل أوروبا ومصر وبعض مناطق الهند، وكمنولث الدول المستقلة وأمريكا الشمالية.
ولكن رفع إنتاجية الحقل ليس أمرا سهلا كما هو في الصناعة؛ وذلك لأن هناك عوامل خارجة عن الإنسان تلعب دورا هاما في الإنتاج نلخصها في الضوابط الطبيعية. (3-1) الضوابط الطبيعية في الزراعة
الزراعة على وجه العموم هي أقدم نشاط إنتاجي إنساني حتى الوقت الراهن، فقبل اكتشاف الزراعة كان الصيد وجميع الثمار النباتية من ضروب النشاط المعتمد على نتاج الطبيعة دون التدخل في عملية الإنتاج، وقد انقضى على معرفة الإنسان للزراعة عشرة آلاف سنة. وفي خلال هذه الفترة تطورت أساليب الزراعة وأهدافها ومرت في مراحل عديدة.
3
والزراعة هي في أبسط معانيها عبارة عن محاولة ناجحة لتركيز وتحويل طاقات الطبيعة الخلاقة إلى صورة محصول، والعناصر الأساسية هي الحرارة والماء والتربة والبذرة، وهي تختلف في كميتها ونوعها. واختلافها يجعل في الإمكان جمعها وتشكيلها في صور عديدة، تماما كما تفعل في حروف الهجاء البسيطة العدد التي تنتج منها صورا من الكلمات والعبارات لا نهائية العدد.
والحرارة تختلف نوعيا بين ما تحت الصفر وما فوقه، وتختلف كميا من الصفر إلى أي درجة حرارة عالية يمكن تصورها، ومن الصفر إلى أي درجة من التجمد يمكن أيضا تصورها، ويختلف الماء نوعيا من ندى وسحب وأمطار وبخار وماء جار، ويختلف كميا من لا شيء (تقريبا) في الصحراء إلى مناطق المستنقعات الدائمة.
أما التربة فتختلف نوعا وكما حسب الصخر الأساسي في المنطقة وعوامل التعرية ونقل التربة، وأخيرا تختلف البذور نوعيا، وأصل البذور التي تنتج لنا المحاصيل المعروفة بذورا برية محدودة العدد ومختلفة عن البذور الحالية بسبب التهجين الذي أدى إلى أنواع لا نهائية منها، ولكل صلاحيته لظروف طبيعية خاصة.
ولقد توصل الإنسان بالتجربة إلى غالبية المحاصيل الحالية، ولكنه في المرحلة المعاصرة يسعى باستمرار - ليس إلى خلق أنواع جديدة، وإن كان ذلك ممكنا بالصدفة - وإنما إلى تهجين واختيار أحسن الأنواع إنتاجا أو مقاومة لظروف طبيعة قاسية كالبرد الشديد أو الماء الشحيح.
وإذا تركنا الإنسان ومجهوداته وأنماطه الحضارية جانبا، وكلها أشياء متغيرة زمانا ومكانا، ولكنها تغير في نمط الحقول ومبدأ الإنتاج، إذا تركنا ذلك جانبا فإننا نرى أن العوامل الطبيعية الأساسية ما زالت هي دون تغير جوهري خلال الآلاف العشر من السنين من عمر الزراعة، وما زالت هذه العوامل الطبيعية بعيدة بعدا كبيرا عن إمكانية تحكم الإنسان فيها إلا في أضيق الحدود.
فرغم أنه أصبح في الإمكان ضبط عدد كبير من الأنهار في أوروبا وأمريكا، وبعض أنهار آسيا وأفريقيا بواسطة إقامة السدود وشق الترع من أجل تنظيم تصريف مياه النهر لصالح الزراعة، فإن الأصول الطبيعية للزراعة من حرارة وكمية أمطار وتربة ما زالت عائقا يقف متحديا المجهودات الإنسانية في صور عديدة؛ مما يؤثر تأثيرا واضحا على المحاصيل في جهات عديدة من العالم.
ولقد استطاع الإنسان أن يحل تربة جديدة محل تربة غير صالحة، وأن يسقط المطر وأن يتحكم في درجة الحرارة بزراعة النبات داخل الصوبات المحمية، ولكن كل هذه الإنجازات ما زالت مكلفة جدا ولا يتعدى تأثيرها مناطق محدودة جدا من سطح الكرة الأرضية بحيث لا يجب أن تذكر؛ فالعواصف والأمطار الشديدة والجفاف ما زالت عناصر طبيعية تحدث باستمرار دون إمكانية التحكم فيها.
وكل ما يستطيعه الإنسان هو التنبؤ بحالة الجو إن صح ذلك أيضا، وما زالت الشمس، مركز الحرارة للكرة الأرضية، أبعد بكثير عن متناول الإنسان.
لهذا فالزراعة ما زالت - رغم أنها حرفية إنتاجية - خاضعة لظروف وعناصر الطبيعة المعتمدة عليها؛ ومن ثم فهي أهم الحرف الأولية ويمكن دراسة توزيعاتها على أساس أقاليم جغرافية طبيعية.
ولقد أدت الظروف المتجمعة عن الاختلاف الكمي والنوعي للعناصر الطبيعية الأساسية إلى ظهور ما تسميه الجغرافيا الاقتصادية بأقاليم الزراعة.
وقد اتخذت لهذه الأقاليم أسماء طبيعية هي: المداري المطير والمداري الجاف والبحر المتوسط والعروض المعتدلة والجافة وشبه الجافة، والعروض المعتدلة المطيرة ... إلخ.
ولكل من هذه الأقاليم مجموعة من المحاصيل الزراعية الاستهلاكية والتجارية التي تميزه. فالإقليم المداري المطير يتميز بالدرنيات والموز والأرز والمانجو والكاكاو والبن والمطاط من بين أشياء أخرى، والإقليم دون المداري شبه الجاف يتميز بالقطن والفول السوداني وغيرهما، والعروض المعتدلة تتميز بالحبوب الغذائية: قمح، ذرة، شعير، شيلم، شوفان ... إلخ.
ودراسة هذه الأقاليم الإنتاجية على جانب كبير من الأهمية حيث إنها توضح لنا قيمة المناطق العالمية المختلفة في الإنتاج العالمي ومدى احتكار السلع. (4) التخطيط والسياسات الزراعية كضوابط بشرية (4-1) التدخل الحكومي في السياسات الزراعية
أولا: التخطيط الاقتصادي
إن تخطيط التنمية الزراعية داخل إطار التنمية الاقتصادية قد أصبح أمرا طبيعيا في كل الدول النامية، وفي بعض الدول المتقدمة، وفي البداية كان اهتمام المخططين موجها إلى التصنيع السريع، ولكن عددا كبيرا من الدول أحس بالنتائج الخطيرة التي ترتبت على إهمال التخطيط والتنمية الزراعية، وأصبح من الأمور المعترف بها أن التأخر في القطاع الزراعي كان السبب الرئيسي الذي أدى إلى نجاح محدود فقط في التنمية الاقتصادية الشاملة لعدد من الدول النامية.
ورغم التقدم الكبير في تنظيم ورسم خطط التنمية الزراعية، فإن تنفيذ هذه المشروعات والخطط في الدول النامية ظل محدود النجاح، وتدل على ذلك دراسة أرقام الإنتاج - إذا وجدت بدقة - فهي تبين قصور الإنتاج عن الأهداف المرسومة.
ولا شك أن هناك أسبابا تعرقل تنفيذ هذه الخطط، وتدور كل هذه الأسباب حول نقص: (1) التمويل. (2) الخبراء. (3) عدم كفاءة الإدارة.
وهناك سبب جوهري آخر لم تمسه ولم تعترف بخطورته كثير من الدول النامية يؤدي إلى عدم الوصول بالإنتاج إلى الأهداف المطلوبة. هذا السبب هو الحاجة إلى إصدار تشريعات عديدة أهمها: تغيير نظام الملكية والوراثة وقوانينها، وتدعيم تسهيلات التسويق، وتشريع من أجل تثبيت أو ضمان حد أدنى للأسعار الزراعية، بالإضافة إلى ضرورة وجود التسهيلات الائتمانية من أجل إعطاء المزارعين الإمكانية والدافع لاستخدام الوسائل الحديثة في الإنتاج.
ثانيا: البحوث العلمية والإرشاد
اتسع نطاق البحوث العلمية والإرشادات التي تقوم بها الحكومات في مجال الزراعة في الدول المتقدمة والنامية، ومع ذلك فإن الدول النامية تعاني من نقص كبير في الخبرة الفنية، ورأس المال اللازم؛ مما يؤدي إلى عدم وصول الخبرة والإرشاد إلى كافة المزارعين.
ثالثا: سياسات الأسعار
نلاحظ أن سياسة تدعيم الأسعار الزراعية قد استمرت كحقل أساسي من حقول التدخل الحكومي في الدول المتقدمة بغرض أساسي هو: تضييق الهوة بين الدخل الزراعي، ودخول الصناعة والخدمات.
وقد واظبت حكومات هذه الدول على إجراء التعديلات الضرورية اللازمة لوقف أو منع تراكم الفائض من الإنتاج الزراعي من ناحية، وتحديد معوناتها للمزارعين من ناحية أخرى.
أما في الدول النامية فالموقف مختلف تماما؛ ذلك أن القطاع غير الزراعي صغير الحجم بالنسبة للقطاع الزراعي، بحيث لا تظهر الحاجة إلى أن تقدم الحكومات معونات للمزارعين لتغطية الفروق بين الدخل الزراعي والصناعي كما هو الحال في الدول المتقدمة، بل على العكس نجد أن سياسة الدول النامية ترمي إلى مقاومة التضخم وتجنب ارتفاع الأسعار بالنسبة للمستهلكين.
وفي الفترة الأخيرة بدأ عدد من الدول النامية في تأمين سعر مناسب كحد أدنى لأسعار السلع الزراعية بحيث يشتمل على ربح معقول للمزارعين؛ هذا الربح يصبح دافعا للمزارعين على تكوين رأسمال وزيادة الإنتاج؛ وبالتالي ترتفع إنتاجية الحاصلات الزراعية.
وعلى الرغم من الاعتراف بهذا المبدأ التشجيعي فإن نجاح هذه السياسة يعوقها ضعف في تركيب التسويق والإدارة المحلية في هذه الدول فضلا عن تحكم السوق الخارجي في الأسعار (شكل
7-2 ).
شكل 7-2: تذبذب الإنتاج والسعر العالمي للقمح والذرة والأرز.
رابعا: الإصلاحات التشريعية
ما زالت العقبات القانونية في الدول النامية تقف أمام مجهوداتها من أجل تحسين وتنمية الإنتاج الزراعي، ومن أهم العقبات نظم الملكية القديمة، ونظم القروض ذات الأرباح العالية، وفساد نظم البيع والتسويق، وقد حظي موضوع الملكية بأهمية كبيرة خلال السنوات الماضية؛ ففي الدول المتقدمة كان الغرض وقف تفتت الملكية ومحاولة زيادة مساحتها؛ أما في الدول النامية فكان الهدف هو تفكيك الملكيات الإقطاعية الكبيرة وإعادة توزيعها على المستأجرين والعمال الزراعيين، كذلك إصدار قوانين بتعديل نظم وضع اليد لدى المجتمعات القبلية.
ورغم صدور قوانين الإصلاح الزراعي التي تدور حول نظم الملكية، فإن تنفيذها لم يكن كاملا بسبب قوة الملاك الكبار، وقلة الخدمات الحكومية التي تحل محل خدمات المالك الكبير، وقلة التسهيلات الائتمانية التي يجب أن تحل محل تسهيلات كبار الملاك السابقين.
ورغم التوسع في تشريع القروض الزراعية؛ فإنها ما زالت أقل من الواجب، كما أن شروطها وطريقة تنفيذها ما زالت كثيرة التعقيد. ويزيد في التعقيد أن القروض الخاصة التي يقدمها كبار الملاك والتجار ووسطاء البيع والمرابين ما زالت في معظم الدول النامية تقدم بفوائد عالية جدا، وهذه الأنواع من القروض لا تزال تسيطر بشدة على الريف في الدول النامية.
أما نظام التسويق الزراعي في الدول المتقدمة فقد تغير كثيرا وارتبط ذلك بتغير احتياجات المستهلكين في المدن. أما في الدول النامية، فعلى الرغم من التقدم الكبير خلال السنوات العشر الماضية؛ فإن نظم التسويق الاحتكارية تقف حجر عثرة في سبيل التنمية المطلوبة للإنتاج.
4
وقد زاد التدخل الحكومي وشبه الحكومي في عمليات التسويق الزراعية، وخاصة المحاصيل التجارية، وفي السنوات القليلة الأخيرة نجد اتجاها مماثلا في تسويق السلع الزراعية محليا، ويلاحظ أن القوانين والتشريعات في الميادين الثلاثة السابق ذكرها - الملكية، القروض، والتسويق - بالإضافة إلى سياسة الأسعار والإرشاد الزراعي، كلها مسائل مرتبطة ومتعلقة بعضها بالبعض الآخر. وعلى هذا فقد بدأ الاهتمام يتركز حول قيام أنواع من التعاون الزراعي ذو الوظائف المتعددة «قروض، ائتمان، إرشاد، توزيع، تسويق ... إلخ.» وبذلك تصبح هذه الهيئات التعاونية نقط الارتكاز الأساسية من أجل الوصول بالتنمية الزراعية إلى أهدافها المرغوبة. (4-2) سياسيات تجارة السلع الزراعية
أولا: السياسات القومية (1)
في الدول المتقدمة كانت سياسات التجارة الزراعية نابعة من ثلاثة اعتبارات رئيسية: الأول: حماية ميزان مدفوعاتها. والثاني: رفع الدخل القومي. والثالث: تنفيذ سياسة لأسعار المحصول الزراعي.
وقد أدت هذه الاعتبارات إلى تحديد الواردات، وتخفيض حصص واردات معينة، وفرض ضرائب على الواردات، وتشجيع الصادرات بواسطة معونة الدولة والائتمان؛ ولكن هذه القيود سرعان ما خففت بعد أن أصبح ميزان المدفوعات في صالح هذه الدول، خاصة بالنسبة للمنتجات الزراعية المدارية. (2)
أما الهدف الأساسي في سياسة الدول النامية فقد اتجه إلى زيادة دخل هذه الدول من العملات الأجنبية «الصعبة» كي تتمكن من شراء أدوات وآلات الإنتاج من الدول الصناعية. ومن أجل تحقيق أكبر حصيلة من العملة الأجنبية نجد الحكومات في الدول النامية تتدخل في بيع الصادرات بواسطة أجهزة مركزية، بالإضافة إلى عقد اتفاقات ثنائية مع الدول المستوردة، واتخاذ كافة الإجراءات من أجل توسيع سوق استهلاك صادراتها الزراعية ومحاولة تثبيت أسعار الصادرات وتحسين نوع الصادرات.
كما سعت عدة دول نامية إلى عدم الاعتماد على محصول واحد بل عدة محاصيل، ولكنها لم تنجح إلا في تصدير محصول آخر ثانوي.
والحقيقة: أن الدول النامية في موقف ضعيف؛ ذلك أن المحصولات النقدية تزرع في مناطق جغرافية متشابهة في الدول المدارية على سبيل المثال؛ مما لا يدع هناك فرصة لدولة واحدة أن تحتكر محصولا معينا إلا في حالات استثنائية جدا، وبالإضافة إلى تنافس الدول النامية فيما بينها نجد أن الدول الصناعية والمتقدمة تمتلك أيضا - في غالب الأحيان - بديلا لأغلب هذه المنتجات المدارية.
وفي هذا المجال لم تستطع الدول المصدرة الاتفاق بينها، وأصبح حل المشكلة بيد كل دولة على حدة دون التزام معين؛ مما يزيد من قوة الدول المستوردة في التحكم في الأسعار. (انظر نمط الصادرات العالمية في الخريطة
7-3 ).
ومن الأشياء التي تقف أمام الدول النامية في الحصول على أكبر فائدة من صادراتها الزراعية أن أسعار عدد من المحصولات المدارية «الكاكاو، البن، الشاي، المطاط» قد ارتفعت جدا من 1950-1954. وقد دفع ارتفاع أسعار هذه السلع إلى زيادة الاستثمار فيها؛ مما أدى إلى إنتاج كبير أدى في النهاية إلى خفض السعر؛ وبالتالي ذبذبة في الموقف التجاري لهذه الدول.
وقد تمكنت بعض الدول النامية من التغلب جزئيا على أسعار السلع الزراعية المتناقصة وذبذبة كمية صادراتها من هذه السلع، وذلك بواسطة تنظيم اتفاقات خاصة للتصدير «الكاكاو في غانا، القطن في مصر» من ناحية، والحصول على امتيازات خاصة بتسويق هذه السلع في الأسواق الرئيسية كامتيازات غانا في تسويق الكاكاو في السوق الإنجليزية، وامتيازات المستعمرات الفرنسية السابقة في سوق فرنسا، وامتيازات صادرات دول الكمنولث في السوق البريطانية.
ولا شك أن سياسة الامتيازات في الأسواق الأوروبية لا تلقى كل التأييد، وكانت سببا في إرجاء دخول بريطانيا السوق الأوروبية المشتركة سنوات طويلة.
وأخيرا، هناك اعتبارات أولية للسوق الأوروبية تسعى الدول المصدرة إلى عقدها لضمان هذا السوق الاستهلاكي الكبير.
شكل 7-3: الصادرات الزراعية والحيوانية.
ثانيا: السياسات الدولية
سبق أن قلنا: إن الدول النامية تسعى إلى زيادة صادراتها لتحقيق أسعار ثابتة لصادراتها، بينما تحاول الدول المتقدمة التوفيق بين مصالحها الخاصة بحماية أسعار حاصلاتها من ناحية، وبين مصالح الدول المصدرة ذات التكلفة القليلة من ناحية أخرى.
وقلنا: إنه بالرغم من ظهور تكامل بين المنتجات الزراعية «للدول المتقدمة العروض المعتدلة والباردة» وتلك الخاصة بالدول المدارية، فإن هناك أيضا مشكلة البديل الصناعي لمنتجات الدول المدارية: إنتاج سكر البنجر مقابل سكر القصب المداري، أو المطاط الصناعي مقابل المطاط الطبيعي المداري، أو الأنسجة الصناعية مقابل القطن والحرير المداريين.
ومن خلال هذه المصالح المتعارضة، والمنافسة بين الإنتاج المداري والصناعي، ظهرت الحاجة إلى سياسات دولية شاملة، ولكن ذلك لم يتحقق لكثرة الأطراف المعنية، وعدم الالتزام الكامل في التطبيق، وإنما ظهرت بدلا من ذلك عدة اتفاقات يمكن أن نصنفها في الأقسام التالية: (1)
حرية التجارة: ويخضع ذلك للعرض والطلب؛ بالتالي اتفاقات عديدة حول الأسعار والتعريفة الجمركية:
GATT . (2)
اتفاقات دولية خاصة بسلع معينة مثل: القمح والسكر والبن. (3)
اتفاقات وامتيازات ثنائية.
ومن أقدم الاتفاقيات الدولية لفترة ما بعد الحرب اتفاقية «جات
GATT »، وهو الاتفاق العام للتعريفة الجمركية والتجارة، المعقود عام 1947 والمستمد من روح ميثاق هافانا لعام 1947. وأهم ما تشتمل عليه هذه الاتفاقية عدم التمييز في العلاقات التجارية وسياسة تخفيض الرسوم الجمركية، ومنع تحديد حصص وكميات معينة في التجارة. واعترفت اتفاقية الجات آنذاك بنظام الكتلتين التجاريتين في أوروبا الغربية: كتلة الدول الست للسوق الأوروبية المشتركة بما لها من تعريفة جمركية موحدة
ECC ، وكتلة الدول السبع التي تؤلف منطقة التجارة الحرة (EFTA) European Free Trade Area ، التي كانت تتزعمها بريطانيا ولها تعريفة جمركية خاصة بها.
5
وكان عدد أعضاء الجات 23 دولة من مختلف القارات عندما بدأت عملها عام 1948، زاد إلى 78 دولة في 1970، والآن تضم العضوية أكثر من 130 دولة من العالمين المتقدم والنامي.
ولكن على مر السنين ظهر للدول النامية أن مبدأ «الجات» الخاص بعدم التمييز في التجارة، ضد مصالح هذه الدول، ويعرضها لتزايد انخفاض أسعار سلعها الزراعية؛ نتيجة عدم التمكن من الحصول على مميزات خاصة في أسواق معينة. وقد أدى الضغط السياسي للدول النامية بمنظمة الجات إلى أن تضيف عام 1965 فصلا جديدا في الاتفاقية حول التجارة والتنمية، بمعنى أن تكون هناك اعتبارات خاصة بمشروعات في هذه الدول تساعد التجارة على تنفيذها.
وفي سنة 1993 عقدت «الجات» مؤتمر أورجواي حضرته 117 دولة، ثم مؤتمر وزراء الخارجية الذي عقد في مراكش 1994 حضره مندوبو 124 دولة.
وكانت أهم القرارات خاصة بالجمارك، وبمقتضى الاتفاق تخفض الدول الصناعية الجمارك بمقدار أكبر من الثلث، وأن تحرر الدول النامية تجارتها بتخفيض الجمارك بما يتراوح بين 35 و40٪. وحول المنتجات الزراعية تخفض الدول الصناعية جماركها بمقدار 36٪ خلال ست سنوات، بينما تخفض الدول النامية جماركها على السلع الزراعية بمقدار 24٪ خلال عشر سنوات وتخفيض دعم الصادرات إلى 21٪. وهناك تخوف كبير من جانب الدول النامية حول النتائج النهائية لهذه الاتفاقية لصالح الدول الكبرى.
اتفاقية القمح الدولية: نموذج لاتفاقيات السلع
عقدت عام 1949 لمدة أربع سنوات وتجددت 1953، وكان ذلك بدء تنفيذها الفعلي، ولكن بريطانيا - وهي من أولى مستوردي القمح في العالم - قد انسحبت من الاتفاقية احتجاجا على ارتفاع الأسعار، وكذلك انسحبت الأرجنتين لرفض طلبها رفع السعر، وقد ظلت تتجدد منذ عام 1957 إلى أن تعثر الاتفاق عام 1980. وتنص على تنظيم ما بين ثلث وثلثي كمية القمح التي تدخل في التجارة، وذلك عن طريق ارتضاء المصدر والمستورد قبول حد أدنى من تجارة القمح بالأسعار المتفق عليها، وفي التعديل الجديد نصت الاتفاقية على التوسع في تجارة القمح والدقيق وزيادة التعاون لحل مشكلات القمح وتسويقه على أنه إحدى الدعائم التي تؤدي إلى الاستقرار في أسواق السلع الزراعية الأخرى.
وقد لوحظ أن أسعار القمح في تجديد الاتفاقية تزيد من مرحلة إلى أخرى، ويرتبط ذلك بارتفاع الأسعار العالمية وسياسة تخفيض الإنتاج في الدول المنتجة: الولايات المتحدة وأستراليا، وتضم هذه الاتفاقية أكبر عدد من الدول المنتجة للقمح، وعلى رأسها الولايات المتحدة وأستراليا وكندا، كما تضم الدول المستوردة الرئيسية ومعظمها يقع أيضا داخل مجموعة الدول المتقدمة.
وبذلك؛ فإن هذه الاتفاقية في جملتها خاصة بالتجارة بين مجموعة الدول المتقدمة ولا تمس الدول النامية إلا في حدود الاستهلاك الذي أصبح يتزايد نتيجة نمو سكان المدن في هذه الدول.
هوامش
الفصل الثامن
دراسات تطبيقية على بعض المحاصيل
(1) الحبوب الغذائية
تشتمل الحبوب الغذائية على عدد كبير من الأنواع؛ أهمها القمح والأرز والذرة والشعير والدخن (الذرة الرفيعة بأنواعها) والشيلم والشوفان، ولبعض هذه الحبوب مناطق إنتاجية واضحة؛ فالشيلم والشوفان ينتجان في المناطق الباردة في كندا وشمال الولايات المتحدة، وفي وسط أوروبا وإسكندنافيا وشرق أوروبا في روسيا.
ويتركز إنتاج الذرة في النطاق المعتدل الدافئ في وسط الولايات المتحدة وحوض البحر المتوسط، والبلقان، وجنوب أوكرانيا، وشمال الهند، وباكستان، وشمال الصين، وشمال تركيا، وجمهورية مصر العربية. كما ينمو في النصف الجنوبي في جنوب أفريقيا، وشرق أستراليا، وجنوب شرق أمريكا الجنوبية.
أما الدخن فينمو في المناطق المدارية الحارة الفصلية المطر، ومعظمها في إقليم السفانا الأفريقية، وينمو الشعير في المناطق المعتدلة الباردة والدافئة، أما الأرز فهو ينمو أساسا في المناطق المدارية الموسمية وبعض مناطق الإقليم المعتدل الدافئ في اليابان، وحوض البحر المتوسط، وأهم مناطق تركزه شرق وجنوب آسيا.
وأخيرا، فالقمح يكاد أن يزرع في كل الأجواء، ولكن أحسن أنواعه وأكبر مناطق تركز إنتاجه في العروض المعتدلة الدافئة والباردة، وبذلك يشابه الشعير بعض الشيء.
وعلى أساس هذا التوزيع نجد أن الحبوب الغذائية في مجموعها واسعة الانتشار، وقد أدى وجودها إلى إمكانية عمل الخبز منها كلها (ما عدا الأرز) في مناطق العالم المختلفة؛ ومن ثم كان اختلاف الخبز بين منطقة وأخرى مرجعه اختلاف نوع الحبوب السائدة.
ولقد نشأت زراعة القمح أساسا في حوض البحر المتوسط، وعليه عاشت حضارات مصر الفرعونية، والعراق، وساحل البحر المتوسط الشرقي، واليونان القديمة، وروما. ثم انتشر في أوروبا وأصبح مصدر الخبز الأساسي لحضارة البحر المتوسط، وأوروبا. وانتقل مع الهجرات الأوروبية إلى أرجاء العالم الجديد في الأمريكتين وأوشينيا. وبذلك فقد ارتبط خبز القمح بالأوروبيين من ناحية، وارتبط بالتفوق الأوروبي على بقية العالم من ناحية ثانية، وخاصة على أوروبا الشرقية التي كانت تستخدم خبز الشيلم والشعير وأوروبا الجنوبية الشرقية التي انتشرت فيها زراعة الذرة (محصول أمريكي عرف بعد كشف أمريكا وانتقل إلى العالم القديم).
والحقيقة أن القيمة الغذائية للقمح أعلى من الذرة أو الشيلم أو الشعير، ولكن القمح أعلى سعرا من أنواع الخبز الأخرى؛ ولذلك يقترن القمح بالثروة، أما الأنواع الأخرى فتقترن بالفقر، وفيما يأتي ملخص عن إنتاج الحبوب 1994. (1-1) ملخص إنتاج الحبوب لعام 1994 عالميا (1)
كل الحبوب:
بلغ الإنتاج العالمي 1940 مليون طن منها الصين 396 مليونا «20٪ من العالم» ثم الولايات المتحدة 17٪، والهند 11٪، وروسيا 4,4٪. (2)
القمح:
إنتاج العالم 534 مليون طن، منها الصين 102 مليونا «19٪ من العالم» ثم الولايات المتحدة 11,8٪، والهند 10,6٪، وروسيا 6٪، وفرنسا 5,6٪. (3)
الأرز:
الإنتاج العالمي 531 مليون طن، منها الصين 175 مليونا «33٪ من العالم» ثم الهند 22٪، وإندونيسيا 8,6٪، وبنجلادش 5٪، وفيتنام 4,1٪. (4)
الذرة:
الإنتاج العالمي 551 مليون طن منها الولايات المتحدة 235 مليونا «42٪ من العالم» ثم الصين 18,8٪، والبرازيل 5,7٪، والمكسيك 3٪، وجنوب أفريقيا وفرنسا لكل 2,3٪. (5)
الشعير:
الإنتاج العالمي 162 مليون طن، منها روسيا 26 مليونا «16٪ من العالم» ثم أوكرانيا 7,7٪، وكندا 7,2٪، وألمانيا 6,1٪، والولايات المتحدة 5٪. (6)
دخن وسرغم:
الإنتاج العالمي 86 مليون طن، منها الهند 24 مليونا «28٪ من العالم» ثم الولايات المتحدة 18,6٪، والصين 9,1٪، ونيجيريا 8,6٪، والمكسيك 3,1٪. (7)
الجودار «أو راي»:
الإنتاج العالمي 24 مليون طن، منها روسيا 6,5 مليونا «27٪ من العالم» وبولندا 22,5٪، وألمانيا 14,5٪، وأوكرانيا 4٪، الصين 3٪. (1-2) القمح
يعد القمح من أقدم الحبوب الغذائية، وربما كان أول محصول زراعي ينتج منذ قرابة ثمانية آلاف سنة قبل الميلاد في الشرق الأوسط.
لقد انتشر القمح في أوروبا، ومن أوروبا إلى أرجاء العالم الجديد ومن الشرق الأوسط إلى بقية آسيا، وهو في الوقت الحاضر أكبر الحبوب فيما يختص بالتجارة الدولية، ولا شك في أن ذلك سيزيد بفضل رغبة الناس في الانتقال من خبز الشعير أو الذرة إلى خبز القمح؛ لما له من فوائد غذائية؛ ولأنه أصبح النمط الغذائي لسكان المدن.
ولذلك فإنه في الوقت الحاضر يحل محل الذرة في أمريكا اللاتينية، وفي جنوب أوروبا ومناطق أخرى من العالم، ولحسن الحظ فإنه في الوقت الذي بدأ فيه استهلاك القمح يزداد عالميا؛ فإننا نرى أن مناطق إنتاجه الرئيسية في الدول المتقدمة، وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا قد بدأ استهلاكها منه يقل، لانتقال الأوروبيين والأمريكان إلى استهلاك أغذية أكثر قيمة من الخبز.
الاحتياجات الطبيعية للقمح
سبق أن ذكرنا أن القمح والشعير يزرعان في مناطق عديدة من العالم؛ وبالتالي فإن القمح يمكن أن ينتج في أغلب مناطق العالم الطبيعية، ولكن الملاحظ أن هناك احتياجات معينة لكي يمكن الحصول على إنتاج طيب؛ ولهذا فإنه يمكن تلخيص هذه الاحتياجات فيما يلي:
أولا:
السطح المستوي، السهول والوديان أصلح للزراعة من المنحدرات والجبال (مثل سهول أمريكا أو وادي النيل).
ثانيا:
من ناحية التربة يحتاج إلى تربة سوداء خفيفة (مثل تربة أوكرانيا).
ثالثا:
يمكن أن ينمو في عدد من الأقاليم المناخية، ولكل إقليم ظروف مركبة من الحرارة والمطر.
ولكن علينا أن نلاحظ أن الحرارة العالية لا تلائم إنتاج القمح الجيد، على حين أن أنواعا من القمح تستطيع النمو في المناطق الباردة حقا، والحرارة مع الرطوبة العالية تؤذي النبات؛ ولذلك لا تجود زراعته في المناطق الاستوائية.
وفي المناطق الدافئة يزرع القمح في الشتاء حيث توجد أقل درجات الحرارة، أما في المناطق الباردة فيزرع القمح في أواخر الشتاء؛ لكي يستفيد من الحرارة القادمة في الربيع وينضج في الصيف.
أما كمية المطر اللازمة فتختلف باختلاف الإقليم حراريا. ولهذا نجد إن القمح يحتاج إلى قرابة 150سم من المطر في المناطق الحارة لكي تعادل البخر والحرارة، وقرابة 80 إلى 100سم في المناطق المعتدلة. ويمكن أن ينتج القمح في ظروف أكثر جفافا بحد أدنى من المطر قدره 50سم في سنة.
أنواع القمح
وقد ترتب على اختلاف الظروف الطبيعية التي ينمو فيها القمح اختلاف في أنواعه، والاختلاف الأول حسب كمية المطر في الإقليم. وقد أدى ذلك إلى ما يعرف باسم القمح الصلب في المناطق القليلة المطر، والقمح اللين في المناطق الكثيرة المطر.
ولكل من النوعين استخدامات خاصة؛ فالقمح اللين يستخدم في الخبز بينما الصلب في الفطائر والمكرونة، والاختلاف الثاني حسب موسم الزراعة بالارتباط بأنسب الفصول حرارة للنمو.
ولذلك ينقسم إلى نوعين؛ النوع الشتوي: وهو أشيع أنواع القمح عامة، ويزرع في أوائل الشتاء لكي ينضج في الربيع وأوائل الصيف، والنوع الربيعي الذي تقتصر زراعته على المناطق الباردة شتاء في كندا وشمال الولايات المتحدة وفي سيبيريا، ويزرع في نهاية الشتاء كما قلنا من قبل.
وإلى جانب هذه الأنواع الرئيسية هناك أنواع أخرى عبارة عن أصناف متأقلمة مع ظروف طبيعية محلية كالجفاف أو الرطوبة أو البرودة العالية.
الإنتاج العالمي وعوامل النمو
يوضح الجدول (
8-1 ) أنه في خلال عشرين عاما حدث تغير كبير مجمله: (1)
من حيث المساحة المزروعة قمحا: نجد تناقصا طفيفا عالميا، وذلك بسبب النقص الكبير المساحي في الاتحاد السوفييتي (−32٪)، وأستراليا (−18٪). ولكن الزيادة في آسيا (+26٪) عوضت النقص. أما باقي القارات فقد استقرت مساحة القمح فيها مع ذبذبة بسيطة بالناقص والزائد. (2)
ارتفعت كمية الإنتاج العالمي بمقدار 150٪، وكانت أكبر زيادة هي في آسيا (+236٪)، وأمريكا الجنوبية (+180٪)، وأفريقيا (نحو +190٪)، وفي أوروبا وأمريكا الشمالية ارتفع الإنتاج إلى نحو مرة ونصف.
أما أوشينيا (−79٪)، والاتحاد السوفييتي (−91٪) فقد أظهرتا انخفاضا ملحوظا. (3)
يفسر ارتفاع إنتاجية الهكتار أسباب ارتفاع الإنتاج العالمي برغم نقص المساحة، فقد ارتفعت الإنتاجية في آسيا بمقدار + 202٪، وأفريقيا +155٪، وأوروبا +٪، بينما كان الارتفاع بسيطا في أمريكا الشمالية والاتحاد السوفييتي (نحو + 133٪).
وانخفضت الزيادة إلى +102٪ فقط في أوشينيا، ومعروف أن أمريكا الشمالية قد وصلت إلى مداها من حيث تحسن كل وسائل الإنتاج، فالمتوقع أن تكون الزيادة في الإنتاجية محدودة.
أما الاتحاد السوفييتي وأوشينيا فهما يتعرضان إلى تقلبات مناخية لا تساعد على ضمان إنتاجية عالية؛ رغم أنهما يستخدمان الوسائل المناسبة في الزراعة، ولا شك أن الطفرة في آسيا وأفريقيا ناجمة عن استخدام الوسائل الحديثة من حيث اختيار البذور والتسميد وإدارة التسويق. وقد سبق أن أشرنا إلى استخدام المخصبات وأثرها على كل أشكال الإنتاج في الفصل السابع، وكما يأتي بعد قليل.
جدول 8-1: تطور المساحة والإنتاجية وكمية الإنتاج في عشرين سنة. *
القارة
المساحة المزروعة (مليون هكتار)
الإنتاجية كجم/هكتار
الإنتاج (مليون طن)
1968
1987
1968
1987
1968
1987
العالم
227,5
220,6
1460
2342
332,5
516,7
أفريقيا
7,4
8,85
920
1439
6,8
12,7
أمريكا الشمالية
34,2
37,2
1770
2367
60,5
88,1
أمريكا الجنوبية
9,2
9,7
1160
1916
10,6
18,6
آسيا
65,5
82,9
1100
2222
78,0
184,4
أوروبا
28,7
27,2
2530
4231
72,8
115,4
أوشينيا
10,8
8,9
1340
1396
15,8
12,5
الاتحاد السوفييتي
67,2
45,7
1390
1860
93,3
85,0 *
ملاحظة: الأرقام عن كتابي الإنتاج لمنظمة الفاو 1969، 1987.
الشروط البشرية في إنتاج القمح
قلنا من قبل إن زيادة إنتاج القمح وتجارته راجعة إلى استمرار تفتح أسواق الاستهلاك عالميا، وعلى هذا نستطيع أن نستخلص أول تأثير بشري على القمح، وهو زيادة الاستهلاك.
وإلى جانب السوق والتقدم العلمي نلحظ أن لوسائل المواصلات أهمية كبرى في نمو أقاليم القمح؛ ففي داخل براري أمريكا الشمالية، وفي إقليم البمبا في الأرجنتين، وفي أوكرانيا وإقليم الإستبس السوفييتي انتشرت شبكات النقل الحديدي بدرجات متفاوتة؛ مما جعل في الإمكان فتح أراض جديدة للاستغلال من ناحية، وساعد على سرعة نقل المحصول وتسويقه من ناحية ثانية.
ولكن ذلك ليس كافيا لتفسير نمو التجارة الخارجية للقمح، والحقيقة أن تقدم النقل البحري عبر الأطلنطي والهندي، قد جعل في الإمكان ربط مناطق الإنتاج البعيدة في النصف الجنوبي والنصف الغربي بمناطق الاستهلاك الكبيرة (جدول
8-3 )، وبذلك شجعت المواصلات الحديدية في الداخل والنقل البحري على زيادة مساحة حقول القمح وتسويقها داخليا وخارجيا.
إلى جانب تقدم المواصلات قلنا: إن زيادة الإنتاجية كان لها أثر أبعد على الإنتاج من مجرد زيادة المساحة المزروعة، وإن هذه الزيادة مرتبطة بالتقدم العلمي والفني في أوروبا وأمريكا، وتأتي زيادة الإنتاجية نتيجة لعدد من الجهود العلمية: (أ) مجال تخصيب الأرض بواسطة الأنواع الملائمة من مخصبات، وأسمدة عضوية، وغير عضوية. (ب) نتيجة لمكافحة أمراض النبات. (ج ) نتيجة لتجارب التهجين والخلط بين أنواع معينة من القمح تؤدي إلى محصول كبير ونوع جيد.
ولا أدل على مدى اهتمام الإنسان بالمخصبات أن إنتاج العالم منها قد بلغ قرابة 37 مليون طن عام 1964 مقابل 126 مليون طن 1992؛ أي بزيادة 340٪ في قرابة ثلاثين عاما، وهذه الكمية المنتجة تستهلك كلها على وجه التقريب؛ مما يوضح لنا اعتماد الكثير من الدول الآن على رفع إنتاجية حقولها بواسطة إكساب التربة أغذية لازمة لكل محصول على حدة.
واستخدام المخصبات، وخاصة غير العضوية، يحتاج إلى كميات كبيرة من الماء؛ ولهذا نجد المناطق شبه الجافة لا تستخدم المخصبات بالكثرة التي نجدها في المناطق المطيرة أو ذات المياه الوفيرة. ويتضح ذلك من أن استخدام المخصبات في الولايات المتحدة أقل بكثير من بريطانيا أو أوروبا أو اليابان.
وفي داخل الولايات المتحدة ذاتها نجد استخدام المخصبات في المناطق المطيرة في الشمال الشرقي أكثر من مناطق البراري القليلة الأمطار، وأعلى نسبة في استهلاك المخصبات المعدنية هي اليابان، ويضاف إلى ذلك استخدام المخصبات العضوية في كل أرجاء العالم.
ومن أهم المخصبات التي تستخدم للقمح والأرز السماد النيتروجيني الذي يؤدي استخدامه بدرجة متوسطة إلى 17 كيلوجراما زيادة في إنتاج الهكتار. وقد كان إنتاج السماد النيتروجيني مصنوعا من خام معدني أهم مراكز إنتاجه شيلي، ثم أصبح في الإمكان صنعه من النشادر المركب، وسلفات النشادر.
شكل 8-1
أما مكافحة الأمراض، فتتم بواسطة المبيدات الحشرية المختلفة، ولكن هناك بعض أمراض لا يمكن علاجها إلا بواسطة استنبات أنواع جديدة من المحصول مقاومة لهذه الأمراض.
ومن الأمثلة على ذلك؛ مرض صدأ ساق القمح الذي قلل المحصول في الولايات المتحدة عام 1950 بمقدار 10٪ في بعض أنواع القمح. وقد أمكن التغلب على المرض حينما زرع القمح مبكرا فوصل إلى مرحلة النضج عندما بدأ المرض في الظهور، ولكن ذلك ليس كافيا كعلاج، ولا بد من ظهور نوع مقاوم للصدأ تماما.
ويتضح من هذه العناصر كيف أن القمح يتأثر بشدة نتيجة النشاط البشري؛ توفير وسائل المواصلات، والتقدم الفني من أجل زيادة الإنتاج، واتساع سوق الاستهلاك.
وهناك عوامل أخرى تساعد على نمو محصول القمح، نذكر منها أن استخدام آلات في الزراعة وجني المحصول توفر الوقت والفاقد في المحصول أثناء الجمع.
توزيع مناطق إنتاج القمح والتجارة الدولية
نتيجة للعوامل الطبيعية والبشرية سابقة الذكر، نجد أن مناطق إنتاج القمح في العالم قد زادت، ولكن يمكننا أن نميز في الوقت الحاضر نطاقين أساسيين: (1)
العروض المعتدلة المطيرة:
وتظهر في أوروبا، وجنوب روسيا الأوروبية، ووسط الولايات المتحدة، ووسط الأرجنتين، وشمال الصين، والقسم الأوسط والشمالي من سهل الهندستان ، وحوض البحر المتوسط، وجنوب شرق أستراليا.
ويدخل القمح هنا ضمن قائمة أخرى من المحصولات الزراعية. (2)
العروض المعتدلة الباردة شبه الجافة:
وهذه في الواقع هي أراضي الحشائش والمراعي كما هو الحال في نطاق الإستبس السوفييتي، والمناطق الشمالية والوسطى من الولايات المتحدة وكندا.
وفي هذا النطاق يصبح القمح هو المحصول الوحيد، وبالتالي فإن هذه المناطق - بسكانها القليلين - هي من أهم مراكز تصدير القمح إلى بقية أجزاء العالم بالإضافة إلى المصدرين الرئيسيين في النصف الجنوبي: الأرجنتين وأستراليا.
جدول 8-2: الدول الأولى في إنتاج القمح. *
الدولة
متوسط 1979-1981
1987
1994
1994 ٪ إلى متوسط 1979-1981
العالم
443,6
516,7
534,3
120
الصين
59,1
87,7
102,0
172
الولايات المتحدة
66,2
57,0
63,0
95
الهند
34,5
45,5
57,0
165
روسيا «الاتحاد السوفييتي» (89,8) (85) (65)
72
فرنسا
22,3
27,4
29,9
134
كندا
20,4
26,3
23,8
116
تركيا
17,0
18,9
18,0
106
أوكرانيا
18,0
ألمانيا
11,1
13,9
16,1
145
باكستان
10,7
12,0
15,1
141
بريطانيا
8,1
11,8
12,5
148
كازاخستان
10,0
إيران
6,2
7,9
10,0
161
أستراليا
14,4
12,1
9,5
66
الأرجنتين
8,0
10,1
9,2
115 *
المصادر مجمعة عن كتاب الإنتاج السنوي لمنظمة الفاو 1987، صفحات متعددة من
Fischer Weltalinanach 1996 .
ولقد نشأت عدة تطورات على مناطق القمح منذ أوائل هذا القرن؛ فيما يختص بالنقص الإنتاجي عن معدل الاستهلاك أو زيادة الإنتاج، ولقد كانت أوروبا منذ منتصف القرن التاسع عشر منطقة نقص حقيقي في إنتاج القمح عن الاستهلاك، ولقد ساعدت مساحات القمح المتزايدة في الإستبس الروسي منذ ذلك التاريخ على سد النقص في استهلاك أوروبا الغربية من القمح.
وبعد ذلك ارتفع الإنتاج في أمريكا الشمالية إلى حد أصبحت معه المصدر الأول لأوروبا، بالإضافة إلى إنتاج القمح المتزايد في أراضي الري على نهر السند بعد عام 1870. ولكن ابتداء من 1880 أصبحت دول النصف الجنوبي أكبر مصدر لأوروبا، ومنذ بداية القرن أصبحت مزارع القمح في الإستبس الروسي أكبر مصدر لأوروبا الشرقية، وكندا ودول النصف الجنوبي أكبر مصدر لقمح أوروبا الغربية.
ونتيجة للتطور الاستهلاكي للقمح؛ فإننا نلحظ تحول مناطق فائض القمح في الماضي إلى مناطق استيراد له في الوقت الحاضر، ومن أهم هذه المناطق الهند وباكستان، وكذلك نلحظ دولا أخرى هبط مركزها في ترتيب الدول المصدرة كالأرجنتين وجنوب أفريقيا وأستراليا والاتحاد السوفييتي، وبذلك لم يعد هناك في العالم مصدر للقمح أكبر من أمريكا الشمالية «الولايات المتحدة وكندا».
تجارة القمح الدولية
يدخل نحو 16,5٪ من الإنتاج العالمي للقمح في التجارة الدولية؛ أي ما يقرب من 88 مليون طن، وليست أكبر الدول المنتجة هي أكبرها في الصادرات، بل بالعكس نجد أن الصين تظهر في قائمة الدول المستوردة ولو بكمية صغيرة، وكذلك الحال في الاتحاد السوفييتي السابق.
جدول 8-3: التجارة الدولية للقمح 1993 «الأرقام بمليون طن».
أهم الدول المصدرة
أهم الأقاليم والدول المستوردة
الدولة
الكمية
الدولة
الكمية
الولايات المتحدة
33,0
أمريكا اللاتينية
16,0
أوروبا الغربية
19,5
شمال أفريقيا
15,0
كندا
18,0
الشرق الأقصى
12,8
أستراليا
12,5
الشرق الأوسط
11,0
الأرجنتين
4,5
كمنولث روسيا
6,5
اليابان
6,0
الصين
4,5
وتمثل بلاد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المنطقة الأولى في استيراد القمح «نحو 30٪ من مجموع واردات القمح الدولية». ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها ما يأتي:
أولا:
أنها مثل بلاد أمريكا اللاتينية إقليم نام تظهر فيه ظاهرة تركز السكان في مدن كبيرة أو قرى كبيرة، وإن الخبز المفضل لدى السكان هو خبز القمح منذ أقدم الحضارات.
ثانيا:
إن شمال أفريقيا والشرق الأوسط منطقة جافة وشبه جافة مما لا يسمح بنمو مساحة للزراعة المروية حتى مع ضبط الأنهار، وإقامة السدود والخزانات، وإن نسبة نمو السكان السنوي أعلى من المتوسط العالمي بكثير، وإن نسبة نمو سكان المراكز الحضرية هي الأخرى نسبة مرتفعة. ومن ثم فإن هناك فجوة بين أعداد السكان والإنتاج المحلي للقمح مما يستدعي الكثير من الاستيراد، وكان القمح يشكل مشكلة كبيرة لمصر والعراق وغيرهما، ولكن تزايد إنتاج القمح في مصر قد خفض نسبيا من الاستيراد. (1-3) الأرز
صفات الأرز الغذائية
الأرز هو المحصول الغذائي الثاني في العالم، ولكنه في الشرق الأقصى يكون الغذاء الرئيسي بدل القمح، وفي الوقت الذي نجد فيه القمح يطحن ثم يخبز، نجد أن الأرز يضرب ويبيض، وبذلك فإن تحضير الأرز للغذاء أقل تكلفة ولا يحتاج لمنشآت كبيرة كمطاحن القمح.
وفي الشرق الأقصى يتم تحضير الأرز للغذاء يوميا في البيوت، على نفس الصورة التي تتم بها سيدة البيت الإيطالية تحضير المكرونة من الدقيق يوميا، ونظرا لسهولة تحضير الأرز؛ فلم يعد هناك في توزيع الأرز وسطاء بالمعنى الذي نجده من كبار تجار القمح ومحلات البيع بالتجزئة؛ وبذلك فإن الأرز فعلا أكثر توفيرا في مصاريف انتقاله وتحضيره وبيعه من القمح. ورغم هذا التوفير فإن الأرز، لما فيه من فوائد غذائية كبيرة بالنسبة لبقية الحبوب الغذائية، أغلى ثمنا من القمح كما لاحظنا من قبل في سعر صادرات الحبوب.
1
وهو بذلك أغلى من متناول دخول الفقراء في جنوب شرق آسيا في كثير من الأحيان. ولذلك فإنا نلحظ اتجاها إلى الاعتماد على خبز القمح أكثر من الأرز في تلك الدول في الآونة الأخيرة.
شروط إنتاج الأرز
شكل 8-2
وفيما يختص بالشروط الطبيعية للنمو؛ فإننا نرى أن الأرز له متطلبات خاصة لا تتوفر في غالبية العالم؛ وبالتالي فهو في انتشاره وتوزيع إنتاجه محدود بهذه الشروط على عكس القمح، ومن أهم هذه الشروط درجة الحرارة وضوء الشمس وكمية المياه.
فهو يتطلب درجات حرارة عالية أدناها 20 مئوية ودرجة كبيرة من إشعاع الضوء، ويحتاج إلى كمية من المطر متوسطها 120سم. ونظرا لهذا؛ فإن الأرض لا بد وأن تكون مستوية لمنع انحدار الماء سواء كان من الأمطار أو مياه الري؛ ولذلك فإن أصلح مناطق زراعته، السهول والوديان ودالات الأنهار المستوية.
ويزيد على ذلك جهد بشري كبير لتسوية سطح الحقل تجنبا لتراكم الماء في جهة واحدة منه، ونظرا لأنه غذاء رئيسي في جنوب شرق آسيا ونظرا لقلة السهول، فقد اضطر السكان إلى تدريج منحدرات التلال في جنوب الصين وفي الفلبين وتايلاند وإندونيسيا وكوريا واليابان، حتى يمكن زراعة مساحات كبيرة تفي بالحاجة الغذائية. ومثل هذه المدرجات ذات انحدار بسيط، وهي في الوقت نفسه عريضة تسمح بتشغيل محراث الحيوان.
توزيع مناطق الإنتاج الرئيسية وإنتاجية الحقول
وعلى هذا الأساس فإن زراعة الأرز مرتبطة بالأقاليم الموسمية بالإضافة إلى مناطق الري الصناعي خارج الإقليم الموسمي، كما هو الحال في دلتا النيل، وسهول البو في إيطاليا، وجنوب العراق، وسهل البنجاب، ودلتا السند. وكلها مناطق شبه جافة «فيما عدا سهل البو» وتعتمد على الري الصناعي.
وينتج أيضا في بعض الأقاليم الاستوائية الأفريقية كما هو الحال في الكنغو، ونيجيريا، ومالي، والسنغال، والبرازيل، وغيانا في أمريكا الجنوبية.
وأخيرا، هناك منطقة صغيرة لإنتاجه في الإقليم الساحلي من تكساس ودلتا المسيسبي حيث تتوافر مياه الري والأمطار.
وعلينا أن نلاحظ أن مناطق إنتاج الأرز شبه الجافة تعطي محصولا واحدا في السنة، ولكن يمكن الحصول على محصول ثان إذا ما كانت كمية المياه اللازمة للري متوفرة، ودرجة الحرارة مناسبة للنمو. بعض الدول تدخل محصولا آخر بدل الأرز في دورتها الزراعية، كما هو الحال في اليابان التي تزرع القمح في أرض الأرز كمحصول ثان في الدورة الزراعية.
وفي المناطق الموسمية من شرق وجنوب آسيا نجد أن المحصول مزدوج، ولكن الإنتاجية ضعيفة نسبيا لعدم استخدام المخصبات. وقد ثبت أن استخدام المخصبات يعطي محصولا وفيرا بالإضافة إلى فكرة الزراعة بواسطة الشتلات التي تعطي محصولا أكبر من زراعة بذر الحبوب.
وقد أدى ذلك مع الأسمدة اللازمة إلى إنتاجية عالية في اليابان قدر إنتاجية الهكتار في تايلاند ثلاث مرات، وقدر ميانمار «برما» مرتين تقريبا. وفي سنة 1987 كانت إنتاجية الهكتار في الدول الرئيسية المنتجة للأرز على النحو الآتي: اليابان 6186كجم/هكتار، والولايات المتحدة 6143، مصر 5714، إيطاليا 5570، الصين 5413، إندونيسيا 3919، فيتنام 2684، ميانمار 2957، باكستان 2532، الهند 1999، تايلاند 1961.
وفي بعض المنتجين الصغار بلغت الإنتاجية أعلاها في كوريا الشمالية 7086كجم، وكوريا الجنوبية 6019كجم، وسريلانكا 3132، وماليزيا 2930كجم.
وتعوض الإنتاجية العالية صغر المساحات المزروعة أرزا في كمية الإنتاج؛ فاليابان تزرع ربع مساحة ما تزرعه تايلاند من الأرز بينما كمية الإنتاج اليابانية تساوي ثلثي المحصول التايلاندي.
وتعوض كثرة الأيدي العاملة في بلاد الأرز الآسيوية استخدامات الآلية الزراعية في بلاد كالولايات المتحدة واليابان وإيطاليا، وبذلك فإن وفرة الأيدي العاملة شرط أساسي في إنتاج الأرز في البلاد النامية في آسيا ومصر ونيجيريا والبرازيل ... إلخ.
ولعل الزراعة المعتمدة على الري والعمالة البشرية مع بعض الآلية لهي أكثر إنتاجا من الزراعة الآلية. فعلى سبيل المثال ارتفعت إنتاجية الهكتار في مصر 1996 إلى 8500كجم «3,4 طن للفدان». وهذه في الأغلب هي أعلى إنتاجية للأرز في العالم.
وأهم الملاحظات أن ترتيب الدول هو على ما عليه خلال سبع سنوات باستثناء نمو فيتنام على حساب تايلاند، وأن كافة الدول المذكورة في الجدول قد زاد إنتاجها، وبخاصة الهند التي زادت بمقدار 152٪. أما الصين واليابان فقد جمدت أرقام إنتاجها على وجه التقريب مما يدل على أن اليابان «وربما الصين» قد وصلت إلى أعلى حدود الإنتاج برغم استخدام أعلى وسائل الإنتاج.
جدول 8-4: تطور الدول الرئيسية في إنتاج الأرز 1993 «مليون طن».
الدولة
1993
1987
الدولة
1993
1987
العالم
524,0
454,0
اليابان
13,6
13,3
الصين
175,6
176,5
الفلبين
9,7
8,6
الهند
117,6
77,9
الولايات المتحدة
8,5
5,7
إندونيسيا
45,8
38,6
باكستان
5,5
4,7
بنجلاديش
27,9
22,2
مصر
4,2
2,4
فيتنام
22,5
15,3
نيجيريا
3,8
1,5
تايلاند
20,4
17,6
إيران
2,7
1,9
ميانمار «برما»
19,0
13,7
إيطاليا
1,3
1,0
ومن بين الدول من صغار المنتجين ارتفعت كمية الإنتاج كثيرا: مصر 175٪، إيران 142٪، وكانت الزيادة في نيجيريا هي الأعلى فقد وصلت إلى 253٪ مما يبشر بمستقبل جيد للأرز في أفريقيا المدارية.
تجارة الأرز الدولية
على الرغم من كمية الإنتاج الكبيرة للأرز، فإن 3٪ منه فقط تدخل التجارة الدولية «نحو 16 مليون طن فقط». والسبب كما ذكرنا من قبل راجع إلى أنه عكس القمح - محصول غذائي محلي آسيوي - بينما القمح محصول غذائي عالمي.
وكانت ميانمار من الدول المصدرة، لكنها اختفت مؤخرا من قائمة المصدرين التي تحتوي على ثلاث دول كبيرة هي تايلاند وفيتنام والولايات المتحدة. وكانت هذه الدول الثلاث تحتكر نحو ثلاثة أخماس الصادرات العالمية «سنة 1993».
أما الدول المستوردة للأرز فكثيرة وتتصدرها مجموعة دول غرب آسيا والبلاد العربية والكثير من دول أفريقيا المدارية، ومجموعة دول السوق الأوروبية. (1-4) الذرة
يكون محصول الذرة واحدا من أهم محاصيل الحبوب العالمية في الوقت الراهن، برغم أنه لم يكن معروفا إلا بعد اكتشاف الأمريكتين؛ إذ إنه محصول أمريكي النشأة وما زال في إنتاجه الوفير محصولا أمريكيا أيضا.
وقد كان يطلق عليه في البداية اسم القمح الهندي
Indian Corn
نسبة إلى الهنود الحمر في أمريكا، ثم تحول الاسم تدريجيا إلى مجرد
Corn .
ويطلق عليه في العربية اسم الذرة الأمريكية أو الذرة الشامية تمييزا له عن الذرة الرفيعة، وهي إحدى الأنواع العديدة لمحصول الدخن، ولكن يمكن أن يطلق عليها اسم «ذرة» فقط إذا ما استخدم الاسم مقابل اسم «دخن».
والقيمة الغذائية للذرة أقل من تلك الموجودة في القمح، ولكن خبز الذرة شائع الانتشار كغذاء أساسي في المناطق المزدحمة السكان والفقيرة نسبيا مثل المكسيك أو مصر أو الهند.
وكان كذلك في البلقان وجنوب أفريقيا، وبالإضافة إلى استخدام دقيق الذرة والقمح في عمل الخبز في أمريكا؛ فإنه يستخدم كعلف حيواني هام في الولايات المتحدة (في صورة حبوب أو دقيق مخلوط بمواد غذائية أخرى).
شكل 8-3
الشروط الطبيعية لإنتاج الذرة
يمكن للذرة أن تنمو في ظروف جغرافية ومناخية مختلفة في الإقليمين المعتدل والمداري، وذلك برغم حساسيته لبعض الظروف المناخية الطارئة أثناء مراحل نموه.
والشروط المثلى لنمو الذرة هي: (1)
فترة نمو خالية من الصقيع، حدها الأدنى 140 يوما. (2)
متوسط حرارة الصيف بين 21 و27 درجة مئوية. (3)
ليال دافئة بمتوسطات حرارية في حدود 15 درجة مئوية. (4)
مطر سنوي يتراوح بين 600 و1200 مليمتر، أو كمية مقابلة من مياه الري. (5)
كمية كبيرة من ضوء الشمس خلال موسم الإنضاج. (6)
تربة غنية بالنيتروجين وجيدة الصرف.
وبناء على هذا فإن؛ مناطق إنتاج الذرة متعددة في العالم، ولكن أكثرها إنتاجا هو من نصيب الإقليم المعتدل، وتدل الدراسة الرقمية على أن الإقليمين المعتدل والمداري يتناصفان مساحة الذرة، لكن الإقليم المعتدل يستحوذ على نحو 75 إلى 80٪ من الإنتاج.
مناطق الإنتاج الرئيسية للذرة (1)
في أمريكا الشمالية:
سهول الغرب الأوسط في الولايات المتحدة، وهضاب أمريكا الوسطى في المكسيك، والجمهوريات اللاتينية الأخرى.
جدول 8-5: تطور إنتاج ومساحة الذرة.
الدولة
الإنتاج بمليون طن
المساحة بمليون هكتار
1994
1987
1969
1987
1969
العالم
551,2
457,3
265,0
127,6
105,9
الولايات المتحدة
235,2
179,4
116,0
23,9
22,0
الصين
104,3
76,5 ؟
20,2 ؟
البرازيل
31,5
26,8
12,7
13,5
9,6
المكسيك
16,6
11,0
8,5
8,3
7,7
فرنسا
12,9
12,0
5,7
1,7
1,1
جنوب أفريقيا
12,9
7,3
5,0
4,0
5,5
الأرجنتين
10,6
9,2
6,9
2,9
3,5
الهند
10,5
6,5
5,7
5,3
5,8
رومانيا
9,8 ؟
7,6
3,1
3,3
يوجوسلافيا ؟
8,8
7,8
2,2
2,4
إيطاليا
7,9
5,7
4,5
0,7
1,0
المجر
5,5
7,1
4,8
1,1
1,2
مصر
5,4
4,8
2,4
0,8
0,6
الاتحاد السوفييتي (6,5) *
8,8
11,9
4,6
4,1 *
إنتاج روسيا وأوكرانيا وكازاخستان معا. (2)
في أمريكا الجنوبية:
جنوب شرق البرازيل، سهول البمبا في الأرجنتين. (3)
في أوروبا:
حوض الدانوب في المجر ورومانيا ويوجسلافيا السابقة. (4)
في آسيا:
سهل الهندستان من البنجاب «باكستان» إلى وسط حوض الجانج «الهند»، شمال ووسط الصين، القوقاز بين البحر الأسود وقزوين. (5)
في أفريقيا:
جنوب أفريقيا، ومناطق متفرقة «مصر ونيجيريا وروديسيا وشرق أفريقيا.»
يتضح من الجدول (
8-5 ) الحقائق التالية: (1) أن المحصول العالمي للذرة في تزايد مستمر من ناحيتي المساحة والكمية المنتجة، لكن التزايد الإنتاجي كان أكبر من معدل الزيادة المساحية نتيجة التقدم التكنولوجي في وسائل الزراعة وتهجين الأنواع للحصول على غلة أكبر. فالنمو المساحي بلغ نحو 120٪ في عام 1987 بالنسبة للمساحة في آخر الستينيات، أما المحصول فقد بلغت نسبة الزيادة فيه في الفترة ذاتها 175٪.
نمو الإنتاجية
وتوضح الأرقام اهتماما متزايدا بإنتاج الحبوب الغذائية (في الدول النامية الدخن والسرغم والذرة ونمو متزايد للشعير). وذلك من أجل كفاية الاحتياجات الغذائية، وتقليل كمية الاستيراد من القمح والأرز، خاصة بعد تزايد ثغرة العملة الصعبة عند الدول النامية في علاقاتها التجارية مع الدول المتقدمة.
وهذه الزيادة في إنتاج الاحتياجات الذاتية من الحبوب الغذائية لدى الدول النامية «ومعظمها لا يدخل في التجارة العالمية إلا بكميات صغيرة»؛ ناجمة عن الجهود الكثيرة التي تبذلها الدول في البحوث الزراعية والإرشاد الزراعي من أجل تحسين مردود الفدان.
ويوضح جدول (
8-6 ) نمو مردود الحقل من الذرة في الدول الرئيسية المنتجة لهذا المحصول.
جدول 8-6: تطور إنتاجية هكتار الذرة بالطن 1969-1987.
الدولة
الإنتاجية بالطن
الدولة
الإنتاجية بالطن
1987
1969
1987
1969
العالم
3,5
2,5
دول تزيد عن المتوسط العالمي
دول تقل عن المتوسط العالمي
الولايات المتحدة
7,4
5,2
الاتحاد السوفييتي
3,2
2,9
فرنسا
6,9
5,2
الأرجنتين
3,2
1,9
إيطاليا
7,5
4,5
البرازيل
1,9
1,3
مصر
4,8
4,0
المكسيك
1,3
1,1
المجر
6,1
4,0
الهند
1,2
1,0
يوجوسلافيا
3,9
3,2
جنوب أفريقيا
1,8
0,96
رومانيا
6,9
2,3
وتؤكد الأرقام أن الإنتاجية في تحسن مستمر في كافة الدول، لكنها تنمو بسرعة أكبر في الدول المتقدمة أكثر منها في الدول النامية (باستثناء مصر النامية التي تزيد فيها الإنتاجية لكثافة العمل الزراعي والبحوث الزراعية منذ فترة طويلة). وتعوض الدول النامية هذا النقص بمزيد في المساحة، كما هو الحال في البرازيل والمكسيك. أما الهند؛ فإنه برغم نقص الأراضي المزروعة ذرة، فقد قابله زيادة في الإنتاج؛ مما يدل على أن رفع الإنتاجية كان له دور فعال في هذا المجال.
نمط الاستهلاك والتجارة الخارجية للذرة
تشبه الذرة محصول الأرز العالمي في أن نسبة كبيرة من الإنتاج تصل إلى ما يقرب من 75٪، لا تغادر دولة الإنتاج، بل تستهلك محليا، إما كغذاء شعبي في معظم الدول النامية، وإما كغذاء حيواني في كثير من الدول المتقدمة. ومما يؤكد ذلك أن 3٪ فقط من محصول الذرة في الولايات المتحدة يدخل التجارة العالمية، وذلك برغم أن المحصول الأمريكي يساوي 42٪ من المحصول العالمي.
وفي 1994 كان أكبر المصدرين الولايات المتحدة ثم فرنسا والأرجنتين، أما أكبر المستوردين فهم: المكسيك، مصر، روسيا، ألمانيا، دول البنلوكس، وبريطانيا. (2) السكر والأشربة (2-1) السكر
يكون السكر في الآونة الحاضرة سلعة هامة من السلع التجارية العالمية، ويحتل السكر مركزا ممتازا في الغذاء اليومي، ولو أن استهلاكه يختلف من بلد إلى آخر.
في البلاد الصناعية يتراوح استهلاك الفرد سنويا من السكر ما بين 30 و45 كيلوجراما، ويقل إلى 14كجم في الدول المتخلفة.
2
وفي خلال العصور الوسطى كان السكر عنصرا غير معروف كثيرا، وكان بديله العسل وغيره من المواد السكرية، ولكن استغلال المستعمرات المدارية فيما بعد، وخاصة استعمار البرتغال للبرازيل، وإسبانيا وهولندا وغيرهما لجزر أمريكا الوسطى، قد أدى إلى معرفة سكر القصب الذي بدأت تجارته تنساب إلى أوروبا بكميات متزايدة كل سنة.
ومع الزيادة تحول السكر من سلعة غالية لا يقدر على شرائها إلا الأغنياء فقط، إلى سلعة مطلوبة لكل الطبقات بعد رخص أسعاره. وفي الماضي كان يصدر من المناطق المدارية خاما، ثم يكرر في المناطق المعتدلة، وبعد ذلك تحول الموقف إلى التصدير المكرر مباشرة.
شكل 8-4
والسكر من أحسن الأمثلة على المحاصيل المدارية التي أصبح لها بديل إنتاجي في العروض المعتدلة، ولو أن المصدر يختلف تماما. فهو في المداريات يستخرج من قصب السكر، وفي بعض العروض المعتدلة من البنجر «الشمندر».
قصب السكر
يحتاج إلى درجة حرارة فوق 22 درجة مئوية ومطر 100سم، أو ما يقابله من ماء الري، ويتزايد السكر في القصب من 9٪ إلى 15٪ إذا أعقب فصل النمو فصل جاف، وينمو قصب السكر في عروض مدارية مختلفة وتمتد زراعته خارجها إلى 30 شمالا في جمهورية مصر العربية وجنوب الولايات المتحدة، وإلى 33 شمالا في اليابان وإسبانيا، وفي وسط الولايات المتحدة.
والعروض التي تقع إلى 35 شمالا على وجه العموم يحصل فيها على محصول واحد، بينما العروض الممتدة من 30 شمالا إلى الجنوب يمكن الحصول على عدة محاصيل من نفس المزرعة الواحدة.
والطريقة القديمة في الحصول على السكر من القصب هي أولا عصر القصب، ثم غلي العصير إلى درجة التبلور. ويقسم إنتاج السكر إلى خام وبلوري «سنترفيش»، ويمكن استهلاك السكر الخام في الدول المنتجة له كالبرازيل والهند، ويتم ذلك فعلا في معظم المناطق المدارية عدا مصر التي تحول غالبية إنتاجها إلى البلوري، وفي الوقت الحاضر نجد أن الهند والباكستان هما أكبر الدول المنتجة للسكر الخام في العالم، ونصيبهما من السكر البلوري قليل.
والسكر البلوري في الحقيقة هو السكر الذي يدخل التجارة الخارجية، وينتج من معامل حديثة كبيرة، بينما ينتج السكر الخام من معاصر أهلية محلية.
ويلاحظ أن معامل السكر الحديثة، بما تتكلفه من طاقة وخبرة تكنولوجية لازمة لإدارتها؛ تحتاج إلى أن تعمل معظم أيام السنة، وبالتالي تحتاج إلى خام كثير، ومن ثم فإن معظم هذه المعامل يقع في وسط مناطق إنتاج قصب السكر.
ولكل معمل طاقة إنتاج معينة تنعكس على الزراعة في صورة العامل المحدد للمساحة المزروعة حوله، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك دراسة مناطق النفوذ التي يمارسها كل من معامل السكر في نجع حمادي وإدفو وكوم أمبو على زراعة القصب في جنوب مصر.
وبعد جمع المحصول نهائيا يمكن استخدام حقول القصب مراعي مؤقتة لحيوانات التربية من أبقار وأغنام وماعز. ولكن من الصعب زراعة الحقل نفسه محصولا آخر، وذلك لإن القصب مجهد للتربة. ومن ثم؛ فإن أهم شروط زراعة القصب استخدام المخصبات بوفرة. وعلى هذا؛ فإن المناطق التي تزرع قصب السكر تعتمد عليه اعتمادا كبيرا، ويسيطر هو على اقتصادياتها بوصفه المحصول المتحكم والوحيد.
سكر البنجر
أما سكر البنجر فأحدث عهدا من سكر القصب ، فرغم زراعة البنجر في أوروبا من القدم فإن استخلاص ما فيه من مادة سكرية لم يحدث إلا في أوائل القرن التاسع عشر؛ ذلك أن الحروب الإنجليزية الفرنسية خلال عصر نابليون وسيطرة فرنسا على غالبية أوروبا قد أدى إلى قطع واردات السكر من البحر الكاريبي نتيجة الحصار الإنجليزي لأوروبا.
وقد أدى ذلك إلى البحث عن مصدر للسكر ومن ثم كان البنجر أحسن هذه المصادر المتوفرة في أوروبا، وفي الوقت الحاضر يكون سكر البنجر المصدر الثاني للسكر المكرر في العالم بعد سكر القصب الذي يفوقه في الكمية والقيمة. وعلى الرغم من أن بداية عمل السكر من البنجر كانت أوروبية فإن هذه الصناعة قد امتدت بعد ذلك إلى مناطق أخرى من العروض المعتدلة، وخاصة في روسيا والولايات المتحدة.
وعلى عكس القصب الذي يحكم منطقة زراعته حكما مطلقا ولا يسمح لغيره من المحاصيل أن تنمو في أرضه؛ فإن البنجر لا يمارس مثل هذا السلطان، بل إنه يدخل الأرض على أنه شريك محاصيل أخرى في دورة زراعية مفيدة يتعدد فيها دور الإنتاج، وفي الوقت الذي يستلزم فيه القصب وجود معامل التصنيع وسط منطقة الإنتاج الزراعية؛ نظرا لعدم قابليته للتخزين الطويل ولثقل وزنه مما يكلف زيادة في نفقات النقل لو أن المعمل كان بعيدا، نجد أن البنجر يتحمل التخزين فترة أطول، ويمكن نقله لمسافات أطول؛ مما لا يدعو إلى ضرورة إقامة المصنع داخل الحقول.
ولهذا ففي الوقت الذي تتركز فيه زراعة القصب في مناطق محدودة المسافة بالنسبة إلى المعمل نجد أن البنجر يزرع في مساحات متناثرة بعيدة عن المصنع.
منتجات إضافية لصناعة السكر
وإلى جانب إنتاج السكر من القصب والبنجر، فإن عملية التحويل هذه تؤدي إلى عدة منتجات فرعية؛ أهمها: الكحول، والمولاس من ناحية، ومخلفات النبات من ناحية أخرى، ولنذكر أن بيع الكحول يصبح أحيانا أكثر ربحا من بيع السكر الذي يتقلب سعره كثيرا، كما أن مخلفات النبات، وخاصة مخلفات البنجر تستخدم كعلف حيواني هام، بينما تستخدم مخلفات القصب في صناعة الأخشاب الصناعية.
سكر القصب أم البنجر؟
يمكن للبنجر أن ينمو في مناطق أكثر حرارة من الأقاليم المعتدلة، ولكن إنتاجه في هذه الحالة يكون موجها إلى السكر، وذلك لأن تكاليف استخراج السكر من البنجر أعلى من القصب، وإلى جانب هذا التحديد المرتبط بارتفاع تكلفة إنتاج السكر من البنجر؛ فإننا لا نستطيع أن نجد أي عامل طبيعي يؤدي إلى تفضيل إنتاج السكر من البنجر على القصب أو العكس، إلا ظروف الحرارة التي يتطلبها القصب. وفيما عدا ذلك فإن اتجاه دولة إلى هذا النوع من السكر أو ذلك راجع إلى ظروف بشرية محضة ؛ مثلا حماية إنتاجها المحلي من سكر القصب ضد منافسة سكر البنجر أو العكس، أو خلق سوق استهلاكية لسكر البنجر لمساعدة المزارعين.
الإنتاج العالمي للسكر
الملاحظة الأولى هي ارتفاع بطيء للإنتاج العالمي؛ ففي عام 1985 كان الإنتاج 98,5 مليون طن، ارتفع إلى 103,3 مليون طن عام 1987 ثم إلى 113,3مليونا عام 1991، لكنه انخفض إلى 109,8 مليون طن عام 1994. وربما رجع الانخفاض إلى انخفاض سعر السكر دوليا؛ إذ إنه لم يزد كثيرا لمدة عشر سنوات ليواكب ارتفاع الإنتاج.
ولعل واحدا من أسباب انخفاض الطلب على السكر في الدول الصناعية هو: ارتفاع نسبة استخدام السكارين وأمثاله من السكر المصنع خوفا على الصحة العامة من كثرة استخدام السكر الطبيعي. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال نجد أن نحو 30٪ من الاستهلاك هو من حبوب السكارين والجلوكوز.
وكانت الهند تتصدر دول العالم في إنتاج السكر من القصب «13 مليون طن عام 1991»، لكنها فقدت الصدارة بتراجع إنتاجها عام 1994 إلى نحو عشرة ملايين من الأطنان، وأصبحت البرازيل هي أولى دول العالم إنتاجا للسكر، تليها الهند ثم الولايات المتحدة.
ولعل تراجع إنتاج الهند مرده ظروف طبيعية، ومن ثم أصبحت تستورد كمية إضافية لسد احتياج السوق المحلي الهندي.
وحالة السكر في كوبا تستدعي بعض التنويه: فقد كان لها مركز مرموق حتى الستينيات، ثم انخفض الإنتاج بعد الثورة الشيوعية وفقدان سوق الولايات المتحدة نتيجة الحظر الأمريكي على واردات سكر كوبا. وبرغم ذلك؛ فإن كوبا تظل إحدى الدول الرئيسية في الإنتاج وفي الصادرات لاعتمادها الرئيسي على السكر كمحصول نقدي.
هذه الصورة من تداخل السياسة والنمو السكاني الكبير وزيادة الاحتياج إلى الواردات من السكر التي نلحظها في الدول المنتجة للسكر من القصب، لا نجد لها مثيلا في الدول المنتجة لسكر البنجر، فحيث إن معظم البنجر ينتج في بلاد الشمال؛ فإن الاستقرار السياسي وقلة الزيادة السكانية تساعدان على استقرار ونمو إنتاج سكر البنجر أكثر من احتياج السوق المحلية، أو تكاد تساويه.
مثال ذلك: إنتاج سكر البنجر في فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا وبولندا والولايات المتحدة «التي تنتج أيضا سكر القصب».
جدول 8-7: الدول العشر الأولى في إنتاج السكر بنوعيه 1994.
الدولة
الكمية «مليون طن» ٪ من الإنتاج العالمي
الدولة
الكمية «مليون طن» ٪ من الإنتاج العالمي
البرازيل
10,7
9,7
فرنسا
4,4
4,0
الهند
10,4
9,4
أوكرانيا
4,2
4,0
الولايات المتحدة
7,1
6,4
كوبا
4,0
3,6
الصين
6,5
5,9
تايلاند
4,0
3,6
أستراليا
4,6
4,2
المكسيك
3,9
3,5
الإنتاج العالمي
10
100
الصورة الأخيرة في الإنتاج العالمي للسكر: أنه لا تظهر هناك دولة واحدة تحتكر نسبة أعلى من 10٪ من الإنتاج على عكس محاصيل أخرى توضح احتكارية واضحة بنسب عالية، مثل الذرة «الولايات المتحدة 42٪ من الإنتاج العالمي»، أو الأرز «الصين 33٪»، أو القمح «الصين نحو 20٪»، وذلك لوجود نوعين من السكر ينتجان في الدول المدارية والمعتدلة، ولوجود بديل صناعي للسكر حيث لا يوجد مثل هذا للحبوب. (2-2) الأشربة
تعتبر محاصيل الأشربة الرئيسية: الشاي، والبن، والكاكاو، محاصيل مدارية.
وفي وقت ما في أوروبا كان يشار إليها باسممنتجات المستعمرات
Colonial Products ، وربما كانت هذه التسمية مطابقة لواقع الظروف الاستعمارية التي كانت المشجع الكبير على إنتاجها من أجل الاستهلاك في أوروبا والعالم المتقدم.
والشاي احتكار إنتاجي للأقاليم المدارية الآسيوية؛ أما البن فهو احتكار لهذه الأقاليم في أمريكا، والكاكاو احتكار أفريقيا المدارية، ولكن هناك اتجاهات حالية لكسر هذه الاحتكارات الإقليمية، وذلك بزراعة عدة محاصيل في مكان واحد، مثل اتجاه أفريقيا إلى زراعة البن إلى جانب الكاكاو.
ورغم السياسات الاقتصادية الحديثة للدول المنتجة لهذه المحاصيل بعد استقلالها، فإن نمط إنتاج هذه الأشربة ما زال يجري كما كان من قبل الاستقلال. وبعبارة أخرى، فإن هذه المحاصيل تنتج أساسا من أجل تسويقها، وما زالت الدول المنتجة تعاني تقلبات الأسعار، وبالتالي فإن تركيبها الاقتصادي ما زال يعتمد على أساس تتحكم فيه ظروف السوق الخارجية مما لا يمكن الدول من التقدم الاقتصادي وتنفيذ مخططاتها للتنمية المطلوبة والخروج من مأزق «منتجات المستعمرات». وفيما يلي دراسة للشاي والبن فقط. (أ) الشاي
يحتاج نمو الشاي إلى مناخ التلال والجبال المدارية ذات الأمطار الوفيرة، وبعبارة أخرى ينتج على سفوح المنحدرات في المناطق المدارية الموسمية، والارتفاع يقلل من درجة الحرارة المدارية والسفوح تقلل من فرص تراكم الماء، بينما المطر الوفير يعطي النبات قدره من احتياجات النمو.
وينمو الشاي غالبا في ظل الأشجار العالية لتخفف من كمية الحرارة المباشرة، وتقدر كمية المطر اللازمة حولي 100سم وهو ما لا يتحمل الجفاف ولا درجات الحرارة المنخفضة.
أما التربة فغالبا ما تكون حمضية مع نسبة قليلة من الكالسيوم، وعلى هذا النحو فإن مناطق تركز إنتاج الشاي هي اليابان والصين والهند وباكستان وإندونيسيا وسريلانكا في آسيا الموسمية، مع إنتاج قليل في كينيا وأوغندا في أفريقيا، وفي جنوب البرازيل وتركيا وجورجيا وإيران في آسيا الغربية.
وشجر الشاي يعطي محصولا طوال السنة؛ ولذلك فإن قطف الأوراق الناضجة يستمر طول العام، ويجب أن يتم ذلك بواسطة الإنسان للتمييز بين الناضج وغير الناضج؛ مما يجعل لزراعة الشاي شرطا أساسيا هو كثافة عالية للسكان لكي يمكن الحصول على الأيدي اللازمة الرخيصة.
ومعالجة أوراق الشاي وتعبئتها يمكن أن تتم إما في منشآت كبيرة ملك الشركات أو في منشآت صغيرة محلية؛ ففي اليابان والصين يتم إنتاج الشاي على نطاق الملكيات الفردية الصغيرة، بينما في المستعمرات السابقة في جنوب آسيا والهند نجد أن طريقة الإنتاج قد اختلفت عن الصين واليابان منذ نشأة زراعة الشاي في العهد الاستعماري، وما زالت متبعة حتى الآن.
ففي الهند وسريلانكا يسير الإنتاج على أساس ملكيات كبيرة، أما في إندونيسيا فإنه يسير على أساس مزارع كبيرة تملكها الشركات بالإضافة إلى إنتاج الملاك الإندونيسيين.
شكل 8-5
جدول 8-8: إنتاج الشاي 1994.
الدولة
الكمية بألف طن ٪
الدولة
الكمية بألف طن ٪
الهند
720
27,3
اليابان
92
3,5
الصين
637
24,2
إيران
75
2,8
سيرلانكا
240
9,1
جورجيا
74
2,8
كينيا
186
7,0
بنجلادش
50
1,9
إندونيسيا
174
6,6
الأرجنتين
44
1,6
تركيا
125
4,7
مجموع الإنتاج العالمي 2631 مليون طن 1994
وبمراجعة أرقام الجدول (
8-8 ) لعام 1994 على أرقام الإنتاج 1980 نرى ما يأتي: (1)
بالنسبة للمنتجين الكبار نجد نموا بطيئا بلغ 125٪ خلال 15 سنة في الهند وسريلانكا، و112٪ بالنسبة للصين؛ مما يدل على أن إنتاج الشاي في هذه الدول الموسمية قد بلغ مداه من حيث المساحة، وإن التحسن مرتبط بتحسن في القطف أو العناية بوسائل الري ... إلخ. (2)
بالنسبة للمنتجين الصغار حدث تحسن ونمو كبير بلغ أعلاه في إيران «400٪ على وجه التقريب»، وكينيا 200٪، وإندونيسيا 164٪، والأرجنتين 157٪، وأخيرا تركيا 130٪. وهذه الدول جميعها خارج النطاق الآسيوي الموسمي. (3)
حدث تراجع نسبي في الإنتاج الياباني «90٪»، وأكبر تراجع كان في جمهورية جورجيا «61٪ من إنتاج 1980». والتراجع الياباني ربما يعكس حقيقة وصول اليابان إلى حدودها العليا فتحدث ذبذبة أو استقرار للإنتاج كما هو حادث في بنجلادش. أما جورجيا، فإن اضطراب الأحوال السياسية والعسكرية والحرب الأهلية لا شك مسئول عن تدهور الإنتاج في هذه الجمهورية القوقازية.
وبرغم هذا؛ فإن الإقليم الموسمي الآسيوي «ويمثله الهند، وبنجلادش وسريلانكا، والصين، واليابان، وإندونيسيا» يمثل المحتكر الأول للشاي في العالم، حيث يسيطر الإقليم على إنتاج 72,6٪ من جملة الإنتاج العالمي.
فالشاي إذن محصول موسمي آسيوي في أصله وأرضه وإنتاجه وتجارته، وجزء كبير من استهلاكه. فما زالت الهند وسريلانكا والصين وكينيا أكبر المصدرين «بالترتيب»، أما كبار الدول المستوردة فهي بالترتيب بريطانيا، باكستان، الولايات المتحدة دول الشرق الأوسط وخاصة العراق ومصر. (ب) البن
ينمو البن أيضا في المناطق المدارية مثل الشاي لاحتياجه إلى حرارة عالية، والبن نوعان: الحبشي، والقوي «روبستا»
Robusta .
البن الحبشي هو: أقدم أنواع البن المعروف في العالم القديم، وينمو على ارتفاعات عالية نسبيا، ويحتاج إلى ظل الأشجار كالشاي، ولكنه على العموم لا ينمو في ارتفاعات أكثر من ألفي متر، أما نوع روبستا فينمو في المناطق السهلية في غرب أفريقيا والبرازيل. ونظرا للاحتياجات المتخصصة للبن الحبشي فهو ينمو في مناطق محدودة من العالم القديم وخاصة في هضبة الحبشة واليمن.
ونوع روبستا: ينمو أساسا في غرب أفريقيا وفي البرازيل وأمريكا الوسطى، بالإضافة إلى الحبشي الذي يمكن أن ينمو في مرتفعات البرازيل وأمريكا الوسطى على ارتفاعات بين 800 متر و1700 متر.
وفي معظم البلاد المنتجة للبن نجد نمط الإنتاج يتأثر بالفصلين المطير والجاف، ويمكن جني المحصول من الشجرة في الفصل الجاف، وينتج البن في مزارع الأفراد الصغيرة في أفريقيا وكولمبيا، وفي مزارع متوسطة المساحة في أمريكا الوسطى، ومزارع واسعة في البرازيل.
وتجري عمليات تقشير وتجفيف وإعداد البن بطرق مختلفة، ففي مناطق الإنتاج التي تسودها الملكيات الصغيرة تحدث عملية الإعداد في صورة تعاونية بين المنتجين كما هو الحال في كولمبيا التي تسيطر على إنتاج البن فيها هيئة اتحاد منتجي البن.
ولكن في مناطق الملكيات الكبيرة - كما هو الحال في البرازيل - فإننا نجد أن إعداد البن يحدث في المزرعة على أساس ملكية خاصة.
ولكن تسويق البن في غالبية الدول المنتجة له يقع تحت إشراف هيئة حكومية، ولا شك في أن الإشراف الحكومي أمر ضروري إذا عرفنا أن قيمة البن التجارية عالية، وعلى صادرات البن تتوقف حصيلة الدولة المنتجة من العملات الدولية؛ وبالتالي تنفيذ مشروعات التنمية.
ومن الأدلة التي لا تقبل الشك أن البن يكون نسبا لا بأس بها من قيمة صادرات البرازيل، وكذلك من صادرات كولمبيا والدول الصغيرة في أمريكا الوسطى «عدا المكسيك».
وقد بلغ الإنتاج العالمي للبن 5,4 مليون طن عام 1994 موزعة على النسب المئوية الآتية:
أمريكا الجنوبية 41٪، أمريكا الوسطى 15٪، آسيا 12,7٪، وأفريقيا 10٪. ويتأثر إنتاج البن بشكل كبير بذبذبة السعر العالمي، وبدرجة أقل بالظروف الطبيعية. فقد بلغ الإنتاج العالمي 6ملايين طن عام 1981، وارتفع إلى 6,1 ملايين عام 1987، ثم انخفض 5,4 ملايين عام 1994.
ويظهر من جدول الإنتاج أن البرازيل التي كانت تحتكر ثلث الإنتاج العالمي عام 1981 قد هبطت إلى الربع عام 1994. ومنذ الستينيات كان البن الأفريقي ينمو إنتاجه إلى أن بلغ 18٪ من الإنتاج العالمي عام 1981، لكنه هبط كثيرا في التسعينيات إلى نحو 10٪ فقط.
وبذلك انقضت الآمال التي كانت معقودة في أفريقيا على مساهمة كبيرة من محصول البن في التنمية.
أما آسيا فقد نمت ببطء من نحو 10٪ عام 1981 إلى نحو 13٪ عام 1994. وفي النهاية نرى استمرار احتكارية البن الأمريكي «أمريكا الجنوبية والوسطى» برغم انخفاض المساحة من 65٪ إلى 56٪ في الفترة من 1981 إلى 1994.
شكل 8-6
جدول 8-9: إنتاج البن العالمي 1994.
الدولة
الكمية بألف طن ٪
الدولة
الكمية بألف طن ٪
البرازيل
1320
24,2
كوت دي فوار
145
2,6
كولومبيا
690
12,7
السلفادور
143
2,6
إندونيسيا
400
7,3
كوستاريكا
138
2,5
المكسيك
249
4,5
إكوادور
136
2,5
إثيوبيا
198
3,4
هندوراس
124
2,2
أوغندة
180
3,3
الفلبين
120
2,2
الهند
170
3,1
بيرو
87
1,9
جواتيمالا
168
3,0
مجموع الإنتاج العالمي 5437 مليون طن 1994
تجارة البن الدولية
البن محصول تصديري بالدرجة الأولى؛ ذلك أن نحو 70٪ من الإنتاج العالمي يأخذ طريقه إلى التصدير الذي تتصدره البرازيل - بطبيعة الحال - بنحو 23٪ من كمية الصادرات، تليها كولمبيا وإندونيسيا والمكسيك، ثم مجموعة المنتجين من الدول الأفريقية.
وتتجه معظم الصادرات إلى أسواق رئيسية أهمها الولايات المتحدة التي تستحوذ على ربع تجارة الواردات العالمية من البن لشيوع شرب القهوة لدى سكان أمريكا، تليها بلاد أوروبا الغربية وعلى رأسها ألمانيا «14٪ من تجارة الواردات» ثم فرنسا واليابان. (3) الخامات الزراعية
تشمل الخامات الزراعية عددا كبيرا من المنتجات الأولية الزراعية والحيوانية والنباتية، التي تعالج صناعيا قبل تقديمها كسلعة تجارية. ومن بين أهم الخامات الزراعية والحيوانية الخيوط والألياف، والزيوت النباتية، والتبغ والمطاط والجلود والصوف والأخشاب.
وتدخل هذه الخامات التجارة الدولية بدرجة أكبر من السلع الزراعية الأخرى؛ باستثناء الأشربة. وذلك مرتبط بدون شك بنمط إنتاجها الأولي وتوزيع مناطق تصنيعها جغرافيا، ثم اتساع سوق استهلاكها عالميا.
فغالبية هذه الخامات يتركز إنتاجها في المناطق المدارية، أو النطاق المعتدل الجنوبي في أمريكا الجنوبية وأستراليا. وتتركز مناطق تصنيعها في النطاق المعتدل الشمالي، خاصة في مناطق الصناعة الأوروبية والأمريكية والروسية واليابانية، ثم تعود إلى الانتقال إلى أسواق تغطي معظم العالم.
وتشتمل نباتات الخيوط والألياف على مجموعة كبيرة من النباتات هي بترتيب أهميتها: القطن والكتان والجوت والقنب، وذلك بالإضافة إلى الألياف الصناعية المختلفة مثل: النايلون المشتق من الفحم، والترليين المشتق من البترول، والخيوط الزجاجية أو الإسبستوس اللذين يشتقان من المعادن.
فوق هذا هناك خيوط الصوف المشتقة من الحيوانات والحرير الطبيعي. (3-1) المطاط
3
يحصل على المطاط الطبيعي من شجرة تسمى
Heavea Brasiliensis ، وأصلها في غابات الأمازون؛ تستكمل الشجرة نموها في ست سنوات، ويبلغ قطرها ست بوصات وطولها 25 مترا، وتصبح جاهزة للعطاء وتعطي عصارة لمدة 25 سنة، العصارة بيضاء كالحليب، تفرز العصارة منها، وجزء منها يسمى بلاتا
Blata
يصنع منه العلكة، والجزء الآخر هو المطاط
Latex ، ويتركز تحت لحاء الشجر على ارتفاع مترين من الأرض.
ويجمع المطاط بشق قناة رفيعة في جذوع الشجرة تأخذ شكل حلزوني من اليسار إلى اليمين إلى أسفل، ولا تلف غير نصف الجزع وتخرج منها العصارة لتسيل في ممر رفيع إلى الإناء المعلق بالشجرة.
وفي حوالي 1880 نقلت أوائل بذور هذه الأشجار من البرازيل عن طريق لندن إلى الحدائق النباتية في سيلان وسنغافورة، وكان هذا هو بداية مزارع المطاط في جنوب شرق آسيا حيث وجدت شجرة الهيفيا تربة ممتازة وظروفا مناخية ملائمة، ودخل عليها تحسينات علمية بواسطة التربية والتهجين لكي تنتج أكبر كمية من المادة المطاطة.
خصائص المطاط الفريدة: المط، الارتداد، المرونة مع القوة، اللدانة مع المتانة، العزل الكهربائي، عزل الماء والرطوبة، كتم الصوت، امتصاص الصدمات ... إلخ.
الظروف الطبيعية:
البيئة الاستوائية ما بين 10-15° شمال وجنوب خط الاستواء على الأكثر، الحرارة العالية، أمطار لا تقل عن 250سم في السنة.
وينتج المطاط على ثلاثة أنماط: (1)
استخراج المادة المطاطة من الشجر في غاباته الطبيعية الاستوائية. (2)
زراعة الأشجار بواسطة الأهالي في ملكيات صغيرة. (3)
المزارع العملية الواسعة.
ولقد لعب النمط الأول دورا رئيسيا في إنتاج المطاط في أواخر القرن 19، وعادت أهميته في خلال أزمة الحرب العالمية الثانية لبعض الوقت حينما استولت اليابان على مراكز الإنتاج الضخمة في جنوب شرق آسيا، وقطعت بذلك تموين العالم الغربي كله.
ولكن جمع المطاط من الأشجار التي تنمو تلقائيا في الغابات أصبح نمطا غير اقتصادي، كما أن نوع المطاط على العموم رديء لعدم اختيار أنواع الشجر.
أما إنتاج الأهالي من ملكياتهم الصغيرة؛ فلا يتم كما لو كان جمع المطاط حرفتهم الأساسية، بل إنهم يقومون أولا بزراعة متطلبات استهلاكهم الغذائية، ثم يجمعون المطاط كحرفة ثانوية تعطيهم النقد اللازم، ولهذا فإن مثل هذا النمط يوجد في مناطق الأرز في الملايو وإندونيسيا كمحصول نقدي.
ويقوم السكان في مثل هذه الحالة بزراعة أشجار المطاط على منحدرات التلال التي لا تستغل أو يصعب استغلالها في زراعة الأرز، ويقوم المنتجون بتحويل المادة المطاطية إلى ألواح من المطاط في مزارعهم الخاصة دون الحاجة إلى الكثير من الخبرة الفنية والمعدات؛ وبالتالي يحصلون على سلعة لها سوق رائجة.
وأخيرا، فإن المزارع العلمية الواسعة تتطلب خبرة ورأس مال، ولهذا فإن معظم هذه المزارع الواسعة ملك للأوروبيين أو احتكارات للصينيين في الملايو.
ويختلف العمل هنا عن النمط الثاني؛ فهناك نجد عمال أجور لا يمارسون حرفا أخرى، وليست لهم ملكيات خاصة، وفي هذه المزارع تجمع المادة المطاطة من الأشجار صباح كل يوم، وتعالج على الفور وتحول إلى ألواح المطاط.
4
ومطاط هذه المزارع من نوع ممتاز حيث إن الأشجار منتقاة؛ ولكن اعتماد هذه المزارع على السوق بأسعاره المتذبذبة يؤدي إلى ذبذبة كبيرة في الأسعار والأجور.
ويختلف إنتاج المطاط عن إنتاج المحاصيل الشجرية الأخرى في ناحية واحدة هامة؛ هذه هي أنه في الإمكان تنظيم كمية الإنتاج بواسطة زيادة أو نقص القطوع، التي تحدث في جذع الشجرة، وتنساب منها المادة المطاطة.
ولكن هذا التنظيم له حد أعلى هو عدد الأشجار المنتجة؛ فإذا كانت الرغبة متجهة إلى زيادة كبيرة؛ فإن ذلك لا بد وأن ينتظر عدة سنوات حتى تنمو الأشجار المزروعة حديثا، وإذا كان الإنتاج أكبر من احتياج السوق؛ فإن الحل الوحيد هو تعاون المنتجين في تحديد وضبط الإنتاج.
جدول 8-10: إنتاج المطاط الطبيعي.
الدولة
الإنتاج بألف طن 1982
الإنتاج بألف طن 1994
تايلاند
540
1660
إندونيسيا
990
1258
ماليزيا
1550
1074
الهند
770
485
الصين
135
340
الفلبين
70
178
نيجيريا
45
105
سريلانكا
135
102
العالم
3903
5589
ويوضح الجدول
8-10
الحقائق الآتية: (1)
احتكار مطلق لجنوب وشرق آسيا في إنتاج المطاط؛ فالدول السبعة الآسيوية تنتج 5,097 مليون طن؛ أي 91,2٪ من الإنتاج العالمي. (2)
تغير ترتيب الأولوية؛ فقد سبقت تايلاند وإندونيسيا الإنتاج الماليزي الذي هبط إلى المرتبة الثالثة.
5 (3)
بوجه عام انخفض إنتاج دول جنوب آسيا: الهند إلى 63٪ من إنتاجها عام 1982، وماليزيا إلى70٪، وسريلانكا إلى 75٪. (4)
وفي مقابل ذلك ارتفع إنتاج شرق آسيا: الفلبين إلى 254٪ من إنتاجها عام 1982، والصين إلى 250٪، وقفزت تايلاند إلى 307٪ من إنتاجها السابق.
وانخفاض وارتفاع الإنتاج من المطاط الطبيعي محكوم بعاملين؛ أولهما: لا بد من مضي ست سنوات على الأقل كي تعطي الأشجار المستزرعة عصارتها.
والثاني: أنه يمكن التحكم في زيادة الإنتاج بالإكثار من القطوع التي تشق، فتسيل عصارة أكبر دون ضرر كبير لمدة عمر الإنتاج للشجرة، وهو في المتوسط 25 سنة.
ولكن هناك عنصرا آخر يتحكم في الإنتاج هو سعر السوق العالمي، وخاصة في مواجهة المنافسة الحادة للمطاط الصناعي؛ فالعلاقة بين النوعين عكسية، ففي سنة 1935 كان المطاط الطبيعي يكون 99٪ من المطاط العالمي، ثم أخذ في الهبوط إلى 56٪ عام 1955، وإلى 33٪ عام 1975 وإلى 31٪ عام 1982، ثم ارتفع قليلا عام 1994 إلى 35٪. هذه الأرقام تعكس قوة منافسة البديل الصناعي الذي يتم صنعه كأحد المنتجات الفرعية من البترول.
فلما ارتفع سعر البترول خلال السبعينيات ارتفع بالتالي سعر المطاط الصناعي مما أعطى المطاط الطبيعي فرصة للمنافسة، ولكن انخفاض سعر البترول في الثمانينيات أدى إلى انخفاض ملحوظ في سعر المطاط الطبيعي بعد أن هبط سعر البديل الصناعي، ولكن الحاجة ماسة للمطاط الطبيعي في بعض الصناعات وأهمها صناعة السيارات التي انتشرت في بلاد كثيرة في العالم؛ فالإطارات المصنوعة من المطاط الطبيعي لها مواصفات تتفوق فيها على المطاط الصناعي، وهناك سلع أخرى مثل القفازات الطبية وغيرها تحتاج للمطاط الطبيعي، وكلها أشياء أدت مؤخرا إلى رفع سعر المطاط الطبيعي بمقدار الثلث، وبذلك تخلص من مأزق السعر المنخفض، وتلاه ازدياد الإنتاج العالمي على نحو ما توضحه الأرقام السابقة «143٪ عام 1994 على إنتاج 1982».
ويتركز إنتاج المطاط الصناعي في الدول الموجودة في العروض المعتدلة والباردة وكمنولث روسيا وأوروبا واليابان والولايات المتحدة، كما أن عددا آخر من الدول تقيم مصانع لهذا الإنتاج مثل: الهند، وإسبانيا. وأكبر مراكز إنتاج المطاط الصناعي توجد في روسيا وأرمينيا، والولايات المتحدة في تكساس وكاليفورنيا.
وتستوعب الولايات المتحدة كميات كبيرة من المطاط الصناعي والطبيعي معا، بينما لا يزال اعتماد أوروبا الغربية أكبر على المطاط الطبيعي، في الوقت الذي تعتمد فيه دول الكمنولث «السوفييتية سابقا» بشدة على المطاط الصناعي إلى جانب استيراد كميات كبيرة من المطاط الطبيعي .
التجارة الدولية للمطاط الطبيعي
نحو 90٪ من الإنتاج يدخل التجارة الدولية، وبطبيعة الحال فإن أهم الدول المصدرة هي تايلاند وإندونيسيا وماليزيا. ويتجه المطاط إلى الأسواق الرئيسية في بلاد الشمال؛ فتتصدرها: الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا، وكذلك الصين.
شكل 8-7 (3-2) القطن
القطن: هو أحد الخامات الزراعية التي تنتج من أجل الحصول على تيلة للنسيج؛ ولذلك كثيرا ما تسمى بنبات الألياف أو الخيوط؛ ومنها: الكتان والقطن والجوت والقنب والسيسال، كما يمكن أن يضاف إليها إنتاج آخر غير نباتي ولكنه خيطي مثل: الصوف بأنواعه، والحرير الطبيعي، وأنواع الخيوط الصناعية الحديثة (النايلون ومشتقاته).
ومن ناحية كمية الإنتاج، وقيمته: نجد أن القطن يترأس قائمة نباتات الألياف جميعا، كما أن استخدامه أوسع من استخدام غيره من نبات الألياف؛ ولهذا سوف نركز فقط على دراسة القطن.
والقطن في أصله آسيوي هندي، وانتقل منها إلى مناطق أخرى من العالم المداري وحافة العالم المداري بالتدريج، مع ازدياد الحاجة إليه بعد الثورة الصناعية في أوروبا واختراع آلية الحلج لفصل البذرة عن الألياف في أواخر القرن الثامن عشر.
وعلى الرغم من أن نشأة القطن قامت في الأقاليم المدارية فإنه من الصعب أن نطلق عليه الآن محصول مداري، وذلك بفضل زراعته في أقاليم الانتقال المدارية كما هو الحال في آسيا والولايات المتحدة، والأقاليم الجافة كما هو الحال في مصر.
والنبات يحتاج إلى درجة مرتفعة من الحرارة خلال فترة النمو «حوالي 200 يوم»، ولا ينمو القطن إلا في المناطق التي لا تتعرض للصقيع، وقد استطاع الجهد العلمي السوفييتي أن يصطفي أنواعا من القطن تحتاج إلى 140-150 يوما للنمو؛ فاختصر بذلك شهرين، وقد ساعد هذا على دفع الحد الشمالي لزراعة القطن إلى درجة عرض 42 شمالا في أوزبكستان في حين أن الحد الشمالي هو درجة العرض 37 في الولايات المتحدة.
واحتياج النبات من المياه متوسط القدر، ولكنه في المناطق الحارة يحتاج بلا شك إلى مياه أكثر من المناطق المعتدلة الحرارة.
والحد الأدنى للمطر المطلوب هو في حدود 60سم أو ما يقابل ذلك من ماء الري، ومن أهم شروط النمو فصل جاف مشمس في آخر فترة النمو. ومن حيث التربة يحتاج إلى أرض سهلية طينية جيدة الصرف؛ ولذلك ينتج غالبا في السهول الكبيرة، كالهندوستان والسهل الأمريكي الأوسط وفي دالات الأنهار الرئيسية كالنيل وأنهار الصين.
شكل 8-8
والقطن في إنتاجه يحتاج مجهودا بشريا كبيرا؛ ولذا توجب إنتاجه حيث تتوفر الأيدي العاملة، وقد أمكن التغلب على ذلك في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سابقا باستخدام الحصادات الآلية بعد ارتفاع أجور العمال وقلتهم.
ولكن استخدام الآلة لا يستطيع أن يحل محل الأيدي العاملة في عدة عمليات هامة منها: قطع الأعشاب الضارة، وتنقية القطن من الدودة، وقطف الأوراق المصابة.
وإلى جانب الجهد البشري كعامل أساسي في إنتاج القطن؛ فإن هذا الإنتاج يتأثر دون شك تأثرا كبيرا بالسوق، ولقد حدث توسع كبير في أقاليم القطن الإنتاجية بعد الثورة الصناعية، وقامت مشروعات هندسية على الأنهار من أجل زيادة رقعة المساحة المزروعة قطنا في الأقاليم الجافة؛ وبذلت جهود أخرى لمكافحة الأمراض واستنباط أنواع أكثر غلة وأكثر مقاومة للأمراض وأحسن نوعا ... إلخ.
ومن جراء ذلك كان القطن ثروة اقتصادية هائلة في الولايات الجنوبية للولايات المتحدة، وفي دول الإمبراطورية البريطانية كالهند ومصر والمستعمرات الإنجليزية في السودان وأوغندا ونيجيريا.
ولا شك في أن السوق الأوروبية الغربية لم تعد بإمكانها استيعاب إنتاج هذه المناطق، وكانت أول منطقة إنتاج تتأثر هي: منطقة الإنتاج في الولايات المتحدة، ويلاحظ أنه كلما استقلت دولة من دول المستعمرات الأوروبية شجع الاستعمار إنتاج القطن في مناطق أخرى من مستعمراته، وآخر مناطق الإنتاج الحديث هي دول شرق أفريقيا وغربها.
وأخيرا، فإن سوق القطن الدولية ككل قد تأثرت بلا شك بالمنسوجات الصناعية التي تنتج بكميات متزايدة في العالم الأوروبي الأمريكي، واليابان، وهونج كونج.
وإلى جانب ذلك؛ فإن غالبية الدول المنتجة للقطن قد أنشأت صناعات غزل ونسيج القطن فيها مما جعل الكمية المتبادلة تجاريا من القطن الخام أو الغزل أقل في هذه الآونة بالقياس إلى أوائل هذا القرن مثال ذلك مصر والهند.
وللقطن أنواع عديدة وتقاس الجودة بطول التيلة. ويعد القطن طويل التيلة إذا كان أطول من بوصة وربع، أما المتوسط فبين سبعة أثمان البوصة وبوصة وربع، والقصير أقصر من بوصة.
وإنتاج مصر هو من طويل التيلة والمتوسط. وكذلك بعض مناطق الإنتاج في الولايات المتحدة، بينما معظم إنتاج الهند من المتوسط والقصير، وفي بعض مناطق أفريقيا «خاصة في السودان» قطن متوسط وطويل التيلة.
وتؤدي فروق النوع إلى فروق كبيرة في السعر؛ مما يجعل طويل التيلة يستخدم في النسيج ذي الاستخدامات الخاصة غالية الثمن.
وإلى جانب اختلاف الدول في نوع القطن المنتج؛ فإن الدول تختلف أيضا في كمية الإنتاج التي ترجع إلى المساحة المزروعة من ناحية وإلى إنتاجية الحقل من ناحية أخرى.
جدول 8-11: تطور إنتاج غزل القطن.
الدولة
1994
1982
94 إلى 82٪
الصين
4355
3300
132٪
الولايات المتحدة
3984
2617
152٪
الهند
2264
1310
173٪
باكستان
1584
791
200٪
أوزبكستان
1306
الاتحاد السوفييتي سابقا 2894
تركمانيا
403
تركيا
590
455
130٪
البرازيل
501
640
78٪
أستراليا
331
116
285٪
اليونان
330
115
287٪
مصر
314
452
70٪
العالم
18618
14700
126٪
ويوضح الجدول (
8-11 ) أن أكبر إنتاج في الصين أو الولايات المتحدة لا يعني بالضرورة أن أكبر مساحة قطن تزرع في الدولة. وذلك راجع إلى زيادة إنتاجية الحقل في الولايات المتحدة؛ بينما تزرع الهند أكبر مساحة، وتأتي في المرتبة الثالثة من حيث كمية الإنتاج نتيجة هبوط الإنتاجية.
وفي الاتحاد السوفييتي زاد الإنتاج في الثمانينيات نتيجة لازدياد إنتاجية الهكتار كثيرا، ولكن الأحوال السياسية المضطربة قد أدت إلى ظهور جمهوريات الكمنولث الجديد منفصلة في جداول الإنتاج العالمية، ومن ثم لم يعد يحتل مرتبة الصدارة عالية.
شكل 8-9: نطاق القطن في الولايات المتحدة: (1) مناطق القطن الرئيسية. (2) خط المطر المتساوي 250ملم في الخريف، المناطق التي تقع إلى الجنوب منه رطبة أكثر من احتياجات القطن. (3) خط 200 يوم خال من الصقيع، المناطق التي تقع إلى الشمال منه لا تصلح لنمو القطن لانخفاض درجة الحرارة عن احتياجات القطن. (4) خط المطر السنوي 500ملم، المناطق غرب هذا الخط جافة لا تصلح لنمو القطن. مناطق الإنتاج الرئيسية هي: (1) سهول الأطلنطي الساحلية. (2) هضبة البيدمونت العريضة بين السهول وجبال الأبلاش. (3) وادي التنسي الأوسط. (4) سهل المسيسبي الفيضي. (5) براري شمال تكساس. (6) سهول تكساس العليا. (7) سهول تكساس الساحلية.
التجارة الدولية للقطن
برغم وجود بدائل للقطن نباتية وصناعية؛ فإن القطن ما زال مطلوبا في السوق الدولية لصفاته المميزة. وقد أدت نشأة صناعات الغزل والنسيج في الدول النامية المنتجة للقطن إلى نقص في متطلبات السوق من القطن؛ مما أدى إلى رفع سعره عام 1994 بمقدار 25٪ من سعره 1992، وذلك لشدة الطلب عليه.
لكن ارتفاع السعر قد جعل بعض البلاد الأوروبية تحجم عن زيادة وارداتها من الأقطان، واتجهت إلى البدائل الصناعية في استهلاكها المحلي، وهذا قد يترتب عليه زيادة المخزون من القطن، ويؤدي بالضرورة إلى تناقص السعر، خاصة وأن الإنتاج العالمي من الغزل في نمو مستمر.
وأهم الدول المصدرة عام 1994 كانت الولايات المتحدة والصين وباكستان والهند، بينما لم تكن الصين من بين المصدرين عام 1982، وكانت الهند في المرتبة السابعة بعد مصر 1982، ثم ارتفعت إلى المرتبة الثالثة بعد ارتفاع إنتاجها بنسبة 173٪ بينما تراجع الإنتاج المصري نتيجة كساد السوق وازدياد الطلب على المنسوجات في السوق المصري.
أما أهم الدول المستوردة فهي: اليابان، وكوريا، وهونج كونج، ودول غرب أوروبا. واليابان؛ لا تنتج أقطانا ومع ذلك فإن صناعة النسيج متقدمة فيها، وتعتمد كلية على الاستيراد، ولهذا تتصدر قائمة المستوردين وتختص بحوالي 20٪ من قيمة تجارة الواردات من القطن العالمي.
أما استيراد كتلة الدول الأوروبية للقطن؛ فأمر تقليدي لا يحتاج إلى شرح، ولكن الملاحظ ظهور بعض دول أوروبا الشرقية نتيجة تنمية صناعاتها من النسيج.
وأخيرا، فإن هونج كونج كمدينة لا تبرر هذه الكمية الكبيرة من الواردات، ولكنها - كمصنع يورد المنسوجات إلى منطقة واسعة في جنوب شرق آسيا وأوروبا - تستطيع فعلا استيعاب وارداتها من الأقطان.
ومما يدل على ذلك أن هذه الواردات في زيادة مستمرة برغم نظام الحصص الذي فرضته السوق الأوروبية على واردات المنسوجات من هونج كونج. ولا نعرف مصير هذه الصناعة وغيرها من الصناعات بعد أن تصبح هونج كونج جزءا من الصين في يوليو 1997.
ورغم تزايد إنتاج القطن عالميا وتزايد حاجة الناس إلى المنسوجات نتيجة زيادة السكان؛ فإن القطن يلقى بعض المنافسة من الحرير الصناعي ومن الأقمشة المصنعة، وربما تتزايد هذه المنافسة، ولكن احتياج السكان في العالم إلى المنسوجات من كافة الأنواع قد يساعد على استهلاك الأقطان والمصنعات معا. (4) الزيوت النباتية
أصبح للزيوت النباتية أهمية متزايدة في التجارة العالمية لزيادة استخدامها في قطاع الغذاء والصناعة؛ ولقد قدر أن استهلاك الزيوت النباتية في العالم قد تضاعف أربع مرات خلال القرن 1850-1950.
6
ومن بين أسباب الزيادة الضخمة عدد من العوامل من أهمها ما يلي: (1)
قلة المنتج من الدهون الحيوانية وعجزها عن متابعة الاحتياج العالمي المتزايد للدهون. (2)
زيادة الأغراض التي تدخل الزيوت النباتية في استخداماتها «غذاء، طلاء، بلاستيك ... إلخ». (3)
التقدم التكنولوجي في وسائل استخراج الزيوت من كثير من الحاصلات النباتية. (4)
دخول السمن الصناعي «المارجرين » كمنافس وبديل للسمن الحيواني. (5)
دخول الزيوت النباتية بقوة في صناعة الصابون.
وعلى هذا النحو فإن تفاعل هذه العوامل قد أدى إلى زيادة الطلب على الزيوت النباتية، ومن ثم التوسع في إنتاجها.
وأهم أنواع النباتات التي تستخلص منها الزيوت للأغراض الغذائية والصناعية هي الفول السوداني، ونخيل الزيت، والزيتون، وفول الصويا، وبذر الكتان، وبذر القطن، والذرة، وعباد الشمس، والسمسم.
وربما كان الزيتون هو أول محصول نباتي تستخرج منه الزيوت في حضارات الشرق الأوسط والبحر المتوسط القديمة، ولعل واحدا من أهم الأسباب التي دفعت السكان إلى ذلك هو النقص الواضح في الثروة الحيوانية في إقليم البحر المتوسط؛ لقلة المراعي، وتحدد مساحات السكن البشري بالأودية الخصيبة الضيقة وسط سلاسل الجبال الكثيرة في حوض البحر المتوسط.
ويضاف إلى ذلك أن شجرة الزيتون - إذا صادفت الظروف الطبيعية الملائمة - تستطيع أن تثمر بضع عشرات من السنين، وقد تعمر قرنا من الزمان؛ فهي إذن مصدر ممتاز للغذاء والزيوت مع قليل من الرعاية لمدة جيلين أو أكثر، ومن ثم كان نطاقا البحر المتوسط والزيتون عبارة عن نطاق جغرافي واحد ومحدد منذ العصور التاريخية. وما زالت منطقة البحر المتوسط المنتج الأول للزيتون. ويتركز الإنتاج الحالي في إسبانيا وإيطاليا واليونان والبرتغال في القسم الأوروبي من إقليم البحر المتوسط، وفي تركيا وسوريا «ولبنان وفلسطين إلى حد ما نتيجة منافسة الموالح» في الجانب الآسيوي، وفي دول المغرب الثلاث ، وخاصة تونس، في الجانب الإفريقي من ذلك الإقليم. ويبلغ إنتاج الزيتون في حوض البحر المتوسط نحو 90-95٪ من مجموع الإنتاج العالمي لهذا المحصول.
ويدخل زيت الزيتون في الاستهلاك الغذائي بنسبة كبيرة، يليه إنتاج الصابون، وأكبر الدول المصدرة هي اليونان وإسبانيا وإيطاليا وتونس، بينما أكبر المستوردين هم إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة.
ونخيل الزيت عبارة عن شجرة مدارية موطنها الأصلي غرب أفريقيا، وهو يشابه الزيتون في أنه كان يستهلك منذ القدم في الحصول على زيت الطعام عوضا عن الفقر الشديد الذي تعانيه المناطق المدارية في مواردها الحيوانية (ربما لأن إيكولوجية الغابة المدارية والاستوائية وذبابة تسي تسي لا تسمح بوجود حيوان التربية). وقد كان سكان غرب أفريقيا يحصلون على الزيت من الثمار أيضا، لكن التقدم التكنولوجي قد مكن من الحصول على كمية كبيرة من الزيت من نواة الثمار.
وإلى جانب النمو الطبيعي لنخيل الزيت؛ فإن الدول الاستعمارية في غرب أفريقيا ووسطها قد شجعت على إنشاء مزارع علمية للنخيل، وبذلك؛ فإن غرب ووسط القارة كان يحتكر الجزء الأكبر من إنتاج زيت النخيل في العالم «60-65٪ من الإنتاج العالمي».
وقد نقل الاستعمار الإنجليزي والهولندي زيت النخيل إلى جنوب شرق آسيا، وبذلك أصبحت ماليزيا وإندونيسيا وتايلاند منطقة الاحتكار العالمي «حوالي 80٪ زيت». ويستخدم زيت النواة كعنصر هام في صناعة السمن النباتي، بينما يستخدم زيت الثمر في صناعة الصابون والشمع. وأكبر المصدرين ماليزيا وإندونيسيا وأكبر المستوردين هم الولايات المتحدة ودول السوق الأوروبية. أما الزيت الذي يحصل عليه من ثمار شجر جوز الهند، والمسمى كوبرا
Copra «الثمر المجفف بعد فصل النواة والقشرة»، فهو يكون المصدر الشجري الثالث من مصادر الزيوت النباتية.
وتنمو شجرة جوز الهند في المناطق الرملية الساحلية من النطاق المداري، وخاصة حول سواحل المحيط الهندي والباسيفيكي في جنوب وجنوب شرق آسيا. ولزيت الكوبرا قيمة عالية إذ إنه يدخل في صناعة الأنواع الممتازة من السمن النباتي والصابون.
وأهم المنتجين ونسبة إنتاجهم من المجموع العالمي كما يلي: الفلبين 38٪، وإندونيسيا 26٪، سريلانكا 3,7٪، الهند 10٪، فيتنام 5٪. وتنتج المكسيك حوالي 3,7٪، وتكون بذلك الدولة الوحيدة ذات الإنتاج الكبير خارج جنوب شرق آسيا.
وبعبارة أخرى: فإن جنوب شرق آسيا يحتكر 85٪ من الإنتاج العالمي.
شكل 8-10: الزيوت النباتية. (أ) إنتاج بعض الزيوت النباتية 1994
زيت الزيتون:
الإنتاج العالمي 1,773 مليون طن.
إسبانيا 620 ألف ط، إيطاليا 430 ألف ط، اليونان 300 ألف ط، سوريا 86 ألف ط، تونس 120 ألف ط، تركيا 75 ألف ط، المغرب 38 ألف ط، الجزائر 25 ألف ط، البرتغال 20 ألف ط.
زيت نخيل الزيت:
الإنتاج العالمي 14354 مليون طن.
ماليزيا 7 ملايين طن، إندونيسيا 3,890م.ط، نيجيريا 950 ألف ط، كولمبيا 329 ألف ط، تايلاند 320 ألف ط، بابوا 225 ألف ط، زائير 180 ألف ط، الكمرون 108 آلاف ط، البرازيل 68 ألف ط. (ب) إنتاج نباتات الزيوت
الزيتون:
الإنتاج العالمي 11,452 مليون طن.
إيطاليا 3,125 مليون طن، إسبانيا 2,886 مليون طن، اليونان 1,612م.ط، تونس مليون طن، تركيا 750 ألف ط، المغرب 560 ألف ط، سوريا 400 ألف ط، البرتغال 146 ألف ط، الجزائر 130 ألف طن.
نواة نخيل الزيت:
الإنتاج العالمي 4,300 مليون طن.
ماليزيا 2,140 مليون طن، إندونيسيا 830 ألف ط، نيجيريا 380 ألف ط، البرازيل 240 ألف ط، زائير 72 ألف ط، كولمبيا 60 ألف ط، تايلاند 62 ألف ط، الكمرون 42 ألف ط، بابوا 16 ألف ط.
الكوبرا:
الإنتاج العالمي 4,580 مليون طن.
الفلبين 1,740 مليون ط، إندونيسيا 1,2م.ط، الهند 460 ألف ط، فيتنام 230 ألف ط، المكسيك 170 ألف ط، سريلانكا 170 ألف ط، بابوا 118 ألف ط.
فول الصويا:
الإنتاج 128,3 مليون طن.
الولايات المتحدة 63,3م.طن، البرازيل 24,8م.ط، الصين، 13,8م.ط، الأرجنتين 11,9م.ط، الهند 3,2م.ط، كندا 2,2م.ط، إندونيسيا 1,7م.ط، باراجواي 1,6م.ط، إيطاليا 0,7م.ط.
بذرة عباد الشمس:
الإنتاج العالمي 22,9 مليون طن.
الأرجنتين 3,8م.ط، روسيا 2,9م.ط، فرنسا 2,3م.ط، الولايات المتحدة 1,8م.ط، أوكرانيا 1,8م.ط، الصين 1,2م.ط، إسبانيا 1,0م.ط، رومانيا 0,92م.ط، تركيا 0,9م.ط، المجر0,8م.ط.
فول السوداني:
الإنتاج العالمي 25,3 مليون طن.
الهند 8,2م.ط، الصين 7,3م.ط، الولايات المتحدة 1,8م.ط، نيجيريا 1,2م.ط، إندونيسيا 1,1م.ط، السنغال 0,6م.ط، زائير 0,55م.ط، ميانمار 0,43م.ط، السودان 0,42م.ط.
ومن بين النباتات الكثيرة الأخرى التي تستخرج منها الزيوت «الفول السوداني» الذي ينتج بكثرة في الأقليم المداري «خاصة غرب أفريقيا والهند وإندونيسيا»، إلى جانب إنتاجه في سهول الصين الشمالية وولاية جورجيا في الولايات المتحدة. والدول الرئيسية المنتجة هي الهند 32,4٪، الصين 28,8٪، الولايات المتحدة 7,1٪، نيجيريا 4,7٪، إندونيسيا 4,3٪، ويستخدم زيت الفول السوداني بكثرة في صناعة الصابون والبلاستيك، فضلا عن استخدامه الغذائي كثمر وزيت.
أما «فول الصويا» فهو أصلا نبات من الشرق الأقصى ينمو في النطاق المعتدل الدافئ، وأكثر مناطق إنتاجه هي الصين الوسطى والشمالية، واليابان، وكوريا.
وقد انتقلت زراعته إلى إندونيسيا حيث يتركز في المناطق العالية من جاوة، وإلى الولايات المتحدة حيث ينتشر الإنتاج في معظم حوض المسيسبي. وقد تخطى الإنتاج الأمريكي «الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين وباراجواي وكندا» الإنتاج الآسيوي التقليدي وأصبح احتكارا أمريكيا «81٪ من الإنتاج العالمي».
ويستخدم زيت الصويا في الطعام، لكن أكبر مستهلك له هو صناعات الطلاء والورنيش وحبر الطباعة. وأكبر المصدرين هم: الولايات المتحدة، والبرازيل، والأرجنتين. وأكبر المستوردين هم: اليابان، وألمانيا، وهولندا.
وهناك نباتات أخرى تزرع أساسا لاستخراج الزيوت، لكنها زيوت تستخدم في قطاعات معينة من الاستهلاك مثل زيت الخروع الذي يستغل في إعداد العقاقير وبعض مواد صباغة النسيج بجانب استخدامات أخرى في البلاستيك، وأكبر منتج له البرازيل 35٪، والهند 20٪، وبعض الدول المدارية والاستوائية في آسيا وأفريقيا، باعتباره محصولا مداريا. وهناك أيضا زيت السمسم الذي يكاد أن ينحصر استخدامه في الزيوت الغذائية مثل الزيتون.
و«السمسم» محصول مداري، أكبر منتجيه الهند والصين «لكل نحو ربع الإنتاج العالمي»، والسودان «نحو 10٪»، والمكسيك «نحو 8٪».
أما «زيت التنج»
Tung
فهو أصلا نبات صيني، ونقل فيما بعد إلى الأرجنتين والولايات المتحدة. واستخدامه يكاد أن يقتصر على خصائصه المتمثلة في سرعة الجفاف؛ ومن ثم يستخدم كمادة أساسية في تجفيف بعض المصنوعات. وتنتج الصين 65٪ ثم الأرجنتين والولايات المتحدة نحو 15٪ لكل منهما.
وقد دخل زيت «عباد الشمس» «أو دوار الشمس» في سوق الاستهلاك الغذائي وصناعة الصابون بكثرة في المناطق المعتدلة المحرومة من مجموعة نباتات الزيوت المدارية.
ويتركز ثلث الإنتاج في الاتحاد السوفييتي السابق «من البحر الأسود إلى سيبيريا الوسطى»، كما يكثر في دول أوروبا الشرقية «رومانيا 7٪، بلغاريا 5٪». وفي نصف العالم الجنوبي يتركز أكبر إنتاج لهذا الزيت في الأرجنتين 10٪ وجنوب أفريقيا 2٪. ونظرا لخصائص عباد الشمس الذي ينمو في ظروف متفاوتة؛ فإنه يعد أحد المحاصيل التجارية ذات العائد التي تفيد في التنمية الاقتصادية لمناطق كثيرة داخل النطاق الجاف الهامشي «إذ إن الحد لاحتياج النبات من الأمطار هو 500ملم سنويا مع موسم جفاف.»
وأخيرا، فإن الزيت يستخرج من بعض نباتات الألياف كمنتج إضافي، وخاصة من «بذرة الكتان وبذرة القطن»، وتترأس الولايات المتحدة والأرجنتين والهند الدول المنتجة لزيت بذرة الكتان الذي يستخدم أساسا في صناعة الطلاء والورنيش؛ نظرا لخصائصه التي تميزه بسرعة الجفاف.
أما زيت بذرة القطن (التي كانت لا تستغل بعد حلج القطن في الماضي)، فقد أصبح لها دور واضح في إنتاج الزيوت النباتية، وخاصة صناعة السمن النباتي وزيت الطعام بجانب صناعة الصابون ومواد التشحيم.
وتنتج كثير من دول القطن زيت البذرة، أو تصدره خاما للدول الصناعية، بينما تستغل البقايا في عمل «كسب» الماشية، وهو نوع من العلف الحيواني.
هوامش
نامعلوم صفحہ