جون لوك: مقدمة قصيرة جدا
جون لوك: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
شكر وتقدير
أدين بالعرفان الشديد لمايكل إيرز لكرمه في إعارتي جزءا كبيرا من دراسته الأساسية حول فلسفة لوك أثناء كتابتي لمخطوطة الكتاب، وأدين له أيضا بما استمددته من متعة وحماس على مدار سنوات عديدة من معرفته البارزة بأعمال لوك وفهمه لها. كما أدين بالعرفان لمطابع جامعة أكسفورد، وهنري هاردي وكيث توماس وآلان ريان الذين أسدوا لي نصائح مفيدة في إعداد النص، وأشكر لهم سعة صدرهم معي على نحو فاق ما كنت أستحقه. وأدين بشدة إلى العديد من الأصدقاء الذين اطلعوا على مسودات لأجزاء من الكتاب أو كله في مراحل مختلفة ولأسباب مختلفة، وأخص بالشكر سينثيا فارار، ومايكل إيجناتيف، وتاكاشي كاتو، وجوناثان لير، وكوينتين سكينر؛ لتشجيعهم ومساعدتهم.
تمهيد الطبعة الجديدة
منذ صدور النسخة الأولى من هذا الكتاب ضمن سلسلة «أساتذة الماضي» الصادرة عن مطابع جامعة أكسفورد عام 1984، اضطررت إلى إعادة النظر في العديد من جوانب حياة لوك بتشجيع مجموعة من الأصدقاء والزملاء الباحثين الأسخياء؛ وهم: كوينتين سكينر، وجون كنيون، وجوديث شكلار، وإستفان هونت، وباسكوالي باسكوينو، وبرنار مانين، وأولي جريل، وأفيخاي مارجاليت، وإيان هاريس، وجون مارشال، وسوديبتا كافيراج، وسونيل خيلناني، وجاري ماكدويل، ومؤخرا إيان شابيرو. ونعمت أيضا بامتياز خاص بالعمل على طبعة «الأعمال المجمعة للوك»، الصادرة عن «مجلس كلارندون»، تحت إشراف المحررين الذائعي الصيت جون يولتان وساندي ستيوارت. ولقد ساهمت هذه الخبرات إلى حد كبير في تشكيل رؤيتي لأهمية العديد من جوانب الإنجاز لدى لوك، بيد أنها لم تغير قط نظرتي إلى لوك نفسه بينما كنت أكتب هذا الكتاب، كما لم تغير الآراء المتعلقة بمحتويات أعماله التي يتناولها الكتاب. وعلى مدار هذا الوقت ، تعلمت الكثير وعزب عن بالي الكثير، لكني ما زلت ألتزم بالصورة التي يحاول الكتاب أن ينقلها؛ وعليه، فقد اخترت ألا أغير في الأسلوب النثري المكتوب به الكتاب، حتى لو كنت سأصيغ بعض النقاط على نحو مختلف اليوم (كالحال عند استخدام لفظة «إنسان» للإشارة إلى البشر كافة).
إنه لمن دواعي سروري أن أنتهز فرصة صدور هذه النسخة في شكلها الجديد، لأشكر أولئك الذين دأبوا منذ عام 1983 على تحويل مجموعة من الأعمال المفتقرة إلى الخبرة والمختارة على نحو عشوائي إلى حد ما، إلى عمل فكري قيم وخالد، والعديد من المحررين البارزين والودودين في مطابع جامعة أكسفورد الذين اشتغلت معهم في مطبوعات لوك وموضوعاته، وعلى رأسهم أنجيلا بلاكبيرن، وبيتر مومتشيلوف، والآن إيما سيمونز. وأود أن أهدي هذه النسخة الجديدة إلى ذكرى بيتر لازليت، الذي حظيت به مشرفا فريدا على دراساتي خلال فترة ما بعد التخرج، والذي أفتقده بشدة، والذي بفرط حماسته وعمق بصيرته ومعين طاقته الذي لا ينضب، اجتهد كي يحافظ على ذكرى لوك حية، وكي يتيح للآخرين الحكم على أهدافه الحقيقية، وذلك على نحو فاق ما فعله آخرون غيره على مدار ما يزيد عن القرن.
تمهيد
وجه لوك حياته الفكرية بوجه عام للإجابة عن سؤالين مهمين: كيف يمكن للإنسان معرفة أي شيء؟ وما شكل الحياة التي ينبغي أن يسعى الإنسان إلى عيشها؟ استهل لوك حياته المهنية كمدرس في الجامعة وأنهاها كرجل محنك عركته الحياة. وخلال هذه الحياة، فكر - بل أمعن التفكير أيضا - في مجموعة هائلة من القضايا؛ بدءا من آفاق التجارة الخارجية الإنجليزية، والعواقب الاقتصادية المترتبة على حالة العملة الإنجليزية، ووصولا إلى سياسة الثورة في ثمانينيات القرن السابع عشر، وتفسير رسائل القديس بولس، وزراعة أشجار الفاكهة. ولأن اهتمامات لوك كانت واسعة النطاق للغاية، ولأنه باشرها بقدر كبير من الذكاء والحماس، فقد خلف وراءه مجموعة هائلة وبارزة من المؤلفات؛ وإنه لمن المستحيل أن يستطيع المرء في عمل مختصر أن يستوفي مجموعة أفكاره المتنوعة ويعطيها حق قدرها، فضلا عن تقييم أصالتها، وإماطة اللثام عن مساهمتها المعقدة في التاريخ الفكري للقرنين التاليين له؛ وعليه فلن أحاول الخوض في أي تفاصيل أثناء تقييم مساهمته في فروع الفكر الحديث المتنوعة: الاقتصاد، وعلم اللاهوت، والنظرية السياسية، وتفاسير الكتاب المقدس، وعلم الأخلاق، والأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، ونظرية المعرفة، والتربية، وما إلى ذلك. (وعلى وجه التحديد، لن أقدم شرحا ونقدا منهجيين لنظريته عن المعرفة التي صاغها باعتبارها لحظة كلاسيكية في تاريخ التجريبية البريطانية؛ فذلك من شأنه أن يشوه منهجه الخاص، كما أنه لن يساعد كثيرا - في رأيي - في إلقاء الضوء على الأسئلة محل الاهتمام الحالي.) وسوف أركز عوضا عن ذلك على شكل حياته الفكرية ككل، وسأحاول شرح تصوره للعلاقة بين السؤالين الكبيرين والصعبين اللذين تناولهما بهذا القدر من الشجاعة والإصرار على مدى سنوات عديدة.
خلال العقدين الأخيرين من حياة لوك - من عام 1683 وحتى مماته عام 1704 - كانت إجابة السؤال عن كيفية وصول الإنسان إلى المعرفة هي القضية التي كرس لها أقصى طاقاته الفكرية، وأثرت إجابته عن هذا السؤال في أوروبا - بالرغم من سوء فهمها - وطبعت في ذهنها على مدار أجيال. وثمة خلاف كبير بين الفلاسفة حاليا حول جدارة هذه الإجابة؛ فالبعض يرونها مجرد إجابة خاطئة عن سؤال مشروع ومهم، والبعض الآخر يعتبرون السؤال في حد ذاته مشوشا، ويرون أن طلب تفسير شامل لنطاق القدرات المعرفية للإنسان وحدودها هو أمر مناف للعقل ويستحيل إيفاؤه؛ ويظل البعض يرى منهج لوك صحيحا في جوهره، مهما كانت الأخطاء التي ربما وقع فيها في خضم استنباطه الإجابة. ومن الغرور أن نتظاهر هنا بحسم هذا الخلاف، لكن من الضروري أن نسعى إلى توضيح الأمور التي جعلت لوك نفسه متحمسا إلى هذه الدرجة لصياغة نظرية عن المعرفة.
انطلق تفكير لوك من سؤاله الثاني، الذي يدور حول شكل الحياة التي ينبغي على الإنسان أن يسعى إلى عيشها. وفي السنوات الأخيرة من حياته، كان واثقا أنه استوفى إلى حد كبير الإجابة على السؤال عن الكيفية التي يمكن للإنسان بها معرفة أي شيء؛ على الأقل بقدر ما يتفق من هذه الإجابة مع نطاق القدرات البشرية. لكن ثقته في قدرته على توضيح الكيفية التي ينبغي للإنسان محاولة العيش بها - على أساس القدرات البشرية وحدها - كانت أضعف كثيرا. كان لوك في البداية يتمنى لو أن تفسير قدرة الإنسان على المعرفة يوضح للإنسان «السبب» الذي لأجله ينبغي على الإنسان محاولة العيش على النحو الذي افترضه لوك. بيد أن نظرية المعرفة التي صاغها لم توضح شيئا من هذا القبيل؛ ونتيجة لذلك، فشلت نظريته عن العقل العملي (التي تدور حول الأمور التي يوجد لدى الإنسان سبب وجيه لفعلها) فشلا ذريعا من وجهة نظره. وعلى خلاف نظرية المعرفة التي صاغها، فإن نظريته عن العقل العملي لم تنجح على الأرجح في أن تقدم حتى جوهر الرأي الذي ربما نفهمه نحن أنفسنا. بل إن بعض الفلاسفة حاليا لا يعتبرون السؤال عن الكيفية التي ينبغي على الإنسان محاولة العيش وفقا لها، سؤالا فلسفيا من الأساس، كما أن عددا أكبر منهم لا يعتبر أن لوك قد عبر عن مكنون هذا السؤال بوضوح كاف. لهذه الأسباب أو لغيرها، ربما كان محكوما على مسعى لوك بالفشل في مهده، وإن ظل تنويريا ومثيرا للاهتمام إلى حد كبير. فليس السبيل الأفضل دائما إلى قياس عظمة المفكر هو موثوقية حلوله الفكرية ووضوحها؛ ففي بعض الأحيان يمكن أن تتجلى عظمته بنفس التأثير على الأقل في دوي فشله.
ما كان يأمل لوك أن يوضحه للإنسان هو أن الفهم العقلاني لمنزلة الإنسان في الطبيعة حتم عليه العيش كمسيحي، لكن ما وضحه بالفعل هو أن الفهم العقلاني لمنزلة الإنسان في الطبيعة لم - ولا - «يحتم» على الإنسان العيش وفق نمط بعينه. وأسوأ من ذلك أن العلاقة الوثيقة بين المفاهيم المتعلقة بكيفية العيش وبين تاريخ لغات وثقافات بعينها، تضع حياة البشر كافة تحت رحمة التاريخ. وحتى لو أن «إلها» قد صمم نظام الطبيعة ككل من أجل الإنسان ليحيا في ظله حياة طيبة، فما كان للإنسان أن يستمد مفاهيمه حول كيفية العيش من هذا النظام مباشرة من خلال إعمال عقله وحده، وإنما يتعين عليه أن يشكل قيمة لنفسه قدر المستطاع من آراء الآخرين المستحسنة أو المستهجنة إلى حد ما، ومن خلال قدراته الخاصة على التأمل.
نامعلوم صفحہ