منذ أخمدت الأيام أوجاع لورانس وتذكاراته أخذ ينشط وينمو ويزداد جمالا، ففي هذا المساء، نظرت إلى جبينه على ضياء الموقد فرأيته أبهى من الجمال نفسه، فاستفاق في مخيلتي طيف أختي، وخيل إلي أني أسمع صوتها صاعدا من فمه في تلك العذوبة وذلك النغم اللذين كانا موسيقى نفسي في ساعات حداثتي الأولى، فلم أتمكن من إمساك دموعي لدى هذه التذكارات، فاقترب لورانس وجلس على ركبتي صامتا، ناظرا إلي بدهشة وانذهال ثم سألني عن سبب بكائي وعما إذا كنت أفكر بأحد، فأجبته ساردا على مسامعه قصتي الأليمة فبكى لآلامي، قائلا: «إني أحبك كحبهم، ألست أخا لك، أشاطرك ما تتوجع له وأمزج دموعي بدموعك؟ ألم تكن أبا أشعر قربه بما كنت أشعر به قرب والدي؟» قال ذلك وألقى جبينه على حجر أملس فألقيت جبيني بالقرب منه ثم أخذنا نبكي صامتين!
عندما استفقت من أحلامي المرة ومسحت مدامعي بأطراف كمي، رأيت لورانس يستفيق أيضا ويمسح دموعه ثم يضيء كمرآة حية فيضطرب خيال وجهي على ذلك الشعاع الإنساني، وعندما فكرت أن لا ملجأ لهذا اليتيم إلا حناني وعطفي، وأن ذراعي وذراعه، وحياتي وحياته أصبحت ذراعا واحدة وحياة واحدة، نضبت مدامعي واستعاد قلبي ما فقده من الغبطة والسعادة!
عن المغارة في 29 تشرين الأول سنة 1793
أيها الجمال، يا سر الخلود، يا شعاع الأزل، يا رمز الألوهية العظيم، من يدرك في أي مكان ولدت، ومن أي مرتفع هبطت؟ ومن يعلم لماذا يحبك البشر، ولماذا تتبعك الأعين، ويعلق بطيفك القلب المحب، فإذا ما اقترب إليك يحترق ويضطرم، وإذا ما انفصل عنك ينزع ويموت؟ لقد طبعت ختمك على الطبيعة المنتعشة، وأعطيت الأسد رهبة النظرات، والجواد تموجات شعوره المتشعثة، والنسر جلال أجنحته، وأرسلت إلى أوجه البشر أشعة شفافة هي مرآة عظمتك، ونسجت أكاليل الكياسة والبهاء على رأس المرأة والرجل، ما من أحد يدرك أسرارك أيها الجمال وترى الجميع ينزلون عند رغباتك ويخضعون لدى شرائعك، من يدري إذا لم تكن صورة من صور الخالق الذي يتراءى من خلال هذه الغيوم؟ من يدري إذا لم تكن النفس المغلفة بذلك الجسد الجميل قد أبدعت على المثال الإلهي واقتدت بالجمال الأسمى؟ سنعرف كل ذلك فيما بعد، ولكن، فليضئ الجمال في مذاهب الطبيعة، وليسطع على كل عشبة من الأعشاب، وبين كل زهرة من الأزهار، فقلبي لم يولد إلا للحب، ونظراتي لم تتفتح إلا أمام هيكله السامي، ونفسي المشتعلة ترمي عليه من حين إلى آخر ذرة أو ذرتين من موقدها الخافق!
كم مرة ناجيت الله بهذه الكلمات: «رب! أتستنكر هذه العاطفة وتعتبرها تدنيسا للقلب؟ لا، إن العيون لتتحول رغما عنها إلى المصباح الإلهي الذي لن يزال يضيء في الوجود ... أية جريمة يقترفها البشر بحبهم ذلك الجمال وتعلقهم بتلك النجمة الإلهية؟»
عن المغارة في 11 تشرين سنة 1796
إن يد المبدع القدير لم ترسم على جبين لم يتجاوز السادسة عشرة مثل تلك الملامح الخلابة التي رسمتها على جبين لورانس، فالذي يحدق إلى هذا الشاب لا يشك في أنه ملاك هبط من الجنة على الأرض، فكل ما في الصباح من الصفاوة والطهر، وكل ما في العيون من العذوبة، وما في الفجر من الحياة الساحرة قد تجمعت بين تلك الخطوط الباسمة التي تلمع على جملة وجهه، وكونت شعاعا كوردة الطهر وذوبته دموعا شفافة بين محجريه، حيث تراءت الأحلام سابحة كالضباب في سماء من الأنوار البهية الساطعة! تلك الأشعة الإلهية لا تبرح تنطوي بين حاجبيه وتبرز على حافة أهدابه، ثم تبدو على شفتيه بسامة، كأنها ضياء داخلي يلمع في نفسه ويخرج إلى ظاهر وجهه! فمرارا، عندما يكون النهار قد أوشك أن يضمحل وتلبس المغارة حلتها القاتمة، أرى ضياء كضياء الصباح لا يزال ينبثق من ملامحه، ويرسل سنابل من النور إلى أعمق الظلمات، فأخفض ناظري أمام ناظريه، ويخيل إلي أن ذلك الشعاع لإكليل نفسه الطاهرة، فطالما بحثت في ذاكرتي عن جمال يشابه جماله، وعن صوت عذب كنغمات صوته، فلم أكن لأجد بين هؤلاء المبتدئين رفاق حداثتي، من له تلك السمات الطاهرة، وذلك الجبين البض، وتلك النغمات الساحرة، وتلك البشرة النقية، وذلك النظر الجاذب كأنه الفضاء القاتم، وذلك الشعر الحريري كأنه تموجات البحيرة! وعندما أشاهد قدميه العاريتين تتسلقان هذه المرتفعات، وأرى جبينه مبللا بالعرق كزهرة بيضاء تضطرب على برعمها قطرات الندى، أخاله رجلا خياليا أوجدته الطبيعة في هذه الأنحاء المنفردة، فأكاد أعبده لولا أني أعود فأرجع إلى نفسي وأتبين صوته وحركاته فأعرف فيها ذاك الولد الجميل والصديق المخلص المسكين!
عن المغارة في 1 كانون الأول سنة 1793
مرت أشهر النور ولمت السنة أشعتها عن تلك القمم لتنثرها بعد ستة أشهر، فغرقت الشمس في بحر الغيوم وترامت الثلوج بدلا من الزبد على تلك المرتفعات، فلم يبق للنهار إلا شعاع ضئيل تحطمه العواصف، وقد كنست الأخيلة الهائمة ما بقي من الأوراق الصفراء على أقدام الشجر، يخال لي أن الله قد ترك هذه القمم فريسة للظلمات، وأن عجيجا خافتا يدور في الفضاء دورته ويخرج من عظام الجبال، كأنه الهواء يقتتل في مذاهب السماء، والثلوج تتلاطم على نواتئ الصخور، تلك هي طقطقة الأغصان الذابلة ترزن تحت أثقال الجليد وتتكسر غصنا غصنا وترتمي على الأرض، تلك هي وثبات الثلوج المتثاقلة تتدحرج من أعالي القمم وتستحيل إلى تراب أبيض على ممر الهواء، لم تعد السماء لتحيي حفلاتها على المرتفعات الملثمة، ولم يعد الفجر يبرز بحلته المنيرة، والليالي بكواكبها المشعة، فالحمامة التائهة أصبحت تتبع مواكبها السوداء، وأكاليل الزهر أصبحت أكاليل من الجليد حول كهفنا المظلم، أما النهار فلم يعد ليدخل إلينا إلا من خلال الثلوج، وأما نحن فقد جلسنا أمام الموقد نصطلي ونتحدث، تارة نقرأ بعض الكتب وطورا نلتقط الطيور من أعشاشها وقد أويت قريبا من الكهف، غير مكترثين للأعاصير الزائرة، والليالي المدلهمة تحت سماء تكاد تهبط من أثقال غيومها، حتى إذا ما نفذت إلينا بعض أشعة من شمس الشتاء، وثبنا حالا إلى خارج المغارة وملأنا نواظرنا من الجليد الذي يكون قد صنع قصورا شفافة من زجاجه الأثيري، أو جسورا من الياقوت الأزرق، أو مغاور من المياه الخضراء!
عن المغارة في 16 كانون الأول 1793
نامعلوم صفحہ