مغارة النسور في 18 نيسان سنة 1793
شعرت بالنعاس يثقل جفني تحت القبة السوداء، فرقدت رقادا هنيئا إلى أن استفقت على زقزقة الشحرور، هذه مملكتي تبرز بحلة من الزهور في هذا الربيع الجميل! كم هي خضراء! لمن يا ترى أوجد الخالق هذا الوادي الصغير بين هذه اللجج المرتفعة؟ وشيد بيديه تلك الحواجز المثلثة التي تحول دون نواظر الإنسان؟ هنا الهوة القاصفة حيث يذوب الجليد ويقوم جسر الصخور خلال الموت! هنا النواتئ المجلدة التي لن تذوب، هنا أحلام الشعراء تتراءى كالنسور بين المرتفعات، هنا الشعاع الذهبي يضطرب على الأعشاب لدى خطرات الأرواح، هنا المروج الزاهرة تخفق على ذهبها المتناثر أجنحة الفراش، هنا المياه العذبة تنام على أحداق الأوراق وتملأ أكواب الصوان حتى تكاد تفيض وتتدفق، هنا زبد الجداول يسيل كالحليب على المروج الخضراء، هنا البحيرات الصافية كأنها قطع سقطت من هذا الأثير ونامت نومها الهادئ بين الصخور والأزهار، هنا الخلجان الضيقة تختبئ بين طيات الوادي، هنا المشاهد غير المحدودة تتجلى بوضوح، هنا القمم الشاهقة تنطح الأثير بسهامها البيضاء، هنا الأشباح الرهيبة تعطي الجبال مشاهد سوداء، هنا الهواء المنعش الفاتر يسيل بين مراشف العطشان روحا جديدة، هنا السكون الجميل حيث تنام الروح وتسمع نغمات الأحلام، هنا الحشرات الذهبية تحصد البروق بأجنحتها الخافقة!
في المساء
لكن رائعة هذه المشاهد الجميلة هي هذا الكهف المهيب الذي لم يكتشف ثنياته إلا النسر، في الجانب الشرقي من البحيرة جبل صغير سقط من أعالي الجبال وتحطم قطعا قطعا على هذه الوهاد، فبقيت صخوره المجزأة مرتفعة على بعضها كأنها حواجز عظيمة قامت كالمردة في هذا المكان المنفرد عن الطبيعة، وفي الجانب الآخر، خمس دوحات مسنة تضلع أجزاعها المجوفة في جميع الجهات، وهناك بعض السنديانات المترامية الأطراف تكتف أغصانها كالجبال على أحجار الصوان وتتدلى كالأفاعي السوداء على الأرض ثم تمد بعض أذرعها الرحبة إلى شعاع النهار فتخفي بعض ذراته عن العيون! أما الكهف فقد قامت حواليه صخور جرداء تحجبه عن نواظر الشمس، غير أن مخرجا سريا من جهة البحيرة يجدد الهواء في ذلك الكهف ويترك شعاع الظهيرة ينفذ إليه من فرجة بين صخرين، لا يمكن لأحد أن يرى من الخارج هذه المغارة السرية، فالصخور والجلبلاب ترتفع كالجدران فوق فوهتها الكبيرة، نسمات لطيفة كأنها لهاث المياه تستولي على هذا المكان، بينما الأرواح والأعاصير تزأر زئير الهول بين الصخور والأدواح، لا يسمع من هذا المأوى، مأوى نفسي الساكنة، إلا زقزقة السنونو، وصرير الحشرات ذات الأجنحة غير المنظورة، وخرير المياه العذبة في البحيرات ذات الشفار الأثيرية، ناسخة على رءوس الصخور أكاليل من الزبد!
في 29 أيار سنة 1793
لقد رفعت فراشا من القش على الجانب الأيمن من الكهف، وعلقت عصاي وساعتي على الحائط، وجمعت بعض الأخشاب اليابسة لأشعلها في أيام القر وأصطلي على لظاها، أو أشوي عليها بعض الأسماك!
العهد الثالث
في مغارة النسور في 3 تموز سنة 1793
عندما الشمس، موقد الحياة الخافق، تضطرني إلى خفض جفني أمام أشعتها المغشية، وتمر خلال أهدابي بأسلاك من الذهب، وعندما تتحطم على الثلوج الخالدة وتتدفق سنابل من الشرر تعطي هذه القمم وهذا الفضاء الأزرق لونا كلون البحر، لا أرى في هذه السماء الصافية، التي تظهر كبحيرات لا شواطئ لها سوى الأثير الجميل، حيث لا يسبح إلا النسر الأسود، كأنه نقطة حالكة تظل مسمرة على الجلد الثابت، عندما الأشجار أو الصخور تلقي على الأرض جزرا من الظلال، حيث أثقال الزهور تحني الأعشاب بعذوبة ودلال، تغمرني بين طيات الأحلام وترفع نفسي إلى مذاهب الملأ الأعلى! وعندما أسمع دمدمة الهواء الفاتر ويمتزج لهاثي بنسيم السماء العذري أشعر بلذة حية فأسلو الدقائق الشاردة المنسلخة عن نفسي، كما تسلو الإوزة التعبة أثقال أجنحتها عندما تستريح من الطيران، كم أحب أن أبقى بين هذا السكون وألا أشعر بالتفكرات والذكريات، معتقدا أن روحي قد تركت إلى الأبد ذلك الغلاف البائد، وسبحت في سماء من الأنوار الخالدة! غير أن إحساسي المستفيق لدى خطرات الأرواح يحملني دائما إلى عالم من اللذات المرة فأشعر بنفسي هابطة من السماء حيث الخالق يصغي إلي ولا يجيب! آه! لو وهبني الحظ قلبا ثانيا، قلبا فارغا أخرس حيث الحب والحياة يتفتحان دائما، لسكبت فيه ما فاض من قلبي الأول، وتمكنت من رمي الأحزان ومضاعفة الحب، وإيجاد روح من روح وعاطفة من عاطفة!
إن هذه القبة الزرقاء لتابوت جميل، ها أنذا أبسط ذراعي طالبا نفسا تشاطرني وحدتي وقلبا يشعر بما يشعر به قلبي، ولكن الصحراء منفردة تكتنفني بالسكون الرهيب، أذهب من بحيرة إلى بحيرة ومن صخرة إلى صخرة ثم أعود على أقدامي وأختلي بين جدران الكهف المظلم، أشعر بفراغ في كياني لا يملؤه إلا كيان آخر، فصوتي لا صدى له في هذه الأصقاع البعيدة، ويخيل لي أن سعادتي تتبدل في هذا المكان وتلبس ثوبا من الملل.
نامعلوم صفحہ