كنت أسير في حقول لا طرقات فيها مخافة أن ألتقي بإنسان أو أسمع صوتا حتى بلغت قمة جرداء ينحدر جبلها إلى واد رهيب فأبصرت صخرة رمادية عليها صليب من الصوان فجلست على أقدام ذلك الصليب وسرحت طرفي في الجهات الأربع فوقع نظري على مشاهد جميلة تتبسط أمامي، ورأيت البساتين الخضراء تحت جدران القرى، والحمائم البيضاء على سطوح المنازل، والدخان المتصاعد من فوهات المواقد كأعمدة من الرخام الرمادي تنتصب في مذاهب الفضاء، فسجدت على أقدامي، وكأن زفرة حرى حملت نفسي إلى تلك الأماكن العذبة، فصرخت: «اللهم أنت الذي أخذت الولد فابق مع الأم، ولتكن ساعة الرحيل خفيفة الوطء على قلبها! أنا لم أترك إقامتي بين أهلي وأنسلخ عن قلب والدتي إلا لأدع لهم الهناء وأورثهم روحك الإلهية وقلبك الحنون، اجعل اللهم الحب والسلام ينوبان عني بين جدران هذا المقر، واجعل تضحيتي سعادة ورغدا في حنايا صدورهم، اسهر يا إلهي على ساكني تلك الديار وبارك أوقاتهم ليلا ونهارا، وكن أيها المبدع العظيم ابنا لأمي وأخا لشقيقتي، اغمرهما بهباتك وقدهما بيدك في طريق عذبة وفي حياة طويلة»، قلت ذلك وقد توارت إلى الأبد آخر خشبة من مقر أهلي!
العهد الثاني
عن مدرسة ... في 1 كانون الثاني سنة 1793
قطعت ستة أعوام من أيام حداثتي، كانت لياليها ونهاراتها متشابهة متقاربة، أشعر بدعائم الدير السوداء تخيفني في ظلماتها، وبالجدران القاتمة تذيب على جبيني الصمت الرهيب! فالنوافذ المرتفعة لا تدع ذكريات الماضي، تلك الذكريات المضمخة بأريج الحب، تدخل إلي في السكون وهذه الوحدة، كل يرسم أمامي مشاهد الإيمان، فيد الله لم تخط على أوراقي البيضاء حادثا من حوادث الحياة! آه! أيمكن أن أبقى صحيفة لا مداد عليها طيلة هذا العمر؟!
في شباط سنة 1793
عندما ينسل الظلام بين أعمدة الدير ويجلس المبتدئون كل على مقعده يتحدث إلى رفيقه ويسامره، أسرع إلى باب الهيكل السري وأسكب نفسي على أقدام الإله العظيم! ذكريات بعيدة تتراءى لي شاحبة الوجه من خلال الأحلام، وتغسلني في بحيرات هادئة ساكنة، فتستفيق في نفسي تلك الساعات الحلوة اللذيذة أيام كنت أسمع لهاث الشمأل في الضباب الرمادي، وأرى أعمدة الحور والصفصاف تضطرب كالقصبة وتهز الثلج المتراكم عليها، فيتساقط كالمندوف الأبيض ويذوب على الصخور أو على التراب! أجل! أيام كانت الدموع تتفجر من ينبوع إلهي في صدري، وتمر أخيلة سوداء في مذاهب الجو فأخالني سأقبض بكلتا يدي على سبح الله بين تلك الغيوم المتلبدة!
تلك أويقات تمر على الإنسان في مطارح أيامه فتمزج حياته بالخلود، وتبقى مرتسمة في نفسه إلى ما شاء الله! وعندما دخلت عتبة المعبد المظلم ودفنتني لياليه في ضمير الله، عندما رأيت هذه الجدران المبطنة بالأجيال تقوم حاجزا بيني وبين العالم، عندما همت بأقدام خرساء في وسط هذا المأوى الرهيب، حيث الأسرار والخلود، عندما أبصرت أشعة المغيب تنطفئ على زجاج النوافذ، وشعرت بأن أذنا تصغي إلي في هذا الفضاء، وصديقا غير منظور يدفعني إليه ويخاطبني بلغة أعرف قواعدها وأدرك جوهرها، أجل، عندما كان ذلك لجأت إلى حضن السيد العظيم وعلى عيني أشعة من أشعة الإيمان وفي قلبي مسامع وديعة لنغمات الحب الخالد!
عن مدرسة ... في 15 شباط سنة 1793
بينما نحن نقيم في زوايا عالم غير ذاك العالم، تحت أعين الله وبين أحضان السلام، نشعر بأن دنيا بعيدة قريبة، وقد نفخت فيها حياة غير حياتنا، تزأر حولنا زئيرا رهيبا وتتكسر أمواجها المصطخبة على قلوب أبناء الله! آه! لماذا يا ترى وجدت بين هذه العواصف، حيث لا يجد الإنسان مكانا أمينا يلقي على أعشابه رأسه المثقل بالآلام، وحيث أفكار الإنسانية تظل باحثة وهي تجس الطرقات العديدة برءوس عصيها، غير قادرة أن تجلس تحت ماض متهدم ولا أن ترمي المستقبل رمية واحدة على رحاه؟ لماذا خلقت بين هذه المدمرات، التي تقتلع الأجيال من الأرض محرقة كل يد تلامس براكينها؟
في 25 شباط سنة 1793
نامعلوم صفحہ