الإهداء
شكر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
الإهداء
شكر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
جينوسايد
جينوسايد
الأرض والعرق والتاريخ
تأليف
فهمي سعيد الشيخو
الإهداء
إلى أول قتيل في التاريخ .. الحياد.
شكر
بضعة توضيحات قبل أن أبدأ بالشكر.
إن قرية أنجرلك مكان خيالي غير موجود في الواقع.
إن أسماء المدن والبلدات والقرى المذكورة في الرواية، مأخوذة من خريطة في الأرشيف العثماني المنشور بعنوان: «خارطة مستحدثة لولايات المملكة العثمانية في آسيا 1893م»، طبعت بمطبعة الأميركان في بيروت أيام خلافة السلطان عبد الحميد الثاني.
بداية أتقدم بالشكر الجزيل للدكتور والكاتب أمجد الجنابي لقراءته المخطوطة وملاحظاته وتعليقاته القيمة، وأيضا الشكر موصول إلى الصديق العزيز محمود وهاب للدعم الكبير وإيمانه بالقصة وملاحظاته القيمة في رفع جودة السرد التاريخي.
وأخيرا أتقدم بالشكر الجزيل للأخت أشواق الرفاعي على التعب المضني في التنقيح اللغوي الأولي للمخطوط.
شكرا لكم جميعا.
إن التاريخ هو أخطر ما أنتجه الفكر؛
فهو الذي يرمي بنا في أحضان الحلم،
فيثمل الشعوب ويولد لديها ذكريات زائفة،
ويقودها إلى جنون العظمة أو جنون الاضطهاد،
إنه يجعل الشعوب عظيمة أو رهيبة أو هامشية ...
بول فاليري
الفصل الأول
إسطنبول - تركيا 1891م
كانت أعين الحاضرين تتفحص الصالة التي لم يروا مثل جمالها قط؛ فالسقف المزين بالألواح الذهبية البراقة على شكل سداسيات متداخلة، منقوشة بنقشات الطراز العثماني، والأرضية الواسعة المكسوة بسجادة الهركة التي ملأتها دون وجود قطع تكمل بعضها بل صنعت خصوصا لها بمساحة أكثر من 400 متر مربع، والجدران البيضاء المزخرفة التي تحوي تسع عشرة نافذة مستطيلة متوزعة على ثلاثة جدران عدا الجدار الرابع الذي يحوي أربعة أبواب خشبية بيضاء مزخرفة بالأزهار البرية الملونة، وفيها مرآتان ضخمتان بينهما لوحة كبيرة مرسومة فيها أزهار متنوعة بشكل فني رائع.
كان السلطان دقيقا في مواعيده، لكن الولاة قد حضروا قبل الموعد بكثير احتراما له وخوفا منه؛ فهو معروف بشدته في إصدار العقوبات الصارمة لمن يخالفون الدولة وقوانينها؛ إذ لم يبلغ الولاة سبب الاجتماع الطارئ إلا أنهم كانوا يتوقعون أنه من أجل الأوضاع التي تعيشها ولاياتهم، كان الخوف ظاهرا جليا على وجوههم، خوف خسارة المنصب والامتيازات، وخوف من العقوبة الجماعية بسبب عدم قدرتهم على تسيير شئون ولايتهم بالشكل الأمثل.
قبل حلول الموعد بقليل، سمعوا أصوات ذف أحذية قادمة خلف الباب مع صوت ضربة مختلف عن ذف الأحذية، عدل الحاضرون جلستهم وتهيئوا، ازدادت ضربات القلب ، وهم ينتظرون ولوج السلطان من الباب إليهم، ثم فتح الباب، دخل أحد الحراس ونادى بأعلى صوته: «جلالة السلطان المعظم عبد الحميد الثاني قادم.»
وقف الجميع احتراما للسلطان، كان بكامل قيافته المعروفة، ف «القفطان» الأزرق الباهت الذي كسا معظم جسده، مفتوح من الأمام وفيه قطع مثلثة الشكل على الجانبين، وتحته جلباب أسود فيه نقشات خاصة بالسلاطين العثمانيين، يصل إلى ما فوق ركبتيه، وسروال من نفس لون الجلباب، وعلى رأسه طربوش أحمر ويحمل في يده عكازه الذي لا يفارق مقبض يده أبدا.
ألقى السلام على الجميع وهو يتوجه إلى كرسيه، وكفه اليمنى على صدره ثم التفت، ألقى نظرة سريعة بوجوه الحاضرين قبل أن يجلس، ثم أشار بيده باسطا كفه اليمنى: تفضلوا بالجلوس.
ساد صمت مخيف الصالة كلها، جلس الولاة دون أدنى حركة وكأن على رءوسهم الطير، كان يبدو على وجه السلطان الغضب، ونظراته تملؤها الثقة والهيبة. بعد مضي وقت ليس بالقليل على السكون المخيف تحدث أحد مستشاريه: أيها السلطان المعظم، هؤلاء ولاة المدن الستة «أرضروم، ووان، وبتليس، وسيواش، ومعمورة العزيز، وديار بكر»، قد حضروا لأجل الاجتماع الطارئ الذي طلبته.
هز رأسه ورفع عكازه ثم ضربه على البلاطة بشكل خفيف موحيا بأنه سيبدأ بالكلام: لقد جمعتكم هنا اليوم بعدما وصلتني برقيات لا تسرني ولا تسركم عن حال ولاياتكم؛ لقد عمت الفوضى في الشرق، ويترصد أكبر أعدائنا خلفه، ونعلم أنهم وراء الدعم الذي يحصل عليه المخربون الأرمن وبعض العصابات الكردية، لكن يجب ألا يستمر الوضع هناك هكذا، لا بد من وضع حل نهائي للفوضى، وبما أنكم أقرب مسئولي الدولة الكبار هناك إلى الواقع فأشيروني إلى حلول جذرية للقضية.
أنهى كلامه بضربة عكازة على البلاطة أقوى من الأولى موحيا إلى شدة غضبه مما يجري هناك.
استأذن والي أرضروم من السلطان فأومأ إليه موافقا: حضرة السلطان المعظم نحن بحاجة إلى زيادة عديد القوات هناك؛ فالقرى متباعدة ونحن لا نملك العدد الكافي لتغطية تلك القرى بالجنود، وعادة ما يكون عدد المهاجمين أكبر من عدد الجنود الموجودين في مخافر القرى؛ ولذلك لا نستطيع إلقاء القبض عليهم أو حتى مجابهتهم، إضافة إلى وجود العصابات الكردية والنسطورية التي تقطع الطرق على قوافل التجار والمسافرين بين المدن وهم يقطنون الجبال، ولا قدرة لنا على الإغارة عليهم لنفس السبب.
التفت السلطان إلى بقية الولاة ليسمع منهم ما يرون في حل المشكلة، فكانت آراء البقية نفس رأي والي أرضروم، ومن ثم تدخل المستشار الاقتصادي للسلطان وأخذ الإذن منه بالكلام: جلالة السلطان المعظم، إن زيادة عدد الجنود تحتاج إلى ميزانية ضخمة، والدولة تمر بظروف اقتصادية صعبة، أنا أقترح إرسال جنود من المناطق ذات المشاكل الأمنية القليلة إليهم، وبذلك نسد النقص ولا نؤثر على ميزانية الدولة.
كانت تلك فكرة جيدة، وبدا التفاؤل يعتلي وجه السلطان إلى أن أخذ المستشار العسكري الإذن بالكلام من السلطان: أظن أن المستشار الاقتصادي قد نسي أننا طبقنا هذه الفكرة في زيادة عدد الجنود في المعارك الجارية مع اليونانيين على جزيرة كريت من جهة، والمعارك الجارية على حدود الدولة المترامية الأطراف من جهات أخرى، ولم يبق في المدن الآمنة إلا ما يسد الفراغ الأمني الضروري، برأيي لا بد أن نبحث عن حل آخر.
ساد الصمت مرة أخرى حتى أدار السلطان وجهه إلى شاكر باشا «القائد العام للقوات العثمانية» الذي كان جالسا يستمع طوال الجلسة إلى آراء الولاة والمستشارين: لم نسمع رأيك بالأمر؟!
تنحنح شاكر باشا وعدل جلسته قبل البدء بالكلام: جلالة السلطان المعظم، كما تعلمون أن تلك الولايات يقطنها أغلبية كردية، وكما هو معلوم لديكم أن الأكراد في بنيتهم الهيكلية ينتمون إلى عشائرهم أكثر من انتمائهم للدولة، وهذه العشائر تمتلك مقاتلين وخيالة متمرسين، وقد قاتل بعضهم معنا في حربنا ضد الروس واستبسلوا فيها، نعم توجد هنالك مجموعات منهم يعملون كعصابات سلب ونهب وقطع الطريق أحيانا، إلا أنهم يأتمرون بأوامر رؤساء عشائرهم ولا يخرجون عن طاعتهم .. لذا أنا أقترح أن نكسب رؤساء العشائر الكردية ونعطيهم بعض الامتيازات الخاصة، ونجعل فرسانهم تحت إمرة الحكومة، وبذلك نضمن أمرين رئيسيين في تقليل حدة الفوضى وإعادة سلطة الدولة في المدن الستة إلى سابق عهدها وقوتها بأقل التكاليف الممكنة.
أولهما: «أننا نقلل من العمليات التي تقوم بها بعض العصابات المنتمية إليهم، وذلك بأمر من رؤساء عشائرهم بالعدول عنها والانضباط تحت سلطة الدولة التي أصبحوا جزءا منها.»
وثانيهما: «ننظم جيشا كاملا بهم، يسدون النقص في الخيالة العثمانية على الحدود الروسية، وكذلك نقمع بهم الثورة الأرمنية في مهدها، ولا ندع مجالا للأرمن بكسبهم إلى جانبهم فتقوى ساعد ثورتهم.»
ابتهج السلطان بما سمع من شاكر باشا، ونظر إلى مستشاريه ليسمع رأيهم بالفكرة المطروحة، فقال المستشار العسكري: الفكرة جيدة، وأنا أقترح أن ننظمهم على شكل فرق مسلحة كما هي موجودة في القوات الروسية «فرق القوازق»، فهم كانوا أيضا مثل الأكراد فلاحين ومزارعين من أوكرانيا وغرب روسيا، وقد أدت القوازق دورا كبيرا في اتساع رقعة الإمبراطورية الروسية في خمسينيات هذا القرن، وكان دعمهم للأباطرة الروس غير محدود خاصة بعدما انخرطوا في الجيش الروسي، وبإمكاننا جمعهم تحت مسمى الجيش الرابع للمنظومة العسكرية العثمانية، لكن يجب أن يدخل مقاتلوهم في دورات تدريبية تحت إشراف الضباط النظاميين من الجيش العسكري، ولا بد من إعطائهم زيا موحدا ورسميا من مخازن الألبسة العسكرية المستعملة حتى يكونوا أقرب ما يمكن للقوات النظامية.
وعلى هذه الآراء انتهى الاجتماع الطارئ بقرار تشكيل فرق القوازق، الذي كان يحمل في طياته الكثير من التفاؤل لمصير المدن الشرقية للأناضول، وكان لا بد من قائد محنك لهذا الجيش الجديد حتى يستطيع أولا: كسب العشائر الكردية وإقناعهم للانضمام إليه. وثانيا: لا بد أن يحمل مكانة كبيرة في الدولة، فأوعز السلطان بتولي هذا المنصب إلى عديله «زكي باشا»؛ حتى يقود الفرق باسم السلطان.
بعدها بعدة أيام أصدر السلطان فرمانا يوصي بإنشاء كتائب «الفرسان الحميدية» مما أعطى للمنضمين لها مكانة عالية عندما ربط اسمه بها، وجاء ضمن الفرمان وعود كثيرة للعشائر التي تقبل الانضمام إليها، وكان الغرض المعلن من هذه التشكيلات هو الجهاد؛ أي الدفاع المقدس عن الإمبراطورية العثمانية، وفيها وجهوا دعوات إلى الكثير من رؤساء العشائر الكردية لزيارة السلطان في الآستانة ولبى الكثير منهم الدعوة. وعند زيارتهم الآستانة أبهرهم الاحتفال الكبير الذي استقبلوا به، حيث استقبلهم السلطان في قصر يلدز بنفسه، وبقي رؤساء العشائر قرابة شهر في ضيافة السلطان وقدم لهم الهدايا والألقاب والأوسمة والرتب العسكرية ومخصصات شهرية بعد أن وعدوا السلطان بتقديم الرجال إليه وبأعداد تفوق ما كانوا يستطيعون تأمينه من كثرة ما حصلوا عليه من هدايا، وإضافة إلى ذلك أمر السلطان بإعفائهم من الضرائب التي كانت تفرض على أراضيهم وممتلكاتهم.
الفصل الثاني
القدس - فلسطين 1943م
إن في اللغة العربية كلمات جاءت من الصوت الذي يصدر عن الفعل، فنسمي الصوت الصادر من ضرب معدن بآخر ب «الطرق»، وهذه الكلمة مأخوذة من الصوت نفسه، وأخذ يضرب قطعتي حديد ببعضهما ويقول: أتسمعون كمية التشابه بين الصوت والكلمة؟
سكت هنيهة ثم قال: وكذلك العقوق يا أبنائي؛ فهي كلمة مأخوذة من صوت تدفق الدم من عنق الدابة عند ذبحها، فيصدر صوت أشبه ب «عق، عق»، وكأنها توحي أن تسمية «العقوق» جاءت لتشبه الخروج عن رضا الوالدين بذبحهما، لكن من دون سكين!
كان حسن ينصت إلى أستاذ اللغة والدين «محمود الخطيب» صاحب العلم الغزير والحضور المهيب الذي ملأ الحصة صمتا تاما إلا من صوت كلماته القليلة والمليئة بالمعاني العميقة، على عكس بقية الأساتذة الذين لا يستطيعون السيطرة على الطلاب في حصصهم.
وما إن انتهى الدرس حتى خرج حسن بصحبة صديقه المقرب هشام «ابن أكبر تجار الحي»، وكان من عادتهما أن يقضيا بعضا من الوقت في باحة الأقصى الشريف، يتأملان المارة تحت ظل شجرة معمرة، عند باب المغاربة قبل عودتهما إلى البيت.
نظر هشام إلى قبة الصخرة وهي تلمع وكأنها ياقوتة صفراء في قاع نبع صاف تعكس ضوء الشمس على الماء فتزيده عذوبة ونقاء أكثر، وقال لحسن: أتعلم .. لو بإمكاني تملك هذه القبة لأقنعت أبي بشرائها.
أخرج حسن ضحكة هازئة، وقال: تشتري بيتا من بيوت الله، أمجنون أنت؟! ولمن تدفع المال مقابله؟ - لا أدري، ألا يدور على ألسنة الناس أن البريطانيين وعدوا اليهود به؟ كيف يعدون بشيء ليس لهم ويتصرفون به؟!
ثم أليس هنالك مقابل لهذا الوعد؟ إذن من الممكن بيعه وشراؤه. - أتصدق هذه الترهات! بريطانيا الآن منهمكة في حرب كبرى، وأعداؤها أقوياء فلتحافظ على أراضيها إن استطاعت، لا يمكنها فعل شيء، أيامهم معدودة هنا، ما إن تتعرض بلادهم لخطر محدق حتى يجروا ذيول الهزيمة من فلسطين فجأة ويبقى الوعد حبرا على ورق، ثم إن المسلمين يفدون البيت بأرواحهم.
هز هشام رأسه مؤيدا ومد يده نحو حسن، وقال: هيا بنا لنعود إلى البيت.
في طريق العودة بعدما أوصل حسن صديقه إلى دارهم كان الحاج صالح الكفيف يجلس على عتبة الباب الخارجي لداره، سلم عليه حسن وقبل يده وطلب خدمته وحاجته، فلم يسمع منه سوى عبارة يكررها دائما: «الله يرحم ترابك يا عبد الحميد»، ولم يخطر على باله يوما أن يسأله من هو عبد الحميد؟ لعله يقصد أحد أولاده الذي فقده، أو أحد أصدقائه القدماء. وأثناء ذلك أقبل رجل كبير في السن يبدو من هيئته أنه ليس بعربي، شعره أبيض ناصع وبشرته حمراء، فيه من دم وملامح بني الأصفر، ونظراته الثاقبة القاسية لم يلينها الزمن وطول العمر، سلم على الحاج صالح، وصافح حسن وهو يبتسم ثم قال: سمعتك من بعيد تترحم عليه! أما آن لتبصر الحقيقة بقلبك بعدما فقدت البصر بعينك، وتكف عن الترحم عليه؟ - سأبقى أترحم عليه حتى تغادر الروح الجسد. - دعك من ذلك، وأخبرني عن تاجر أحجار كلسية، لدي ترميمات في بيتي.
رد عليه حسن دون أن يستأذن من الحاج صالح: أبي يعمل في تجارة الأحجار الكلسية.
تحسس الحاج صالح بكفه على ظهر حسن حتى وصل كتفه، ثم ربت عليه، وقال لصاحبه العجوز: نعم، أبو خالد يعطيك أحسن الأنواع، ويراعيك في السعر إن أخبرته بأنك صاحبي. - وأين دكانه؟ - في خان تنكز «أوتوزبير»، اسأل عن أبي خالد السرابي يدلك أهل الخان عليه، دكاننا صغير، لكن أبي معروف هناك.
أشاح الرجل بوجه حسن ونظر إليه، وقد قطب حاجبيه: لا تلفظ تلك الكلمة التركية اللعينة أمامي، تنكز يكفي، إنني أكره الترك ولغتهم وكل شيء يتعلق بهم.
راود حسن الكثير من الأفكار وهو يرمقه بأطراف عينيه وقال في نفسه: أبي رجل عصبي لا يحتمل مثل هؤلاء الزبائن الثقيلي الظل، أخشى أن يضربه بحجرة كلسية يعجل أجله.
سأل حسن عن اسمه، ليخبر والده أنه سيأتي إليه فقال: العم أرتين. •••
كانت الأزقة الضيقة والقناطر التي تربط البيوت المتقابلة، تفوح من نوافذها الخشبية روائح الأطعمة المتنوعة في مثل هذا الوقت من الظهيرة، المسخن والمفتول والمقلوبة التي تجعل حسن يعجل خطواته ليصل إلى البيت ويمني النفس أن يكون المسخن الذي تبدع بتحضيره والدته أم خالد هو الطبق الرئيسي للغداء اليوم.
كان الجوع قد أخذ مأخذه من حسن، فبدأ يأكل بشراهة كبيرة حتى غص بلقمة واحمر وجهه من الاختناق وهو يطلب الماء، ضحك أخوه الأكبر خالد، وربت على ظهره: على رسلك، على رسلك، الصحن لك وحدك. مع من تتسابق في الأكل؟!
قطبت الأم حاجبيها وهي تنظر لخالد، وقالت: عليك بالعافية حبيبي حسن. وسقته الماء. - تذكرت .. هنالك رجل كبير في السن يدعى العم أرتين يكون صاحب الحاج صالح، سأل عن بائع للأحجار الكلسية، فأشرته إلى دكاننا في الخان.
قال الأب وهو ينظر إلى صحنه ويحرك الملعقة عليه دون أن يأكل، وكأنه غارق في تفكير عميق: خيرا فعلت.
وبينما هم كذلك انتبه حسن إلى أخته «سكينة» وهي تضرب بكتفها، على كتف أمها لتوحي لها أن تتكلم .. تنحنحت أم خالد ونظرت نحو زوجها: أبا خالد، أريد شراء بعض الحاجيات للبيت وقطعة قماش أخيط بها فستانا لسكينة؛ فعرس ابنة أختي فاطمة الخميس القادم، وهي لا تملك فستانا يليق بالمناسبة.
ساد الصمت بعدما توقفت أم خالد عن الكلام وتوجهت الأنظار خلسة إلى أبي خالد، رفع رأسه من صحنه ونظر بوجه ابنته التي احمرت وجنتاها، وقال كلمة واحدة وهو يغادر المائدة: حسنا.
همس خالد لأمه: أبي في ضيق مادي: الناس يشترون بالدين، والسوق متوقف تقريبا، والأوضاع في البلد غير مستقرة حتى إننا لا نملك ثمن بضاعة جديدة، لا تكثروا عليه بالطلبات، أنا في الدكان وأعلم ما يدور هناك. - سأقنعه ببيع قطعة من أرضنا الزراعية المتروكة على أطراف القدس. - ومن يشتري غير اليهود؟ وأنت تعلمين أن أبي لو متنا من الجوع لن يبيع شبرا لهم. - ولم اليهود؟ أبو هشام هو من يشتري، كنت عند أم هشام وأخبرتني أن زوجها يشتري الأراضي والبيوت من غير حاجة، فقط لكيلا يضطر الناس لبيعها لليهود.
نعم، السعر الذي يدفعه اليهود أكثر مما يدفعه أبو هشام، لكن الناس رغم حاجتهم الماسة لا يحبذون البيع لليهود. - لكن هنالك الكثيرين ممن باعوا ويبيعون لليهود! قال حسن ذلك.
رد خالد بحزم: الذي يبيع لهم وهو يعلم طمعهم بأرضنا وحلمهم بإقامة دولة عليها، لا يملك مبادئ في الحياة، وهو خائن للأرض، وسيلعنه التاريخ. - ومن يهتم للتاريخ! ومن يكتبه أصلا، الحاجة لا تعترف بالمبادئ! تمتم حسن وهو يغادر المائدة متوجها إلى غرفته.
ترك كلام أمه عن أبي هشام وما يفعله من أجل الحفاظ على الأرض بعيدا عن أطماع اليهود أثرا في نفس خالد، وتمنى لو أنه يملك مال قارون ليفعل مثل أبي هشام وأكثر، ويسد حاجة الناس ويمنعهم من اليهود.
آثر حسن أن يسأل الأستاذ محمود الخطيب عن أطماع اليهود في فلسطين؛ فهو لا يمانع أن يخرج عن المادة المقررة في الحصة، وبالأخص لأجل موضوع مهم كهذا. - بني: قبل الخوض في هذا الموضوع يجب أن تفرق بين اليهود والصهاينة؛ اليهود أهل الكتاب، ولنا معهم تاريخ مشترك لآلاف السنين على هذه الأرض، كما لنا مع المسيحيين مثل ذلك، بالرغم من كل المعارك والقتال الذي حصل على مر التاريخ بقيت الجيرة والعلاقات الطيبة بيننا. لكن الصهاينة هي مجموعة ذات فكر منحرف تريد بسط سيطرتها على اليهود أولا، ومن ثم على جميع سكان البلد، وهي على علاقة وطيدة بالمحتل البريطاني، وهؤلاء لا مانع لديهم أن يقتلوا اليهود أبناء جلدتهم من أجل بلوغ أهدافهم .. أذكر مرة دخلت بنقاش مع أحدهم عن فلسطين فقال لي: لو عدنا بالتاريخ لألفي سنة، كانت هذه الأرض ملكنا نحن؛ يقصد «مملكة داوود». فقلت له: ولماذا لا نعود بالتاريخ ثلاثة آلاف سنة لنجد أن هذه الأرض للكنعانيين الذين قدموا من جزيرة العرب وسكنوا فيها، وكتابكم التوراة يشهد بذلك، فلمن الأحقية إذن؟
سكت ولم يلق جوابا، ثم عاد يهدد بأن هذه المرة ستكون الأرض لهم إلى الأبد.
صمت قليلا، ثم استرسل بالكلام: من يظن أن هذه البقعة المباركة له وحده دون الآخرين فهو واهم، وإن توافرت له المقومات الكاملة بأن يسيطر عليها لفترة من الزمن، إنه صراع تاريخي على السيطرة، لكن يجب أن تدركوا يا أبنائي أنها لن تدوم تحت سيطرة أحد، لا نحن المسلمين ولا المسيحيين ولا حتى اليهود.
أبنائي .. إن مقاييس التاريخ الزمنية لا تشبه مقاييسنا نحن البشر؛ فالتاريخ يتكلم بالقرون والسنين الطوال، ويذكرها بكلمة أو كلمتين أحيانا، ونحن نتكلم بفترات أقصر بكثير، ولأجل ذلك تمر الأمم بفترات قوة وفترات ضعف، ومن يعيش في فترة القوة يظن أنها ستستمر إلى الأبد.
فينتشي ويتكبر ويتكلم بعلو صوته.
ومن يبلغ فترة الضعف يصيبه الهوان ويشعر بأنه يبقى ضعيفا أبد العمر، ويصل إلى مرحلة اليأس كما حصل للناس في زمن التتار؛ إذ يذكر أن جنديا من التتار أراد أن يقتل رجلا في بغداد، وما كان يحمل سلاحه معه، فقال: انتظرني هنا، سآتي بسلاحي وأعود، فبقي ولم يحرك ساكنا حتى عاد وقتله!
دهش الطلاب من كلامه وسألوه مستغربين: كيف يمكن ذلك كيف؟! كان بإمكانه الهرب على الأقل! - لا تلوموه، فلو كنتم مكانه لربما فعلتم ما فعل، الهوان والخوف من التتار كان قد بلغ في نفوس الناس مبلغه، وظنوا أن هؤلاء لا يهزمون ولا يمكن لأحد أن ينتصر عليهم! وهذه المرحلة من أخطر المراحل التي تصل إليها أية أمة بأن تفقد الثقة بنفسها ويصيبها الخور، وهذا ما يريده أعداؤنا لنا ويحاولون في كل مرة هز ثقة الناس بما يستقوون به، ولعل فشل الثورة الكبرى قبل سنوات قليلة مثال قريب عشناه ورأينا ما خلفته من هوان وخيبة لدى البعض .
الفصل الثالث
ميونخ - ألمانيا 1938م
دفعت ريح قوية وباردة باب النافذة المطلة على الرواق من الطابق الثالث للمبنى، فأصدر صوت تحطم زجاج مع تطاير الستائر البيضاء الشفافة. هرع مايكل ليتأكد ما الذي انكسر، فإذا المرآة التي على الحائط المقابل للنافذة قد سقطت، فصاحت الأم: ما الذي انكسر؟ - المرآة. - ألم أقل لك قم بإصلاح القفل منذ البارحة؟! لماذا لا تسمع الكلام يا بني؟ - لقد أوصيت ديفيد بأن يشتري قفلا جديدا؛ لأن هذا القفل لا يمكن إصلاحه.
وضع مايكل قطعة خشب صغيرة على باب النافذة وأحكم غلقها بالمطرقة لكيلا ينفتح مرة أخرى لحين مجيء ديفيد، ثم أقبلت أخته الصغيرة «سارة» ذات العشرة أعوام لتلملم الزجاج من الأرض.
كانت ليلة هادئة لا يشجب هدوءها سوى صوت صرير الرياح الشمالية التي تحاول التسلل إلى البيوت بأي وسيلة كانت .. خطر في ذهن مايكل وهو متكئ على الأريكة يراقب سارة وهي تحمل القطع الزجاجية المتناثرة بحذر وتضعها على سلة القمامة، شؤم انكسار المرايا في البيت؛ ففي الأعراف اليهودية تحطم المرآة ليس بالعلامة الإيجابية، إنها تدل على حدوث مكروه ما، وحتى في الأعراف الرومانية القديمة كانت له دلالات سيئة؛ إذ اعتقدوا «أن المرآة تحوي وتعكس روح صاحبها، وكسرها دليل على فنائه وموته»، وذهبت الأسطورة الرومانية إلى أنها تجلب سبع سنوات من الحظ السيئ؛ لأن الروح بعد موت صاحبها تحتاج إلى سبع سنوات حتى تتشكل من جديد.
هز مايكل رأسه محاولا إزاحة هذه الأفكار المشئومة عن ذهنه وعاد ليقرأ الجريدة على مهل، كانت إحدى المقالات تتحدث عن التحريض ضد اليهود، قرأ الأسطر الأولى فأصابه الضجر فطوى الجريدة وهو يقول: كالعادة مقالات فارغة، مشحونة بالكراهية.
وضع الجريدة على الطاولة الخشبية قربه، ثم نظر إلى الساعة المعلقة على الحائط، كانت العقارب متراكبة فوق بعضها وهي تشير إلى السابعة وثمان وثلاثين دقيقة. قال في نفسه: لقد تأخر ديفيد على غير عادته!
ثم فجأة طرق الباب بضربات قوية وبطيئة، خفق قلبه خوفا وقال في نفسه: ما قصة الأبواب اليوم؟!
أخرجت الأم رأسها من باب المطبخ المطل على الصالة، وعلامات الشحوب ظاهرة على وجهها، تحرك مايكل لفتح الباب، فنادى قبل أن يفتح: من الطارق؟
لم يسمع ردا فانتابه الخوف أكثر. كانت الطرقات تتسارع، مد مايكل يده على قفل الباب وسحب المزلاج ثم فتح الباب، وإذ بديفيد يسقط أمامه، وقد لطخ وجهه بالدماء. هرعت الأم وأطلقت صيحة ملأت البيت، حمل ديفيد بحضنه وسحبه إلى الداخل. - من الذي فعل بك هذا؟ من؟!
رد عليه وهو يئن ألما، وكأن خروج الكلمات من فمه كانتزاع الشوك من الجرح: النازية قادمون.
ولم تمر إلا دقائق معدودة حتى بدأت الأصوات تتعالى في الحي، وتناهت إلى مسامعهم أصوات تحطم الزجاج وكسر لأبواب الدكاكين وصيحات وهتافات عنصرية ضد اليهود، كانت الأم قد نسيت كل مخاوف التهديدات المرعبة القادمة من الخارج وهي تبكي وتمسح الدماء من جراح ديفيد وتتمتم بالدعاء عليهم حتى جفلت بصوت تحطم زجاج النافذة، وبدأت الحجارة تنهمر كحبات البرد من خلالها، كانوا ينادون «أيها اليهود القذرون، اخرجوا إن كنتم رجالا، هيا اخرجوا لا تختبئوا مثل الأرانب»، «لا مكان لهؤلاء الخنازير بيننا بعد اليوم».
كانت سارة ترتعد خوفا وهي تحضن أمها من الخلف، لم يكن بمقدورهم فعل شيء سوى الترقب وانتظار ما سيحدث، هل سيدخلون البيوت؟ أم الأمر مقتصر على الشوارع والأزقة، وكل عاثر حظ يصادفهم خارج بيته من اليهود يقع فريسة الوحشية المفرطة تحت أيديهم كما حصل لديفيد؛ إذ إن النازية بعد وصولها إلى الحكم شرعت إلى تمييز اليهود، وذلك بوضع حرف
J
باللون الأحمر دلالة على كلمة
Jude
يهودي باللغة الألمانية على البطاقة الشخصية لكل فرد منهم، حتى المحال التجارية والبيوت والأملاك العائدة لليهود تم رسم النجمة السداسية عليها باللون الأصفر.
استمرت عمليات الشغب الجماعية من ليلة التاسع من نوفمبر 1938 إلى العاشر منه، وتم فيهما قتل أكثر من تسعين يهوديا وحرق عشرات المحال التجارية وسرقة محتواها، وكذلك حرق المعابد في كل أرجاء ألمانيا، وتم تبرير هذه الأعمال لقيام أحد الشبان اليهود الذي يدعى «هرشل غرينشبان» بإطلاق النار على السكرتير الثالث في سفارة ألمانيا بباريس «السير أرنست فون رات»، الذي مات على إثر تلك الحادثة تعصبا منه لطرد عائلته من ألمانيا إلى بلدة زبونشين الحدودية ورفض بولندا استقبالهم، ليجد المنفيون أنفسهم بلا مأوى في العراء. •••
خرج مايكل ليتفقد خسائر متجره لبيع الأقمشة في السوق القريب للحارة التي يقطنها، كانت كل التخيلات المتوقعة لحال المتجر التي خطرت له في الأيام الماضية وهم يخشون الظهور إلى الشوارع العامة، لم تكن بكل تلك البشاعة التي رآها. كان يقول في نفسه وهو يراقب المارة من النافذة المطلة على الرواق: «لربما كسروا الأبواب فقط أو سرقوا نصف الأقمشة أو حتى كلها.»
وقف قبالة متجره الصغير وقد تحول كل شيء فيه إلى رماد، سواد في سواد؛ الجدران والباب الخشبي الذي لم يبق منه سوى الإطار الحديدي، ضرب كفا بكف وهو يتمتم متحسرا: كسرت أيديكم، هدمت دوركم! ثم انتبه إلى السقف، فرأى فيه شقا طوليا من شدة اللهب جراء احتراق الأقمشة والرفوف الخشبية.
كانت إعادة ترميم المتجر تحتاج إلى مبلغ كبير عوضا عن البضاعة الجديدة إذا ما أراد العودة للسوق مرة أخرى، لكن اليأس تملكه؛ فمن يدري لربما تعاد الكرة، ويتم حرق المتجر من جديد، وفي خضم هذه الأفكار المتشابكة في ذهنه سمع صوت جاره آيخمان: لا تحزن، نستطيع إعادته مثل السابق، أنا معك بكل ما تحتاج إليه. - شكرا لك، لا أظنني أفكر في فتح تجارة بهذه المدينة مرة أخرى، نحن بتنا لا نضمن حياتنا هنا، فكيف نضمن تجارتنا؟! - الذي حصل لكم في تلك الليلة لم يكن يمثل توجه أهل المدينة كلها، أرجوك لا تظن أن الذي حصل يؤيده الجميع، بل هؤلاء ثلة ممن أعمى بصيرتهم التعصب العرقي. - وما فائدة ظني بكم؟ هل سيعيد خسارتي الظن السوء أو الظن الحسن بكم؟ - لم أقصد هذا .. لكنك تعلم جيدا أن الكثير من اليهود يعيشون هنا في ألمانيا ولم نفرق يوما بينكم وبين أي ألماني آخر. وجرت بيننا مصاهرات كثيرة، وتجد الكثير من الألمان من أب يهودي أو أم يهودية، لكن هذه الفكرة العرقية، وفصلكم أنتم والغجر وغيركم من البشر، وجعل المواطنة على أساس العرق؛ أمرا طارئا وشاذا لا يمكن أن يستمر. - لو لم تكن شيوعيا ...
وضع كفه على فم مايكل، وهمس في أذنه: إن سمعك أحد أفراد الجستابو فسيخفونني من الأرض.
فقال هامسا: لو لم تكن شيوعيا ومعارضا للحكم النازي لما انتقصت من فكرهم هكذا. - مايكل اهدأ! لا تدع غضبك يعميك ويشكل عليك عدوك من صديقك، أنسيت كم قتلوا منا قبل أربع سنوات في ليلة «السكاكين الطويلة»؟ - لم أنس .. لكن كيف لي أن أهدأ؛ ففي تلك الليلة عاد ديفيد ملطخا وجهه بالدماء وقد شج رأسه وتكسرت أضلاعه، واليوم أرى تجارتي أصبحت رمادا، وتريد مني أن أهدأ وأميز من حولي! - أحقا ما تقول؟ وكيف هو الآن؟ - تحسن قليلا .. لكنه طريح الفراش. - كسرت أيديهم. •••
في طريقه نحو البيت وهو يمشي الهوينا من زقاق إلى آخر لاحظ المتاجر المحترقة لليهود هنا وهناك، كل متجر مرسوم على حائطه النجمة السداسية قد تم إحراقه.
حاول أن يقارن خسارته بخسارة غيره ليخفف الوطء على نفسه، ثم شعر أن الخطأ الكبير الذي فعله اليهود هو خروجهم من عزلتهم واندماجهم في المجتمع، لطالما كنا أقوياء في عزلتنا نقاوم كل خطر فكريا كان أم جسديا يحدق بنا.
يبدو أننا لم نستطع تغيير النظرة السيئة تجاهنا من قبل المجتمعات بعد انصهارنا فيها، حتى وصل الحال لبعض اليهود أن قاموا بتغيير دينهم إلى المسيحية والاستغناء عن الزي اليهودي المعهود، وبالرغم من ذلك النظام النازي عاد إلى الوراء وفتح سجلات قديمة لنفوس الآباء والأجداد، وأن كل مسيحي ألماني حتى لو كان قسا ويحمل عرقا يهوديا يعتبر من اليهود ويلاقي ما يلاقيه اليهود الأصليون.
توقف هنيهة، أخرج سيجارة من جيب معطفه الأيمن أشعلها بعود ثقاب، وحرك يده ليطفئ العود قبل أن يرميه، ثم وضع السيجارة على الطرف الأيسر من فمه وعاد في تفكيره من جديد.
كل الأمم لديها ماض أسود معنا، التاريخ حافل بعشرات المرات من الطرد والتشريد لأجدادنا من كل بقاع الأرض من الأسر البابلي، إلى محاكم التفتيش في إسبانيا، إلى المجازر في روسيا، ويبدو أن النازية ماضون في طريق أولئك في ظلمهم لنا. •••
في البيت كانت سارة قد عادت من المدرسة مبكرا، وهي تبكي بحضن أمها. - ما بها، لماذا تبكي؟ -لقد طردوا أطفال اليهود من المدارس.
لم يعلق شيئا .. توجه إلى غرفة ديفيد ليطمئن عليه، فتح باب غرفته بلطف، فرآه نائما واللفائف البيضاء قد حولت جسده إلى مومياء لا ترى منه سوى عينيه، وقد علق الطبيب أثقالا من قدمه اليسرى .. عاد إلى الصالة، جلس على الأريكة منهكا من التفكير وكأنه يحمل هم الدنيا أجمعها.
ديفيد طريح الفراش.
سارة طردت من المدرسة.
المتجر احترق، وأصبح رمادا .. وضع يديه على رأسه وهو يقول: أي المصائب تتكالب على رأسي يا ألله!
لم يشعر بالحاجة إلى أبيه منذ وفاته قبل سنتين كما في تلك اللحظة، لم يتخيل يوما أن مسئولية البيت بهذه الصعوبة، مع كل الذي حصل لا بد أن يبقى واقفا يبتسم في وجوههم حتى لا يشعروا بالضعف وهو مهدم من الداخل، محطم الأركان.
استلقى فوق الأريكة على جنبه الأيسر، واضعا كفه تحت خده، فكان جهاز الراديو أمام عينيه مباشرة وكأنه يناديه.
شعر أن هذا المزاج السيئ لا يغيره إلا الموسيقى التي تبثها بعض المحطات. أدار الراديو وبدأ صوت التشويش والالتقاط من محطة إلى أخرى. لم يكن يبحث إلا عن الموسيقى، لكن عندما سمع صوت المذيع في إحدى المحطات وهو يقول: «لماذا يجب علينا كره اليهود وطردهم من بلادنا؟» أوقفته الجملة، وكأنه سأل ما يريد معرفة إجابته.
رفع الصوت، وبدأ المذيع يسرد الأسباب بذكر مقولة لريتشارد فاجنر: «إن اليهودي هو الشيطان المسئول عن فساد البشرية»، هل رأيتم اليهود يقومون بعمل نافع يوما؟ أو أنهم تجمعوا للقيام بعمل تطوعي؟ لا، أبدا، فالحكومة العسكرية هي من تسوقهم إلى ذلك، يبدو أنهم غير معتادين على العمل أو يكرهونه، بينما نجد الألماني ذا العرق النقي يعمل بجد في مصانع الإنتاج ويبذل طاقة كبيرة لأجل ألمانيا، أما هم فلا يظهر معدنهم الحقيقي إلا في التجارة التي لا تحتاج إلى جهد بدني بقدر ما تحتاج إلى المكر والخداع الذي يبرعون فيه؛ فديانتهم تنص على أن الربا والغش واجب كما جاء في أسفار موسى الخمسة: «لا تقرض أخاك بربا فضة، أو ربا طعام، أو ربا شيء ما مما يقرض بربا. للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا، لكي يباركك الرب، إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها.»
فهم يرون أن كل غير يهودي هو أجنبي، ويتعاملون معه بالربا الذي بارك به الرب علينا وحرمه فيما بينهم! ولأجل ذلك يقدسون التجارة التي تدر عليهم فوائدها الأرباح الهائلة من المال جراء استغلالهم حاجة الناس.
بينما يقضي الآري أياما وأسابيع وحتى أشهرا من العمل الشاق ليصنع آلة أو ليبني منزلا أو يزرع أرضا أو أي شيء له قيمة لدى الإنسان؛ ليحصل مقابل ذلك على المال بكده وتعبه، في حين يحصد اليهودي أضعاف ذلك المال بالربا والغش على من يوفرون له كل متطلبات الحياة .. نعم يا سادة!
إنهم كائنات طفيلية تعيش على ما يصنعه الآخرون، ويمكننا وصفهم بجماعة وضيعة موقعها عند حافة المجتمعات وفي الشقوق، إنهم كالإسفنجة التي يستخدمها الحاكم لامتصاص فائض القيمة من المجتمع ثم يعتصرها لحسابه، ورغم أن الإسفنجة مختلفة عن الكائن الطفيلي - إذ إن الكائن الطفيلي يمتص رزق الآخرين لحسابه، على حين أن الإسفنجة تمتصها لحساب الآخر - فإن الجماهير التي جرى امتصاص رزقها لم تر سوى الجزء الأول من عملية الامتصاص؛ فالإسفنجة والكائن الطفيلي يشتركان في أنهما دون أهمية بالنسبة للجسم الذي يعيشان عليه، بل إنهما يشكلان خطورة شديدة عليه ويهددان حياته؛ إذ يقول عالم البيولوجيا إروين باور: «إن كل مرب للماشية يعلم أنه إذا ذبح أفضل ما عنده من الحيوانات دون أن يتركها تتكاثر واستمر في تربية الأنواع الرديئة فإنه خاسر لا محال .. هذا الخطأ لا يرتكبه أي فلاح مع حيواناته وزراعته، نسمح به نحن فيما بيننا إلى حد كبير .. ولكي نستعيد إنسانيتنا اليوم لا بد أن ندرك أن الأنواع الرديئة من البشر ليس لها أن تتكاثر.»
كبس زر إطفاء الراديو وهو مذهول بما سمع، كانت أغلب الصحف تنشر مقالات كراهية من النوع المبتذل المليء بالسخافات والتهم المضحكة، لكن هنا على الراديو الدعاية النازية مختلفة تماما على الرغم من أنه يهودي؛ فقد اقتنع ببعض ما جاء في كلام المذيع، فكيف بالألمان أنفسهم؟
كانت قوة التأثير الذي تروجه الماكينة الدعائية في نشرها للأفكار النازية من خلال آلاف أجهزة الراديو التي تم توزيعها على المواطنين مما أدى إلى سرعة انتشار هذه الأفكار وترسيخها في عقول وأذهان الجيل الجديد على وجه الخصوص.
الفصل الرابع
قرية أنجرلك - تركيا 1895م
كانت الأدخنة الرمادية الباهتة تعرج إلى السماء من المداخن التي تعلو البيوت الحجرية، والديكة تتنافس في صياحها وهي تعتلي السور الخشبي الذي يحيط ببعض منازل القرية، والنساء في الحظائر يحلبن الشياه ويضعن الحليب في أوعية خاصة، والرعاة يتجهزون لسوق القطعان إلى المرعى، وفي أقصى القرية أربع عربات خشبية تجرها البغال تتجهز للرحيل إلى مدينة وان لبيع محاصيل مزارعي القرية من الخضار والفواكه والحليب.
مع بزوغ الشمس خلف التلة البعيدة انسلت أشعتها من خلال فتحات النافذة إلى فناء الغرفة. شعر أرتين وكأن لمسات يد دافئة توقظه من نومه في ذلك النهار الربيعي البارد، فارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة قبل أن يفك جفون عينيه، وتملكه شعور قوي بالبقاء هكذا دون أية حركة، مستمتعا بالدفئين .. دفء الشمس، ودفء السرير، لكنه فجأة بادر إلى سمعه صيحات نساء وبكاء أطفال أعقبتها إطلاقات نارية. هرع نحو بارودته المعلقة على جدار مضافة أبيه مختار القرية «تلمكيان» حملها ثم اعتلى سطح البيت من السلم الخشبي على عجل .. ألقى نظرة من إحدى الزوايا، فإذا هم عصابات الحيدرانلي التي لا تفتأ تهاجم القرية وتنهبها وتقتل من يعترضها منذ انتهاء الحرب بين روسيا والدولة العثمانية التي أدت هزيمة العثمانيين فيها إلى ضعف سلطة الحكومة على تلك المناطق، وانتشار العصابات وقطاع الطرق فيها.
صوب أرتين فوهة بارودته نحو أحد الخيالة المهاجمين وأطلق النار عليه فأصابه على كتفه اليمنى وأوقعه أرضا، وما إن اكتشفوا مكان أرتين حتى انهالت الإطلاقات النارية صوبه، استند إلى جدار السطح؛ ليتلافى الطلقات التي كانت ترتطم بالجدار وتتطاير من فوق رأسه، اقتربت الخيالة من منزل أرتين ليثأروا لصاحبهم، لكن طلقات بارودة غريغور المباغتة من الخلف جعلتهم يفرون هاربين خارج القرية.
تجمع رجال القرية في مضافة المختار تلمكيان؛ للحديث عن مواقفهم في الدفاع عن القرية ضد المهاجمين، كان أرتين حينها من أشد المتحمسين للانضمام إلى حزب الطاشناق الذين كانوا يوفرون الأسلحة لمؤيديهم من الأرمن، لكنه في كل مرة لا يستطيع طرح فكرة انضمام شبان القرية إلى الحزب خشية أبيه الذي كان يعارض ما يقوم به الثوار ضد الحكومة، لكنه لم يتمالك نفسه هذه المرة، فخرج ما كان يكتمه لسنوات ككتلة متدحرجة من قمة جبل. - أبي إلى متى سنبقى هكذا نخسر رجالنا ومواشينا أمام هذه العصابات، إلى متى؟
التفت الحاضرون إليه وهم في نظرة ذهول؛ لأنه تكلم مع المختار بصوت مرتفع! نظر تلمكيان إليه، وقال بحزم: إن الثوار طموحهم أكبر من حجمهم؛ فالعداء الذي سينتج من هذا الحزب وهذه الثورة أخطر علينا من عداء هذه العصابات، أنتم تعلمون أن قادتهم متعاونون مع الروس وهم أعداء حكومتنا، إنك لا تدرك مدى خطورة الوقوف أمام الدولة يا بني. - لكن القرى المنضمة إليهم لا يستطيع مهاجمتهم أحد. - مهما يكن حالهم فلن أقبل أن تنضموا إليهم، سأذهب غدا إلى والي مدينة وان «بحري باشا»، وأطلب منه زيادة عدد الدرك في القرية. - وماذا سيفعلون؟! ها هم اليوم قد اختبئوا في المخفر كالفئران في جحورها، ولم يطلقوا رصاصة واحدة حتى في الهواء خوفا من عصابات الحيدرانلي! - سأنقل للوالي ما حدث اليوم وأطلب منه تغييرهم، لكن فكرة الانضمام إلى الحزب لن تتم وأنا حي.
سكت الجميع، ولم يعلق أحد على كلامهما، ثم تفرقوا إلى بيوتهم .. لحق أرتين بصديقيه غريغور وبانوس اللذين يؤيدان الثوار الأرمن وأخبرهما أن هناك أمرا ضروريا يجب التحدث فيه. •••
تحت ظل شجرة الجوز الكبيرة الموجودة على سفح الجبل شمال القرية، سأله غريغور: تحدث! ما الأمر الضروري الذي تود إخبارنا به؟ - لقد نفد صبري من حالنا البائس هذا، إلى متى نبقى ضعفاء هكذا ننتظر الموت كالخراف عند باب المجزرة؟
في كل مرة يقتلون رجالنا وينهبون أموالنا ومواشينا، ويفسدون زرعنا، ونحن لا نفعل شيئا سوى الدفاع عن أنفسنا بثلاث بواريد قديمة وصدئة، كفانا هوانا كفانا! - ما الذي تفكر به يا أرتين أخبرنا، نحن معك في أي شيء تريده. - لا حل أمامنا سوى الانضمام إلى الثوار. - لكن كيف؟ - يجب أن نسافر إلى مدينة «وان» فننضم إلى الثوار هناك.
تساءل بانوس: ولمن نبقي القرية؟! العصابات ما لبثوا يهاجمونها منذ سنوات طويلة. - في القرية رجال كثر، سأعطي بارودتي لأحدهم، وأنت يا غريغور أعط بارودتك إلى أخيك أغوب، نحن الثلاثة لا نؤثر على قوة القرية، «هذا إن كنا نعتبر قوة بالأصل»؛ قالها متهكما. - أنا موافق؛ قال غريغور. - وأنت يا بانوس؟
بدا أنه يفكر بالأمر. كان «غريغور» حماسيا من الدرجة الأولى ويأخذ قراراته بسرعة دون تفكير إذا أعجبته الفكرة، أما بانوس فيفكر في كل خطوة يخطوها، ودائما ينظر إلى عواقب الأمور قبل كل شيء. - قل يا بانوس، ما الذي يدور في خلدك؟ لا تحرج نفسك، بإمكانك رفض الفكرة. - فلننتظر بماذا يعود والدك من عند الوالي، فإن جاء ببعض الدرك وغير هؤلاء الجبناء، عندها سنرحل عن القرية مطمئنين على أهلها. - وإن لم يستجب الوالي للمختار، ماذا سنفعل؟ - إن لم يستجب له، لا أظن أن قرار سفرنا إلى «وان» صحيح، نحن ندافع عن أهلنا هنا وسندافع عن أبناء جلدتنا من الأرمن هناك، ما الفرق في ذلك؟ لا، بل أهل القرية بحاجتنا أكثر من غيرهم. - إذن، ننتظر ما يعود به أبي من عند الوالي، بعدها نقرر السفر من عدمه.
على طول الطريق المتعرج التي تؤدي إلى القرية من جهة الجبل كان أرتين يفكر بالأمر وهو عائد إلى المنزل مع صاحبيه، ماذا لو جيء بالدرك واستطعنا رد هجمات العصابات دون خسائر؟ لم السفر إلى وان بعدها وقد تحققت الغاية ؟ أعلم أن أبي يستطيع إقناع الوالي بما يريد؛ لأن مكانته كبيرة عنده؛ إذ لم يمتنع يوما من دفع الجباية للحكومة، فهو يؤمن أن هذه دولته ويجب عليه الولاء لها وطاعة أوامرها.
لكن هل الغاية هي الدفاع عن قريتنا فقط؟
ماذا عن بقية القرى الأرمنية التي تتعرض للسلب والنهب والقتل، من يدافع عنهم؟
حكومة والدي تدافع عن القرى القريبة من مراكز المدن، وحتى أحيانا لا تستطيع ذلك؛ ففي قرية «كيفاش» التي لا تبعد عن المدينة سوى عدة أميال هاجمتها العصابات المسلحة وقتلوا اثنين من الرعاة وسرقوا المواشي، ثم أغاروا على البيوت ونهبوها، وبعد مرور نصف ساعة من فرارهم وصل الدرك هناك! ولا أستبعد اتفاق بعض الضباط مع العصابات ليتقاسموا المسروقات مقابل عدم التعرض لهم.
الحياة في هذه الأراضي أصبحت كالغابة، القوي يأكل الضعيف، المزارعون وأصحاب المواشي والحرفيون والباعة المتجولون كلهم يدفعون الجبايات الكبيرة للدولة، ولا يلقون بالمقابل الحماية الكافية، فيعطون الإتاوات إضافة إلى ذلك لبعض العشائر التي تمتلك الأسلحة بغية حمايتهم من العصابات، والناس هنا بالكاد يجدون قوت يومهم! كل هذا يحصل بسبب ضعف الدولة هنا؛ لذا يجب علينا أن ننضم للثوار؛ قالها بصوت عال.
فنظرا إليه وحدقات أعينهما ظهرت كاملة، قال غريغور: لا تقلق سننضم إليهم مهما حصل. •••
عاد المختار من عند الوالي محمر الوجه من الفرح، تجمع أهل القرية عند الساحة ليستقبلوه وهو على جواده العربي الأصيل ذي اللون البني الغامق واللامع، الذي اشتراه من حلب في إحدى زياراته التجارية، وبارودته على ظهره، وقد لف شريط الطلقات من كتفه اليسرى إلى خصره اليمنى. وكان أهل القرية يحيونه وهو يشير بيده إليهم مع ابتسامة صغيرة، وخلفه سيمون وبوغوز من شجعان القرية اللذان يرافقانه دوما في زياراته خارج القرية.
عندما وصل المختار تلمكيان وسط الناس رفع يده إلى الأعلى، ثم ضم أصابعه مشيرا للأهالي بالسكوت حتى يبدأ بالكلام .. فقال: لقد تكلمت مع الوالي «بحري باشا» وأخبرته بحال قريتنا التي تتعرض لها العصابات، وأن الدرك الموجودين فيها في آخر مرة قد اختبئوا في المخفر ولم يقوموا بواجبهم بالدفاع عن الأهالي.
فانتفض الوالي ونادى حاجبه فورا، وأبلغه أمامي أن يعاقب الدرك، ويتم نقلهم إلى القرى المتاخمة مع الحدود الروسية، وإبدالهم بدرك أكثر شجاعة، وزيادة العدد إلى الضعف وإرسالهم غدا إلى مركز عملهم الجديد.
ابتهج الأهالي فرحا بما سمعوه، وتعالت الأصوات باسم المختار واسم الوالي: «فليحفظكم الرب .. فليحفظكم الرب.»
أتت الرياح بما تشتهي سفن أفكار أرتين؛ فالشرط الذي وضعه بانوس لرحيلهم قد تحقق، وها قد اطمأنوا على أهل القرية.
ثم فجأة دفعه أحدهم بكتفه حتى أوقعه أرضا وهو يضحك ويرقص: سنرحل .. سنرحل.
استشاط أرتين غضبا. - غريغور المجنون، أيها الثور الهائج كدت أن تكسر ذراعي!
لم يبال غريغور وظل يرقص ويرقص وكأنه في عرس. - أعلم أنك لست فرحا بالرحيل بقدر فرحك بسبب بانوس الذي أصبح لا يملك عذرا لعدم المجيء معنا. - نعم، إنه لا يريد ترك القرية من أجل «باتيل». - يا لك من ماكر! لن أصر عليه بالمجيء معنا، فليبق في القرية، لا أريد أحدا يبقي قلبه وعقله هنا، ويأتي معي بجسده فقط .. الهدف الذي أنوي الوصول إليه يحتاج منا التركيز عليه فقط. - لكن بانوس لا يستطيع تركنا «لقد ابتلاه الرب بصديقين مجنونين، وهو العاقل المسكين».
قالها غريغور وهو مغمض العينين ويحرك يديه كالشعراء عند إلقائهم القصائد .. أثناء ذلك أقبل بانوس، وهو يبتسم. - ما بال المجنون يحرك يديه كالشعراء، هل يظن نفسه «نرسيس شنورهالي»؟! - لا، إنه يدعو الرب لأجلك. -فليدع الرب بأن يخلصه من جنونه. - بانوس، اسمعني جيدا، بعد الأخبار السارة التي أتى بها والدي من عند الوالي، أنا وغريغور قد عزمنا الرحيل، أما أنت فلست مضطرا لذلك، تستطيع البقاء هنا لا أريدك أن تحرج، القرار لك. - دعاني أفكر بالأمر جيدا. - فكر كما تشاء، لديك ثلاثة أيام فقط، بعدها لن تجدنا في القرية. •••
مرت الأيام الثلاثة سريعة، تجهز أرتين للسفر، وكالعادة كان أول تنبيه له من قبل المختار ألا يغرر به هناك وينضم للثوار، وشدد على ذلك، قال أرتين في نفسه: «لا أدري هل كان بالفعل محقا أن خطر الثوار على الأرمن أكبر من خطر العصابات، أم إنه كان خائفا من نقمة الوالي عليه إذا سمع أن ابن المختار «تلمكيان» قد أصبح مع الثوار، أو ما يسميهم الحكومة العثمانية ب «المتمردين»، كان هذا التساؤل يشغل ذهن أرتين دائما.»
حل فجر يوم الرحيل، حضر غريغور وقد ارتدى أجمل ما لديه من الثياب، نظر إليه أرتين مبتسما: يبدو أن بانوس قد قرر عدم المجيء؛ فمنذ ذلك اليوم لم نره. - أنا كنت متأكدا أنه لن يأتي لأنه «جبان». - لا تظلمه يا غريغور.
تحركت العربة مبتعدة عن القرية شيئا فشيئا إلى أن سمعوا أحدهم ينادي: توقفوا.
توقفوا! سآتي معكم. -وقف غريغور على العربة ووضع كفه فوق عينيه عله يعرف من المنادي. - إنه بانوس!
ابتهج أرتين وضرب كفه بكف غريغور من الفرح، ثم صاح: - أيها السائق، توقف قليلا، هنالك من يريد المجيء معنا.
توقفت العربة، فوصل بانوس وهو يلهث، سحبه أرتين من يديه وأجلسه قربه على العربة، ثم مضوا في طريقهم. - أخبرنا ما الذي حدث معك في الأيام الثلاثة التي لم نرك فيها؟ حسبنا أنك لن تأتي معنا وتخجل من قول ذلك. - كنت أفكر في ماذا سأقول لباتيل، أبي أخبرته بالأمر وقلت له إنكما معي فلم يمانع، لكن المشكلة كانت عندها هي، البارحة ليلا بالكاد استطعت إخبارها بالأمر، عندما سمعت بالسفر بدأت تبكي، قلت لها سآتي كل شهر وأراك فيه لا تقلقي، وأجلب لك هدايا جميلة من هناك، لكنها لم تكف عن البكاء.
رفع غريغور رأسه إلى السماء وقال: لماذا أنا لا أشعر بهذا؟! جميل أن تبكي فتاة من أجلك، سأجرب الحب هناك مع فتيات وان الجميلات، نعم سأجعلهن يولولن على فراقي. - أنت؟ إن كن بنات القرية لم يعجبن بك، هل تريد بنات المدينة يبكين من أجلك أيها الفتى الوسيم؟ - دعكم من هذا الهراء، أكمل يا بانوس، كيف أقنعتها بالمجيء معنا. - لم تقتنع إلى أن قلت لها سأذهب هناك للعمل وأجمع ما يكفي من المال لأجل زواجنا، هنا سكتت ومسحت دموعها وقالت: أحقا ما تقول؟ قلت لها أجل؛ فهناك أجور العمال كبيرة، سأجمع المال بوقت قصير وأرجع إليك، اطمئني.
هكذا استطعت إقناعها، كان الوقت متأخرا حينها ولم أستطع إخباركما أني سآتي .. وشكرا للرب الذي جعلني ألحق بكما قبل فوات الأوان.
الفصل الخامس
القدس - فلسطين 1943م
في تلك الأزقة الضيقة والجدران الحجرية العتيقة وتكاتف البيوت مع بعضها البعض بقناطرها المقوسة الجميلة وروائح الياسمين التي تفوح بين حناياها وتتدلى أغصانها الرقيقة من منافذها العلوية، كان حسن يدفع العربة مع أخيه خالد متوجهين إلى الحي الأرمني، يتقدمهما العم أرتين بخطوات وئيدة متكئا على عكازه الخشبي المصنوع من خشب الزان المزخرف بأشكال وألوان مميزة.
وكان خالد يوبخ حسن طوال الطريق؛ لأنه لا ينتبه معه على تعرجات الطريق فيدفع العربة بقوة ويسبب اهتزازها وتحرك الأحجار عليها، فصاح خالد بأعلى صوته: يواش يواش ستنكسر زوايا الأحجار هكذا!
التفت العم أرتين ووبخ خالدا، وقال له: لا تستخدم كلمات تركية أمامي مرة أخرى!
ثم أدار وجهه وأكمل السير، ارتسمت علامات التعجب على وجه خالد وظل صامتا مذهولا، وحسن بالكاد يكتم ضحكته وهو فرح؛ لأن العم أرتين أخذ بحقه من خالد ووبخه .. اقترب من حسن وهمس بأذنه: ما به يكره الأتراك هكذا؟ - لا أعلم، أنا أيضا ذكرت أمامه خان «أوتزبير»، فوبخني مثلك، ولولا كبر سنه وصحبته للحاج صالح لما سكت عنه. - وأنا أيضا لولا البضاعة لما سكت عن توبيخه لي، أخشى أن يردها وأتسبب في خسارة زبون دفع نقدا.
عجوز أخرق .. تمتم خالد وعاد ليدفع العربة.
عند وصولهم إلى بيت العم أرتين أوصاهما بأن ينزلا الأحجار ويضعاها عند باحة المنزل تحت نافذة الغرفة المقابلة للباب الخارجي، وشرع الباب على مصراعيه ثم توجه إلى الداخل، وهو يقول: أكملا عملكما وأغلقا الباب وارحلا.
استشاط خالد غضبا من تصرفه وكلامه معهما بهذه الطريقة غير المهذبة، وقال لحسن: دعنا نكمل العمل بسرعة، بت لا أتحمل فظاظته، أخشى أن أفقد أعصابي وأرميه بحجر على رأسه فأدعه ينسى لغته ويتكلم اللغة التركية فقط.
رد عليه حسن وهو يضحك ويقطع حديثه من شدة الضحك: لا أستبعد أنه سيقص لسانه، وسيفضل أن يكون أخرس على أن يتكلم تلك اللغة.
في باحة الدار انتبه حسن إلى حركة خلف ستارة النافذة التي يضعون تحتها الأحجار، في البداية قال لنفسه: إنه العجوز الأخرق يراقبنا، وخشي أنه استمع إلى حديثهما عنه، لكن عندما اقترب من النافذة وهو يحمل بحضنه الحجر ظهرت أمامه فتاة لم ير مثل جمالها قط، ابتسمت بوجهه برهة ثم اختفت. بقي حسن واقفا كالصنم غير مصدق ما رأى أمامه حتى إنه لم يعد يشعر بثقل الحجر الذي كان يحمله. كانت الفتاة تراقبهما من خلف الستارة كلما اقترب حسن من النافذة أظهرت وجهها وابتسمت له، وكأنها تلعب معه كما يفعل الأطفال، لكن حسن كان قلبه يتراقص لرؤيتها. وظل يتساءل طوال فترة نقل الأحجار من العربة إلى الباحة كيف تمكنت منه بهذه السرعة! وما هذا الخفقان الغريب الذي يشعر به؟ نظر إليه خالد بريبة وكأنه قرأ بوجه حسن ما كتم عنه. - حسن، لا ترفع بصرك إلى النافذة كثيرا، هذه ليست من أخلاقنا، والله لئن سمع بك أبي ليكون عقابك وخيما، نحن ندخل بيوت الناس هنا، ولكل بيت حرمته، فلا يجب أن تنتهكه وإلا هتك الله حرمة بيتنا أيضا.
هز حسن رأسه مؤيدا، وطأطأ رأسه وهو يقول بشيء من التوسل: وتخبره؟ - سأفعل إن عدتها مرة أخرى.
عند عودتهما إلى خان تنكز بقي حسن صامتا طول الطريق وهو يجر العربة ويفكر فيما رأى، صورة طبعت في ذهنه وشعور غريب بدا يسري في جوفه لم يخفق قلبه هكذا لأية فتاة من قبل، وبدأ يحاول فك أحجية ذلك الوجه الملائكي الصغير والابتسامة الخجولة التي ارتسمت على وجهها حينما كانت تنظر إليه.
لم يكن لديه من يحمل عنه ثقل ما شعر به سوى هشام، فاستأذن من أبيه ثم توجه إلى باب المغاربة إلى تحت ظل الشجرة المعمرة؛ فهناك بالتأكيد سيجد هشاما؛ إذ إنه يقضي طوال يومه هناك أحيانا، يتأمل القبة التي ملكت قلبه كما ملكت تلك الفتاة قلب حسن وأحيانا يقوم بمساعدة زائري الأقصى من المدن والبلاد البعيدة، ويدلهم على أماكن الوضوء وأماكن قضاء الحاجة وأحيانا أخرى يجمع لجدته حبات الصنوبر الخشبية الصغيرة التي يلتقطها من باب الأسباط المؤدي إلى المصلى القبلي حيث تتواجد أشجار الصنوبر على جانبي الطريق وتتساقط منها الحبات مع هبوب الريح، ولها نكهة خاصة كأنك تتذوق الشمس والهواء والأرض. - أنت هنا؟ خشيت ألا أجدك. - لا، لست هنا! أولا تراني أيها الأبله؟ كيف تسأل أنت هنا؟! - هذا سؤال توكيد أيها الفطن ودلالة على موضوع مهم يقال بعده، ألم تقرأ قوله تعالى
وما تلك بيمينك يا موسى ؟ هل تظن أن الله لم يكن يعلم ما في يمينه حتى يسأله؟! لكنه أراد أن يخبر موسى عن المعجزة التي وضعها في العصا. - وأنت أية معجزة تريد أن تخبرني بها؟ - أما والله إنها معجزة فتاة لم أر مثل جمالها قط، لمحتها عدة مرات ووددت أن يتوقف الزمن عندها، لربما لن تصدقني إن أخبرتك بأن النظرة الأولى فقط كانت كافية بأن تملك فؤادي حتى شعرت بها تسري في عروقي وتسير إلى أطراف أصابعي وتداعبها كما يداعب النسيم أوراق الشجر. - قد أوغلت ورب الكعبة، هيا أخبرني بنت من هي؟ - ليست من حارتنا، إنها من الحي الأرمني. - مسيحية؟ - نعم، ما الضير في ذلك؟! - لا ضير، لكن قصص الحب مثل هذه لا تسير على ما يرام، سترى الرفض حتى في منامك .. نصيحتي أن تجهضها في قلبك قبل أن تولد.
نظر حسن في وجه هشام وظل صامتا وهو يفكر فيما قال عقله، فاستجاب للكلام واقتنع به، أما قلبه فكان كالمرأة التي تبشر بالحمل بعد سنوات طويلة من الانتظار، من يستطيع أن يقنعها بالإجهاض ولا حتى مجرد التفكير به؟! إنها مسألة مستحيلة. - لا أدري ماذا أفعل، ثم إنني لا أعرف هل ستبادلني الشعور أم لا؟ وكيف لي أن أراها مجددا وأتحدث معها، لا أعرف عنها سوى أنها حفيدة ذلك العجوز المزعج أرتين أو قريبته.
لكن دعنا من هذا الكلام، لدي عتب عليك، كيف لك أن تخبئ عني ما يقوم به والدك في الحي؟ - لم أخبئ عنك شيئا، كنت أحسب أنك تعلم ذلك، فكل أهل الحي يتكلمون بالأمر ويجلون ويحترمون أبي، ويقول بعضهم لو كان كل تجار القدس مثل أبي هشام، لما بيع شبر لليهود .. لكن حتى اليهود أنفسهم قد اتخذوها تجارة، بعضهم يشتري من اليهود ويبيع لمن يدفع أكثر حتى وإن لم يكن الشاري يهوديا! هكذا يقول أبي وليس كلهم يهتم بما يشاع بين الناس بحلم دولتهم المزعومة، إنهم عباد المال لا يهمهم غير المال، وأن يعيشوا إلى أرذل العمر، وأي خطر يهدد حياتهم أو مصالحهم التجارية تراهم يهربون كالفئران المذعورة، لكن ما يفعله أبي سأقوم به أنا أيضا، لكن من جانب آخر. - ماذا تقصد ب «من جانب آخر»؟ - سأنضم للمقاومة، هو يدافع عن الأرض بماله، وأنا أدافع عنها بنفسي ودمي.
شعر حسن بالخجل من نفسه ومن تفاهة ما يفكر به، هو يتكلم عن الحب وفتاة أغرم بها، وصديقه يفكر بمستقبل الوطن والأرض ويفدي نفسه من أجلها، وتذكر حال والده الذي لا يهمه شيء سوى توفير قوت يومهم، ووالد هشام الذي يقدم ماله فداء للوطن وللأرض، كانت مقارنة أليمة غرزت في نفسه ألما عميقا، وشعر أنه هو وأهله عديمو الفائدة ولا خير فيهم لوطنهم!
لم يستطع حسن أن يكمل الحديث ويسأله كيف ينضم إليهم، وأين سيتلقى التدريبات، وهل سيترك القدس أم يبقى فيها؟
كان شعوره بالتقصير وتألمه لذلك يحتم عليه عدم الخوض في الموضوع أكثر، فاتكأ على جذع الشجرة وأخرج من جيبه حبة صنوبر اشتمها قليلا قبل أن يمضغها كي يخفف الوطء على نفسه ويعدل مزاجه قليلا.
ومع كل هذا الشعور السيئ الذي اجتاحه، كانت صورة تلك الفتاة لا تفارق مخيلته وكأنها الداء والدواء، حبها تسبب له في ذلك الشعور السيئ بعد كلام هشام، وخيالها من أخمده!
الفصل السادس
معسكر داخاو - ألمانيا 1938م
اقتربت أصوات العربات العسكرية الخاصة لنقل الجنود والمعروفة من صوت عادمها العالي والتي تحجب الرؤية لمن يقبع خلفها؛ لكثرة الدخان الأسود الصادر منها صوب الزقاق، ثم توقفت العربات على طول الزقاق المرصع بالحجر الأسود على شكل مربعات متداخلة، استرق مايكل النظر من خلف ستارة النافذة، وإذ برجال فرق «الإس إس» المعروفين من بزاتهم العسكرية المميزة والمدججين بالأسلحة الرشاشة يدخلون الأبنية على طرفي الزقاق، تسرب الخوف إلى قلبه وبدأ يسري في جوفه فأصبح يرتجف دون إرادة، ثم قال في نفسه مخففا عليه وطء الخوف: لعلها إخبارية على أحد المعارضين أو الشيوعيين.
ثم وضع أذنه على الباب عله يخمن أي شقة يريدون. فاقتربت أصوات أقدامهم كثيرا حتى طرقوا الباب بقوة، انسحب مايكل للوراء ولم يدر ماذا يفعل، لم يكن أمامه خيار آخر. تشجع ومضى بخطوات وئيدة نحو الباب الذي كاد أن ينكسر من شدة الطرق، وما إن فتح الباب حتى ضربه الجندي بكعب بندقيته وأوقعه أرضا، ثم انقض عليه اثنان منهم أبرحاه ضربا دون أي سؤال أو استفسار، ثم فتشوا البيت بعدها فوجدوا ديفيد طريح الفراش، سأله الضابط: ما به هذا الخنزير؟
صرخت الأم وارتمت فوقه تمنعهم منه، لكن الجندي أمسكها من شعرها ورماها جانبا، أطلقت الأم صرخة ثانية من شدة الألم، ثم ارتمت سارة بحضنها وهي ترتعد عند زاوية الصالة قرب الأريكة وهي تنظر إلى مايكل بيأس شديد وعينين دامعتين، حاول مايكل الجلوس مع تألم شديد، مسح الدماء من على شفتيه بكم ردائه، وأجاب الضابط: لقد وقع من الدرج قبل عدة أيام وهو يريد مغادرة المبنى.
نظر إليه بحدة، وتوجه صوب ديفيد ليتأكد من صحة كلامه، أمر رجاله بفتح لفائف الجروح، كان صراخ وآهات ديفيد يملأ غرفته وكأنهم ينتزعون جلده من لحمه، ثم أمرهم أن يتوقفوا، فخرج من البيت وأشار بإصبعه إلى مايكل.
وضعوه في صندوق العربة الخلفي مع بقية المعتقلين دون معرفة الأسباب بعدما قيدوا يديه من الخلف.
نظر بأطراف عينيه إلى وجوه الذين معه من المعتقلين فرآها شاحبة خائفة كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون، ثم مضت العربات إلى وجهتها .. وبعد مرور أقل من ساعة توقفت العربات أنزلوهم واحدا تلو الآخر كالخرفان، وتم رصهم على شكل أربعة صفوف، في كل صف عشرة أشخاص، في مكان يبدو عليه أنه ساحة لمصنع متروك تم تحويله إلى سجن كبير، انتبه مايكل أن هنالك المئات من الأشخاص المعتقلين حوله، فشعر حينها بنوع من الارتياح، فالتعرض للاعتقال وحدك أو مع مجموعة قليلة هذا يعني أن التركيز سيكون عليك كبيرا إن حصل تعذيب أو قسوة في التعامل، لكن بوجود هذا العدد الكبير يوحي إلى أن الأمر عام لا تحديد فيه. •••
كانت السماء ملبدة بالغيوم وتوشك أن تمطر، والريح باردة تصفع الوجوه وتصدر صوت صرير قويا، وكان مايكل يرتجف وتصطك أسنانه، تخلله شعور غريب .. فهل كان يرتجف من البرد أم من الخوف؟ ثم تساءل ما علاقة الخوف بالبرد ليكون تأثيرهما مشابها إلى هذا الحد؟ هل الجسم يخشى فقدان حرارته المعهودة بالبرد فتصيبه الرجفة كما تصيب الروح عندما يشعر بخطر محدق مجهول الأسباب والنتائج؟
أطلق الضابط في وسط الجموع صفارته معلنا بدء أمر لم يدركه مايكل، لكن كان عليه أن يتبع المعتقل الذي أمامه، يفعل ما يفعله بحذافيره؛ فالجندي الذي يحمل سوطا أمام الطابور هو من يسوقهم، بعدها أدخلوهم إلى ثكنة يبدو أنها كانت مخزنا ضخما، يجلس بالقرب من بابها الخارجي على جهة اليسار جندي بكامل قيافته النازية وأمامه طاولة خشبية وسجل أسماء، وجندي آخر يقف قربه وهو يحمل شيئا داخل كيس ورقي، ثم بدأ الجندي ذو الوجه الشديد الحمرة والعيون الزرقاء الباهتة المخيفة بقراءة الأسماء من السجل، وكل شخص يسمع اسمه يأخذ كيسا ويدخل إلى غرفة فارغة داخل الثكنة، عندما نادى اسم مايكل توجه بحذر وخوف شديدين .. أخذ الكيس من الجندي ودخل الغرفة، فتح الكيس وإذا هي ملابس مخططة، فتلمس سمك القماش كونه تاجر أقمشة واللمس أصبح من عاداته اللاإرادية في معرفة نوع القماش وجودته، فكان من القطن المصنوع الرديء النوعية، وأثناء ارتدائه القميص المخطط رأى شارة صفراء مثلثة مع رقم 1216 مطرزا فيه، التفت حوله فرأى شارة بنفسجية وأخرى سوداء وخضراء على قمصان المعتقلين، لفت انتباهه هذه الشارات الغريبة، وتساءل إذا كان الأمر تصنيفا، فمنذ متى تم ذلك ونحن لم يمض على اعتقالنا سوى سويعات قليلة؟
بعدها تم حلاقة شعره ولحيته بالكامل، ثم عادوا أدراجهم بنفس الطريقة إلى الساحة، ثم إلى الثكنات المرصوصة خلف بعضها البعض والموزعة بشكل منتظم على مساحة المعتقل الذي تحيطه أسلاك شائكة مكهربة وستة أبراج مراقبة يتناوب الحراسة فيها جنديان طيلة اليوم، كانت الثكنات من الداخل عبارة عن مضاجع خشبية من ثلاثة رفوف متوزعة على طول الجدار وكأنها توابيت ليست أسرة، الأفرش والأغطية مهترئة ومتسخة.
شعر مايكل بضيق شديد عند رؤيته المكان والرائحة النتنة التي تفوح منها، مما جعله يسعل عدة مرات .. عند فتح الباب لأي سبب كان يجب على الجميع الوقوف في حالة الاستعداد أثناء دخولهم إليها الواحد تلو الآخر، كانت نظرات المعتقلين السابقين مليئة بالريبة والخوف، كانت نظرات بعضهم تحمل في جوفها الانزعاج بسبب تضييق المكان عليهم، لكنهم ليسوا أهل الدار حتى يمانعوا، وبما أنهم ليسوا كذلك فلا ملامة أنهم لم يستقبلوا النزلاء الجدد؛ فيبدو من وجوههم الشاحبة وأجسادهم المتهالكة أنهم منهارون منهكون لا يقوون على الجدال والسؤال.
بعد حلول الظلام وقبل أن يرقدوا إلى النوم آثر مايكل التقرب من أحد المعتقلين وسؤاله: مرحبا أنا مايكل.
مد يده إليه مبتسما، ونظر في وجه مايكل الذي لم ير بعد التعب والمشقة من أعمال السخرة في المعسكر، ثم صافحه مع ابتسامة شاحبة، وقال: أنا بيتر، أو بالأحرى 711. - وما الفرق بين الاسم والرقم؟ - هنا لا أهمية للأسماء، لا أحد يناديك به، سيتم تجريدك منه مع مرور الزمن دون أن تشعر؛ فوجبة الطعام على الرقم هذا، عملك اليومي عليه، تسجيل الحضور في الطابور الصباحي عليه، عقوبتك عليه، وكذلك إذا حصلت على كابونات إضافية فعليه أيضا، كل شيء متعلق فيه، دعك من هذا الهراء وأخبرني لماذا أتوا بكم هنا؟ - لا أعلم السبب بالضبط، لكن يبدو أن الكراهية التي كانت تبث على الراديوهات وتكتب في الجرائد ضد اليهود قد انتقلت إلى مرحلة التنفيذ. - يهودي، نعم شارتك الصفراء تؤكد ذلك. - حقا ما تقول؟ الشارة الصفراء ترمز لليهود؟! - نعم، هي كذلك، وأنا من شهود يهوا، وهذه الشارة ترمز إلينا عندهم. - إذن هذه الألوان تعني فصل المعتقلين عن بعضهم، كنت أحسبها تدل على سنين مكوث المعتقل وأنه يتدرج بالألوان فيها. - لا، ليست كذلك. - لكن لماذا هذه الألوان؟ ألم يسجل لديهم أنك من شهود يهوا وأنا من اليهود؟! هل هناك اختلاف بالتعامل مثلا؟ - لا يوجد اختلاف كبير في التعامل، لكن قسوتهم على المعارضين الألمان من الشيوعيين شديدة؛ إذ يرونهم الخطر الأكبر على الرايخ، أما البقية نحن وأنتم اليهود والغجر والمثليون جنسيا فالقسوة متشابهة إلى حد كبير.
تذكر مايكل حينها كلام المذيع في محطة الراديو المحرضة على كراهية اليهود، كان يظن أن النازية همها الوحيد هو التخلص من اليهود بأي وسيلة كانت، لكن اليوم رأى أن القضية أكبر من كونها يهودا فقط؛ فهنالك الكثير من الألمان أصحاب العرق النقي وطوائف متعددة غيرهم! - لكن لماذا تعتقلكم النازية؟ - إنها مسألة دينية مكسوة بالسياسة. - لم أفهم. - هنالك من يروننا خطرا على المسيحية في البلاد، وهذا الاختلاف الديني ليس مبررا للاعتقال؛ لذلك كسوها بالسياسة، وأن هذا التوجه خطر على مستقبل الرايخ الثالث، وهذا سبب ومبرر كبير للاعتقال هنا كما تعلم.
أومأ مايكل برأسه مؤيدا وعلى وجهه علامات الاستغراب. - المعذرة، أنا قد ولدت وعشت طفولتي وشبابي في ألمانيا، ولم أسمع بشهود يهوا يوما، هل هي طائفة باطنية أم إنها جديدة؟ - لا لسنا باطنيين، لكننا فئة من المكرسين أنفسهم لفعل إرادة الله بقيادة ابنه يسوع المسيح، نجمع رابطة الشهادة بأن الإله وحده «يهوا» هو المتسلط الأوحد والعلي المفرد في الكون، وأنه هو المبدع والخالق لحكومة البر والحق؛ الحكومة السماوية التي تسيطر على الأرض إلى الأبد، الحكومة التي علم يسوع المسيح تلاميذه أن يطلبوا مجيئها من عند الإله القدير. - إذن أنت مسيحي تؤمن بيسوع؟ - نعم نحن مسيحيون نؤمن أن يسوع هو السبيل إلى الخلاص؛ إذ «ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس، به ينبغي أن نخلص»، إلا أننا نختلف في عدة نواح عن باقي الفئات المسيحية .. مثلا نحن نؤمن بناء على الكتاب المقدس أن يسوع هو ابن الله، وليس أقنوما فيما يدعى الثالوث. ولا نؤمن بأن النفس خالدة أو أن الروح تبقى حية بعد الموت، وما من أساس في الأسفار المقدسة يجعلنا نعتقد أن الله يعذب الناس في جهنم إلى الأبد. - إذن يبدو أن هنالك دوافع من الطوائف المسيحية الأخرى ضدكم، وقد يكونون وراء هذا الحقد النازي عليكم. - الآن بدأت تفهم ما قلت لك، مسألة دينية مكسوة بالسياسة، طبعا هنالك بعض الكتابات الأرثوذكسية والكاثوليكية اتهمتنا أننا حركة مارقة عن المسيحية نتظاهر بالمسيحية والتمسك بالتقوى ونخفي السم الزعاف الذي يهدف إلى تدمير المسيحية كليا والقضاء عليها.
أثناء حديثهما أقبل معتقل آخر وضرب بكتف بيتر، وقال مازحا: أيها المبشر المعتوه، كفاك تفسد عقول السجناء، ألا يكفيهم هذا الجحيم؟ - إن كان يكفيك فربما لا يكفيهم، تعال واجلس معنا لأعرفك على النزيل الجديد. - أجلس معكم شريطة ألا تحدثنا عن يهوا، لقد صدعت رءوسنا من كثرة ذكرك إياه، وما أنت هنا إلا بسببه. - جحيم بسببه ولا جنة بغيره .. هذا مايكل يهودي من ميونخ.
مد يده إلى مايكل: أنا روبرت، أو بالأحرى 923.
ابتسم مايكل بوجهه: نفس إجابة بيتر. هل يعلمونكم هذه الإجابة هنا؟
تعالت ضحكاتهم، التفت إليهم بقية المعتقلين بوجوه ممتقعة، هذا وقت استراحتهم بعد يوم طويل وشاق من العمل .. جلس روبرت بقرب مايكل، فقال له بيتر: انظر إلى لون القطعة المثلثة على صدره، إنه أخضر. - على أي دين أو طائفة يدل؟ - إنه من الغجر، وهنالك لون آخر يعود أيضا إلى الغجر وهو الأسود. - ماذا يعني ذلك؟
رد روبرت بدلا من بيتر: اللون الأخضر مثلي يدل على الغجر من نوع «المجرمين المحترفين» لدى النازية، أما اللون الأسود فيدل على الغجر من نوع «أعداء المجتمع». - أنت مجرم محترف؟! - ألا يبدو على وجهي ذلك؟!
شعر مايكل أنهما ذوا روح مرحة رغم كل التعب والمشقة والضغط النفسي المسلط عليهما . - أعتقد أن المجرم الحقيقي هو الذي جمعنا هنا دون ذنب اقترفناه، وليس أنت أو أحد من المعتقلين هنا، لكن ماذا عن عرقكم؟ - العرق كذبة نازية، هذه وغيرها من الاتهامات ليست إلا تبريرات لقتل معارضيهم ومن يقفون أمام الرايخ وحلم بناء ألمانيا الكبرى، ألم يتم اعتقالك دون سبب؟ فقط لأنك يهودي؟ - بلى. - هل تعلم أن هنالك الكثير من اليهود في المنظومة النازية وفي مناصب كبيرة قد تم تغيير نسلهم في سجلات الدولة من قبل النازية أنفسهم؟ وحتى هنالك معهم من الغجر وشهود يهوا وغيرهم، لم لا يتم استبعادهم أو معاملتهم مثلنا؟ إن كان هدفهم العرق النقي من عدمه؟ القضية ليست عرقا يا صديقي، إنها أكذوبة يضحكون فيها على عقول الحمقى. - أذكر أنني قبل الاعتقال كنت أستمع إلى إحدى محطاتهم المحرضة على الكراهية ضدنا، وقد ذكر المذيع أشياء غير العرق، منها أن اليهود طفيليون ويعيشون على الآخرين ولا يحبذون العمل إلا في التجارة التي يتعاملون فيها بالربا ويمتصون دماء شعبنا الآري، في الحقيقة أنا قد اقتنعت ببعض كلامه حينها. - فلنفرض أنكم بالفعل كما يصفون كائنات طفيلية، ماذا عنا نحن الغجر نعمل في المصانع وإعمار البيوت ولا نتخلف بأي عمل عنهم، لماذا يتم معاملتنا هكذا؟ لماذا تم إدراجنا تحت قوانين نورمبرغ، وسلب ممتلكاتنا وحقوق المواطنة منا؟
نظر إليه مايكل باستغراب شديد وحرك رأسه: لا أعلم .. أمرهم محير فعلا. - لا يا صديقي ليس محيرا؛ فقد حصدوا الكثير من الأموال جراء طردهم لنا، ممتلكاتنا وتجاراتنا ومتاجرنا وبيوتنا كلها صودرت، أنتم اليهود أصحاب البنوك والتجارة، كلها تم وضع أيديهم عليها، حتى وإن كان بعض الألمان رافضين هذا التعامل القاسي تجاهنا إلا أن الأمور تجري لصالحهم ماديا، وهذا أهم شيء في الحياة، وليذهب الضمير إلى الجحيم.
استمر الحديث تلك الليلة وكل منهم يتكلم عما تقاسيه طائفته من ظلم واضطهاد شديدين، وأثناء كلامهما كان مايكل يتأمل وجوه المضطجعين حوله ويقول في نفسه: يا لغرابتنا نحن البشر ألا تسعنا هذه الأرض كلنا؟ أليست خيراتها تكفي وتزيد عن حاجاتنا؟
ألسنا مخلوقات متشابهة الخلق؟
هل لأحد منا أعضاء زائدة تميزه وترفع من شأنه؟!
لم هذا الإقصاء والاضطهاد والقسوة والقتل والتدمير والسجن والاعتقال، لماذا؟!
كل من هؤلاء لديه أم سهرت الليالي حتى أوصلته إلى هذا العمر، وأب احدودب ظهره وهو يتحمل ظروف الحياة ليوصل ابنه إلى ما وصل إليه، ثم يأتي أحدهم بدم بارد وفي أقل من ثانية يضع في رأسه طلقة بمسدسه لينقض ويهدم كل تلك الأيام والليالي من السهر والتعب؟ أو يضعهم في المعتقلات دون جريرة اقترفوها، لماذا كل هذه الوحشية والجبروت، لماذا؟!
الفصل السابع
مدينة وان - تركيا 1895م
كان سوق مقاطعة غاردن عبارة عن شارع طويل ومزدحم بالناس والباعة المتجولين الذين يتنافسون فيما بينهم برفع أصواتهم ترويجا لتجارتهم .. أما الدكاكين فكانت متوزعة على طرفي الطريق «العطارين والصفارين والبزازين والنجارين»، وكل ما يحتاجه الناس هنا متوافر وبكثرة، بسبب موقع المدينة التي تعتبر مركزا تجاريا لقوافل التجار التي تمر من خلالها في طريقها إلى بغداد والتي تبدأ من مدينة «باتوم» مرورا ب «يريفان» في أرمينيا الشرقية إلى «وان»، ومنها إلى جولميريك مرورا من الموصل وصولا إلى بغداد، وكذلك القوافل التي تمر منها إلى مدينة تبريز الإيرانية.
استيقظ أرتين على أصوات العربات التي تجرها البغال، انتبه إلى غريغور وبانوس كانا غارقين في نوم عميق، فتح شباك الغرفة الخشبي المطل على السوق، كانت الشمس تولد من خلف التلة شيئا فشيئا وتحيط بها هالة من اللون البرتقالي الممزوج بالأحمر وكأنها توحي إلى مخاض عسير في السماء! كانت العربات المحملة بالفواكه والخضراوات التي تأتي من القرى تدخل تباعا إلى السوق، وأصحاب الدكاكين يضعون بضاعتهم أمام الباب بقليل، والعجائز في المقهى الملاصق للخان يحتسون الشاي ويتبادلون الأحاديث.
في زحام السوق كان البحث عن طرف خيط يوصلهم إلى الثوار كمن يبحث عن إبرة في كومة قش؛ فالثوار يعلقون البيانات الصادرة عن الحزب على الجدران في الليل، يحثون فيها الشبان الأرمن بالانضمام إليهم، ويتوعدون فيها بعض الأرمن المتعاونين مع الحكومة بالقتل، لكن البيان لأرمن المدينة الذين يعرفون بعضهم جيدا، ويستطيعون الوصول إليهم بسهولة، أما الغريب عن المدينة فيصعب عليه ذلك؛ فهم لا يملكون مركزا أمام أنظار الحكومة التي إن اعتقلت أحدهم، فقد ينتهي أمره في أحد سجون الآستانة أو حلب؛ فالوالي «بحري باشا» قد وضع أعينا كثيرة على السوق بعدما تكررت مشاهد الاغتيالات لبعض الضباط والجنود، وحتى بعض الأثرياء الذين يرفضون دفع الإتاوة للثوار. - أرتين يبدو أن بقاءنا هنا سيطول، وأن الانضمام إليهم ليس بالسهولة التي كنا نتوقعها؛ لذا أقترح أن تحاول أنت الوصول إليهم بأي طريقة كانت وتتفرغ لذلك، أما أنا وغريغور فنبحث عن عمل يعيننا على البقاء. - بانوس: محق يا أرتين.
أومأ أرتين برأسه موافقا وربت على كتف بانوس مبتسما، ثم وجه نظره نحو السوق الذي كان يعج بالمارة، تأمل الوجوه، ثم قال بصوت مسموع: يا ترى من من هؤلاء سيوصلنا إليهم؟ - أنت. - أنا؟! لكنني لست منهم؟ - يجب أن تكون لنصل.
تفاجأ أرتين من عمق إجابة بانوس، فالتفت إلى غريغور: ألم أقل لك في القرية إننا سنكون بحاجة إلى أفكاره كثيرا. - وأي فكرة عظيمة هذه؟ كيف ستكون منهم، أخبرني؟
هل ستتزوج من إحدى بناتهم لتكون منهم؟ إنك تبالغ في مدحه يا أرتين. - يا لك من أحمق يا غريغور! أنا قصدت أن يخالطهم، يجلس في المقهى، يحاول الاقتراب من أرمن المدينة، يكسب ودهم وثقتهم فيكشفون له الأسرار التي توصلنا إلى الثوار.
تنحنح غريغور وهو يحك فروة رأسه بأصابعه الأربعة، وشعر أنه أحمق بالفعل، فأراد أن يغير مجرى الحديث. - ألا تشعرون بالجوع؟
ابتسم أرتين بوجه بانوس. - هيا بنا. •••
في أحد الأيام، وبينما أرتين كان جالسا في المقهى قرب الخان، منشغلا في تفكير عميق وقد تخلل اليأس إلى جوفه، وبدأ يفكر بالعودة إلى القرية؛ لأن البقاء في المدينة بات لا يجدي نفعا، وأرمن مدينة وان حذرون جدا مع الغرباء حتى لو كانوا أرمنا مثلهم، ولا يخوضون في أحاديثهم عن الثوار وعملياتهم ضد العثمانيين ولا يتناقشون حول البيانات التي تصدر منهم وتعلق على الجدران في الليل، الخوف يتملك الجميع والكل هنا يبعد الشبهات عن نفسه؛ فالأعين التي وضعها الوالي كثيرة، ومصير من يؤيدهم مجهول، والناس هنا لا يأبهون كثيرا بما ينوي به أرتين ومن أجله ترك أهله وقريته، وفي خضم هذه الأفكار سمع أصوات أشخاص يصيحون: «افتحوا الطريق، إنه موكب الوالي! افتحوا الطريق! هييه، أنت صاحب العربة، تنح جانبا، هيا افتحوا الطريق.»
توجه أرتين صوب مكان تجمع الناس ليلقي نظرة على موكب الوالي كما يفعل الحاضرون؛ فعلى الرغم من ذهابه مع أبيه المختار تلمكيان لزيارة الوالي عدة مرات، لكن لم يكن يسمح له بمقابلته، فكان لديه فضول كبير لرؤية هذا الشخص الذي يبجله ويحترمه المختار كثيرا.
كان الجنود يحيطون بموكب الوالي؛ أربعة جنود من المشاة على طرفي العربة التي تقل الوالي، وفارسان على صهوة جواديهما أمام العربة، واثنان آخران خلفها .. كان الوالي «بحري باشا» ذو اللحية البيضاء والشارب الطويل المعقوف النهايتين جالسا على مقعده في منتصف العربة، وقد لبس رداء أسود مزخرفا بخيوط ذهبية، وعلى رأسه «طربوش» أسود مزخرف أيضا، وقد وضع يده اليمنى على اليسرى متكئا على عكازه.
وأثناء مرور العربة من أمام أرتين كان الوالي يطلق ابتسامات صغيرة للناس ويشير إليهم بيده وهم يهتفون باسمه وباسم السلطان، لكن فجأة سمع صوت طلقة نارية ثم أعقبها صوت آخر، وآخر، فردت حماية الوالي على المهاجمين، وتطايرت الطلقات من كل مكان. أخفض الجميع رءوسهم وهربوا باتجاهات مختلفة، حاول أرتين الهرب نحو الزقاق الذي يوصله إلى الخان من الباب الخلفي، لكنه انتبه إلى سطح أحد الدكاكين فرأى شخصا ملثما بكوفية يحمل مسدسا، أطلق رصاصة ثم اختفى. شعر أرتين أن تلك فرصته الأخيرة للوصول إلى الثوار، لحق به إلى الزقاق الخلفي للدكاكين، فرأى الملثم نفسه يريد ركوب حصانه. أسرع أرتين خطاه وقفز خلفه فوق الحصان: انطلق، أنا معكم في العملية.
فانطلق كالبرق بين الأزقة والأفرع الضيقة التي بدا أنه يعرفها جيدا حتى وصلا خارج المدينة، فسأله أرتين: هل تمت العملية بنجاح؟ - لقد رأيت الوالي يسقط من العربة، أظن أن أحدنا قد أصابه. - لكن ما الفائدة من قتل الوالي؟ - إنها أوامر القيادة ، لا أعرف السبب، علي تنفيذ المهمة فقط.
ثم فجأة أوقف الحصان وقفز إلى الأرض، وأوقع أرتين من على الحصان وانقض عليه. - كيف تقول لي أنا معكم في العملية وأنت لا تعلم أنها أوامر القيادة؟ هيا تكلم، من أنت؟! - فك خناقي .. دعني أوضح لك.
أنا أرمني مؤيد لكم وأريد الانضمام إليكم، تركت قريتنا منذ شهر وأتيت إلى «وان» من أجل ذلك، لكنني لا أعرف أحدا يدلني إليكم، صدقني أرجوك!
حاول أرتين كسب ثقته، فتكلم معه بالأرمنية، وأقسم بالرب أنه صادق فيما يدعي. - حسنا سآخذك إلى القائد لينظر في أمرك، لا وقت لدينا للنقاش، هيا ننطلق.
مضيا كالبرق باتجاه الشرق حتى بلغا مشارف بلدة «أرجاك»، فنزع اللثام عن وجهه وخفف من سرعة الحصان إلى أن وصلا أحد البيوت التي تقع على أطراف البلدة. خرج مجموعة من الشبان أمامه وهم متشوقون لسماع الأخبار المفرحة. - هل نجحت المهمة؟ - رأيت الوالي يسقط من عربته أرضا، لقد أصيب بطلقة نارية، لكنني لست متأكدا من مقتله.
استبشر الجميع بأنه قتل، وبدا على وجوههم الفرح. - وأين البقية الذين كانوا معك، ومن هذا الغريب؟ - لا أدري أين هم، أنتم تعرفون منهجنا في مثل هذه العمليات نهاجم بمفردنا ونهرب بمفردنا، لكن هدف الجميع واحد، أما هذا الأرمني فخذوه إلى غرفة الضيافة وأنا سأخبركم بأمره بعد ذلك، دعوني أقابل القائد.
أخذه اثنان منهم إلى غرفة صغيرة خلف الدار لا تبدو أنها غرفة ضيافة، غرفة مظلمة فيها فانوس صغير معلق خلف الباب والكثير من الحطب المقطع والمكدس فوق بعضه البعض في الزاوية البعيدة، وضعاه فيها وأغلقا الباب عليه، استغرب أرتين من تصرفاتهم الغريبة معه، شعر بالفرح المشوب بالخوف، فرح الوصول إليهم أخيرا والخوف من عدم تصديقهم له.
بعد قرابة نصف ساعة وضع أحدهم أمامه خوانا فيه خبز وحساء العدس وجرة ماء، ثم خرج وأغلق الباب. رفع أرتين الجرة على رأسه حتى ارتوى، ثم أسند ظهره إلى الحائط فأغمض عينيه وصلى للرب بأن يصدقوه.
بعدها فتح الباب فجأة، فإذا برجل طويل القامة ضخم الجثة عريض المنكبين دخل الغرفة وخلفه الملثم الذي هرب أرتين معه من وان، جلسا بالقرب منه، كانت ملامح الرجل قاسية وعيناه ثاقبتين ترى فيهما الشدة والغلظة دون أن ينطق بحرف.
دب الخوف في قلب أرتين وشعر أنه في ورطة حقيقية، ثم بدأ الرجل بالكلام: لقد أخبرني «ديكران» عن الذي حصل بينكما، والآن أخبرني عنك ابن من أنت؟ ومن أي قرية؟ - أنا من قرية «أنجرلك»، وأبي مختارها «تلمكيان». - تلمكيان والدك لديه علاقة طيبة مع الوالي! - أوتعرفه؟ - نحن نعرف الجميع هنا. - أبي يتنازل ويتقرب من الوالي لأجل أبناء قريته، للحفاظ على حياتهم من هجمات عصابات الحيدرانلي، وأنا تركت القرية لأجل الانضمام إليكم، في النهاية كلنا نريد حماية أبناء جلدتنا من الأرمن.
انتصب واقفا وأدار ظهره على أرتين، وخطا بخطوات بطيئة نحو الحائط المقابل، كان يبدو عليه أنه يفكر بشيء ما، وهو يمسح لحيته ويحكها بأصابعه، ظل صامتا على هذا الحال والكل يترقب ما ينجم عن هذا الصمت المخيف، ثم أدار وجهه وقال: حسنا، سأرسلك غدا مع بعض رجالنا إلى «تبريز» لتهريب الأسلحة منها إلى مدينة وان. إن نجحت في إيصال الأسلحة إلى الثوار داخل المدينة فستنضم إلينا، وإن فشلت .. فستعود إلى قريتك، فما رأيك في هذا العرض؟ - موافق لكن لدي صديقان قد بقيا في «وان» ولا يعرفان عني شيئا، هل تسمح لي أن أذهب إليهما وأطمئنهما عني ثم أعود ونذهب إلى تبريز، أخشى أن يخبرا والدي وتعج القرية بالخبر، لا أريدهم أن يقلقوا علي. - لن تذهب إلى «وان»، سنرسل إلى صديقيك من يطمئنهما عنك، فقط أعط عنوانهما إلى «ديكران»، وهو سوف يتولى الأمر، أما أنت فتجهز للسفر غدا.
وضع رأسه على الوسادة وبدأ يرحل بتفكيره بعيدا إلى تبريز ورؤية الأسلحة والمهمة الأولى له في مسيرته النضالية، كان شعورا لا يمكن وصفه بعدما يئس من الوصول إليهم، وكاد أن يعود إلى القرية حاملا ذيول الخيبة .. تأمل سقف الغرفة والابتسامة تعلو جبهته منذ خروجهما وقال في نفسه: ليت المجنون غريغور والمتردد بانوس كانا معي في هذه المهمة لقضينا الطريق في المزاح والضحك ولم نشعر بالتعب. •••
امتطوا الأحصنة وتوجهوا باتجاه الشمس عندما تكون في كبد السماء، مضوا قرابة الساعة على طريق «طرابزون-إيران» الذي يمر من وان أيضا، بعدها حادوا عن الطريق وتوجهوا صوب جبل «أرارات» الذي يفصل بين الدولة العثمانية وإيران (بلاد فارس)؛ الجبل الذي استقرت على قمته سفينة نبي الله نوح، كما جاء في أول سفر من «أسفار العهد القديم».
كانت الطرق متعرجة، والوديان عميقة تغطيها الأشجار، وصوت خرير المياه العذبة يملأ المكان، توقفوا على حافة الوادي. انتبه أرتين إلى قائد المهمة كان يتفحص المكان وكأنه يبحث عن شيء لم يعرفه، ثم جر لجام فرسه مبتعدا، وقال: اتبعاني.
عند أسفل الوادي قرروا أخذ استراحة بسيطة لتناول الغداء تحت ظل أشجار الجوز الكثيفة. كان أرتين مستمتعا في تلك الرحلة وكأنه يعيش في حلم لطالما تمنى أن يتحقق، لكن الغريب في الأمر أن الرجلين اللذين معه كانا قليلي الكلام ولا يتكلمان إلا للضرورة، ولم يسمع منهما غير: «سنسلك هذا الطريق»، «من هنا تستطيع الذهاب شمالا حيث يأخذك إلى مدينة يريفان»، «الطريق وعر على سفح الجبل، كن حذرا عندما نصل هناك».
لم يتكلما إلا عن الطرق، وإلى أين يؤدي كل واحد منها، وخطورة كل طريق .. وبينما هم على غفلة من أسلحتهم حاصرتهم مجموعة من الجنود، صاح القائد: العثمانيون!
وقبل أن يخرج مسدسه من خصره ضربه أحد الجنود بكعب بندقيته على قفاه فسقط مغشيا عليه، حاول أرتين الهرب، فصاح أحد الجنود: توقف وإلا أطلقت النار عليك!
قيدوا أيديهم وفتشوا عن أسلحة بحوزتهم، وربطوا الأحصنة مع بعضها البعض بحبل طويل، ثم حملوا قائد المهمة ووضعوه فوق الحصان مستلقيا على بطنه.
كانت الحادثة أكبر صدمة لأرتين في حياته، بقي مذهولا بالذي حدث، في لحظة واحدة انقلب كل شيء رأسا على عقب! تساءل كيف حصل كل هذا في غفلة منهم؟! وكيف لهم ألا يستطلعوا الطريق قبل إرسالنا في هذه المهمة! همس في أذن صديقه الذي كان يردفه على الحصان: ألم يستطلعوا الطريق قبل خروجنا؟ - لا أعتقد ذلك؛ لأن هذا الطريق من آمن طرقنا إلى تبريز .. سنوات عديدة نمر من هنا ولم نصادف يوما دورية واحدة! - لكن كيف حصل ذلك؟! - لربما بعد عملية البارحة على الوالي قد أتوا بعساكر إضافيين من البلدات الأخرى بغية البحث عن المنفذين.
كفوا عن الكلام! صاح أحد الجنود.
بعدها وصلوا إلى قرية صغيرة على سفح الجبل من الجهة البعيدة عن المكان الذي تم إلقاء القبض عليهم فيه، أدخلوهم أحد البيوت هناك، كان لا يبدو عليه مركزا للجيش العثماني. فكر أرتين في الأمر وقال: لربما لا يريدون كشف مكانهم في هذه القرية النائية؛ فالمهربون والعصابات العشائرية تكثر في مثل هذه المناطق. وضعوهم في غرفة صغيرة وأغلقوا الباب الحديدي عليهم.
كانت الغرفة باردة ومظلمة، فيها نافذة علوية صغيرة ورائحة رطوبة ثقيلة تملأ المكان، كتابات قديمة على الجدران تدل على ذكريات أليمة لمن كان فيها. بعدها فتح الباب فجأة، دخل أحدهم وهو يحمل دلو ماء بارد سكبه على وجه قائد المهمة، فصحا من غيبوبته وهو يشهق، ثم سحبه من يديه إلى الغرفة المجاورة.
كان صدى صراخه تحت التعذيب يرج في قلب أرتين ويدب الرعب فيه. تسلل الخوف إلى كل أرجاء جسده وبدأ يرتجف ويشهق من شدة الارتجاف، انتبه إلى صديقه فرآه ينظر إليه بنظرات تملؤها الثقة، فخجل من نفسه أرتين وأراد أن يستدرك الموقف: البرد قارس هنا.
هز رأسه وأشاح بوجهه عن أرتين الذي كان يحاول بث الشجاعة في نفسه: «مهما يكن فلن أعترف بشيء، إن اعترفت بمكانهم فسوف يخسر الأرمن من يدافعون عنهم، وأحمل عار هذه الخسارة طوال حياتي.»
وفي خضم التحضير الذهني للتعذيب دفع الباب مرة أخرى ورمي القائد إلى الغرفة وانقض على أرتين اثنان منهم وأخذوه إلى غرفة التعذيب حتى إنه لم يستطع الاطمئنان على القائد. نزعوا قميصه ثم قيدوا قدميه ويديه بسلاسل حديدية مثبتة على الحائط، حتى شل عن الحركة، وقبل أن يسألوه شيئا بدأ حامل السوط بالضرب على بطنه وصدره، كلما زاد الجلاد قوته في كل ضربة ارتفع صراخ أرتين أكثر فأكثر وكأن الصراخ هو المنفذ الوحيد للألم. تدلى رأسه للأسفل من شدة التعذيب، فانتبه إلى آثار السياط على جسده الأبيض؛ خطوط مستقيمة حمراء داكنة كأنها أعواد خيزران منثورة على الأرض.
الفصل الثامن
القدس - فلسطين 1943م
إنها حرب باردة يا أبا خالد، اليهود يحاولون شراء الأراضي بشتى الطرق، واليوم لا يمتلكون القوة الكافية ليجبروا الفلاحين على بيع أراضيهم ومزارعهم، ولا ندري غدا ما سيحصل إن امتلكوا القوة والهيمنة، وها هي ألمانيا تجبر اليهود على الهجرة من أراضيها، وهؤلاء فيهم من الأغنياء أصحاب الثروات الكبيرة، وفيهم الفنيون والصانعون وغيرهم الكثير، وجميعهم تحاول الحركة الصهيونية جلبهم إلى فلسطين أرض الميعاد كما يسمونها، وبذلك يزداد خطرهم أكثر فأكثر، وها هم يسيطرون شيئا فشيئا على القطاع المصرفي والاستثمارات الصناعية في البلاد، حتى أصبحت لهم أياد طويلة في السوق. إنهم ينتشرون بيننا كالورم الخبيث، ونحن لا نفعل شيئا لنستأصلها .. هز رأسه متحسفا.
ظل أبو خالد ينصت جيدا إلى كلام أبي هشام الذي كان يسرد تفاصيل دقيقة للأوضاع المتأزمة في البلاد، ودب في قلبه خوف شديد، ومع ذلك كان يشعر بالطمأنينة لأنه سيبيع أرضه إلى رجل يحمل هم البلد ويقف سدا منيعا أمام الأطماع اليهودية على قدر استطاعته. - أبو هشام: إن كلامك هذا على خطورته الكبيرة يبعث في نفس من يبيعك أرضه الطمأنينة، وما حميتك هذه إلا دليل حرص منك، وقد سمعنا تجارا يشترون ممن يرفضون البيع لليهود بأسعار زهيدة مستغلين حاجتهم الماسة، ثم يبيعون تلك الأراضي لليهود بأضعاف ذلك، أنت ومن مثلك امتلكتم ثقة الناس، وهذا والله لشرف كبير لأي رجل وطني يحب أهله وأرضه. - هذا واجب يتحتم علينا يا أبا خالد، ولا منة لنا به على أحد، لكن أخبرني لماذا تريد بيع أرضك؟ إن كنت في حاجة قضيتها لك. - بارك الله لك في مالك، هي أرض متروكة منذ زمن انشغلنا عنها في تجارة الأحجار الكلسية علها تستر الحال، لكن المال في يد الناس قليل، والديون تراكمت على زبائني، وأنا أخجل من أن أطالب أحدا في هذه الظروف الصعبة التي نمر بها.
تنحنح أبو هشام وصب فنجان قهوة ثانية لأبي خالد، وقال: رحم الله جدي سالم، كان يقول إن الأراضي كانت تدار على نظام المشاع في القرى، ولم يكن هناك بيع وشراء، إنما تقسم بين الأهالي بالتراضي حتى أصدر الباب العالي للحكومة العثمانية فرمانا بتمليكها وتسجيلها عند الحكومة بغية معرفة كمية الأراضي المزروعة وتنظيم خراجها، واحتساب كفاية الدولة لمحاصيلها، ومنذ ذلك اليوم بدأت مشاكل الأراضي الزراعية؛ وبسبب جهل الفلاحين بالنظام الجديد حينها تم تسجيل آلاف الدونمات الزراعية بأسماء الموظفين المتنفذين في الدولة، عندها تحول الفلاح من مزارع يملك أرضه بنظام المشاع ويجني المحصود لنفسه إلى عامل في أرضه لا يكاد يجد قوت يومه! وتسببت تبعات ذلك الفرمان بعد عقود من الزمن في ازدياد هجرة الفلاحين للمدن.
هز أبو خالد رأسه مؤيدا وقال: رحم الله أجدادنا، كانت أيامهم أيام خير وبركة. •••
كانت أصوات زغاريد النساء تصدح عاليا في ذلك المساء الربيعي الهادئ، إنها ليلة الحناء لابنة خالة حسن، كانت أم هشام وأم أحمد زوجة حلاق الحارة ومعهما أخريات من أهل العريس يحملن الحناء ويرقصن حول العروس، ثم يقمن بلطخه على يد العروس ورجليها وجبينها، ومن ثم يوزعن ما تبقى منه على النساء .. وليلة الحناء كانت بمثابة حفل زفاف العروس بحضور صديقاتها، ورسم الحناء على اليدين والجبين هو بمثابة إعلان أن الفتاة انتقلت إلى بيت عريسها.
كان يقع على عاتق حسن وأخيه خالد توفير جميع متطلبات النساء من خارج البيت من كاسات وملاعق وأطباق وصوان إضافية من بيتهم أو بيت الجيران، وتحضير المعجنات من فرن الحي وإحضار كل ما يحتاجونه عند باب بيت خالته، فتخرج أم خالد أو سكينة لتأخذها إلى الداخل، كانت ليلة شاقة لحسن الذي جلس عند الباب يتذمر ويقول: هم يفرحون ويمرحون في الداخل، ونحن نركض لخدمتهم، فليقم بذلك أقرباء العريس، ما لي ولهم؛ لقد أنهكتني طلباتهم الكثيرة. - كفاك تتمتم وتتذمر، غدا ستتزوج أنت أيضا، وسيفعل لك يومها ما تفعله الآن وأكثر، ومن ثم هل تريد أن يقوم بهذا شخص غريب فتخرج إليه أختك وهي قد تزينت وتعطرت!
احمر وجه حسن وقال بصوت منخفض بالكاد سمعه خالد: لم أقصد هذا، لكنني تعبت ليس إلا.
أدار حسن وجهه عن أخيه ونظر نحو الجهة الأخرى من الحارة الضيقة المتعرجة وانتبه إلى ظل امرأة وفتاة سافرتين كانتا مقبلتين تجاههما من أقصى الحارة، كانت الإضاءة الخارجية للأزقة لا تظهر ملامحهما جيدا، وعند اقترابهما تسمر حسن واقفا وكأنه صعق مما رأى .. سألت المرأة حسن: العرس هنا؟ - نعم.
طرقت الباب، وكانت الفتاة تنظر إليه بأطراف عينيها خلسة عن أمها حتى خرجت سكينة واستقبلتهما وتبادلت القبلات مع الفتاة ثم أدخلتهما.
ابتهج حسن فرحا وهو يقول لنفسه إنها هي، والذي آمنت به بنو إسرائيل هي، لم يصدق الذي حصل، إنها صديقة أخته سكينة، أية هبة من السماء هذه، وأية فرحة سرت فيه وهو يسمع النساء يرددن الأهازيج على وقع الطبلة، ويغنين:
سبل عيونه ومد يده .. يحنونه
خصره رقيق وبالمنديل .. يلفونه
سبل عيونه ومد يده على راسي
خصره رقيق وودعني ومش ناسي.
فقام حسن يرقص على أصوات الأهازيج ويصفق من شدة الفرح، ويتخيل المقصودة بالأغنية هي تلك الفتاة، ويتم تجهيزها له في الداخل، وخالد يهز رأسه يائسا ويقول: أعانني الله على هذا الأخ المجنون، قبل قليل كان يتذمر من التعب، والآن يرقص ويصفق، اللهم ثبت علينا العقل والدين.
لم ينم حسن تلك الليلة حتى عرف من سكينة أن اسمها أنوشكا، وعمرها سبعة عشر عاما، لكنه استغرب من اسم أبيها «أرتين». قال حسن مندهشا: أرتين العجوز لديه بنت في السابعة عشرة من العمر!
ردت سكينة: نعم وهي ابنته الوحيدة؛ لأن أباها تزوج وهو على مشارف الخمسين من عمره، إن شئت أخبرتها أنك تحبها ومغرم بها ولا تنام الليل من شدة التفكير بها.
قال حسن وهو يحرك حاجبيه ويبتسم ابتسامة هازئة: ليس وقت مزاحك الثقيل هذا، واحذري أن تخبري أحدا في البيت عنها!
كان حسن يلوح بسبابته وكأنه يهددها. - اطمئن ، لن أخبر أحدا، لكن لا تنس شرطنا، أنا أعطيتك معلومات عنها مقابل أن تأخذني للسوق وتطعمني كنافة نابلسية من مصروفك، ثم نزور الأقصى سويا ونعود.
هز حسن رأسه موافقا .. وتوجه إلى غرفته، ارتمى على سريره وبدأ يكرر في داخله اسمها الغريب؛ أنوشكا، أنوشكا، أنوشكا، يا له من اسم غريب! يا ترى ماذا تعني أنوشكا؟! ظل صامتا يعصر ذهنه ليخرج جوابا لشيء لا يعلمه، وانتهى إلى أنه بالتأكيد معنى جميل كجمال وجهها الملائكي، ثم تذكر أن والدها أرتين ذلك العجوز الأخرق الذي لا يعجبه شيء، فشعر بالخوف المشوب بالفرح. •••
في تلك الفترة كان هشام يتغيب عن مكانهما المعتاد تحت الشجرة المعمرة عند باب المغاربة، وكان حسن يقضي أوقاته هناك وحيدا غالب الأحيان، وعند مجيء هشام لا يسأله عن غيابه المتكرر لأنه يعلم أين يذهب وبمن يلتقي، والحديث عما يقدم عليه هشام يجلب له شعورا سيئا؛ فهو غير قادر على أن يخطو خطى هشام وينضم للمقاومة؛ لأنه يخشى صوت البنادق والقنابل حيث يسبب له رجفة مستمرة تفقده السيطرة على نفسه، إضافة إلى بنيته الجسمانية الضعيفة التي لا تتحمل التدريبات الشاقة، فكيف به في ساحات القتال؟ الأمر الذي جعله يخبر الأستاذ محمود الخطيب عن شعوره السيئ هذا تجاه نفسه في هذه المسألة، عله يجيب بما يخفف عنه ويزيح بعضا مما أثقل كاهله.
عندما سمع الأستاذ محمود الخطيب، حسن، ورأى شدة تأثره بذلك، ربت على كتفه ومسح على رأسه وأعطاه ابتسامة صغيرة: اسمعني يا بني ليس شرطا أن يقاتل الجميع ويكونوا مع المقاومة في ساحات القتال أو في تنفيذ عملياتهم ضد المحتلين وأعوانهم الصهاينة، مجرد أنك تحمل هذا الشعور تجاه القضية فهو كاف لأن يرتاح ضميرك، واعلم أن الله يقول في كتابه:
وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون . فلو خرج جميع من يستطيعون حمل السلاح للقتال، من سيدرس الطلبة في المدارس؟ ومن سيعالج المرضى في المستشفيات؟ من سيزرع الأرض ويسد حاجة الناس؟ من ومن ومن؟ ستتوقف الحياة إذا فكرنا بهذه الطريقة، والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: «كل ميسر لما خلق له.» وأنت لم تخلق لتقاتل .. جد واجتهد في دراستك علك تكون طبيبا تنقذ أرواح الناس أو تكون مدرسا مثلي تزرع في نفوس الأجيال القادمة هذه القيم والمشاعر الأصيلة التي تحملها، فاطمئن يا ولدي وطب خاطرا.
الفصل التاسع
معسكر داخاو - ألمانيا 1939م «ها هو اليوم الحادي عشر ينتهي في المعسكر، العمل منهك جدا، هنا نحن نحمل القطع الحديدية الثقيلة ونقترب كثيرا من أفران صهر الحديد وتسخينه إلى درجات حرارة عالية حتى يسهل تشكيله من جديد، قبل عدة أيام احترق باطن يد أحد المعتقلين بالكامل؛ لأنه حمل قطعة ساخنة وهو لا يدري، فتم معاقبته بتركه يصرخ من شدة الألم ولم يحصل على الإسعافات الأولية؛ لأنه تصرف من تلقاء نفسه دون الرجوع إليهم، نظرت إلى لون شارته المثلثة فرأيته أسود «إنه من الغجر»، لا أدري لماذا تستهويني هذه الألوان، هل لو كان اللون أصفر لمالت إليه عاطفتي أكثر من كونه أسود، أم إنني كنت في موضع لا فرق فيه بين يهودي وغيره، مما جعلني أفقد شعور الألم تجاه أخي اليهودي وأتألم للجميع بنفس المستوى؟! لا أدري؛ فالكل هنا يقاسون العذاب بمقياس واحد.»
كان مايكل يحاول كتابة بعض المذكرات اليومية بعد عودته ليلا إلى الثكنة لعلها تخفف عنه بعضا من قسوة ما يعيشه في المعسكر؛ فالكتابة تريح الأعصاب كدموع العين التي تخدر الألم، وقد حصل على قلم وورقة بعدما نسيهما أحد المراقبين الألمان على بدن إحدى الآلات الكبيرة.
كان العمل الشاق يبدأ من الساعة السادسة فجرا دون توقف حتى الثانية عشرة ظهرا، حيث فترة استراحة الغداء الذي كان عادة من حساء البازيلا، عشر حبات من البازيلا فقط لكل معتقل مع قطعة خبز صغيرة، هذه قيمة الكابونة الواحدة، كان المساجين يلتهمون الخبز التهاما وأصوات الملاعق كأنها في معركة طاحنة بالسيوف.
كان ألم الجوع في أول الأيام يؤثر كثيرا في مايكل؛ فالهم المشترك بين الجميع في المعسكر هو الرغبة في الطعام؛ لأنها الغريزة البدائية التي تتمركز حولها حياة الإنسان؛ فكان الحديث عن الأطباق الشهية والوعود بينهم إن حصل وخرجوا من هذا الجحيم أن يقيموا وليمة فيها ما لذ وطاب، ويدعون إليها كل من ذاق مرارة المعسكرات وسوء التغذية؛ أحلام وأمنيات كانوا يتكئون عليها بغية التخفيف على أنفسهم، لكن مايكل كان يحمل هما آخر؛ الخوف على مصير أمه وسارة وديفيد، مجرد التفكير في حالهم يؤرقه كثيرا، يخشى أنهم تعرضوا لاعتداء أو حتى اعتقال كما حصل له، نادى بيتر من مضجعه. - ما بك يا مايكل، هون عليك، كفاك تسرح في تفكيرك خارج أسوار المعسكر، لم يبق شيء في حياتنا يستحق التفكير، سنغادرها قريبا، هيا أقبل نجلس قليلا.
أطرق مايكل وفي وجهه ابتسامة صفراء وهو يقبل نحوه: أنا لا أفكر بنفسي، بل بأهلي الذين تركتهم خلفي. - دع التفكير جانبا، فلا يمكن الخروج من هنا إلا لسببين. - وما هما؟! - إخراج جثمانك إلى المقبرة أو الانتقال إلى معسكر آخر.
فلا تحلم بغيرهما؛ لذلك اعتبر نفسك ميتا، وعش أيامك الأخيرة دون مبالاة.
نظر مايكل في وجهه متحسرا: لا مبالاة؟! كأنك وهنت يا بيتر وتمكنوا منك. - هيه، لا يمكن لأحد على وجه الأرض أن يتمكن من بيتر. - دعك من هذا وقل لي، ما رأيك بالموت؟ - ما بك يا مايكل، هل تفكر في الانتحار، لم يمض على قدومك الكثير، أنا الذي وهنت أم أنت؟! - السؤال لا يعبر عن النية، بل مجرد أريد أن أعرف رأيك به. - الموت يختلف الرأي عنه حسب الأجواء؛ فالموت هنا هي حياة بحد ذاتها، والموت بين أهلك وأحبابك هو الموت الحقيقي كما ينظر إليه البشر. - لا، بل أسألك عن الموت بعيدا عن الأجواء.
صمت هنيهة وهو يفكر، ثم نظر على امتداد الأسرة الخشبية صوب الباب. - الموت ليس بالضرورة نهاية كل شيء، لربما يكون البداية الحقيقية التي طالما انتظرناها في الحياة، هو كالنوم .. رقود وسكينة.
ألم تنتبه إلى السكينة في وجوه الموتى؟ يذكر عن اليسوع أنه قصد الرقود بالموت فقال: «تكلم بهذا.» ثم قال لهم: «لعازر صديقنا راقد، لكني ذاهب لأوقظه من النوم.» فقال له التلاميذ: «يا رب، إن كان راقدا فسيتعافى.» غير أن يسوع كان قد تكلم عن موته. وأما هم فظنوا أنه يتكلم عن رقاد النوم. فقال لهم يسوع حينئذ صراحة: «لعازر مات.» - كم نحن بحاجة إلى هذا الرقود يا بيتر! - سنرقد يوما إلى الأبد لا تقلق، يومها سينتهي كل هذا الألم وتصبح هباء وكأننا لم نعشه. •••
في فجر اليوم التالي دوت صفارات الإيقاظ وتعالى صراخ بعض المعتقلين الذين تأخروا عن الاستعداد ليوم بائس جديد، خلال ثوان معدودة اصطف جميع من في الثكنة على امتداد الأسرة. دخل الضابط بزيه النازي الأنيق حاملا بيده اليمنى سوطا أسود مصنوعا من ذيل الحصان ومثبتا بخشب مكسو بمادة مطاطية سوداء، وفي يده اليسرى سجل الأرقام. قرأ الأرقام وكان من بينها 1216 رقم مايكل، ثم وقف جانبا مع من قرئت أرقامهم، وصاح بالبقية: إلى الطابور في الساحة، أما أنتم فابقوا هنا حتى الصباح.
ثم خرج من الثكنة، كان الخبر حينها مفرحا ومخيفا في نفس الوقت؛ فمنذ دخولهم إلى المعسكر كان مايكل يكره هذه الساعة، لكن اليوم لن يكون مع العمال، انتبه إلى شارات الذين بقوا، كانت كلها صفراء، تساءل في نفسه ما الذي يريدونه منا نحن اليهود بالذات، هل جاء أمر بتصفيتنا؟ أم بنقلنا إلى معسكر آخر؟ كما قال بيتر هنا لا يوجد سوى طريقين أمامنا، إما إلى المقبرة أو إلى معسكر آخر.
عندما حل الصباح فتح الباب فجأة، قفز الجميع من أسرتهم المتعفنة التي لم تر نور الشمس مذ دخلوا المعسكر، وقفوا على حالة الاستعداد كالعادة، فدخل أحد ضباط السجن وفي وجهه ابتسامة حقيرة مليئة بالحقد وقال: اليوم يوم سعد لكم أيها الخنازير، هيا اصطفوا خلف بعضكم البعض وتوجهوا نحو الساحة.
تسلل الخوف إلى قلب مايكل عندما سمع كلمة «يوم سعد لكم» هذه الجملة عادة في السجون تقال لمن ينتظره يوم لن ينساه في حياته، تعذيب من نوع آخر لربما، لكن خاصة لليهود دون غيرهم، قال في نفسه: كنت متأكدا أن هنالك نوعا من الحقد الخاص تجاهنا نحن اليهود، حتى وإن اقتنعت ببعض كلام روبرت حول عدم تفرقتهم بين اليهود وغيرهم من المعتقلين. مروا من الساحة كلها وهو غارق في التفكير وبمصيرهم المجهول الذي يتغير من لحظة إلى لحظة.
وقف السير أمام إحدى الثكنات التي تبدو أنها خاصة بضباط المعسكر، نظر يمينا فرأى مجموعات أخرى يتم سوقها تجاههم، الكل يحمل في صدره مثلثا أصفر اللون، كانت الغرفة التي دخلها مايكل مع من كانوا معه مختلفة تماما عن ثكنتهم المتعفنة والكئيبة والمظلمة، النوافذ كبيرة ومشرعة، والهواء نقي مع رائحة ورود خفيفة، وأشعة الشمس قد تسللت بلطف إليها لتسلك طريقا مستقيما من النافذة وقد رسمت على الأرضية شكلا مستطيلا، وطاولة كبيرة في المنتصف عليها الكثير من الأوراق والأقلام المبعثرة ودمى جنود نازية صغيرة صنعت من الحديد، ويجلس خلفها ضابط بملامح هادئة يبدو عليه الترف من تقاسيم وجهه الجميل وشعره الأصفر الممشط نحو اليسار وخلفه على الحائط علم أحمر كبير في وسطه شعار النازية «الصليب المعقوف»، كان منشغلا يقرأ ورقة ما حين دخلوا عليه ولم يعر لوجودهم اهتماما إلى أن تنحنح الحارس وقال: هؤلاء المجموعة الأولى من اليهود كما طلبتم سيدي.
رفع رأسه ونظر إلى وجوههم واحدا تلو الآخر ولم يتكلم بشيء، بعدها قام من مقعده وتوجه نحو النافذة، أطرق نظره نحو الساحة، وقال: إذن أنتم اليهود. - نعم سيدي.
بعدها توجه نحو طاولته وحمل ورقة مكتوبا عليها بعض الكلمات وما بينها فراغات، رفعها بيده اليمنى عاليا من الطرف العلوي للورقة، وقال: هذا صك حياة كل واحد منكم، نحن هنا في معسكر داخاو، كنا مسرورين جدا بتواجدكم معنا، وأعتقد أنتم كذلك بلا شك، لكن اليوم القرار موكل إليكم؛ فلقد جاءتنا أوامر من القيادة العليا أن كل يهودي في المعسكر يوقع تعهدا بترك ألمانيا بغضون ثلاثة أشهر من توقيعه التعهد سيتم الإفراج عنه، أما الذي يرفض فسيبقى معنا وبالطبع نحن نسعد ببقائه .. قالها مع ابتسامة معروفة السبب بالنسبة للمعتقلين.
عندما سمع مايكل كلمة «الإفراج» خفق قلبه من الفرح وكأنه ولد من جديد، وبدأ شعور غريب بالخلاص يسري إلى كل أرجاء جسده لربما كان يحمل خبر عودة الحياة من جديد إلى كل جزء فيه، قال في نفسه: أية ألمانيا هذه؟ أريد الخلاص من هذا الجحيم فقط لم أصدق أنني سأخرج من المعسكر أبدا، ولم يخطر لي أنهم سيطلقون سراحنا، يا لفرحتي سأرى اليوم أمي وأختي وديفيد.
جلس الضابط خلف مكتبه: من يريد التوقيع على التعهد فليقترب، ومن لا يريد فليخرج إلى الساحة حتى يلتحق بالعمل.
أقبل الجميع على التوقيع؛ فلا يمكن لعاقل أن يمتنع من فرصة الخلاص التي لربما تكون الوحيدة من هذا الجحيم، وقبل أن يكملوا ملء أوراق التعهد والتوقيع عليها، تناهت إلى مسامعهم أصوات نفس العربات التي جاءت بهم إلى هنا تقترب من الثكنة، أكمل الجميع، ثم بعدها تم سوقهم إلى صندوق العربة والابتسامة تعلو شفاه الجميع لأول مرة مع الشعور بالفرح الشديد.
عند العودة نحو ميونخ لم يعصبوا أعينهم ولم يضعوا القيود بأيديهم وحتى لم يمنعوهم من الكلام فيما بينهم، التفت مايكل إلى الجالس بقربه: لم أصدق أننا سنخرج من ذلك المكان إلا إلى المقبرة.
كان الرجل مطأطئ الرأس، يرسم خطوطا مستقيمة على أرضية صندوق العربة الخشبية، رفع بصره إلى مايكل وقال: كنت متأكدا بأننا سنخرج لهذا السبب، متأكد كما أراك. - وكيف لك أن تتأكد؟! - لا تشغل نفسك بالإجابة، المهم أننا خرجنا. - أخبرني، هل أنت ساحر مثلا، هل تعلم الغيب؟
ابتسم في وجه مايكل: هل ترى في وجهي ما يدل على قولك؟ - لا، لكنك تقول: كنت متأكدا من خروجنا، لا بل من سبب خروجنا أيضا .. كيف عرفت السبب إذن؟ - سأخبرك، لكن عدني بأنه سيبقى سرا؟ - اليوم يوم العهود، نعم أعدك كما وعدتهم بترك هذه البلاد. - حسنا، قبل عدة أعوام كنت أعمل خادما لدى أحد أثرياء اليهود، لا أريد ذكر اسمه، فهو من الذين لهم علاقات وصلات بمسئولين كبار في الحكومة الألمانية، كان الرجل كريما معي ومعاملته طيبة جدا لي .. في أحد الأيام زاره أحد كبار الضباط النازيين، بالعادة أنا أكون قريبا منهم لألبي طلبات ضيوفه دون تأخير؛ لذا عادة أسمع ما يدور من حديث بينه وبين من يأتون إليه .. جرى في ذلك اليوم حوار حول اليهود في ألمانيا وإمكانية دفعهم للهجرة إلى أرض الميعاد «فلسطين»، والغريب في الأمر أن اليهودي طلب من الضابط ذلك! حينها حاولت الاقتراب أكثر منهما حتى أستمع جيدا لما ينوون فعله، بعدها اقترح على الضابط النازي القيام بزيارة إلى فلسطين على حسابه الخاص هو وزوجته لدراسة كيفية تهجير اليهود إليها.
أصابت مايكل الدهشة مما سمع. - أحقا ما تقول؟! هل تقصد أن بعض اليهود الأثرياء هم أنفسهم من دفعوا النازية إلى طردنا من ألمانيا؟ - هذا ما سمعته من حديثهما. - لكن عندما وقعنا التعهد بترك ألمانيا لم يشترطوا علينا الرحيل إلى فلسطين، كيف تفسر ذلك؟ - الأمر بسيط .. ففي «مؤتمر إيفيان» رفضت جميع الدول الأوروبية استقبال اليهود، عندها سيعرضون علينا السفر إلى فلسطين حيث ينتظرنا الدولة التي ستبنى لأجلنا. - وماذا عن الأموال؟ - بالطبع لا يستطيع اليهودي أخذ كل ماله معه أثناء السفر، لا بد أن يودعه في أحد البنوك الألمانية، عندها لا تجد بلدا يمكنك سحب أموالك فيه إلا البلد الذي يريدونك أن تتوجه إليه، وبذلك سيدفعوننا هناك وستجني ألمانيا أموالا طائلة من هذا، ولذلك أطلق سراحنا. - لكن ما تقوله خطير جدا! أكمل، ماذا حصل بعد ذلك، هل سافروا إلى فلسطين؟ - نعم، بعدها بعدة أيام توجهوا إلى فلسطين وبقوا هنالك شهرا كاملا، وبعد عودتهم وقعوا على ما أسموها «اتفاقية هافارا» لتهجير يهود ألمانيا إلى فلسطين، وكان الاقتراح بأن يتم فك الحصار عن ألمانيا «المفروض من قبل الدول الأوروبية»، على أن يودع اليهودي أمواله في أحد بنوك ألمانيا، ويقوم البنك بشراء الآلات الزراعية والآلات العسكرية والمعدات ويرسلها إلى فلسطين، وهناك يذهب المزارع فيستعيد ثمنها من أحد بنوك فلسطين. - لكن لماذا تم حرق ممتلكاتنا في ليلة الزجاج المحطم؟ لماذا لم يخبرونا بذلك قبلها، لكنا تركنا لهم ألمانيا وما فيها، لماذا هذه الأعمال إذن؟ - من المنطق أن يقوموا بذلك، كيف يجعلون اليهودي يقتنع بترك بيته وتجارته وحياته الهادئة هنا حتى يرحل إلى بلد آخر لا تجارة فيه ولا حياة سوى المشاكل والمخربين الذين يهاجمون الجنود البريطانيين ويقتلونهم يوميا.
ساد الصمت بينهما .. شعر مايكل أن فرحة الخروج من المعسكر قد فقدت طعمها، كان في حالة صدمة شديدة .. بالرغم من التجربة القاسية التي قضاها في المعسكر إلا أنه توصل إلى حقائق لم يكن يتصورها يوما، لربما كل ذلك العذاب كان ثمن الوعي الذي بلغه وكشف عما يجري حولهم «اليهود ليسوا فقط هم المستهدفين من النازية»، «العرق الآري كذبة للضحك على عقول الألمان بسمو عرقهم من أجل تقبلهم الجرائم ضد بقية الأعراق، أو للاستيلاء على أموال بقية الأعراق»، «هنالك ضباط يهود في المنظومة النازية»، «الغجر وشهود يهوا وغيرهم من الطوائف لا يفرقون شيئا عن اليهود في تعامل النازية معهم»، وأخيرا الصدمة الكبيرة «بعض أصحاب النفوذ والمال من اليهود لديهم أياد كبيرة فيما يلاقيه اليهود المواطنون من قتل وتخريب لممتلكاتهم».
الفصل العاشر
جبل أرارات - الحدود التركية الروسية 1895م
كان أرتين يرتل بعض الآيات، ويدعو يسوع أن يخلصه من هذا العذاب «لأني أنا الرب إلهك الممسك بيمينك، القائل لك: لا تخف أنا أعينك»، «الرب معين لي فلا أخاف ماذا يصنع بي إنسان»، أعني يا يسوع وخلصني منهم، ما خرجت إلا لأجل المؤمنين بك حقا أدافع عن المظلومين، عن الذين لا يستطيعون الوقوف أمام سيوف الجلادين، خرجت لأجل خلاصهم وأنت المخلص يا يسوع، فخلصني منهم، لا أمل لي سواك، فلا تخيب ظني، وإن كان هذا امتحانا منك فهبني القوة الكافية لتحمله، كن معي ولا تتركني، كن معي ولا تتركني، كن معي ولا تتركني.
مارسوا مع أرتين في تلك الليلة كل أنواع التعذيب، جلد وفلقة، وأغطسوا رأسه في الماء لدقائق حتى كاد أن يموت غرقا، وتنفس الماء بدل الهواء وشعر أن روحه تخرج من جسده شيئا فشيئا ببطء شديد، ثم فجأة سحب رأسه من الماء ، وشهق شهقة أعادت الروح إليه.
عندما وضعوا رأسه في الماء تذكر أرتين يوم كان مع غريغور وبانوس على شاطئ بحيرة «وان» الزرقاء، يومها تحداه غريغور بالغطس وقال لبانوس: أنت الحكم بيننا، وتعد ببطء من يستطيع البقاء تحت الماء لمدة أطول. بدأ أرتين التحدي، وضع كفه على فمه وأنفه وغطس تحت الماء، بدأ بانوس بالعد، واحد، اثنان، ثلاثة، إلى أن وصل العدد 33 لم يستطع أرتين البقاء أكثر فأخرج رأسه وهو يلهث، ضحك غريغور بصوت عال وهو يقول باستهزاء: ثلاث وثلاثون.
كان يضحك ويعيد الرقم مرة ومرتين وثلاثا. - كفاك ضحكا، هيا أبهرنا أنت أيها الغاطس الماهر!
استنشق غريغور كمية من الهواء وأغلق أنفه بالإبهام والسبابة ونزل تحت الماء، ثم بدأ بانوس بالعد، واحد، اثنان، ثلاثة وصل إلى خمس وعشرين، ثم إلى ثلاثين فاجتاز رقم أرتين ولم يخرج غريغور، فوصل إلى خمسين حتى صاح بانوس: لقد غرق المجنون فلننقذه بسرعة!
أخرجاه إلى الشاطئ، بدا أنه مغشي عليه.
غريغور! غريغور! هل أنت بخير؟
كان بانوس يضغط على بطنه لعل الماء يخرج من فمه، ركضا صوب الصيادين: أغيثونا، لقد غرق صاحبنا أغيثونا!
فأقبل أحدهم وهو يقول: أين الغريق، أين هو؟ عندما التفتوا إلى الوراء رأوا غريغور يضحك ويضرب بقدميه على الأرض من شدة الضحك ويؤشر عليهما: «لقد خدعتكما، لقد خدعتكما.»
زرع ذلك الموقف البسمة في وجه أرتين ورأسه تحت الماء.
خارت قواه وأغشي عليه، ولم يدر ما حصل له بعدها. •••
عندما فتح عينيه كانت أشعة الشمس قد تسللت من نافذة الغرفة العلوية، خطوط مستقيمة تتراقص فيها ذرات الغبار، وكل ذرة تخرج عن المسار تختفي وكأن طرفي الحزمة هي مقيدات الحياة، حرك ناظريه وقال لنفسه: هذه ليست غرفة التعذيب، إنها الغرفة التي وضعونا فيها البارحة.
حاول الجلوس فلم يستطع، فمجرد الحركة كانت تؤلمه جدا، تساءل بينه وبين نفسه: أين اللذان كانا معي؟!
لا أسمع صراخ تعذيب، إذن ليسا هناك، أين هما إذن؟
خطرت في ذهنه أسئلة كثيرة، لكنه كان مشوشا، فلم يستطع فك أحجية اختفائهما فجأة .
اقترب ذف أقدام أحدهم من الباب، وسمعه يقول: «افتح الباب.» جر المزلاج الحديدي ثم دفع الباب، دب الخوف في قلب أرتين من جديد تذكر الليلة الماضية، القيود الحديدية، السوط الأسود، وجه الجلاد المخيف وعضلاته الضخمة، كانت أسوأ ليلة مرت في حياته. اقترب من رجل ضخم الجثة عريض المنكبين، صدم أرتين للوهلة الأولى حتى إنه جلس ولم يشعر بالألم من شدة الصدمة، قال في نفسه: «إنه نفس الرجل الذي أمرني بالمهمة في تلك الليلة!» لم يتمالك نفسه فصرخ بوجهه: أيها الخائن اللعين، وبصق بوجهه.
مسح البصقة من وجهه بكم ردائه وابتسم، ثم ربت على كتف أرتين وقال: لقد نجحت في المهمة. - عن أي مهمة تتحدث؟ أنت عميل للحكومة أيها الخائن! - نحن لسنا عثمانيين، نحن الطاشناق، ومهمتك لم تكن تهريب الأسلحة، بل أردنا التأكد منك، خشينا أنك من رجال الوالي من الأرمن الخونة. - وما الذي حصل باللذين كانا معي؟ وكيف كنتم تعذبون قائد المهمة؟
ابتسم وربت على كتف أرتين. - لم نعذبه كانت تمثيلية لتخويفك ودب الرعب في قلبك. - لكن لم كل هذه التمثيلية؟ هل تفعلون هذا لكل من ينضم إليكم؟! - لا، بالطبع لا نفعله مع الجميع، لكنك في أخطر فصيل بالحزب وعموده الذي يستقوي به بقية الفصائل، نحن «فصيل الاغتيالات»، لا ينضم إلينا أحد مباشرة إلا بعد أن نتأكد منه مائة في المائة، وبعد أن يقاتل مع الفصائل الأخرى ويحصل على إشادة قادته في الشجاعة والفطنة والبسالة، حينها نضمه إلينا، أما أنت فقد كشفت مكاننا وعرفت بعض الوجوه التي يجب ألا تعرفها، كان بإمكاني إرسالك إلى فصيل آخر، عملهم فقط في قتال العصابات أو نصب الكمائن على دوريات الدرك، لكنني أعجبت بالحركة التي فعلتها يوم عملية اغتيال الوالي، نحن بحاجة إلى رجال من أمثالك لا يهابون الموت، ومع ذلك كان لا بد من اختبارك، وها قد نجحت فيه واجتزته كما توقعت ذلك، والآن يمكنك أن تكون ضمن فصيلنا، فأهلا بك بيننا .
دهش أرتين للوهلة الأولى من دهائه وتفكيره العسكري، على الرغم من كل آلام صدره وقدميه إلا أن الفرحة كانت تغمره بوصوله إلى أخطر فصيل في الحزب بهذه السرعة، والفرحة الكبرى كانت أنه سيعمل مع أناس يحملون هذا العقل والتدبير. - أرتين ستبقى هنا عدة أيام إلى أن تتعافى ثم تعود إلى «وان»، وبعدها سأرسل اسمك إلى القيادة العليا وأوضح لهم كل الذي جرى في اليومين الماضيين ببرقية، وانتظر الموافقة الرسمية لانضمامك إلينا. - وماذا عن صديقي؟ ألا يمكنك أن تضمهما معي ونعمل كفريق معا تحت إمرتكم؟ - لا، لا يمكنهما الانضمام لفصيل الاغتيالات مباشرة، يجب أن يعملا في فصائل أخرى ويحصلا على إشادة قادتهما، حينها أستطيع إقناع القيادة بضمهما إلينا، لكن في النهاية سنرسلكم إلى يريفان سويا للتدريب، أما الآن فعلي الذهاب؛ فلدي مهام كثيرة يجب أن أقضيها، وأنت انتظر مني الخبر اليقين في وان. •••
قبل حلول الظلام سمع أرتين صوت غريغور قادما من ممر غرف الخان العلوي، فاختبأ خلف الباب بسرعة، دخلا الغرفة وهما يضحكان على ما يبدو لموقف حصل لهما أثناء العمل، وعندما أراد غريغور غلق الباب رأى أرتين أمامه، لم يصدق عينيه فحضنه بقوة مما جعل أرتين يصرخ من شدة الألم فانسحب غريغور متفاجئا. - ما بك يا صديقي؟ ما الذي حصل؟!
خرج بعض الدم من صدر أرتين وبان على ثيابه فبقي غريغور مشدوها. - من فعل بك هكذا؟ هيا تكلم بسرعة! - سأخبركما بكل شيء، لكن قبل ذلك ماذا حصل للوالي، هل قتل في ذلك اليوم؟ - لا لم يقتل، لكنه أصيب إصابة خطيرة، والآن هو طريح الفراش.
ضرب أرتين كفا بكف، وقال متحسرا: إذن المهمة فشلت. - لكن توقف، من هذا الذي جاء وطمأننا عنك ثم رحل سريعا؟
أخبرهما أرتين بالذي حدث معه منذ لحظة الهجوم على موكب الوالي ولحين عودته إلى وان، وكانت عيناهما مفتوحتين طوال سماعهما القصة من أرتين، وعندما أكمل الحديث بقيا كذلك. - ما بكما اصح يا بانوس، أنت العقل المدبر عندنا، كيف يصيبك العجب هكذا؟!
حرك بانوس رأسه وكأنه لا يصدق الأمر. - قد فعلوا بك كل هذا من أجل فقط أن يتأكدوا منك!
طبطب غريغور على كتف بانوس: تعلم كيف يفكر الناس، تعلم يا مفكر مجموعتنا.
ثم ابتسم ابتسامة استهزاء وقال: لو عشت ألف سنة فلا تستطيع أن تفكر ربع هذا التفكير. - دعاكم من هذا وأخبراني ماذا حصل بعد الحادثة، ماذا كانت ردة فعل الحكومة؟ - بعد الحادثة مباشرة أعلن منع التجوال في المدينة كلها، وتم تفتيش دكاكين السوق بالكامل، واعتقلوا بعض أصحاب الدكاكين في الزقاق الذي حصل فيه الهجوم، وفي اليوم التالي فتح منع التجوال وزيدت الدوريات في السوق، وبالتأكيد رأيت التشديد على مدخل المدينة. - نعم، رأيت ذلك. - لكن بعدها بيوم واحد كنا في طريقنا إلى الطاحونة التي نعمل فيها أنا وغريغور، رأينا على الطريق قصاصات ورق منثورة على الأزقة، حملت واحدة منها، كان مكتوبا فيها «تبني الثوار لعملية الاغتيال»، وفي أسفل الورقة ختم حزب الاتحاد الثوري الأرمني .. وفي نفس اليوم قامت دوريات من الحكومة بأعمال انتقامية ضد الأرمن؛ فقد شنقوا ثلاثة من السجناء المتهمين بتعاونهم مع الثوار وسط السوق وأبقوهم على المشانق ثلاثة أيام ليكونوا عبرة لمن يعتبر، وبعدها تم تسليم جثثهم إلى أهاليهم بحضور أحد القساوسة .. وأيضا قاموا بالهجوم على عدة قرى أرمنية يشتبه بتعاونهم مع الثوار واحتضانهم لبعض أعضائها فتم قتل العشرات منهم وهدموا بيوتهم وأحرقوا زرعهم واعتقلوا الباقي. - سنثأر لهم، لا تحزنوا؛ لأجلهم سنرد الصاع صاعين فقط، اصبروا. - لكن يا أرتين فلنكن منصفين، هذه الأعمال الانتقامية لم تحصل إلا بعدما ألقى الثوار المنشورات وتبنوا العملية، أنت تقول هم يفكرون بحذر وحيطة قبل القيام بأي شيء، كيف لم يفكروا أن تبنيهم للعملية سيولد أعمالا انتقامية ضد أبناء شعبنا؟ أليسوا هم من يريدون الحفاظ على أرواح الأرمن، كيف لهم أن يتسببوا في الذي حصل؟!
نظر أرتين بوجه غريغور ورآه ينظر إلى بانوس ويفكر بالكلام، كان استغراب بانوس من هذا التبني للعملية في محله، بقي أرتين صامتا يفكر في كلامه وفيما يحصل حولهم. - لا أدري، أنا متفق معك تماما أن تبني العملية كان خطأ وسببا بزهق أرواح إخوتنا، لكن لا يمكننا التأكد من شيء إلا بعد معرفتنا سياسة الحزب وأهدافه، ولعل إرسالنا إلى يريفان جاء بعد التشديدات الأمنية للحكومة في المنطقة.
الفصل الحادي عشر
دير ياسين - فلسطين 1944م
انتابت البهجة والسرور وجه حسن عندما رأى هندام والده الجديد، وقد ارتدى القمباز والعقال على الغترة البيضاء رابطا الحزام اللاوندي المصنوع من الجلد الطبيعي على خصره، وانتبه حوله فرأى أن هناك من تشاركه هذا الشعور الجميل تجاه والده؛ فقد كانت أم خالد تنظر إليه نظرات حب مشوبة بالحياء، وتقول: ربي يحميك من العين يا زينة الرجال.
كان حسن يتجهز أيضا للذهاب مع والده إلى دير ياسين لأول مرة؛ إذ بعد بيعهم الأرض إلى أبي هشام، تحسنت حالتهم المادية قليلا، وارتأى أبو خالد شراء كمية إضافية من الأحجار الكلسية، من كسارة الحاج أسعد في مدخل قرية دير ياسين، وكانت تربطه علاقة جيدة مع صاحب الكسارة.
في طريقهم نحو القرية التي تبعد عن القدس عدة كيلومترات باتجاه الغرب كانت الباصات التابعة لشركة «باصات لفتا ودير ياسين» تمر من خلال مستعمرة جفعات شاءول اليهودية - الطريق الوحيد المؤدي إلى القرية. انتبه حسن إلى والده فرآه ينظر من نافذة الباص ويتمتم بكلمات غير مفهومة، لكن من ملامح وجهه يبدو أنه منزعج جدا منهم، تنحنح حسن ليجلب انتباه والده وقال: أهؤلاء مثل يهود القدس؟ أقصد هل هم من أهل البلد الأصليين؟ - فيهم من يهود فلسطين الأصليين، لكن أغلبهم ليسوا كذلك، وهذه المستعمرة بنيت أواخر أيام السلطان عبد الحميد الثاني «الله يرحم ترابه» كما يرددها الحاج صالح في الحارة بصوت مرتفع.
قطع حسن حديث والده، دون أن يشعر: وأنا كنت أتساءل دائما من يقصد بتلك الرحمات المتكررة؟ - هو على هذا الحال منذ أن فقد بصره وظل حبيس داره وعتبة بابه. - لكن لماذا يترحم عليه هكذا؟ بالتأكيد هنالك سبب، أليس كذلك؟ - نعم؛ فقد كان من حرس قصر يلدز (قصر السلطان ومقر خلافته) عندما كان شابا، وقضى سنوات طويلة هناك في الآستانة حتى سمعنا يوما أنه أصيب بانفجار هناك وتدهورت حالته الصحية، وتم نقله إلى القدس وبقي يعمل في متصرفية القدس إلى حين سقوطها بيد القوات البريطانية قبل ميلادك ببضع سنوات .. بعد عودتنا من دير ياسين اذهب إليه واسأله، فهو لا يمانع أن يقص لك سيرة حياته وأيامه الخوالي في الآستانة والنعيم الذي كان فيه بالقرب من السلطان المعظم.
قبل الوصول إلى القرية، طلب أبو خالد من السائق أن ينزلهما على جانب الطريق، مشيا باتجاه محجر الحاج أسعد، كانت أصوات الطرق على الحجر وتكسيره تأتي من هنا وهناك؛ بسبب انتشار الكسارات في تلك المنطقة الصخرية، والعمال يضعون الأحجار الثقيلة على السيارات الخاصة لنقل الأحجار من المقالع إلى مكان الكسارات. - أبو خالد، يا أهلا وسهلا، يا أهلا وسهلا.
ردد الحاج أسعد ذلك عند رؤيتهما واستقبلهما بحفاوة كبيرة، ثم سلم على حسن ومسح رأسه متلطفا وسأل عن خالد: لماذا لم يأت معكما؟
فأخبره أبو خالد أنه بقي في الدكان هناك في الخان .. بعدها صاح الحاج أسعد بأحد عماله وقال في أذنه شيئا ثم ابتسم بوجههما، وردد مرة أخرى: أهلا وسهلا بأبي خالد، نورت الديار بمجيئك، أخبرني كيف حال السوق في القدس؟ - والله يا حاج أسعد، الناس في ضيق، والتجار يشكون الركود، لكن ندعو الله ألا يستمر الركود طويلا، وتعود الحركة للسوق مرة أخرى. - لا، لن يستمر هكذا .. بعد شهرين من الآن سيبدأ الحصاد والأمطار كانت وفيرة هذه السنة، بعد الحصاد سينتعش السوق بإذن الله.
هز رأسه أبو خالد وقال بإذن الله، ثم وضع يده في جيبه وأخرج منه رزمتين من الجنيهات، ومد يده نحو الحاج أسعد وقال: تفضل، هذه سداد ديني الذي عندك، وهذه لأجل بضاعة جديدة.
لم يقبل الحاج أسعد أن يأخذها مباشرة إلا بعد ملحة شديدة من أبي خالد، وبعدما أخبره أنه باع أرضه لأجل أن يسدد الديون التي عليه ويتخلص من الهم الجاثم على صدره. - لمن بعتها؟ سأل الحاج أسعد وهو يبحث عن اسم أبي خالد في دفتر الديون لكي يشطبه. - لجار لي يدعى أبا هشام، من خيرة تجار القدس ، يصرف ماله لشراء الأراضي والعقارات التي لا حاجة له بها، فقط لأجل أن يمنع وصولها لليهود. - بارك الله في ماله وكثر من أمثاله.
لم يتكلم حسن منذ وصوله مع والده، كان ينصت لحديثهما وفي وجهه مسحة خجل من الحاج أسعد، واحمر وجهه أكثر عندما نظر إليه الحاج مبتسما وقال: هذا الفتى الجميل قد بلغ سن الزواج، ألا تنوي تزويجه يا أبا خالد؟
رد أبو خالد وهو يضحك: لم أزوج أخاه الأكبر بعد.
فرد الحاج أسعد مازحا: وما الضير في ذلك، العيد الأصغر يسبق العيد الأكبر في الإسلام، فقط انو أنت وسنزوجه أجمل فتاة في القرية.
انتاب حسن شعور سيئ عند سماعه ذلك، وضاق صدره وتذكر أنوشكا الجميلة التي ملكت قلبه، فأعطى ابتسامة صفراء بوجه الحاج أسعد، وقال في نفسه: الكبار لا يشغلهم سوى الزواج والحديث عن تزويج الأبناء والبنات وهم يقررون ويتفقون ويعطون ويأخذون، ونحن فقط علينا السمع والطاعة وكأننا آلات لا نملك أحاسيس ومشاعر.
بعدها سجل أبو خالد كمية الأحجار وأنواعها لكي يتم نقلها بسيارة النقل التي تعود للحاج أسعد إلى مخازن الخان في القدس؛ إذ كانت البضائع توضع في المخازن ويتم عرض نماذج منها في الدكاكين، وعند الاتفاق مع الزبون كان يتم التجهيز والنقل من المخزن إلى بيت الزبون.
لم يسمح الحاج أسعد لأبي خالد، وحسن، بالعودة إلى القدس قبل أن يتناولا الغداء في بيته.
أسرت دير ياسين قلب حسن من الزيارة الأولى، كما أسرت قلبه أنوشكا من النظرة الأولى؛ فالهواء النقي وبساتين العنب والزيتون وأشجار التين واللوز التي تنتشر هنا وهناك جعلت من القرية وكأنها جنة من جنان الله على الأرض .. بساطة الناس ونظراتهم التي تحمل الحب والفضول تجاههم وهم في طريقهم نحو بيت الحاج أسعد، ودعواتهم لهم على الغداء، فيرد عليهم الحاج أسعد، بوركتم واضعا يده على صدره دلالة على الشكر والامتنان.
كانت الوليمة على قدر المعزة، فرشت المضافة بأنواع الطعام وأشكاله من المفتول والمسخن والمقلوبة، ودعي على شرف أبي خالد وجهاء القرية والجيران، وأكل المدعوون حتى أتخموا.
انتبه حسن أثناء تناول الطعام إلى أحد المدعوين وهو يأكل بشراهة ويهمهم وكأنه يأكل بفمه وأنفه سويا، ينهش نهش السباع ويلقم لقم الجمال ثم يكرع اللبن من الطاسة وتبقى نقاط من اللبن عالقة على شاربيه فيمسحه بكم ردائه، حتى قال أحدهم له: على رسلك يا أبا محمد، على رسلك، ستغص بلقمة هكذا وتموت من الاختناق، فيكتب أهل القرية على شاهدة قبرك شهيد اللقمة.
ضج الحاضرون ضحكا وتعالت الأصوات، ثم قال أحدهم وكان يبدو عليه أستاذا في مدرسة القرية، يذكرني هذا الموقف بشعر موسى الدهمراوي صاحب كتاب «نزهة القلوب في لذة المأكول والمشروب»؛ إذ يقول فيه:
وباكر إلى لحم سمين وجرة
إلى أن يصير اللحم والدهن كالسلا
وخذ ورق النعناع واترك عروقه
واخلط عليها الآن إن شئت فلفلا
فارتفعت أصوات الضحك مرة أخرى وقالوا أكمل، أكمل:
وخذ من رقاق البيت واحشو بلحمه
وسويه بالدخان إن رمت تأكلا
وخذ من حليب الضأن روبة حامض
ودوبه بالثوم الجديد مغربلا
شعر حسن بطيبة غير معهودة لدى سكان دير ياسين، أناس بسطاء وكرماء، إضافة إلى الروح المرحة والحب المتبادل فيما بينهم، تذكر الأستاذ محمود الخطيب عندما أخبرهم عن معنى كلمة «قرية» المأخوذة من القرى، وكيف أن القرية التي لا تقري الضيف تفقد تلك المكانة فتسمى «مدينة»؛ إذ إن القرآن الكريم لمح لذلك بقصة موسى عليه السلام مع الخضر
فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ، في بادئ الأمر وصفها «قرية»، لكن عندما أبوا الضيافة تغير الوصف في الآيات المقبلة وكأنها فقدت تلك الميزة ببخلها واتصفت بصفات المدينة فأصبحت
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة .
الفصل الثاني عشر
ميونخ - ألمانيا 1939م
عند باب المبنى كان قلبه يخفق شوقا لرؤيتهم؛ فقد مرت سبعة أشهر على اعتقاله في معسكر داخاو، تذكر ذلك اليوم البائس وهو ينظر نحو الزقاق المتعرج المرصوص بالحجر الأسود على شكل مربعات متداخلة عندما امتلأ بالعربات والجنود، وقف مترددا خائفا وكأن قدميه شلتا عن الحركة، كان يخشى إن حل لأهله مكروه ما خلال تلك الأشهر السبعة، فكر ماذا لو فتح غيرهم الباب؟ ماذا لو تم نفيهم من ألمانيا كلها؟ ما الذي سأفعله حينها؟! بقي هذا الشعور يرافقه طيلة مكوثه عند الباب كالصنم، حتى أقبل أحد الجيران وأطلق بوجهه ابتسامة دون أن يقترب منه مباشرة، حلل وفسر الابتسامة بعدم حدوث مكروه لهم، تشجع وصعد الدرج حتى وصل الباب، فطرقه طرقة خفيفة حتى لا يخيفهم، سمع صوت أمه: من الطارق؟
عندما سمع دفء صوتها لم يتمالك نفسه ودمعت عيناه، ثم رد عليها بصوت مبحوح: أنا يا أمي.
سمع شهقة خلف الباب، فتحت له الباب وقد وضعت يديها على فمها وهي لا تصدق ما ترى، ارتمى مايكل إلى حضنها، تبادلا عناقا طويلا، كانت تبكي وتقول: ما الذي فعلوه بك يا ولدي، تتفحصه وتعود لتضمه وتقبله، ثم خرج على صوتها ديفيد وسارة، وأقبلا إليهما، وتعانقوا عناقا جماعيا شعر فيه مايكل أن الروح عادت إلى بدنه وعاد إلى كونه إنسانا من لحم ودم، بعدما تحول إلى رقم مجرد من الأحاسيس في ذلك الجحيم. •••
كان ديفيد قد استعاد عافيته، لكنه لم يتجرأ على الخروج من البيت كثيرا خشية تكرار ما حصل له في تلك الليلة البائسة؛ فكانت أم مايكل تقوم بإحضار جميع حوائج البيت لهم وأحيانا سارة تخرج معها، لكن بعد عودة مايكل وإخباره لهم بتعهده ترك ألمانيا خلال مدة أقصاها ثلاثة أشهر، حاول مع ديفيد جمع ما لديهم من ديون لدى زبائنهم، تحضيرا للرحيل .. في طريقهما إلى بيوت الزبائن كان ديفيد يقرأ على أبواب بعض المحال: «يمنع دخول اليهود». كانت هذه العبارة معلقة على أبواب السينما والمسارح، وحتى بعض المطاعم والمقاهي والمحال التجارية، لم يكن شعور مايكل تجاه هؤلاء كما هو شعور ديفيد الذي يجهل مسببي هذه المضايقات لدفع اليهود إلى ترك البلاد كلها والتوجه طوعا أو كرها أو هربا من الاحتقار والعنصرية .. كان بعض الزبائن يمتنعون عن سداد الديون ويصرخون بوجه مايكل وهم ينعتونه بأبشع الأوصاف أو يطردونهما من الباب، والبعض الآخر يدفع نصف المبلغ أو ربعه معللا عدم إمكانيته لسداد الديون كلها.
مرت الأيام والأسابيع، باعا كل ما يستطيعان بيعه في البيت ولم يبقيا سوى الأفرش للنوم وبعض أدوات المطبخ لتحضير الطعام والراديو لمتابعة ما يجري في البلاد والمنطقة كلها. كان مايكل يفكر في الرحيل قبل شهر من الموعد المحدد في منتصف أكتوبر، لكن في فجر الأول من سبتمبر؛ أي قبل أيام قلائل لموعد الرحيل، اجتاحت القوات الألمانية بولندا، كبس زر الراديو وأداره ليسمع ماذا حصل. كانت الأغاني الحماسية والخطابات التي تدعو إلى النيل من المعتدين على سيادة ألمانيا تصدح عاليا، لم يفهم سوى أن البولنديين قد اعتدوا على موقع للجيش الألماني على الحدود بين البلدين وقتلوا عددا من الجنود الليلة الماضية، واليوم جاء الرد النازي لاجتياح بولندا.
تسارعت الأحداث فجأة حتى أعلنت بريطانيا وفرنسا حربهما ضد ألمانيا بعد يومين من الاجتياح، كانت بولندا فيها مئات الآلاف من اليهود، وبعد سيطرتهم على جزء منها كان لا بد من قرارات جديدة تتخذ حول اليهود هناك.
أثناء الاجتياح النازي تطوع الكثير من اليهود البولنديين في الجيش البولندي وقاتلوا ضد النازية، كانت المقاومة البولندية في بداية الغزو على أشدها، لكن عندما أخل الروس بالاتفاقية المبرمة مع بولندا سنة 1932 بعدم الاعتداء عليها إلى سنة 1945، ودخول قواتها من الجبهة الشرقية بالاتفاق مع النازية، انهارت المقاومة البولندية وتمت السيطرة على بولندا وتقسيمها بين الروس والنازية.
ثم أصدرت النازية قرارا بوضع شارة نجمة داوود زرقاء اللون على ذراع كل يهودي؛ لتمييزه بين الناس في الشارع والأماكن العامة، كانت المضايقات على أشدها بالأخص من بعض الشباب الطائشين. حصلت حادثة أمام مايكل دون أن يحرك ساكنا؛ امرأة كبيرة في السن تضع الشارة على ذراعها، كانت بالكاد تستطيع المشي متكئة على عكازها، أثناء ذلك جاء أحد الشبان ودفعها بكتفه متقصدا فسقطت أرضا ثم بدأ يشتمها ويشتم اليهود: «أيها الخنازير، متى سنتخلص منكم ، أنتم قذارة المجتمع، وللقذارة مكان خاص لا بد أن يأتي يوم ونجمعكم فيه .» أثناء صراخه بوجه تلك العجوز تجمع الناس حوله دون أن ينهروا الشاب أو يقدموا المساعدة لها، بقيت تبكي ولا تقوى على الوقوف على قدميها مرة أخرى.
كان هنالك دفع للمجتمع بكل الوسائل إلى تقبل تلك المعاملة مع اليهود والمحاولة لدفعهم إلى فعلها بشكل طبيعي لتخرج القضية من بوتقة رؤية نظام الحكم إلى بوتقة الشعب والمجتمع الرافض لوجود هذا العنصر الغريب، لم يكن هناك مجال للإصلاح؛ فاليهودي يبقى يهوديا في أعينهم مهما كان ودودا ومهما كان مواطنا صالحا، ولا يوجد عليه أي تهمة أو حركة ضد النظام، لكن مجرد كونه يهوديا فهذه هي الجريمة التي يجب أن ينال أبشع العقوبات والتعامل القاسي بسببها! كانوا يصفون اليهود بالأورام السرطانية والآفات والحشائش التي لا يؤبه لها، رغم أنها لم ترتكب خطيئة، بل تعيش وفق طبيعتها وحسب، ولا يوجد شيء تعاقب على فعله، لكن طبيعة شرها تستوجب استئصالها.
بقيت المرأة العجوز لا تستطيع النهوض، ولا أحد يقترب منها ليساعدها، شعر مايكل أن أمامه مهمة أخلاقية يجب القيام بها مهما كلفه الأمر، مد يده إليها فرأى ابتسامة رسمت في وجه قد حفر الزمن فيه أخاديد متعرجة وملأت تلك الأخاديد الدموع، دموع من لا قوة لها حتى تنهض وتكمل طريقها، وضعت يدها الباردة على يد مايكل، وأثناء محاولته إيقافها على قدميها عاد الشاب نفسه وصاح بالناس: انظروا انظروا، هذا مشهد حقيقي أمامكم لو لم تكن المرأة يهودية لما ساعدها، نعم هؤلاء الخنازير لا يتألمون إلا لبعضهم البعض، لا يتعاملون بالربا فيما بينهم، أما معكم فالأمر مختلف يأكلون لحمكم نيئا.
لم يرد عليه مايكل بكلمة واحدة، لكن الشاب ظل يشتمهم ويلفق عليهم ما فعلوا وما لم يفعلوا، حتى مل الناس منه ومضوا في طريقهم، سأل مايكل العجوز: إلى أين وجهتك؟
أشارت بيدها نحو أحد الأزقة الضيقة. - دعيني أوصلك إلى بيتك. - لا حاجة لذلك، شكرا لمساعدتك بني، وانتبه لنفسك جيدا.
ثم مضت العجوز في طريقها على مهل، ولحقها مايكل إلى أن وصلت بيتها مخافة أن يتعرض لها أحدهم مرة أخرى.
كانت وتيرة الحرب تتصاعد حينها شيئا فشيئا؛ إذ وقعت ألمانيا وإيطاليا واليابان على الاتفاقية الثلاثية التي عرفت باسم «تحالف قوى المحور»، ثم انضمت إليها رومانيا وسلوفاكيا وتبعتها دول أخرى بعد ذلك، وفي الطرف الآخر تكونت دول الحلفاء بقيادة المملكة المتحدة «بريطانيا» مع فرنسا والصين، ولم تتدخل أمريكا في الحرب إلا بعد حادثة الهجوم الياباني المباغت على ميناء «بيرل هاربر» باستخدام أسراب كبيرة من الطائرات اليابانية التي ألحقت خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات العسكرية من السفن والطائرات الحربية الأمريكية.
لم تقتصر الحرب على ساحات المعارك، بل كان لكل طرف حملاته الدعائية عن طريق الراديو والإذاعات التي تدعي نبل مساعي دولها والسلام الذي تنوي تحقيقه من خلال الحرب! كانت وسيلة مؤثرة في النفوس، لو سمع أي إنسان من دولة بعيدة لم ير ظلم النازية لشعر أنها بالفعل تريد إحلال السلام في الأرض جراء القيم الإنسانية التي تبثها إذاعاتها، لكنها بالفعل استطاعت أن تجعل شعوبها أولا راضية عن القيام بحرب عدوانية، ثم قامت بتفتيت خصومها للحصول على النصر جزءا بعد آخر، وكان عليها أن تخيف أعداءها المباشرين، وأن تهدئ خصومها المنتظرين .. وقد اقتضت كل المحاولات التي سبقت العمليات العدائية استخداما واسع النطاق للدعاية السوداء برغم ما بذل من جهد كبير لإخفاء تلك الدعاية، وحقق الألمان في ميدان الدعاية انتصارات كبيرة من خلال تأثيرها على الرأي العام الدولي بأن مستقبل العالم يتوقف على الاختيار بين الشيوعية والفاشية، وكذلك في الميدان السيكولوجي باستخدام الذعر الكامل بجعل الشعب الألماني نفسه يخشى من تصفية الشيوعية له، كما استخدمت أفلام عمليات الحرب الخاطفة لإخافة الجماعات الحاكمة في دول أخرى ولتحطيم المعنويات، وتسبب عن ذلك ما يسمى بالانهيار العصبي للأمم، وذلك بإبقائها دائما في حالة شك وعدم تيقن مما يمكن أن يحدث لها غدا. •••
قبل غروب شمس الجمعة آثرت أم مايكل تحضير الطعام ليوم غد السبت كالعادة؛ فالسبت يوم مقدس لا يقومون بفعل أي شيء فيه، إنه يوم الراحة، اليوم الذي يترك فيه الإنسان أشغاله المادية حتى يستريح؛ إذ جاء في سفر الخروج: «يجب أن نستريح في اليوم السابع؛ لأن الله استراح فيه من الخليقة. وقد منع الله نزول المن لإسرائيل في اليوم السابع حتى يستريحوا.»
وكانت شرائع البابليين تقول إن الملك لا يأكل اللحم المطبوخ على الفحم في هذا اليوم، ولا يغير ثياب جسده، ولا يلبس ثيابا نظيفة، ولا يقم ذبيحته، ولا يركب في عربة، ولا يتكلم في قضية، ولا يجوز للرائي في هذه الأيام أن يقدم للناس ما يرى، ولا يجوز للطبيب أن يضع يده على جسد إنسان. فقدسية هذا اليوم لديهم كبيرة جدا.
في صباح يوم السبت، كانت الساعة تشير إلى العاشرة وعشر دقائق، الجو كان غائما كليا مع برودة خفيفة، تعالت الأصوات في الزقاق، ألقى مايكل نظرة من النافذة، فرأى النازية يقفون على امتداد الرصيف وعلى الشارع يمر مجموعات من الرجال والنساء والأطفال وهم يحملون حقائب السفر، انتبه إلى أذرعهم فرأى الجميع يحملون شارة نجمة داوود الزرقاء، قال في نفسه: «يا إلهي! هذه المرة الاعتقالات ليست فقط للرجال حتى النساء والأطفال والشيوخ.» توجه مباشرة صوب غرفة والدته، أخبرها أن أمرا جللا يحصل في الزقاق، سيأتون حالا، هيا أسرعي، وقفت جامدة عندما سمعت الخبر. - ما بك سيأتون الآن هيا، سأخبر سارة وديفيد لكي يحضرا أمتعتهما، إنهم يخرجون اليهود من بيوتهم.
بعدها بدقائق أصبحوا وسط الزقاق مع بقية اليهود، كان العدد كبيرا؛ لذلك لم يأتوا بالعربات العسكرية لنقلهم .. أثناء السير انتبه مايكل إلى امرأة عجوز تنظر إليه وهي تبتسم، كانت تلك العجوز التي ساعدها مايكل يوم اعتدى عليها ذلك الشاب في السوق، ابتسم في وجهها وفكر في أمرها «عجوز في عقدها السابع أو لربما الثامن، ما الخطر الذي تشكله على النازية؟ هي بالكاد تستطيع حمل جسدها، لا أدري أهي القرارات النازية لا استثناء فيها أم إنها مسألة أرقام كما كانت في المعسكر؟»
كان أفراد كل عائلة يمسك بعضهم يد بعض لكيلا يتم تفرقتهم إذا ما تم توزيع اليهود فجأة إلى العربات العسكرية، لنقلهم إلى المكان المحدد. أثناء سيرهم نحو المجهول كان الألمان واقفين على طرفي الطريق، البعض مستغرب مما يحصل والبعض الآخر فرح وآخرون لم يهمهم الأمر كثيرا، كانت نظرات البعض فيها الكثير من الشفقة وعدم الرضا بما يحصل، لكن لا يمكنهم فعل شيء سوى هز الرأس وإظهار التعاطف.
من بين الواقفين كان أحدهم يلوح بيده نحو مايكل والدموع تذرف من عينيه، أمعن النظر فيه وإذا به آيخمان صاحب المتجر المجاور لمتجره في السوق الشيوعي المعارض للحكم النازي، كان ذلك التصرف فيه الكثير من الخطورة وجذب أنظار الجستابو عليه، لكن أحيانا نشعر أن بعض المواقف الأخلاقية تعني الكثير لمن نحب، خاطر بنفسه فقط حتى يوصل رسالة إلى جاره منذ عشرين سنة، إنه غير راض عما يحصل، ولا شيء أكبر من أن يقدمه سوى تلك الدموع والتلويح باليد .. صرف مايكل نظره عنه حتى يقلل من تفاعله معه لأجل ألا يصيبه مكروه من الجستابو.
كانت المجاميع اليهودية يتم سوقها من الأزقة وتنضم إليهم تباعا، حتى المعاقون والمرضى تم حملهم على الأكتاف ولم توفر لهم عربات خاصة لحملهم .. في ذلك اليوم الذي لا يجوز فيه حمل أي شيء، حملوا فيه كل شيء، وكأنهم اختاروا ذلك اليوم قصدا ليغرسوا في نفوسهم الخطيئة في أقدس يوم لدى اليهود .. بعد مضي أكثر من خمس ساعات سيرا على الأقدام وصلوا محطة القطار، أمروا الجميع بالجلوس في الساحة المقابلة للمحطة لحين قدوم القطار، كانت سارة بحضن أمها خائفة ترتعد، وضعها مايكل في حضنه وقبل من رأسها: لا تخافي نحن معك ولن نتركك، بعد قليل سيأتي القطار ونصل إلى المكان الذي يريدون نقلنا إليه، وهناك سأشتري لك أي شيء تريدينه.
وصل القطار إلى المحطة، كانت لا تبدو عليها عربات لنقل البشر، أبوابها كبيرة ذات أقفال حديدية ضخمة، ولا يوجد شبابيك فيها بل فتحات مربعة للتهوية تبين بعد وضعهم فيها ومن الروائح أن القطار مخصص لنقل المواشي.
كانت العربة التي لربما لا تسع سوى خمسين رأس غنم فيها قرابة المائتي شخص لا مجال للجلوس فيها ؛ إذ تم وضع العوائل فيها حتى تحمل أكبر عدد ممكن لتقليل عدد المرات التي يتوجب للقطار نقل جميع اليهود إلى الوجهة المحددة، بعدها سدت الأبواب وأوصدت الأقفال، وتحرك القطار نحو المجهول.
الفصل الثالث عشر
يريفان - أرمينيا الشرقية 1896م
كان المركز في يريفان عبارة عن معسكر تدريبي بمساحة مربعة كبيرة محاط بالأسلاك الشائكة وأبراج مراقبة وأضواء كاشفة، المتدربون في الساحات يرتدون الزي العسكري الأخضر، يركضون بشكل غريب، يرفعون ركبهم إلى مستوى البطن بشكل متناسق، إذا أمعنت النظر فيهم شعرت أنهم متدرب واحد، وأمامهم أحد المدربين يبدو من هيئته وملامحه أنه ليس أرمينيا، كانت أصوات الطلقات النارية تأتي من بعيد، ومجموعات أخرى يتدربون على القتال الفردي بالأيادي، انتبه أرتين إلى غريغور ورآه فاغرا فاه يلتفت يمنة ويسرة كالمجانين وكأنه وجد نفسه في تلك الأجواء الحماسية الذين هم فيها.
استقبلهم السيد نيكولاي مسئول الأفراد أمام المبنى المخصص للمبيت، كان المبنى عبارة عن بناء حجري مصبوغ باللون الأخضر الباهت فيه باب رئيسي كبير وأبواب صغيرة متفرقة، مكون من عدة طوابق، وكل طابق يحوي ممرا طويلا متوزعا فيه الغرف على الجانبين، وفي نهاية الممر توجد الحمامات، والطابق الأرضي يحوي المطبخ ومكان الاستراحة للمتدربين. فتح السيد نيكولاي إحدى الغرف الصغيرة لهم كانت تحوي أربعة أسرة. - هذه غرفتكم من الآن فصاعدا وهذا المفتاح سيبقى معكم، وإن جاء متدرب آخر فسيكون معكم في السرير الرابع، إنكم محظوظون لوصولكم في هذا الوقت المناسب والجميع في التدريب؛ لذا أنصحكم بالاستعجال إلى الاستحمام؛ لأنه بعد ساعة من الآن سيعود الجميع ويكون حينها أمامكم طابور طويل أمام أبواب الحمامات. •••
في اليوم التالي دخل القاعة أحد المدربين كان رجلا في مقتبل الخمسين من عمره، لكن حركته وجسمه المتناسق يبدو عليه عشرينيا رغم الشيب الذي قضى على آخر شعرة في رأسه! رجل وسيم وبشوش الوجه، صافحهم واحدا تلو الآخر وهو يقول: أنا المدرب «كيفورك» أهلا بكم في يريفان.
ثم تعرف على أسمائهم: غريغور، أرتين، بانوس.
بعدما رحب بوجودهم في المركز وقبول انضمامهم للثوار طرح سؤالا مباشرة: لماذا أنتم هنا؟ أو بشكل أكثر وضوحا: ما الذي دفعكم للانضمام إلى الثوار وترك قريتكم وأهلكم؟
أخبره أرتين بالدافع الأساسي الذي جعلهم يفكرون بالانضمام إليهم. - جميل، جميل، وأنتما ماذا تقولان؟ - لا نزيد على قول أرتين؛ فهو صاحب الفكرة. - حسنا، ماذا تعرفون عن الحزب؟ - الذي نعرفه عن الحزب أنه يدافع عن الأرمن ويحافظ على قراهم ويوفر لهم الأسلحة للدفاع عن أنفسهم، والغاية الأسمى هي بلوغ الاستقلال والخلاص من الحكم العثماني.
بعدها أخبرهم السيد كيفورك أنه من مدينة يريفان نفسها لديه ابنة في الخامسة عشرة من العمر وصبي في العاشرة وهما يكملان تعليمهما في المدارس، كان يأمل أن يكبر ابنه وينضم إلى الحزب لأجل أرمينيا، كان رجلا وطنيا لأبعد الحدود تحدث لهم عن مشاركته في الحرب الروسية العثمانية سنة 1876، وكيف استبسل في المعارك وقتل العديد من الجنود العثمانيين، وكيف وصلوا إلى مشارف الآستانة، فلم يكن أمام العثمانيين إلا اللجوء إلى الهدنة ووقف إطلاق النار، وبذلك تم عقد معاهدة سان ستيفانو (بلدة قرب الآستانة)، التي نصت على مجموعة من البنود المهينة للعثمانيين من ضمنها تعهد الباب العالي بحماية «الأرمن» والمسيحيين من الأكراد والشركس.
كانت صراعات دولية تجري حينها؛ فقد تدخلت الدول العظمى في ذلك مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا خوفا على مصالحهم في المنطقة ولم يقفوا بهذا الحد، بل تم إبدال معاهدة «سان ستيفانو» في السنة نفسها إلى معاهدة «برلين» التي أخذت وعودا من الباب العالي للحكومة العثمانية بإدخال التحسينات والإصلاحات للولايات التي يقطنها الأرمن وضمان أمنهم من العمليات الانتقامية جراء مشاركة بعض الأرمن مع الروس في الحرب، لكن كلها مجرد كلام على ورق لم ينفذوا شيئا منها في الواقع والحقيقة، أخذ نفسا عميقا ثم قال: مع ذلك فقد كانت تلك تجربة أولى لنا في فهم الواقع السياسي للمنطقة، والآن نحن نعمل في تحقيق الاستقلال بشكل أكثر دقة وأكثر فهما للخطوات التي نسير عليها، حينها شاركنا مع الروس وكنا لا نملك رؤية لمستقبلنا، كنا نتلقى الأوامر ولا نستطيع العصيان أو حتى المناقشة، القادم أفضل لشعبنا، هذا إيماني بالحزب وبالذي نقوم به.
ثم بدأ يسرد بعض القضايا التاريخية القديمة والحديثة، حتى وصل إلى التحدث عن نظام الملل الذي اتبعته الدولة العثمانية عندما قام السلطان محمد بن مراد الثاني، الذي يلقبه المسلمون ب «محمد الفاتح»؛ لأنه احتل القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، بتأسيس بطريركية أرمنية فيها فأصبح البطريرك الأرمني مسئولا عن الموظفين والإدارة الروحية والتعليم العام والمؤسسات الدينية والخيرية لملته (أي ملة الأرمن)، وانتقل العديد من الأرمن للعيش في الآستانة تاركين مدنهم وقراهم، وتكونت هناك شريحة من الأثرياء الذين تعاونوا مع الحكومة ووصلوا في مؤسساتها إلى مراتب متقدمة، فتقلدوا أعلى الوظائف بسبب استعدادهم لخدمة الدولة بإخلاص تام وافتقارهم إلى طموحات الاستقلال، حيث وصل عدد الأرمن في الحكومة العثمانية إلى «22» وزيرا عملوا في الخارجية والمالية والبريد والتلغراف والخزانة، وعملوا أيضا قناصل في عدة دويلات أوروبية.
بان على وجوههم الاستغراب من وصول هؤلاء الأرمن إلى هذه المراكز المهمة في الدولة، فرفع أرتين يده: سيد كيفورك، كيف وثق العثمانيون بهؤلاء الأرمن وأعطوهم هذه المناصب؟! - كانت السلطات العثمانية تتصرف بذكاء حيال هذه القضية؛ فهم كانوا يظهرون للدول الأخرى أن ليس لديهم تفرقة بين الترك وبقية القوميات والملل الأخرى، ومن جهة أخرى كان تركيز الدولة يصب على هذه الفئة فقط دون الشعب الأرمني فأغدقوا عليهم النعم برعاية السلاطين حتى غدوا من أرقى العناصر في الدولة، وهكذا أظهروا هؤلاء أمام الدول الأخرى فتم خداعهم أن جميع الملل متنعمون في الدولة، وأنا أعلم الضيق الذي كنتم تعيشون فيه، وما زلتم، وعدم اهتمام الحكومة لأمركم.
هكذا يا شباب أكون قد أعطيتكم نبذة سريعة عن الأحداث التي حصلت منذ عدة قرون للأرمن وأراضيهم، ولعلكم انتبهتم أننا في كل مرة تحت حكم دولة ما، وبقيت أرضنا مطامع القوى العظمى في المنطقة وساحة معاركهم، وأصبح شعبنا وقود تلك المعارك بسبب انعدام وجود دولة أرمنية قادرة على الدفاع عن أرضها وشعبها، ولهذا نحن هنا وإن بقينا كالحمقى نخدم العثمانيين أو الروس أو الفرس ولا نفكر بمصالحنا ومستقبل أمتنا ، سيستمر حالنا هكذا إلى الأبد .. نعم نحن نتعاون مع الروس لأنهم أقرب إلينا من أية دولة أخرى وقدمت لنا تسهيلات كثيرة، لكنها بالمقابل لا تفعل ذلك لأجلنا فهي أيضا لديها مطامعها في زعزعة الداخل العثماني بنا وإضعافهم بغية الوصول إلى المياه الدافئة ومضيق البسفور .. لا أريد أن أتعمق في سياسات الدول وأطماعها، لكن أريد أن أبين لكم أننا لسنا أداة بيد أحد، وأننا فهمنا الجو العام للمنطقة ونعمل لأجل مصالحنا المستقبلية. - لكن يا سيد كيفورك عندما كنا في وان حصلت حادثة اغتيال فاشلة ضد والي المدينة عندما مر موكبه من السوق، وبعد الحادثة قامت الحكومة بتطويق المكان وتفتيش الدكاكين واعتقال بعض أصحاب المحلات فقط، لكن بعد عدة أيام ألقى أعضاء الحزب على شوارع وأزقة المدينة منشورات يتبنى فيها العملية ويتوعد بالمزيد، وحالما علمت الفرسان الحميدية تبنيهم للعملية وكأنهم كانوا يبحثون عن سبب ليقوموا بشنق بعض المساجين والهجوم على عدة قرى أرمنية وقتل العديد من أبناء شعبنا.
سؤالي هو: كيف يقوم الحزب بمثل هذه الحركة وهم يعلمون أن وراءها ستقوم الفرسان الحميدية بأعمال انتقامية؟ كما حدث بالفعل، هل يمكن لك أن تشرح لنا المبررات لهذه الخطوة غير الموفقة، حسب نظري ونظر أصدقائي، ولا أخفي لك أننا تناقشنا كثيرا بهذا الأمر لكننا لم نتوصل إلى جواب مقنع فيه؟
ابتسم السيد كيفورك وقال: في الحقيقة نحن لا نتطرق لمثل هذه المواضيع الحساسة أثناء إعطاء الدروس النظرية للمتدربين.
ثم سكت ونظر إلى بلاطة القاعة والابتسامة تعتلي جبهته وأكمل: لكن بما أنك سألت عن ذلك يا بانوس، سأجيب على سؤالك وسبب إجابتي لأن الذي قلته ينم عن مدى حرصك واهتمامك على سلامة أبناء شعبنا، وهذا أمر جيد، لكن اسمح لي أن أقول لك إن نظرتك هذه، نظرة عاطفية بحتة، أما نظرة الحزب للأمر فهي نظرة بعيدة المدى وفيها بعض الفوائد العظيمة مستقبلا للشعب الأرمني، ولربما حتى الخلاص من الحكم العثماني والوصول إلى الاستقلال .. وحتى أقرب لكم الصورة سآتي بمثال بسيط وقريب منا نحن الأرمن، هل سمعتم كيف حصلت بلغاريا على حكم ذاتي؟
ردوا بصوت واحد: لا. - حسنا، دعوني أخبركم بذلك، سعى الثوار البلغاريون للتخلص من الحكم العثماني بكل السبل، ولم يقدروا على ذلك، كانت روسيا والدول الأوروبية تريد مساعدتهم ولكنهم لم يستطيعوا فعل أي شيء لأجلهم؛ لأن ذلك كان يعتبر تدخلا في الشئون الداخلية العثمانية، ولا توجد أية ذريعة للقيام بذلك، فعمد الثوار إلى تحريك روح الانتقام لدى العثمانيين وقتلوا ألفا منهم بكل وحشية وعمدوا على ذلك، حتى إنهم قطعوا بعضهم إربا إربا ومثلوا بجثثهم، مما جعل الحكومة مدعومة بالأهالي تقوم بأعمال انتقامية كردات فعل لما حصل للمسلمين فقتلوا أكثر من عشرة آلاف مسيحي بلغاري، مما أدى إلى ضجة كبيرة في الأوساط الأوروبية، فتدخلت روسيا عسكريا وتدخلت الدول الأوروبية معها للحفاظ على مسيحيي بلغاريا من الأعمال الانتقامية ومن المجازر، وحصلت ضغوطات دولية على الباب العالي، وبذلك تمكنت بلغاريا من الحصول على الحكم الذاتي. - لكن هذا يعني أننا نجعل من بعض أفراد شعبنا طعما لهم لكي نحصل على التدخلات الخارجية المساندة! ثم ألا توجد طريقة أخرى غير ذلك! أوليست هذه جريمة بحقهم؟! - الحقيقة نحن لا بد أن نعترف أننا لا نمتلك القوة الكافية لمجابهة دولة عظمى وجيش مدرب وذي إمكانيات عالية من التسليح، نحن شعب في بداية ثورتنا ولا يمكننا الوصول إلى الغاية إن لم ندفع ثمنا لذلك، شعبنا يقتل ويذبح يوميا من خلال غارات العصابات التي لا تهدأ وأطماع الولاة والإقطاعيين في أراضي الفلاحين المساكين واستخدامهم قوة الحكومة لصالحهم، فلماذا لا يقتلون من أجل قضيتنا حتى يعيش أبناؤهم وأحفادهم حياة أفضل! أنتم لا تعلمون ماذا تكتب الصحف البريطانية وبعض الصحف الأوروبية عن مظالم الشعب الأرمني تحت الحكم العثماني، وهذا لم يحصل إلا بعدما دخلت الإرساليات الأوروبية وقناصلهم وبدءوا يرسلون برقيات إلى حكوماتهم عن الذي يقاسيه الأرمن المستضعفون؛ فالأعمال التي تقوم بها العصابات لا تؤثر كثيرا على الرأي العام؛ لأن في كل الدول هنالك عصابات تقتل وتخرب أما الأعمال الانتقامية التي تقوم بها الحكومة وبهذا الشكل من الوحشية فتحشد لنا دعما كبيرا ويمكنهم التدخل كثيرا في شئون الحكومة العثمانية والضغط على الباب العالي، وإلا فلن يستطيعوا أن يفعلوا شيئا لأجلنا .. نعم غايتنا الدفاع عن حياة كل أرمني موجود في العالم، لكن لا بد من هذه التضحيات للوصول إلى الغاية.
ساد الصمت في القاعة، نظر أرتين إلى بانوس وبدا أنه يفكر في الأمر، كانت فكرة جعل بعض الأرمن طعما للحكومة بغية الحصول على الدعم الأوروبي، غير قابلة للهضم العقلي والعاطفي لدى بانوس، يبدو أنه لم يصدق أن الحزب يخطو مثل هذه الخطوة ويفرط بدماء الأرمن! كانت تلك المشاعر ظاهرة على تقاسيم وجهه.
وحتى يدرك السيد كيفورك الموقف تحول بكلامه إلى العاطفة الدينية، حيث فيها يمكن إقناع المؤمن بما لا يمكن إقناعه في غيرها، فنظر إلى بانوس وقال: يبدو أنك لم تقتنع من وجوب التضحية لأجل أن يعيش البقية بسلام وأمان وخلاصهم من الظلم، لكن ألم يبذل المسيح نفسه ويصلب من أجل خطايانا! ألم تقرأ ما جاء في رسالة بولس إلى تيتس: «الذي بذل نفسه لأجلنا، لكي يفدينا من كل إثم، ويطهر لنفسه شعبا خاصا غيورا في أعمال حسنة.» فما قيمة تضحية هؤلاء وبذل أنفسهم من أجل إخوانهم أمام بذل المسيح نفسه! إنه لشرف عظيم لهم أن يكونوا شهداء هذه القضية وسيخلد التاريخ ذكرهم بأنهم كانوا سببا رئيسيا في إقامة دولة أرمينيا، نعم لم يحدد أسماءهم، لكنهم سيبقون في ذاكرة الشعب بأسماء المذابح التي راحوا ضحيتها .. ثم سكت وبدا على وجهه التأثر، وكادت عيناه أن تدمعا، تأثر بانوس أيضا وحرك رأسه مؤيدا لكلامه وهو يمسح دموعه بكم ردائه. •••
على وجبة الغداء عاد النقاش مرة أخرى، حول ما جرى في الدرس وخصوصا في نهايته، فقال غريغور: إن كلامه كان مقنعا بالنسبة لي قبل أن يذكر المثال، لكن بعدها أصبحت أكثر إيمانا وقناعة بالحزب وأفكاره. - وأنت، ماذا عنك يا بانوس؟ لقد رأيتك تمسح دموعك بعدما ذكر المثال.
وضع بانوس الملعقة من يده وحدق في عيني أرتين: لم تدمع عيناي على موقف المسيح بقدر ما دمعت عيناي لحالنا وما الذي وصلنا إليه حتى أصبحنا نضحي من أجل البقاء بأغلى ما نملك، ولماذا نحن في كل مرة! ما ذنب الأطفال والنساء والشيوخ الذين يقتلون في مدننا خلال سنين وعقود خلت، نعم أنا اقتنعت أن الحزب يريد خلاص الشعب من هذا الظلم بالفداء وبذل الجزء من أجل الكل، لكن قناعتي قناعة مؤلمة وجارحة في نفس الوقت. - ماذا نفعل يا بانوس، لا بد من أن نتحمل ونصبر حتى بلوغ الغاية، ونذكر أنفسنا بوعد الرب: «لأنكم تحتاجون إلى الصبر، حتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد، لأنه بعد قليل جدا سيأتي الآتي ولا يبطئ.» وسيأتي اليوم الذي يكون فيه خلاصنا منهم؛ لأن الرب معنا ويرى ما نحن فيه من ظلم وضياع وهلاك.
الفصل الرابع عشر
القدس - فلسطين 1944م
عند حائط المبكى جلب انتباه حسن أحد اليهود وهو يهز نصف جسده بشكل متناسق مستقبلا الحائط واضعا على رأسه طاقية صغيرة تغطي جزءا من رأسه، تشبه كثيرا الطاقية التي يضعها بعض المسلمين على رءوسهم عند الصلاة، لكن بحجم أكبر مما عند اليهود، وتغطي الرأس كله وكأنها دلالة أن الإسلام مكمل لليهودية ومغط لما نقص منها، أو أن اليهودية ديانة محصورة في دائرة صغيرة، والإسلام ديانة للناس أجمع.
كان اليهودي يبكي وينوح ويهتز جسده أكثر فأكثر ويناجي بكلمات غير مفهومة، انتظره حسن حتى يكمل صلاته، ومن ثم حاول أن يقتل فضوله ويسأله عله يتكلم العربية. - عذرا، هل تتكلم العربية؟ - نعم؛ فأنا من يهود اليمن «الإسفارد»، العربية لغتنا كما هي لغتكم. - أتمنى ألا أسبب لك إزعاجا أو ألا يكون تدخلا فيما لا يعنيني لو سألتك عن سبب البكاء الشديد في الصلاة.
ابتسم اليهودي واضعا طاقيته في الجيب الداخلي لردائه، ثم أمسك يد حسن وقال دعنا نجلس في فناء تلك الحديقة ونتبادل الحديث. استغرب حسن من دماثة الرجل الذي كان يبدو عليه في نهاية عقده الرابع وسار معه إلى أن جلسا وجها لوجه. قبل الحديث عرف بنفسه: «أنا بنيامين.» فأخبره حسن باسمه فأردف قائلا: بنيامين اسم الأخ الشقيق للنبي يوسف المذكور قصته في كتابكم القرآن، أتعلم بذلك يا حسن؟ - نعم أخبرنا بذلك أستاذ الدين في المدرسة، محمود الخطيب، وأخبرنا أيضا أن أغلب الناس يظنون أن اسمه «نكتل» وليس بنيامين،
فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون ، لكن «نكتل» هنا فعل وليس اسما حسب سياق النص، وهو مشتق من كال يكيل كيلا؛ أي تقدير الأشياء بحجمها. - جميل، لكن قل لي: ما الذي لفت انتباهك في صلاتي وهنالك الكثير من اليهود عند الحائط يصلون؟! - لا أدري، ربما شدة تأثرك حتى حسبتك كبعض أهل التصوف عندما يحيون طقوسهم الخاصة في إحدى زوايا القدس، فيصل بهم الحال إلى فقدان الوعي. - نعم هو تصوف يهودي، والحقيقة يا حسن أنا بالرغم من عدم اعتقادي بالحركة الحسيدية الأشكنازية فإنني متأثر ببعض أفكارهم، ولعلك لم تسمع بالحسيديم؛ لأنها حركة انتشرت في أوروبا الشرقية قبل قرابة مائتي سنة أسسها الحاخام «بعل شم طوب»، ولاقت هذه الفرقة رفضا كبيرا من قبل الكثير من حاخامات اليهود آنذاك، وتم اتهام معتنقيها بالزندقة والهرطقة.
قاطعه حسن: ما علاقة الحسيديم بسؤالي عن شدة تأثرك بالصلاة؟! - سآتيك بالكلام، اصبر قليلا، يبدو أن الأستاذ محمود لم يعلمكم الصبر.
قال ذلك مازحا ثم استرسل: حتى لا أطيل الكلام، هنالك وصف جميل عن كيفية أداء الصلاة عند هؤلاء يسمونه ب «الدبقوت»، وأنا متأثر فيه جدا، يقولون فيه: «على الإنسان عندما يصلي يجب أن يضع كل قوته في نطق الحروف وتلفظها، وينتقل من حرف إلى حرف حتى ينسى طبيعته المادية، ويجب أن يتأمل حول فكرة أن هذه الحروف قد تركبت وانضم بعضها إلى بعض، وهذه سعادة عظمى؛ لأنه إن كانت السعادة قد حصلت بالتوحيد في العالم المادي، فكم تكون السعادة إذن في عالم الروح، وهذه هي مرحلة التكوين .. ثم بعد ذلك عليه أن يصل إلى مرحلة كون الحروف في ذهنه فقط بحيث لا يسمعها عند نطقها، وهنا يدخل عالم التكوين، ثم بعد هذا يجب أن يصل إلى حالة اللاشيئية، حيث ينعدم جانبه المادي تماما، وهذه هي مرحلة عالم الفيض، عالم الحكمة.» لأجل ذلك سألتك ما الذي لفت انتباهك في صلاتي عن البقية؛ لأنني كنت خارج العالم المادي، ولا أشعر أن تأثري الشديد مرئي من خلال حركتي وبكائي حسبت أنه تأثر روحي فقط.
لم يفهم حسن العوالم التي ذكرها وكذلك بعض المصطلحات التي لم يسمع بها من قبل ك «حالة اللاشيئية» و«انعدام الجانب المادي»، لكنه أظهر الفهم بهزة رأس بسيطة، ولم يكن يتصور أن هناك عمقا لهذا الحد في الديانات الأخرى، كان يظن أنهم يؤمنون بالخرافات والخزعبلات، وكان يتساءل دوما في نفسه كيف يؤمن الآلاف باليهودية والملايين بالمسيحية وغيرهم الكثير بالأديان والمعتقدات الزائفة ولا يؤمنون بالإسلام الدين الحق والطريق القويم المؤدي إلى الله؟ وهنا وجد الجواب أن إيمان الناس له أسباب وأفكار قد لا ندرك عمق تأثيرها فيهم وجعلهم يتمسكون بها أيما تمسك، كما هم لا يدركون عمق تأثرنا وبكائنا الشديد عند رؤية الكعبة لأول مرة أو حتى عند سماع بعض الآيات القرآنية بصوت خاشع.
ثم عاد حسن ليسأله: وهل كنت تدعو لأحد في صلاتك، أم إنها كانت خالية من الدعاء؟ - نعم كنت أدعو الرب أن ينجي إخوتنا اليهود من عذابات النازية هناك في ألمانيا. - وتؤيد تجمعهم هنا في فلسطين؟!
سأله حسن بنبرة غاضبة وأكمل قائلا: أنا لا أتمنى لهم السوء، لكن تجمعهم هنا يسبب الكثير من المشاكل لنا ولكم أيضا.
سكت بنيامين هنيهة، ثم قلع نبتة خضراء من الحديقة التي يجلسون في فنائها وقال لحسن: ما مصير هذه النبتة؟ - الجفاف ثم الموت. - وهكذا نحن اليهود نموت إذا تم اقتلاعنا من أرضنا هذه. - لكنكم لم تموتوا لقرون طويلة وأنتم بعيدون عنها، ولم تجف أغصانكم حتى، ومن ثم من يثبت أنها أرضكم حتى إن اقتلعتم عنها أصابكم الموت؟!
اشتد الكلام واحتد بينهما بعد أن بدأ لطيفا، ودب الخوف في قلب بنيامين عندما اكفهر وجه حسن واستشاط غضبا من كلامه، لكنه لم يتوقف عن استفزاز حسن وقال له: «ثمة قول مأثور عندنا : «إن سقط حجر على إبريق فإن الإبريق ينكسر، وإن سقط الإبريق على الحجر فإن الإبريق ينكسر أيضا»، ونحن الحجر وكل من يعادينا إبريق.»
ثم حمل نفسه ورحل غير آبه لرد حسن مستنكفا عن أن يكمل الحديث معه.
أثناء ذلك وجده هشام على حاله وغضبه فقال له: ما بك، ومن هذا الرجل الذي كنت تجالسه؟ - لا شيء، يهودي أرعن يظن أن هذه أرضهم وفيها جذورهم العفنة. - ولماذا تدخل في مثل هذه النقاشات العقيمة معهم! لن يقتنعوا بالكلام، هؤلاء لا تجدي معهم غير القوة هم ومن يركنون إليهم. - دعك منهم وأخبرني عنك، فمنذ عودتي من دير ياسين لم أرك.
كانت الفرحة ظاهرة على وجه هشام الذي لم يعتد أن يخبئ سرا عن حسن منذ طفولته، فأخبره عن أول عملية قام بها ضد جنود الاحتلال وكأنه سيطير من الفرح، وبدأ يصف لحسن بصوت منخفض كي لا يسمعه المارة كيف عمدوا إلى كمين على الطريق الخارجي بين القدس ورام الله وتوزعوا على جانبي الطريق، وأخذ كل مكانه وصوب الجميع فوهة بارودته نحو الطريق الذي ستمر الدورية منه، منتظرين الإذن بالإطلاق من قائد العملية في الوقت المناسب. - وبعد انتظار دام قرابة الساعة سمعنا أصوات العربات العسكرية تقترب شيئا فشيئا، تجهز الجميع وبدأ قلبي ينبض بسرعة، كان شعورا متداخلا بين الفرح والخوف، الحماس والارتباك، الاندفاع والتراجع والشدة واللين، تلك الدقائق القليلة التي انتظرتها حتى تصل العربات العسكرية إلى منتصف الكمين، كانت طويلة بقدر تعدت حدود الزمن، شعرت أن الساعة توقفت عن الدوران في تلك اللحظة، وبت أقول بنفسي: هيا هيا، نفد صبري وأنا أراقب القائد وأنتظر أن ينزل يده لكي تبدأ أول معركة لي مع الحق ضد الباطل، مع المظلوم ضد الظالم، مع المغتصب ضد الغاصب.
وما إن وصلت العربات وأصبحنا نرى الجنود أمامنا بوضوح حتى أنزل القائد يده إيذانا ببدء المعركة، فخرجت الطلقات الأولى من فوهات بواريدنا المصوبة عليهم، فتساقط الجنود أمامنا كتساقط أوراق الشجر في يوم عاصف من أيام الخريف، بعدها حمي وطيس المعركة ولم يكن لصالحنا استمرارها أكثر، فتقدم المقاتلون ليقضوا على من بقي من الجنود الذين احتموا بين عرباتهم، أصيب عدد من مقاتلينا لكن لم يمت أحد، وقتلنا جميع من في الدورية، ثم حملنا الأسلحة وأضرمنا النار في العربات، ثم انسحبنا من المنطقة كلها، قبل أن تصل الإمدادات العسكرية لهم.
الفصل الخامس عشر
وارسو - بولندا 1940م
الأسوار المبنية من الطوب الأحمر الفاصلة بين الغيتو ووارسو كأنها الحد بين الجنة والجحيم، بين النور والظلام، بين الحرب والسلم. هنا الأوبئة والأمراض وافتقار لأقل ما يحتاجه الإنسان من سبل العيش، وخلف هذا السور يبقع الألمان ومن يواليهم من البولنديين في رغد ونعيم.
كان الغيتو على هيئة دولة كاملة، لكن داخل سجن كبير محاط بأسوار من كل جوانبه، وضع المجالس اليهودية فيه ليقوم بدور الحكومة؛ إذ كانت لديه منظومة شرطة تنفذ ما تريده بالقوة، ويحتفظ بأسماء جميع الموجودين في الغيتو، ويقدم أسماء الوفيات والولادات، وأعمار الشباب القادرين على العمل ومهنهم، والعجائز والمعاقين وغيرهم، إلى النازية في سجلات منظمة ومرتبة تحت إشراف النازية.
في بداية الأمر أخبروهم أن هذا المكان مؤقت ولأجل اليهود أنفسهم؛ لأن بقاءهم في المدن والقرى خطر على حياتهم جراء أعمال الشغب المتوقعة كما حصلت في ليلة التاسع من نوفمبر 1938 «ليلة الزجاج المحطم»، ومن هنا سيتم نقلهم إلى الأماكن الأكثر أمنا بعد تهيئتها ضمن «برنامج إعادة التوطين»، هكذا انتشرت الأخبار بين سكان الغيتو.
تم توزيع القادمين الجدد من جميع أنحاء ألمانيا إلى الشقق في الأحياء المتفرقة داخل الغيتو، حصل مايكل على غرفة في شقة أحد اليهود البولنديين، كان رجلا ستينيا أخبرهم أن هذه شقته قبل دخول الألمان إلى وارسو، وقد تم إجباره على استقبال اليهود فيها، كان كلامه فيه الكثير من جرح للمشاعر يظهر دوما انزعاجه الشديد من وجودهم في بيته، سأله مايكل في أحد الأيام: كيف تم بناء الغيتو وفصلكم عن المدينة قبل مجيئنا؟ - الغيتو من أحياء المدينة نفسها، لكن هذه الأحياء كانت اليهود تقطنها بكثرة؛ لذا تم عزلها وأصدروا الأوامر ببناء السور بين البيوت والبنايات وحتى الشوارع والأزقة، وتم نقل بقية اليهود من الأحياء الأخرى إلى هنا قسرا. - وماذا عن البولنديين أصحاب البيوت والمتاجر هنا في هذه الأحياء؟ - أيضا تم إجبارهم على ترك ممتلكاتهم بالاتفاق مع البلدية، وتم تعويضهم من ممتلكات اليهود في الأحياء الأخرى، هكذا أصبحت العملية متوازنة بين هنا وهناك. - لكن عند مجيئنا هنا رأيت زحاما شديدا في الأحياء، كيف حصل التوازن، هل أحياء وارسو كان الزحام فيها طبيعيا قبل الاحتلال؟ - لا، بالتأكيد، لكن بعد الاحتلال تم جلب اليهود من جميع أرجاء المدينة إليها، إضافة إلى اليهود القرويين، فحصل الزحام ومن ثم أتوا بكم، فأصبح الزحام هنا لا يطاق.
حملق مايكل بوجهه مقطبا حاجبيه عند سماعه الجملة الأخيرة، شعر الرجل بالخجل فأراد أن يدرك الموقف. - لا أقصدكم أنتم بالذات، بل الوضع العام للغيتو أصبح الزحام فيه شديدا. •••
وقف مايكل على الشرفة المطلة على الزقاق يتأمل الحي والمارة، كان الناس في حال يرثى له، الأطفال المشردون وثيابهم الرثة وهم يستجدون المارين بأي شيء يملكونه حتى وإن كانت قطعة خبز يابسة أو متعفنة، والمرضى ملقون على قارعة الطرقات، ترى في وجوههم سوادا مخيفا وكأنهم قد أخرجوا من قبورهم، ولم يتوفر لهم في الغيتو مشفى يسع هذا الكم الهائل من المرضى .. كانت الرطوبة والقذارة ورائحتها الكريهة وكثرة الجرذان في أغلب بيوت الغيتو سببا في انتشار الأمراض المعدية كالتيفوئيد والكوليرا .. ففي إحدى الليالي أفاق مايكل صوت أنين سارة، اقترب منها كانت أمه قد وضعتها بحضنها على طرفها الأيسر ويدها على جبين سارة. - إنها مصابة بالحمى، اعتن بها، سأجلب ماء باردا وقطعة قماش أضعها على جبينها علها تخفف من حرارتها.
وضع مايكل رأسها على فخذه، كانت سارة تهذي من الحمى وتنطق أسماء صديقاتها في المدرسة بصعوبة «مينا سالي كاثرينا ...» لقد اشتقت إليكم كثيرا. ثم نظرت إليه وقالت: متى سنعود إلى بيتنا، أنا لا أحب هذا المكان. - سنعود قريبا يا حبيبتي ، حالما تتحسن صحتك، سنعود. - حقا؟ - نعم يا حبيبتي، فقط كوني قوية، لم يبق الكثير ونعود هناك .
أعطته ابتسامة صغيرة بوجه شاحب، صلى للإله ألا تكون قد أصابتها حمى التيفوئيد، سهرت الأم الليلة كلها وهي تضع الكمادات الباردة على جبينها ثم تعصر الماء منها وتعيد الكرة ودموعها تسيل على خديها.
في الصباح خرج مايكل يبحث عن طبيب في الأزقة والأماكن العامة، وبات يسأل الناس كالمجنون. - من يعرف طبيبا هنا؟ من يدلني إلى طبيب؟ هيا أخبروني.
لم يبق زقاق أو حي لم يدخله ويسأل من فيه، لكن دون جدوى. اتكأ على جدار بيت في قارعة الطريق واضعا يداه على رأسه ويفكر، كانت الأفكار متداخلة في رأسه، وكل ما يخشاه أن تكون قد أصيبت بالتيفوئيد، وبينما هو كذلك جلس أحدهم قربه وأعطاه ابتسامة صغيرة وقال: هل كنت تبحث عن طبيب؟
التفت إليه مايكل وقد اغرورقت عيناه بالدموع، رد عليه بصوت مبحوح: نعم. - أنا من أشهر أطباء وارسو.
انفرجت أساريره ومسح الدموع من عينيه. - أرجوك، أنقذ أختي الصغيرة في البيت قد أصابتها حمى شديدة من ليلة البارحة. - انتظرني هنا، سأجلب العدة ونذهب إليها، لن أتأخر. - أجل، استعجل أرجوك.
في الغرفة سأل الطبيب الأم: هل استطاعت أن تأكل؟ - حاولت معها، لكنها لا تشتهي الأكل وتقول بطنها يؤلمها كثيرا حتى نامت بعدها من شدة الإرهاق.
وضع الطبيب يده على جبينها بلطف، بعدها تفحص أسفل حنكها ثم توقف ومشى بخطوات وئيدة نحو الشرفة لحق به مايكل. - أخبرني ما بها؟ - لا أخفيك، إنها أعراض التيفوئيد، من الأجدر ألا تبقى في البيت، مرضها معد، سينتقل إليكم أنتم كذلك، يجب نقلها إلى المشفى بأسرع وقت، أنصحك أن تكلم أحد أعضاء المجالس علهم يقتنعون بنقلها إلى مشفى خارج الغيتو. - وهل يقبلون بذلك؟ الغيتو مليء بالمرضى، كيف لي أن أقنعهم؟ - بالمال يا مايكل، المال يفتح الأبواب الموصدة في هذه الحياة.
الفصل السادس عشر
قرية أنجرلك - تركيا 1896م
كانت الشمس تلفظ أنفاسها الأخيرة خلف التلة البعيدة والغيوم مجتمعة حولها على شكل كتل متراصة تلونت بلون قرمزي وكأنها تشيع الشمس إلى مثواها الأخير، والعربات المتجمعة في الساحة الخلفية للسوق يضفو عليها شيء من لون ذلك الحداد السماوي المتكرر، والتعب المشوب بالفرح يعتلي وجوه المزارعين بعد يوم طويل وشاق، وهم يتجهزون للرحيل إلى قراهم .. تفحص الوجوه أرتين باحثا عن مزارعي قريته لكنه لم يجد أحدا، توجه إلى السوق حيث يتواجد الباعة علهم هناك ولم يكملوا بيع محصودهم، لكن الساحة كانت فارغة إلا من الأوساخ المتناثرة هنا وهناك.
على ظهر العربة المتوجهة إلى القرية المجاورة لقريتهم سأل أرتين أحد المزارعين: ألم يخرجوا معكم اليوم لبيع محاصيلهم؟! - لقد تعرضت العصابات للقرية منذ الصباح الباكر ولم يستطيعوا الخروج. - ماذا تقول؟! هل سمعت شيئا عنهم؟ أخبرني أنا ابن مختار القرية! - لا أعلم سوى أن سبب عدم مجيئهم إلى السوق هو الذي قلته لك توا.
انتفض غريغور غاضبا وضرب بقبضة يده على أحد الألواح الخشبية في أرضية العربة فكسره، عندها ساد صمت بينهم كان بانوس بالكاد يكتم ضحكة عارمة حتى احمر وجهه، وأرتين يرمقه بأطراف عينيه، حملق صاحب العربة بوجه غريغور وقطب حاجبيه وكأنه يقول: ما ذنب عربتي بالذي حصل؟ - أعتذر، لم أقصد كسرها، سأصلحها لك.
صد صاحب العربة وجهه عن غريغور وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة ويحرك رأسه متذمرا. - اهدأ يا غريغور سنصل بعد قليل ونرى ماذا حل بهم، هذه ليست المرة الأولى التي يغيرون فيها على القرية. - أعلم أنها ليست المرة الأولى، لكن لا أستطيع أن أتمالك نفسي، سأنتقم من هذه العصابات مهما حصل، وأقطعهم بيدي هاتين. •••
كانت وجوه الرجال شاحبة غزاها الخوف والهوان، في مضافة المختار تلمكيان في تلك الليلة البائسة عندما دخل أرتين مع غريغور وبانوس إليهم، رفعوا رءوسهم كانت نظراتهم تحمل الأسى واللوم معا، لم يتحرك أحد من مكانه حتى المختار تلمكيان كان جالسا مطأطئ الرأس، اقترب منه أرتين وقال: أبي، أرجوك أخبرني ما الذي حصل؟
رفع المختار رأسه بعينين دامعتين، فرأى أرتين فيهما انكسارا لم يره في وجه أبيه قط، وكأنهم كسروا كبرياءه وهدموا جبروته، وقطعوا كل سبل قوته، كانت نظراته تحمل في جوفها بكاء طفل يتوق إلى حضن يشعره بالأمان ، شعور بالضعف وقلة الحيلة وهو المسئول عن حياة أهل القرية. - لقد أثخنوا في القتل هذه المرة. - لا تطأطئ رأسك يا أبتي، سننتقم ونثأر منهم قريبا. - لا يا بني، لا قدرة لنا بهم، أنا لدي حل آخر.
قام المختار تلمكيان من مجلسه وانتصب واقفا وكأن الروح عادت إلى كبريائه وامتلأ المكان بهيبته، ارتسمت البهجة في وجه أرتين وظن أن أباه قد قرر الانضمام إلى الثوار واقتنع أخيرا أن لا فرصة لديهم للبقاء على قيد الحياة إلا بهذه الخطوة. - اسمعوني جيدا يا رجال، لقد حاولنا بكل الطرق صد العصابات التي ما لبثت تهاجمنا منذ سنوات، وفي كل مرة تزداد قوتهم ووحشيتهم أكثر فأكثر، طلبت الدعم من الوالي فاستجاب لكن العصابات زاد عددها وعدتها ولم نستطع ردهم مرة أخرى، وساءت أحوالنا؛ لذلك أرى أننا نترك القرية جميعا ونتوجه إلى قرية قريبة من مدينة «وان»، والذي لديه القدرة أن ينتقل للعيش في المدينة لا مانع من ذلك، الغاية هي الخلاص من شر هؤلاء، والابتعاد عنهم لفترة حتى تستقر الأوضاع ويتم القضاء على العصابات ثم نعود إلى ديارنا، فإن قبلتم فسأرسل إلى الوالي برقية أوضح فيها حالنا، كي يرسل إلينا دعما أثناء التنقل، وكذلك أطلب منه بعض المساعدات لأجل هذا القرار، فما رأيكم ومشورتكم؟
هز أرتين رأسه يائسا وهو ينظر بوجه بانوس، كانت فكرة المختار لا تحمل أي شجاعة وليس فيها تمسك بالأرض كما كان يظن، كيف فكر بترك أرض آبائه وأجداده بهذه السهولة؟ كان ذلك السؤال يراوده وهو يستمع إليه.
سكت رجال القرية وبدا أنهم يفكرون في كلام المختار، كانت حادثة اليوم لها تأثير كبير في نفوسهم وتعبهم الشديد من جراء عدم وجود حل جذري لمشكلتهم .. ثم أبدوا جميعا أنهم موافقون على الفكرة، كان بانوس أكثر المتحمسين لفكرة المختار على عكس غريغور وأرتين؛ لأن باتيل ستكون قريبة من «وان». •••
كانت مقاطعة غاردن تعيش حالة من الهلع، والخوف قد غزا وجوه المارة في السوق، ففي أي لحظة يوشك أن يحدث اغتيال للدرك المنتشرين هنا أو هناك، أو مشاحنات بين الأرمن والأكراد التي عادة ما تتحول إلى شجار بالسكاكين وتوعد بالويل، كل يهدد الآخر بشكل مبطن، هذا متكئ على الفرسان الحميدية، وذاك بالثوار الأرمن، والقتل غدا الحل الوحيد بينهما بعد قرون طويلة من الجيرة والامتداد التاريخي المشترك، وكأن التعصب قد محا كل تلك السنين وبرز الوجه الأسوأ للطرفين. - أرتين: المدينة ستنفجر بأي لحظة. - وهذا ما نريده. - كيف؟ نحن الطرف الأضعف إذا انفجرت حتما ستكون خسائر الأرمن أكثر منهم بكثير. - إنها معادلة التضحية التي لم تعجبك في يريفان. - لكن هذه المرة لا تشبه عواقب عملية اغتيال الوالي الفاشلة. - كلما كانت التضحيات كبيرة كلما اقتربنا من الغاية أكثر. - علها تكون التضحية الأخيرة.
أطرق أرتين نظرة استغراب بوجه بانوس. - أخيرة! - أعلم أنها أمنية مستحيلة، وأعلم أننا في بداية طريق سيطول بلوغ نهايته، لكن ما لنا غير الأمنيات نوهم أنفسنا بها ونخفف الوطء عليها.
هز أرتين رأسه، ثم ساد صمت بينهما كانا جالسين على تلة مرتفعة يتأملان بحيرة وان الزرقاء، ومراكب الصيد تتأرجح على الماء وكأنها مهد طفل تحركه الأم بلطف شديد. •••
في صباح أحد الأيام تفاجأ أهالي الحي الأرمني بانتشار الثوار في الأزقة وهم مدججون بالأسلحة، وأقيمت الحواجز حول كنيسة «ديره» ومبنى الإرسالية البروتستانتية ومحلة «نورشين» و«حاج بوغان» من جانب كنيسة «إيريك»، باستخدام جذوع الأشجار وأغصانها وكذلك بطوب اللبن، وبذلك سد الثوار كل منافذ الجزء الأرمني من المقاطعة، فأصبح تحرك الثوار بحرية أكبر داخله.
سمع أرتين صوت إطلاق نار من جهة محلة «نورشين»، لكن تبين فيما بعد أن مجموعة من العمال كانوا قادمين إلى مكان عملهم الحي الأرمني، وتم إطلاق النار في السماء حتى يعودوا أدراجهم، كان أرتين يبحث بين الثوار عن غريغور وبانوس، بعدما أصبحت حركتهم حرة في الجزء الغربي من مقاطعة غاردن، وبالأخص فصيل الاغتيالات كانت مهمتهم ليست بخط الصد الأمامي مثل بقية الفصائل المدربين على مثل هذه الاشتباكات ، فقد تم اختيار أمهر القناصين في الفصيل ووضعهم في أعلى أسطح البيوت العالية وسطح الكنيسة، ولم يكن أرتين ممن اختيروا لتلك المهمة.
تجول بين الأزقة حاملا سلاحه، كان القادة مجتمعين ويوجهون مقاتليهم ويدبون فيهم روح الحماسة، وعند وصوله قرب كنيسة «ديره» انتبه إلى غريغور وهو متكئ على حائط الكنيسة يمسح بارودته بقطعة قماش على مهل، تعانقا عناقا طويلا.
أثناء تبادلهما الحديث أمطر موقعهما بوابل من الطلقات، اتكأ أرتين على جدار الكنيسة، بينما غريغور كان يصيح كالمجانين وهو يطلق النار باتجاه العدو خلف جدار من طوب اللبن ويرفع حماس الذين معه، بعدها وصلت إمدادات إلى هذا الجزء الذي يبدو أن العدو قد ركز عليه في بدء الهجوم .. سقط العديد من الشهداء في تلك الهجمة المفاجئة، لكن لم يستطيعوا اختراق الحي الأرمني، لاستبسال غريغور ومن معه من المقاتلين.
استمرت المعارك من الصباح حتى غروب الشمس يومها، في كل الجهات من الجزء الأرمني، وبسبب التمركز الجيد ووجود القناصين وبسالة المقاتلين لم تستطع قوات «سعد الدين باشا» دخول أي محلة فيه، وبقي الحي الأرمني محصنا ومنيعا.
أقبل أحد المقاتلين نحو أرتين وهو يلهث. - أرتين، أرتين، لقد أصيب بانوس بطلقة نارية على كتفه. - ماذا تقول؟ أين هو الآن؟ - دعني آخذ نفسا.
جلس بقرب أرتين ورفع الكوفية من على وجهه، ثم وضع يده على صدره والأخرى على الأرض. - هناك في حاج بوغان.
الفصل السابع عشر
القدس - فلسطين 1944م
من على شرفة غرفته المشتركة مع خالد والمطلة على باحة منزلهم جلس حسن يتأمل بزوغ الفجر، يتمعن في الخط الفاصل بين الليل والنهار، الضوء والظلام وكأن أحدهم يسحب البساط الأسود شيئا فشيئا ليعلن ولادة يوم جديد .. قال في نفسه: «الليل والنهار موت أحدهما هو بولادة الآخر، وبما أن لكل موت سكرات كان لا بد لكل منهما نصيب منها، الفجر سكرات الليل، والغروب سكرات النهار، وما أشبه أجواء السكرتين، ليسا بالظلام الدامس كما الليل، وليسا بالنور الكاشف كما النهار، هما ما بين بين، كأن روح النهار تغرز في جسد الليل عند الفجر فتضيئه، وروح الليل تغرز في جسد النهار عند الغروب فتظلمه، ولعل الله أعطى شيئا من التمييز لسكرة الليل حين قال
والصبح إذا تنفس ، ولم يقل «وإذا المغرب تنفس» لسكرة النهار، فهل كان ذلك دليلا على تفضيل النهار على الليل بتلك البداية؟ أم إنه كان تكريما لليل بتلك النهاية؟»
كانت أم خالد تعد الفطور في المطبخ، وأبو خالد جالسا قرب شجرة النارنج في الباحة حاملا سبحته المصنوعة من حجر اليسر الكريم التي ورثها عن أبيه، يحرك حباتها ببطء شديد غارقا في تفكير عميق كعادته.
خرجت سكينة من غرفتها لتجهز المائدة في الباحة قرب النافورة الصغيرة، رتبت الكراسي الخشبية حول الطاولة ثم فرشت الغطاء القماشي الأبيض والمطرز من الحواف عليها، وأحضرت الكئوس والفناجين ووضعتها فوق الطاولة، الزيت والزعتر والزيتون والخيار مع الجبن المقطع كل في طبقه الخاص، كانت تتنقل بين المطبخ والباحة جيئة وذهابا تأخذ الأطباق من يد أم خالد وتضعها على الطاولة، وحسن يراقب المشهد من على الشرفة.
أثناء الإفطار اقترح حسن أن يوصل سكينة إلى مدرستها اليوم على غير العادة، نظر إليه خالد نظرة شك وريبة، وتنحنح وهو يبلع ابتسامته، احمر وجه حسن وشعر بضيق في النفس عندما تأخر الرد من أبيه الذي يوصلها إلى المدرسة كل يوم حتى قال: حسنا، أوصلها ثم عد إلى مدرستك.
أكمل حسن إفطاره بسرعة ثم توجه إلى غرفته، ارتدى بنطاله الأسود وقميصه السمائي ثم سرح شعره على الجانب ووضع العطر من القنينة النحاسية على يده ثم مسحه على رقبته وقميصه ومسح حذاءه ثم حمل حقيبته وخرج، كان اهتمامه بأناقته فجأة لافتا للانتباه في البيت وشك الجميع بأن حسن قد وقع في شباك الحب، لكن لم يظهر أحد له ذلك سوى ابتسامات يتبادلونها فيما بينهم خلسة منه.
كانت سكينة تستنزف مصروف حسن اليومي؛ لأنها لا تلبي له طلبا دون مقابل، وهذه خطتها بأن تدبر لقاء بين حسن وأنوشكا عند باب المدرسة وتعرفهما على بعض مقابل جولات في السوق وشراء ما تريد من الباعة المتجولين دون أن تصرف قرشا واحدا.
سألها حسن: كيف أتكلم معها إن كان العجوز أرتين سيوصلها؟ - ومن قال لك ذلك؟ - من يوصلها إذن؟ هل ستأتي وحدها؟ - هي تأتي مع بنات حارة الأرمن يتجمعن هناك ثم يخرجن سويا، لا يوصلهن أحد، اطمئن. - وكيف لي أن أتكلم معها وهي بينهن؟ - سأناديها عند الباب فتأتي وحدها وأعرفكما على بعض.
كان قلب حسن يخفق طول الطريق غير مصدق كيف سيتكلم معها وكيف سيصمد أمام جمال عينيها ولا يضيع فيهما، كيف ستخرج الكلمات والأحرف من شفتيها الرقيقتين؟ .. لم ينم الليلة الماضية كلها وهو يفكر باللقاء الأول، أخبرته سكينة دون ذكر للتفاصيل وها هي تسير بثبات لتحقيق السعادة العارمة لأخيها، اختلجه شعور غريب تجاه ما تفعل من أجله فرمقها بأطراف عينيه وفكر في نفسه ماذا لو كانت هي من تحب أحد أصدقائي، هل كنت سأفعل ما تفعله من أجلي؟ وهل كانت تستطيع أن تخبر أحدا في البيت أنها تحب؟! لكن كيف تكونت هذه النظرة في مجتمعنا حتى اقتنعت الأنثى بذلك وباتت تقدم المساعدة وهي تعلم أننا لا نتقبل أن تحب لا أن تخبرنا من تحب وتطلب المساعدة من الأساس؟ ربما يبرر هذا تحت مسألة الخوف على سمعتها أو من كلام الناس عليها، جميعها مبررات غير مقنعة في أصلها، لكنها أصبحت مقنعة مع مرور الزمن وتتابع الأجيال.
عند باب المدرسة وقف حسن مع سكينة وأظهر الانشغال بحقيبته وكأنه يريد إعطاءها شيئا قبل المغادرة، كانت حركة لعدم لفت الانتباه وكسب الوقت لحين مجيء أنوشكا. - لقد تأخرت كثيرا. - اصبر ستأتي الآن، هذا وقت مجيئهن. - ألا ترين كيف يرمقني حارس المدرسة وقد قطب حاجبيه. - لا عليك منه، هذه نظراته الطبيعية.
ثم همست له: عقله ليس سليما.
أثناء الحديث عن الحارس، انتبهت سكينة إلى الزقاق المقابل لباب المدرسة ورأت الفتيات الأرمنيات تتوسطهن أنوشكا وهن يتكلمن قليلا ويضحكن كثيرا. - لقد وصلت.
التفت حسن فرآها بزي المدرسة الضيق وقد رسم انحناءات جسدها الناعم، وبرز قدها الممشوق، وبينما حسن يتأملها بكل تفاصيلها نادتها سكينة فأقبلت تمشي على استحياء .. سلمت عليها وسألت عنها، وحسن قربهما واقف كالصنم وقد تجمدت عروق الدم على جبينه. - هذا أخي حسن.
نظرت إليه ونظر إليها فاهتز عرش قلبه، وبدأ يرتجف من شدة وقع الموقف، رأى في عينيها السماء والبرق قد رسم في زرقتها بشكل دائري وكأنه ينبع من الحدقة وتتفرع منها إلى الأطراف، لم يكن هناك تشبيه دقيق لتلك العينين بمخيلة حسن سوى قوله تعالى:
إذا السماء انشقت ،
فكانت وردة كالدهان .
قطعت أنوشكا وصال عينيهما وأسدلت ستارها برجفة وقالت: أهلا حسن، أنا أنوشكا. - أهلا بك.
عندما سمعها تنطق اسمه بصوت يكاد يمازح الأرواح لرقته، وتشربه النفوس من عذوبة مذاقه، هوى قلبه بواد سحيق، فأطرق رأسه ونكس بصره وكأن لسانه اعتقل من الخجل وقطعه الحياء من الكلام، كانت أنوشكا أكثر جرأة منه، فأردفت قائلة: أعتقد أنني رأيتك في ليلة حناء «فاطمة» عند الباب أتذكرتني؟ - نعم، كنت مع والدتك على ما أظن.
هزت رأسها مبتسمة، ثم استأذنت بالرحيل.
لم يشعر حسن بالفرح مثلما شعر في ذلك اليوم، كاد يطير من سعادته، بالأخص عندما أخبرته سكينة أنها أحست بها تبادلك الشعور، كانت نظراتها لك تنم عن حب لا يقل عن حبك لها.
في الأيام التي تلت اللقاء كان حسن يخرج من الصباح الباكر ينتظر أنوشكا في الزقاق المقابل للمدرسة، وعند الظهيرة ينتظرها لتخرج فيلحقها مع صديقاتها إلى الحي الأرمني ثم يعود للبيت.
استمر حسن على هذا الحال أياما وأسابيع، وكانت صديقات أنوشكا على علم بحاله ويرمقنه بنظرات غريبة ثم يجمعن رءوسهن بشكل دائري ويتكلمن بكلمات هامسة ثم تتعالى ضحكاتهن .. كانت تصرفاتهن تزعج حسن كثيرا لكن حبه لأنوشكا أكبر من أن ينصرف إلى سخافتهن ويترك المجيء لرؤيتها، الرؤية التي تمده بالقوة والإصرار وتخفف عنه بعضا من الشوق الذي يرهق القلب ويوهن الأوصال.
جلس في إحدى الليالي وقد أثقلت على قلبه المشاعر، فأراد أن يريح عن كاهله ويبوح لأحد عما يثقله فلم يجد غير الورقة ليبوح لها وتكون البئر العميقة لأسراره وخواطره؛ فالأوراق لا تفشي الأسرار ولا تخون الثقة .. حمل القلم المترجم الوحيد بينه وبين الورقة وشرع يكتب أبياتا شعرية على عدم معرفته بالبحور ولا بالأوزان الشعرية .. فتذكر التتار الذين كانوا يقتلون الناس دون سبب وبلا رحمة، القصة التي سردها لهم الأستاذ محمود الخطيب، فكتب:
عيناها تترية الهوى،
تفضل القتل على السؤال،
لا غمد لسيف نظرتها،
تقطع المشاعر إذا ما عنقها طال،
لا هزل في جد نواياها،
حازمة في القطع والوصال،
لكن في تقوس عينيها
يدرس أبجديات الجمال،
محراب، آذانه رجفة رمش
إذا ما الدمع منها سال،
وهزي إليك بجذع القلب
تساقط عليك الأوصال،
ويجثو كل ركن فيني،
صوت أنيني صمته عال،
فهل لي بوصالك لحظة
عمرها ألف عام من الإهمال؟
الفصل الثامن عشر
غيتو وارسو - بولندا 1940م
في طريقه إلى مبنى أعضاء المجالس اليهودية، كان المرضى والمعاقون ملقين على الأرصفة والشوارع، وقد تغوط بعضهم على نفسه وتجمع الذباب عليهم، وهم يطلقون تلك النظرات المحيرة للمارة لا تعرف أهي نظرة حقد وحسد، لماذا أنا هكذا وليس أنتم؟ أم إنها نظرة تستجدي الشفقة لحالهم؟ شعر مايكل بحيرة كبيرة عندما وقعت عيناه بعيني أحدهم وبدأ شعور اليأس يجري في داخله، أيعقل أن يقبلوا بنقل سارة إلى المشفى، وكل هؤلاء المرضى والمعاقين في الشوارع لا أحد يلقي لهم بالا؟
كان الناس قد تجمعوا أمام باب المبنى، حاول التقدم من بينهم عله يستطيع التحدث إلى مسئول الشرطة الواقف على عتبة الباب ويحمل بيده سوطا وعلى ذراعه قرب الكتف نجمة داوود الزرقاء، وينظر نظرة ترفع واستحقار نحو الواقفين ولا يقبل التحدث إلى أحد، كان الحاضرون من يأسهم للوصول إليه يوجهون مطالبهم بصوت عال: «يا سيدي دعني أدخل، أطفالي سيموتون»، «يا سيدي لقد تم مصادرة دكاني»، وتعالت الأصوات فشعر بعدم جدوى إشراك صوته إلى صوتهم غير المسموع، فآثر الخروج من بينهم، وقف بعيدا ينظر ما تئول إليه هذه الأصوات المتعالية، هل سيسمعهم أحد أم إنها تذهب أدارج الرياح؟
حاولت الشرطة تفرقة الناس بالكلام والرفض لدخول أي أحد ولم ينفع، كان لا بد من استخدام القوة كالعادة؛ فالشرطي غير محاسب مهما فعل هنا، ما قيمة البشر في الغيتو حتى يتم محاسبة أحد من السلطة المزعومة أو ممن يحمونها، لم يلزم الأمر سوى سحب أحد الواقفين وإشباعه ضربا بالسياط، فارتدع الباقون وتفرقوا صامتين خائفين، كان صوت السياط أقوى أثرا من الصياح كالعادة.
بقي هناك ينتظر الفرصة المناسبة لكي يجازف بالسؤال عن إمكانية دخوله إلى المبنى لمقابلة مسئول شئون مرضى الغيتو في المجلس، لكن الخوف قد تسلل إلى جوفه عندما رأى سياطهم تشق الملابس المهترئة لذلك المسكين، ثم تذكر مقولة الطبيب «المال يفتح الأبواب الموصدة في الحياة»، فأخرج خمسة ماركات من جيب معطفه، ثم سار بخطوات ثابتة واقترب من أحد رجال الشرطة الواقفين في زاوية المبنى من الجهة الشمالية وقال له بصوت منخفض: إن استطعت إقناع مسئولكم للسماح لي بالدخول فسأعطيك خمسة ماركات وأعطيه ما يشاء.
حرك العملة الورقية بيده ليتأكد من امتلاكه لها، انفتحت عيناه وانفرجت أساريره فرحا. - اصبر هناك قليلا.
قال مايكل في نفسه: «أنا لا أعلم مدى حب البشر للمال، لكنني أجزم أن لا أحد يحب المال كما نحن اليهود، هناك عشق أزلي بيننا وبينه حتى أشعر أن بعضنا يعبده!»
بعدها تحرك الشرطي نحو مسئوله وهمس في أذنه، وأشار إلى مايكل بإصبعه، وتحدثا قليلا ثم عاد إلى مكانه، غمز بعينه اليسرى لمايكل فاقترب منه مرة أخرى. - أخبرني هل قبل؟ - نعم، لكنه يريد ثلاثين ماركا. - ثلاثين! - نعم، وبدونه لا يمكنك الدخول.
فكر قليلا، كان المبلغ ضخما بالنسبة لما هم فيه، لكن لا خيار أمامه، سارة أم ثلاثون مع خمسة له، خمسة وثلاثون ماركا! هذا المال يكفينا مدة شهر هنا، يا لطمعهم، يهود بيننا وهكذا نبتز ونستغل بعضنا بعضا، لم يكن مخطئا ذلك المذيع الذي اتهم اليهود بالاستغلال والابتزاز يوم كنا في ميونخ، أخرج ثلاثين ماركا ووضع فوقها خمسة ماركات وأعطاه مع ابتسامة صفراء، أخذها الشرطي ووضع في جيبه خمسة عشر ماركا ثم توجه إلى مسئوله، بقي مايكل مصدوما مما فعل، قال في نفسه: عليك اللعنة.
كان وراء الباب موظف استعلامات سأله مباشرة: ماذا لديك؟ - أختي الصغيرة مريضة بالتيفوئيد، علني أستطيع إقناع مسئول شئون المرضى بنقلها إلى المشفى خارج الغيتو. - إلى الطابق الثاني من هنا ستجد أمامك ممرا مثل هذا الممر، مكتبه هي الغرفة الثالثة من على اليمين.
وبينما مايكل يعتلي الدرج رأى ضابطا نازيا بكامل قيافته صدم للوهلة الأولى، إنه نفس الضابط الذي وقع عنده تعهد ترك ألمانيا في معسكر داخاو، توقفت كل جوارحه عن الحركة، أصابه الجمود وتذكر أيام المعسكر المريرة، مر من جانبه والابتسامة تعلو جبهته، لو رأيته في الشارع لقلت إنه من ألطف وأرق ما خلق الله، لكن مجرد رؤيته بالنسبة لمايكل ولنزلاء المعسكر يسبب ضيقا في التنفس وشللا عن الحركة.
أخذ نفسا عميقا كي يعيد نشاط الدورة الدموية في جسده، ثم أكمل طريقه إلى الطابق الثاني وهو يتساءل: ماذا يفعل هذا الضابط هنا؟ لا بد من أن هنالك أوامر جديدة ببرنامج إعادة التوطين.
طرق باب الغرفة الثالثة من الجهة اليمنى. - تفضل.
عندما دخل رأى المسئول قد وضع كفه على جبينه والأخرى على خصره، ويخطو ذهابا وإيابا خلف مكتبه وكأن أمرا جللا سيحصل وهو في حيرة من أمره، التفت إلى مايكل وأشار بيده: اجلس هناك.
مرت دقائق على جلوسه والمسئول غارق في التفكير والحيرة، تنحنح مايكل قليلا: سيد «مارك»، هل أستطيع التحدث إليك؟
قرأ مايكل اسمه من اللوحة الخشبية الموضوعة في مقدمة مكتبه، نظر إليه ثم جلس. - هات ما عندك! - أختي الصغيرة يا سيدي. - ما بها؟ - لقد أصابتها حمى شديدة منذ ليلة البارحة، واليوم صباحا بالكاد وجدت طبيبا ليفحصها، فأخبرني أن أعراض المرض توحي أنها مصابة بالتيفوئيد ويجب نقلها إلى المشفى خارج الغيتو حالا وإلا ستموت وتنقل المرض إلينا. - خارج الغيتو!
قالها متعجبا. - سأعطيك المبلغ الذي تريده، فقط أنقذها يا سيدي ودعهم ينقلونها إلى المشفى أرجوك.
أخذ نفسا عميقا ثم زفيرا بصوت مسموع وهو يخرج سجلا من تحت الأوراق المبعثرة على مكتبه: ما اسمها الكامل وعنوانها؟
ارتسمت الفرحة على وجه مايكل، ذكر له الاسم والعنوان بالتفصيل. - عرفت العنوان، إنه نفس المبنى الذي تسكن فيه عمتي لكن في الطابق الثالث. - الحقيقة نحن لم نتعرف على الجيران بسبب الوضع الخاص للحياة هنا، معذرة يا سيدي، لكن هناك نظرة احتقار من يهود وارسو الأصليين تجاهنا. - أعلم ذلك، لا تكمل، ليس ذنبكم الذي يحصل ولستم سعداء بهذا السكن أو بالأحرى بهذا الجحيم، لكن الكل هنا مغلوب على أمره تحملوهم، ماذا تفعلون؟ لا خيار أمامكم. - لم أقصد التحمل، بل قصدت لا نستطيع إقامة علاقة عائلية معهم؛ ولذلك قلت لك إنني لا أعرف عمتك. - لا تتعرف عليها، خذها نصيحة مني.
قالها متهكما، ابتسم مايكل بوجهه وهو يقول: أتمنى أن تزورنا إذا قدمت إليها. - أنا أزورها كل شهر مرة، إن حصلت لي فرصة سأزوركم. - أهلا بك سيدي، لكن معذرة كم سيأخذ من الوقت لحين نقلها إلى المشفى؟ - الحقيقة كان ضابطا رفيع المستوى من النازية قبل قليل هنا ... لا، لا شيء، غدا صباحا سأبعث من يأخذها من البيت فجهزوها، ولا يمكنكم مرافقتها هي فقط من ستخرج من الغيتو، حاولوا أن تودعوها جيدا، فهذا المرض خطير كما تعلم.
صافحه مايكل بحرارة وشكره كثيرا على تعاونه معه ثم خرج. عند عودته إلى البيت، رأى قرب الباب الرئيسي للغيتو قد تم جمع قرابة ثلاثمائة شاب من أحياء الغيتو، كانت الشرطة اليهودية من تنظم الطابور، والضابط النازي قرب الباب يتأكد من الأرقام والعدد المطلوب، قالوا إن هؤلاء يتم ترحيلهم ضمن برنامج إعادة التوطين، لكن لماذا الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والأربعين فقط يتم ترحيلهم، أين زوجاتهم وأطفالهم وأهلوهم؟! هل التوطين للشباب فقط؟ لا بد أن هناك سرا وراء هذه التصرفات الغريبة.
لم يكن الخبر الذي حمله إلى أمه حول سارة مفرحا كما كان يتوقع، كيف تتركها وحيدة وهي مريضة وبأمس الحاجة إليها، هذا الذي لم يفكر به مايكل، قال في نفسه: «إن محبة الأم تزداد لأولادها كلما كانت حاجة أحدهم إليها أكثر.» وهكذا كان حالها جراء خبر أخذ سارة وحدها إلى المشفى دون أن ترافقها هي، فبقيت الليلة كلها تبكي على رأسها وتقرأ المزامير وتدعو الله أن يعيدها سالمة بأسرع وقت.
في الصباح جهزت الأم سارة وألبستها أجمل ما لديها من الثياب وبقيت تحضنها طول وقت الانتظار. - كفاك يا أمي، سينتقل المرض إليك، من لنا غيرك إذا وقعت طريحة الفراش؟ دعيها أرجوك ستعود قريبا سالمة وتحضنينها كما تشائين.
وبينما مايكل يقنعها بترك سارة طرق الباب، فتح ديفيد لهم، فدخل رجلان قد وضعا الكمامات على أفواههما إلى البيت، وضعاها على الحمالة وأنزلاها إلى العربة الخاصة لنقل المرضى، ثم انطلقت السيارة مسرعة نحو البوابة الرئيسية.
الفصل التاسع عشر
مدينة وان - تركيا 1897م
كيف يمكن أن ينتصر الضعف على القوة، والقلة على الكثرة؟ هل الإيمان بالقضية أم العزيمة والإصرار عليها؟ ثم من يقول إن أصحاب القوة والكثرة لا إيمان لهم ولا إصرار لديهم على قضيتهم؟! كل الأمم مؤمنة بقضيتها وترى أنها عادلة فيها وتدافع عن الحق من وجهة نظرها؛ إذ إن الحق حمال أوجه. يذكر في الموروث العربي أن رجلا تخاصم مع جاره فجاء شاكيا إلى جحا الأذى الذي ألحقه جاره به، بعد سماع شكواه قال له جحا: «الحق معك.» وما إن خرج الرجل حتى دخل خصمه على جحا فأخبره بالقصة من وجهة نظره، فقال له جحا: «الحق معك.» خرجت زوجة جحا إليه وقالت مستغربة: «كيف يكون الخصمان على حق؟!» فرد عليها جحا: «وأنت أيضا على حق.» على الرغم من الطرافة الموجودة في القصة فإن فيها مدلولا عميقا في مفهوم الحق؛ إذ نستطيع الجزم أن الأرض تكاد تخلو من أمة على باطل، الكل على الحق وإن ظلموا وإن قتلوا واستباحوا ما ليس لهم؛ فلديهم مبررات وتفسيرات منطقية أو دينية تخصهم لكل شيء.
كانت الأفكار المكسوة باليأس تدور في خلد أرتين بعدما فشلت الثورة في «وان»، وانسحبت جميع الفصائل منها إلى الجبال والقرى الأرمنية الموالية للثورة .. ولم تنجح خطة التضحية البلغارية مرة أخرى، لم تتدخل روسيا عسكريا ولا الدول الأوروبية، وساءت أحوال الأرمن في المدينة. كان أرتين يحدث نفسه عن النتيجة التي خرجوا بها من الثورة وخسارة عشرات المقاتلين، ويقول: «دخلنا المدينة لنصرة أبناء شعبنا ولم نستطع الصمود، ولا الوصول إلى هدف العملية، ومن ثم فررنا منها وتركنا الأرمن وراءنا يلاقون جريرة أفعالنا، وأصبح حال الأرمن في المدينة، إذا خرجوا إلى السوق خرجوا على شكل مجموعات خشية الوقوع فريسة الأعمال الانتقامية الفردية، وكل ذلك لم يحصل لولا الثورة الفاشلة، لا أدري ماذا نفعل نحن؟! أحيانا أظن أحلامنا أكبر بكثير مما نعمل من أجل الوصول إليه، وأننا نرتكب الحماقات ضد شعبنا الذي لا يعلم من أين يتلقى الضربات الموجعة.»
كان الطبيب يعالج إصابة بانوس في الغرفة المقابلة حيث يجلس أرتين، وغريغور قد تجمع حوله خمسة مقاتلين في باحة الدار يتكلم بحماس شديد عن بطولاته في الثورة، وأنه لم يرض بالانسحاب، كان بإمكانه رد العثمانيين لو حصل على العتاد الكافي وبعض المقاتلين الأشداء؛ فالانسحاب بنظر غريغور جبن لا يليق بالرجال، كان يتكلم متحسرا على ذلك القرار غير الموفق حسب رأيه، لكنه يعود ويبتسم وبحركة مضحكة يمثل لهم كيف انقض على الجندي الذي حاول التسلل إلى الحي الأرمني في الليل، ثم أمسك من رأس أحد الجالسين ليبين لهم كيف كسر رقبة ذلك العثماني، كان المقاتلون لا يحلو لهم السمر إلا مع غريغور، فحديثه شيق ومليء بالبطولات التي تهفو نفوسهم إليها، وهو لا يتكلم دون فعل؛ فالجميع يشهدون بشجاعته وإقدامه. كان غريغور يحمل في جوفه قلب طفل ببساطته ووجهه الدائم الابتسامة والمرح حتى في أشد الأوقات لا يصيبه اليأس ولا يهتز حماسه، لا يفكر كأرتين وبانوس بالنجاحات والإخفاقات، فهو يحارب لأجل أن يحارب؛ لأنه يجد نفسه بتلك الأجواء القتالية. •••
كان ديكران يجري نحوهم على ظهر فرسه الأسود اللامع كالريح وكأنه يحمل خبرا مصيريا في جعبته، وما إن وصل مشارف القرية التي احتموا بها بعد فشل الثورة حتى خرج إليه أحد المقاتلين، أخذ اللجام من يده، ثم ولج هو على عجل عند القائد فارتان بعدها استدعي أرتين إلى الداخل.
حينما ولج الغرفة رأى فارتان قد وضع أحجارا متفرقة على سجاد فارسي أحمر منقوش عليه طاووس كبير يغطي الجزء الأكبر منه، يشرح الخطة للحضور، جلس قرب ديكران ليستمع. - الطريق من هنا يمر خلال نتوءات صخرية وأخاديد رسمتها مياه الأمطار الغزيرة على جانبيه، وفيه يضعف أي قوة مهما كان عددهم وعدتهم، يحتمي المقاتلون خلف الصخور ونطوق هذه النقطة ويكون القناص هنا في أعلى نقطة.
كان اختيار المكان دهاء كبيرا من قائد العملية «فارتان» ودليلا على معرفته الجيدة بكل تضاريس المنطقة.
كانت العملية تستدعي الكثير من المقاتلين لأجل نصب كمين كبير لقافلة زكي باشا القادمة من أرضروم مقر قيادة الفرسان الحميدية نحو مدينة وان، ثأرا لقتلى الثورة.
في صباح يوم العملية انطلق أرتين على صهوة جواده خلف قائده المباشر ديكران إلى الوادي الذي سيمر منه موكب زكي باشا، وأخذ كل مقاتل موقعه في المهمة كما خطط فارتان، تركز مواقع القناصة في أعلى نقطة على جانبي الطريق، وانتشر المقاتلون خلف الصخور متأهبين للعملية، كانت مهمة أرتين هي التركيز بالتصويب على الحراس القريبين من زكي باشا، لفتح باب الرؤية للقناص في الأعلى على الهدف حسب الخطة المرسومة.
كانت منطقة صخرية جرداء فيها منحدرات شاهقة، وعلى الحافة وقف طائر بري رمادي اللون يصدر صوتا متقطعا، ثم يطير من قمة صخرة إلى أخرى، انتبه أرتين على يساره فإذا بحرباء أخرجت رأسها من ثقب صغير على الصخرة تراقبه بصمت وحذر متلونة بلون الصخور لا يمكن تمييزها إلا إذا دققت النظر فيها، ابتسم بوجهها أرتين وقال لها اطمئني لم نأت هنا لقتلك، فقط سنزعجك قليلا بأصوات البنادق، ولأجل ذلك سنترك لك جثة زكي باشا بعدما نقتله هو وجنوده، ستكون وجبة دسمة لك ذلك الدود الذي ينهش لحمه.
سمعت أصوات أحصنة تقترب من المكان، بدأ المقاتلون يشيرون بأيديهم ملوحين بأيديهم أنهم قد وصلوا، كان نظام الحراسة العثمانية للقادة والشخصيات الكبيرة في الدولة مشابها تماما في جميع المواكب؛ ففي المقدمة كانت هنالك أربعة فرسان بزيهم العثماني الخاص للحرس على صهوة جوادهم، يليهم فارسان أمام عربة «زكي باشا» وفارسان خلفها، وفي النهاية أربعة فرسان أيضا، والجنود المشاة على جانبي العربة قد جعلوا طوقا مستطيلا حول العربة.
عندما وصلت العربة إلى منتصف الكمين رفع «فارتان» يده وأنزلها إشارة ببدء إطلاق النار.
في الطلقات الأولى أصاب أرتين أحد الفرسان الأماميين فسقط من على جواده، وبدأ تبادل الإطلاقات النارية، فتوجه جزء من المشاة إلى العربة لحماية «زكي باشا»، واشتبك الباقون مع المهاجمين، كان الحرس يسقطون قتلى تباعا لكنهم يستبسلون بالدفاع عن زكي باشا حتى بعد إصابتهم، يقفزون بأجسادهم إليه لكيلا يصيبه أذى وهم على وشك الموت! ثم كانت المفاجأة، صاح ديكران: احذروا هنالك هجوم من الخلف!
ارتبك المقاتلون، أدار وجهه أرتين، وإذ بجنود يلبسون نفس زي حرس زكي باشا يطلقون النار من الخلف، سقط القناص من أعلى المنحدر، كانوا يعلمون بخطورة المكان، فتم إرسال جزء من حماية الموكب خلف الوادي تحسبا لتعرضهم إلى كمين محتمل، حينها تحول حالهم من أصحاب الكمين والمسيطرين على المكان إلى فرائس كمين آخر، لكن كثرة عددهم وتمركزهم الجيد خلف الأحجار الكبيرة ووجود الأخاديد ساعدتهم في الاختباء.
تحول القتال نحو الوراء، ولم يكن بمقدور حماة الباشا المهاجمة؛ لأن الكثير منهم قتلوا في بداية الهجوم. كان ديكران قرب أرتين حين أتت طلقة برأسه فأردته قتيلا على الفور، صرخ أرتين بأعلى صوته ديكرااااان! ثم وضع رأسه المخضب بالدماء في حضنه وتكور عليه، كان الدم يتدفق من رأسه وكأنه نبع ماء لا ينضب، صرخ أرتين: ديكران أرجوك لا تمت، ديكرااان!
ضمه أرتين إلى حضنه والدموع تذرف من عينيه دون إرادة، مر على مخيلته اللقاء الأول بينهما يوم أردفه على الحصان بعد عملية الاغتيال الفاشلة لبحري باشا، تذكر ابتسامته، مواقفه، إقدامه، شجاعته في ثورة وان، إخلاصه للثورة حتى وهب أغلى ما يملك لأجلها، أقسم أرتين أن ينتقم له، قبل جبينه وأغلق عينيه بمسحة من كفه ثم وضعه متكئا على الصخرة وحمل بارودته وهو يصيح بأعلى صوته وكأنه يزأر كالأسد المجروح ويدب الحماسة في قلوب المقاتلين، إلى أن أمرهم فارتان بالانسحاب ولم تلحق بهم الفرسان الحميدية؛ لأن غايتهم كانت حماية الباشا.
كان تأثير فشل العملية وخسارة ديكران والمقاتلين معه شديدا في أنفسهم فأغاروا على قرية كردية في طريقهم ثأرا للقتلى، كانت القرية مشابهة تماما لقرية أرتين اشتبكوا مع درك المخفر، حتى ألقوا أسلحتهم واستسلموا، فتم اقتيادهم مع بعض رجال القرية إلى الساحة، كانوا يرتجفون من الخوف ويبكون كالنساء. - أرجوكم لا تقتلونا، لدينا أطفال ونساء. - هيا، هيا تحركوا.
تم رصهم وسط الساحة، جهز المقاتلون بنادقهم، ركعوا الدرك مع رجال القرية على ركبهم ووجوههم نحو البعيد، صوب ثلاثة من المقاتلين فوهة بواريدهم إليهم، رفع القائد فارتان يده، ثم أنزلها مشيرا بتنفيذ الإعدام، فانهالت الطلقات على أجسادهم، فبدءوا يتساقطون كأوراق الشجر الصفراء في يوم خريفي عاصف.
كان أرتين في تلك اللحظة يعيش صراعا نفسيا مريرا في داخله، فكل ما في تلك القرية يذكره بقريته وبالعصابات الذين تسببوا في انضمامه للثوار جراء الظلم الذي كان يلحق بهم، وها هو يفعل ما كانت تفعله تلك العصابات فيلين قلبه ويشعر بالذنب تجاه هؤلاء الذين لا ناقة لهم ولا جمل بالذي حصل، لكنه يعود ويتذكر لحظة سقوط ديكران جثة هامدة بقربه وتدفق الدم من رأسه، ودموع والده المختار وانكساره في ذلك اليوم، فيقسو قلبه ويدفعهم بشدة إلى الموت.
كان أرتين قد صد وجهه عنهم أثناء التنفيذ وهو يصلي للرب بأن يغفر لهم ما فعلوه؛ ففي كل مرة يتم محاسبة الأشخاص الذين لا علاقة لهم بما حصل، لا يمكن السيطرة على روح الثأر عند المقاتلين بعد خسارة أصدقائهم في الاشتباكات، فيتحول كل من في الطرف الآخر إلى عدو يجب قتله، وهكذا بالنسبة للفرسان الحميدية في قتل الأرمن الأبرياء.
رفع الصليب إلى جبهته وأغمض عينيه، ثم بدأ يناجي الرب أن يغفر لهم عن كل دم بريء سفكوه أو شاركوا بسفكه دون حق: «أيها السيد الرب يسوع المسيح، الابن الوحيد وكلمة الله الأب، الذي غفر كل خطايانا، بآلامه المخلصة المحيية، الذي نفخ في وجه تلاميذه القديسين ورسله الأطهار قائلا: اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن منعتم عنه الغفران، يمنع عنه. نسألك يا محب البشر، من أجلي أنا الخاطئ، ومن أجل إخوتي وأخواتي، نحن المنحنين أمام مجدك القدوس، ارحمنا واغفر خطايانا، التي ارتكبناها، بالفكر، والقول، والفعل، والإهمال. اغفرها لنا، بالسلطان الذي أعطيته لكنيستك المقدسة، الرسل الأطهار. باسم الثالوث القدوس، الأب والابن والروح القدس، الإله الواحد. آمين.»
الفصل العشرون
القدس - فلسطين 1944م
ما فتئ البشر يقتتلون فيما بينهم على الخيرات والأراضي على مر التاريخ، كل فرقة ترى الأحقية المطلقة لها في الأرض دون غيرها، وما إن توافرت لها أسباب القوة والتمكين حتى بطشت بغيرها، وليس المظلوم هنا مظلوما بالمعنى الحقيقي، فلو تمكن وتوافرت له الأسباب لفعل ما فعل به هو أيضا، في حين أن الخير يكفي الجميع، والأرض تسعهم وتزيد، لكن الإنسان مجبول على الطمع والزيادة ولا يشبعه سوى التراب. وفي هذا المعنى قصة لثلاثة رجال من بني إسرائيل خرجوا يوما في سفر، وعلى طريقهم وجدوا صخرة كبيرة من ذهب لا يستطيعون حملها من شدة ثقلها، فاتفقوا فيما بينهم أن يرسلوا أحدهم إلى إحدى القرى القريبة فيأتي لهم بزاد وفأس ليحطموا بها الحجر فيسهل حملها بعد توزيعها بينهم بالتساوي.
بعد رحيل أحدهم إلى القرية، اتفق الاثنان على قتله حالما يعود ليتقاسما الذهب بينهما، وفكر الثالث بأن يضع سما في الطعام ويوهمهما أنه أكل في القرية ليأخذ الذهب له وحده بعد موتهما بالسم، فما إن عاد حتى أخذه أحدهما على غفلة وضرب قفاه بحجر فسقط ميتا في مكانه، وقبل أن يحطموا الصخرة الذهبية جلسا يأكلان الطعام الذي أتى به صاحبهما، وما إن انتهيا حتى سقطا أرضا وفارقا الحياة، وفي النهاية ماتوا جميعا حول الصخرة ولم يحظ أحد منهم بالذهب، في حين كان باستطاعتهم جميعا الحصول عليه لو اقتنعوا بحصتهم .. والقدس كالصخرة الذهبية يا أبنائي ومعتنقي الأديان من «اليهود والمسيحيين والمسلمين» كهؤلاء الثلاثة.
استغرب هشام من كلام الأستاذ محمود ووضعه للمسلمين في خانة الاتهام بالظلم وعدم تفريقه لهم عن البقية! فلم يتمالك نفسه حتى رفع يده ليسأل، فسمح له الخطيب بالكلام: أستاذنا الفاضل، كيف يمكن وضع المسلمين في خانة واحدة مع النصارى الذين اغتصبوا أرضنا مع أعوانهم اليهود الطامعين بها؟
دهش الطلاب من كلام هشام الذي استشاط غضبا وحمية على أرضه ووطنه، والتفت الجميع إليه يرمقونه بنظراتهم .. فابتسم الأستاذ محمود ورد عليه بهدوء كعادته: بني: هنالك فرق كبير بين الأديان وبين أغلب معتنقيها؛ فليس كل من قال أنا مسلم فهو مسلم حقيقي يمثل الإسلام الصحيح الذي يأمر به كتابنا وسنة نبينا الشريف، وكذلك الحال عند اليهود والنصارى. الأديان الثلاثة من مصدر واحد
وإلهنا وإلهكم واحد ، وهذه الأرض المباركة هي أرض للجميع لا يمكن لأحد إزاحة الآخر عنها، ولم يأمر الله في كتبه المنزلة بإزاحة أحد منها والاستيلاء عليها بالكامل لصالح دين معين، لكن الإنسان يستخدم الدين على هواه ولأغراض سياسية تارة، وبسط للنفوذ تارة أخرى، فيقتل باسم الدين ويذبح ويهجر ويستبيح، وكلها تأويلات غير صحيحة للنصوص الدينية، ولو أمر الله في كتابه أن نستولي على الأقصى لنا وحدنا ونخرج البقية منها لتساءلنا لماذا جعل هذه الأهمية للقدس في الأديان الثلاثة، ثم أمر أتباع كل دين بأن يستولوا عليها بكتابهم؟! ولقلنا لماذا جعل القبلة الأولى للمسلمين الأقصى وقدسه عندهم ثم غير القبلة إلى الكعبة وبقي التقديس؟ كان يكفي أن يجعل القبلة هي الكعبة من البداية ولا يضع أي قدسية لها عندنا وينتهي الأمر، وكذلك لماذا أخرج اليهود من مصر إليها وأمكنهم فيها على قوم جبارين ولم يمكنهم هناك في مصر وجعلهم يقدسون هذه الأرض؟ ولماذا بعث عيسى هنا ولم يبعثه في روما مثلا وجعلها مقدسة عند أتباعه وانتهى الأمر؟ هذه الأسئلة يجب أن نفهم رسالة الله لنا فيها قبل أن نجيب عليها وإلا لقلنا إن الله يريد الشر بأتباع رسالاته وقد وضع بينهم العداوة والبغضاء في ذلك، لكن الله سبحانه يريدنا أن نفهم أن هذه الأرض للجميع لا يلغي أحد وجود الآخر، وهي دلالة مادية بائنة ومثال حي على أن منبع الرسالات السماوية ومصدرها واحد لا يتجزأ ومن عنده هو وحده وتأكيد على أن الأديان مكملة وناسخة لبعضها وليست مبطلة لما قبلها.
لم يقتنع كثيرا بما قاله الأستاذ وهم بأن يرد عليه، لكن حسن أدرك صاحبه فسحبه من أسفل قميصه لينبهه بعدم الرد واحترام رأي الأستاذ، فسكت وبلع ما أراد قوله.
عند باحة الأقصى عاد الحوار من جديد، وكان حسن قد اقتنع بكلام الأستاذ محمود، لكن هشاما ظل في ذهنه أسئلة كثيرة فنصحه حسن: اذهب إليه في مكتبه وحاوره وحدكما، لا تطرح مثل هذه الأسئلة أمام الطلاب فتنفتح الأعين عليك وتجلب الشكوك حولك، وأنت منتم للمقاومة، وكلامك وتحركاتك يجب أن تكون مدروسة؛ فهنالك الكثير بيننا ممن يعملون مع الاحتلال وينقلون لهم الأخبار في السر.
اقتنع هشام بكلام حسن، لكن بقي الدم يغلي في عروقه، فحماسه الشديد وانتماؤه الجديد للمقاومة ومشاركته الأخيرة في العملية الناجحة ضد دورية جنود الاحتلال زرعت في نفسه مفاهيم أكثر حدة في التعامل مع المحتل وأعوانه. - ومن ثم يا حسن، هؤلاء معتدون قد أتوا من بلاد بعيدة ليحتلوا أرضنا وينهبوا خيراتها، ومن قال نحن طردنا المسيحيين من القدس أو حتى اليهود، فأهل البلد هم أهلنا وما دفاعنا عن الأرض إلا دفاع عن الجميع أمام العدو الغريب عن الأرض، وهل رابطة الدين أقوى من رابطة الأرض والتاريخ المشترك لكي ينسلخ الإنسان نحو من ينتمون إلى دينه ويخون من يتقاسم معهم الأرض والجيرة لقرون طويلة؟ - لا بالتأكيد، لذلك ليس كل المسيحيين يؤيدون الاحتلال، ولا حتى كل اليهود يؤيدون الهجرة إلى هنا. - ولا نحن نعتدي عليهم. - لكن هذا لا يخفى على المحتل الغريب الذي بدأ بزرع بذور الفتنة بيننا وبينهم وتسبب في حوادث قتل مفتعلة هنا وهناك؛ ليدفع كل طرف إلى الاستقواء بقومه وأتباع دينه، وهكذا فرق الصف وكسب الكثيرين منهم بدعوى الأخوة الدينية وتوفير الحماية لهم.
وبينما هم كذلك خرج بنيامين أمامهم فجأة، ومن دون أي مقدمات وجه سؤالا لحسن: أتؤمن بكل الكتب السماوية؟
دهش حسن من تصرفه وقطب حاجبيه مستغربا وهو ينظر بوجه هشام، ثم التفت إليه مبتسما: نعم أومن؛ فهو الركن الثالث للإيمان عندنا . - وتؤمن بإبراهيم؟ - عليه السلام أبو الأنبياء وخليل الله، بالتأكيد أومن، لكن أين تريد أن تصل؟ كفاك أسئلة غريبة. - ما دمت تؤمن بالكتاب والنبي فاسمع ماذا جاء فيه: «في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا لنسلك أعط هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات.» فكيف تقول هذه الأرض ليست لكم؟
سكت حسن هنيهة، كانت تلك المرة الأولى التي يسمع فيها آية من كتاب اليهود «التوراة»، ارتسمت ابتسامة على وجه بنيامين وظن أنه أسكت حسن وحاصره في زاوية ضيقة، فجاءه الرد مباغتا. - لو كانت الأرض له بالأصل لماذا يعده الرب بها إذن؟ أليس هذا دليلا صريحا أنها لم تكن له؟ - الأرض للرب يهبها لمن يشاء. - ومن قال إن نسل إبراهيم اليهود فقط؟! أليس إسماعيل من نسله وأكبر أبنائه؟ - هو ابن جارية، ولم يكن وعد الرب يشمل نسله، الوعد لنسل إسحاق فقط. - وهل الرب الذي تؤمنون به يفرق بين الأبناء ويميز بين خلقه على شيء هو خلقه فيهم ولم يختره الإنسان بنفسه؟ ومن ثم لو كنتم مؤمنين حقا بهذا الوعد الرباني لما تركتموه وراءكم واتكأتم إلى وعد بلفور البشري؟ ألهذا الحد استهنتم بوعد الرب حتى لجأتم إلى البشر؟
ارتسم على وجه بنيامين الدهشة، وحار ماذا يجيب وبماذا يرد؟ فحمل نفسه ورحل دون أن ينبس ببنت شفة، فتعالى صوت ضحكهما وهما ينظران إلى بنيامين وهو يمشي ثم يركض ثم يلتفت وكأنه مخبول.
كان تأثر حسن الشديد بالأستاذ محمود الخطيب وكثرة سؤاله له حول هذه المسائل ودخوله في نقاشات كثيرة معه، قد كون عنده سرعة البديهة مع مخزون جيد من المعلومات الدينية التي تعينه في مثل هذه المواقف.
الفصل الحادي والعشرون
غيتو وارسو - بولندا 1941م
هؤلاء الأطفال المشاكسون لا يعرف الخوف طريقا إلى قلوبهم، إنهم يفعلون ما لا يستطيع الكبار مجرد التفكير فيه هنا في هذا الغيتو اللعين، لكن الحاجة لا تعرف المستحيل، إنه الحرمان من أبسط متطلبات الحياة، والجميع يدرك، صغارا وكبارا، أن هذا الجدار العازل المبني من الطوب الأحمر هو الحد الفاصل والحجب والتقنين، وكل من يعبره يعبر إلى الحياة، وكل من يقبع خلفه يقبع في الجحيم، في الجوع والعوز والموت البطيء.
كان أولئك الأطفال قد تمكنوا من عمل فتحة صغيرة تسمح لأجسادهم النحيلة بالعبور من خلالها في إحدى الزوايا البعيدة عن الأنظار لسور الغيتو، صادفهم مايكل وهم يحملون البعض من قطع الخبز والحلوى والفواكه التي سرقوها من الدكاكين، كانت الفرحة المرتسمة على وجوههم بالعودة سالمين مع الغنيمة أجمل شيء ممكن رؤيته في ذلك الجحيم، تمنى مايكل لو أنه طفل مثلهم ويخوض معهم تلك التجربة الخطيرة والمسلية كثيرا بالنسبة لهم، ما أعظم تلك الطفولة التي خرقت قانون أعتى وأجرم منظومة عسكرية في العالم، واستطاعت أن تغتنم منهم ما تريد دون سلاح أو تخويف كما يفعلون هم في العادة. شعر مايكل حينها أن الشجاعة لا تحتاج إلى سلاح أو قوة عضلية بقدر ما تحتاج إلى قلوب لم تذق ذل الخضوع، ولا تعترف بمن حولها مهما كان إجرامه وبطشه شديدا ولا تمتلك الرحمة والشفقة طريقا إليها.
كان الوقت بعد الغروب والجو مائلا إلى العتمة مع القليل من ضوء النهار الخافت، حتى توقيت دخولهم كان مدروسا؛ ففي هذا التوقيت يقل نشاط الحرس بعد دخولهم جميعا إلى الغيتو أعادوا رص الطابوق فوق بعضها البعض لغلق الفتحة وعدم إثارة الانتباه لوجودها، ثم فروا هاربين إلى مأواهم.
مرت ثلاثة أيام على أخذهم سارة إلى المشفى، شعر مايكل بأمر غريب وهو يتجول كالعادة في أزقة الغيتو؛ إذ لم يعتد الجلوس في البيت مذ كان في ميونخ، ما عاد يرى أولئك المرضى والمعاقين الملقين على قارعة الطريق، لقد اختفوا جميعا! قال في نفسه متسائلا: ما الذي حل بهم يا ترى؟ هل وجدوا من رفق بهم وأنقذهم من القذارة التي كانوا عليها؟ لكن الكل مرة واحدة؟! لا يعقل ذلك، لا بد من أمر قد حصل لهم ، التغييرات التي يمكن ملاحظتها في الغيتو لا تكون إلا بالتدخل النازي وأوامرهم إلى عملائهم في المجالس اليهودية.
في زقاق المبنى رأى سيارة شرطة واقفة أمامه، للوهلة الأولى تسلل الخوف إلى قلبه، لكنه تذكر وجود عمة السيد مارك في المبنى، ويبدو من وقوف الحرس والهدوء في المكان أنه قد أتى لزيارتها، ولا داعي للخوف من اعتقال أو ضرب لأسباب مجهولة عادة، أسرع خطواته ليصل إلى البيت وينتظره عند الباب لعله يستطيع سؤاله عن أوضاع سارة في المستشفى.
انتظره عند الباب قرابة النصف ساعة حتى سمع صوته وهو يودع عمته ويوصيها: «إذا احتجت شيئا فلا تترددي في إخباري.» ثم نزل من الدرج وأحد حراسه خلفه، توجه إليه مايكل وقابله بابتسامة. - السيد مارك أهلا بك في بنايتنا، هلا تفضلت بزيارتنا كما وعدتني. - أووه أنت، أذكر وجهك لكنني نسيت اسمك، اعذرني؛ فأنا أنسى الأسماء عادة لكنني لا أنسى الوجوه. - أنا مايكل كنت في مكتبك من أجل أختي المريضة بالتيفوئيد قبل عدة أيام. - آه! تذكرت أختك الصغيرة. - بالضبط هي، تفضل لنضيفك شيئا. - لا يمكنني الآن، لقد تأخرت كثيرا. - أود أن أسألك عن حال سارة فقط ... - نعم، نعم سأخبرك بكل شيء، تعال إلى الحانة غدا، سألتقيك هناك ونتكلم بما تشاء.
إلى اللقاء الآن. •••
كان رواد الحانة عادة من أعضاء المجلس والطبقة الراقية من الأغنياء المتعاونين مع النازية وغيرهم من أصحاب النفوذ والسلطة؛ إذ تقام فيها حفلات غناء ورقص، ويتم تقديم أفخر أنواع المشروبات والأطعمة الشهية للحاضرين، وتلك كانت من سياسة النازية للحفاظ على عملائها ومن ينفذون أوامرها دون نقاش من اليهود ضد اليهود. كان الحراس عند باب الحانة من الشرطة اليهودية الحاملين لشارة نجمة داوود السداسية الزرقاء على أذرعهم أسفل الكتف. عندما اقترب مايكل من باب الحانة وهو يريد الدخول، أمسكه أحد الحراس من ياقته ودفعه بكل قوة حتى أوقعه أرضا. - هيا ارحل من هنا أيها القذر!
بالرغم من أن ملابسه كانت نظيفة وقد وضع عطرا خفيفا إلا أنه لم يرق إلى طبقة زبائن الحانة بأناقتهم ورقيهم المصطنع، وقف ورتب ياقته وقال للحارس: لقد أتيت لرؤية السيد مارك مسئول شئون المرضى في المجلس، إنه ينتظرني في الداخل، أخبره أن مايكل عند الباب.
نظر إليه بحقد، وقال لصاحبه: أمسك به، سأذهب إلى السيد مارك وأعود، وأرجو أن تكون كاذبا فيما ادعيت حتى أجعلك عبرة لأولئك القذرين الذين يتربصون كالقطط السوداء حول الحانة.
بلع مايكل ريقه من الخوف، وقال في نفسه: ماذا لو نسي اسمي السيد مارك وقال لهذا الخنزير إنه لا يعرف أحدا بهذا الاسم؟ لقد أخبرني البارحة أنه ينسى الأسماء كثيرا، ما هذه الورطة الكبيرة التي وقعت فيها يا مايكل؛ فأفراد الشرطة اليهودية كانوا يعتبرون أنهم كلما قسوا على يهود الغيتو تزداد ثقة النازية بهم، وبذلك يحصلون على الترفيعات أكثر فأكثر؛ لذا كانت قسوة الشرطة اليهودية في التعامل تفوق أضعاف أضعاف قسوة أفراد الفرق النازية، حتى وصل الحال بين أفراد الشرطة إلى التسابق فيما بينهم على البراعة في الإهانة والتعذيب أو حتى القتل. من حسن حظه خرج السيد مارك إلى الباب مع الحارس ليتأكد من هو مايكل، يبدو أنه قد نسي اسمه أيضا! لكن خروجه إلى الباب أنقذ مايكل من بطش الحارس، عندما رآه مايكل عادت الروح إليه، ابتسم السيد مارك. - أووه! أنت أهلا بك، هيا تفضل معي.
سحبه من يده وأدخله إلى الحانة وعينا مايكل في عين ذلك الشرطي وهو ينظر إليه نظرة ذهول وخشية فاصفر وجهه، شعر مايكل أن الخوف قد انتقل من قلبه إلى قلب الحارس، ماذا لو أخبر السيد مارك عن تعامله القاسي معه؟ ماذا سيحل به؟
كان السيد مارك في الحانة يبدو عليه نوع من السذاجة، يضحك كثيرا، حركات يده الغريبة عندما يتكلم مع ملامح وجهه تظن أنه مجنون فعلا، صاحب لهو ومرح واجتماعي لدرجة كبيرة ولديه علاقة جيدة مع كل الحاضرين، فلمجرد الوصول إلى طاولته الخاصة استغرقا أكثر من ربع ساعة، كلما مر أمام أحدهم ألقى التحية وهمس بأذن الشخص شيئا وتعالت ضحكاتهم، ثم يكمل الحديث مع هذا وذاك. استغرب مايكل كثيرا، هذا نفسه السيد مارك الذي التقاه في مكتبه؟! غريب أمره فعلا .. هنالك جدي إلى حد كبير وهنا هكذا!
جلسا أخيرا وحدهما على طاولته الخاصة في إحدى زوايا الحانة، ألقى مايكل نظرة حوله، الجدران البيضاء الناصعة والستائر الشفافة النظيفة والروائح الزكية المتداخلة، روائح عطور نسائية مفعمة بالحياة والإثارة، والندل يحملون كئوس الشراب ويوزعونها على الواقفين والجالسين، أصوات ضحكات وتمايل وإغراءات جسدية ومفاتن ظاهرة ومكسية للحسناوات، وبينما هو يتفحص المكان نسي أن السيد مارك جالس أمامه حتى أصدر صوت ضحك وقال: هيه! أين أنت يا رجل؟
وأتبع ذلك بضربة خفيفة على الطاولة. - معذرة يا سيدي، لقد أشغلتني الأجواء الجميلة هنا؛ فقد مر وقت طويل ولم أدخل مكانا كهذا. - لا عليك، فالحسناوات أبسط ما لديهن أن يسلبن عقولنا ويأخذننا بعيدا بعيدا جدا.
قالها وهو مغمض العينين وقد رفع رأسه إلى الأعلى ويلوح بيده، ثم فتح عينيه وقال: دعنا منهن وقل لي ماذا تشرب؟ - قهوة مرة. - قهوة مرة! ألا تكفيك مرارة الحياة في الغيتو؟
هز رأسه وهو يبتسم: لا عليك. ثم نادى النادل وطلب القهوة لمايكل وشرابا له وبعض المقبلات والفواكه. عندما رحل النادل سحب منديله من جيب ردائه ومسح جبينه وقال دون أن ينظر بوجه مايكل: لربما تظن بأنني أسعد إنسان على وجه الأرض. - الحقيقة نعم عندما رأيتك هنا وبهذا النشاط والحيوية، وكلا عندما رأيتك حائرا ضجرا تفكر في مكتبك يوم جئت لزيارتك. - أوه واو! لقد أعجبني تركيزك يا مايكل، لكن أيهما تظن حقيقة حياتي والآخر تمثيلا؟ - ولم الحقيقة والتمثيل، كل مكان له قوانينه وأجواؤه الخاصة، هناك عمل ووظيفة رسمية تتطلب منك الجدية، وهنا مكان لهو ومرح، فلا يعقل الجدية هنا كما لا يعقل الهزل هناك. - ربما تكون محقا فيما تقول، لكن يبدو أنني لم أستطع إيصال فكرتي إليك جيدا، المهم أنت هنا من أجل أختك المريضة التي تم نقلها إلى المشفى. - نعم، سارة، أخبرني أرجوك ألم تشف من المرض؟ أرأيتها؟ أخبرني عنها أرجوك! - مايكل، أريدك أن تسمعني جيدا، أنا لم أرد إخبارك بمصير سارة عندما دعوتني إلى بيتكم البارحة خشية أن تسمع والدتك بما أقوله لك.
تسلل الخوف إلى قلب مايكل. - ما بها، لا تقل إنها ... أرجوك ما زالت صغيرة! - اهدأ، اهدأ قليلا، لا تلفت انتباه الحاضرين إلينا، سأخبرك بكل شيء. - كما تشاء، هدأت، هيا تفضل. - أتذكر الضابط النازي الذي أخبرتك بزيارته لي قبل مجيئك إلى مكتبي يوم أردت إخبارك بشيء ثم غيرت الكلام؟ - نعم أذكره جيدا، وأذكر كيف تلعثمت يومها. - في ذلك اليوم جاء هذا الضابط بأوامر يجب تنفيذها خلال مدة أقصاها ثلاثة أيام، وهو جمع كل المرضى والمعاقين المسجلين لدي، وبالأخص مصابو الأمراض المعدية كالتيفوئيد والكوليرا. - وماذا بعد؟ ما الغاية من الجمع؟ - للتخلص منهم ضمن برنامج القتل الرحيم.
للوهلة الأولى بقي مايكل مصدوما لا يصدق ما سمع «للتخلص منهم»، هكذا بكل هذه البساطة! خارت قواه وارتجفت يداه، أعاد عليه السؤال: ماذا قلت؟ - اسمعني يا مايكل، أنا لم أكن لأخبرك إلا أنني واثق بأنك ستتفهم الأمر، هذا المرض معد ولا شفاء منه، ولو بقيت عندكم لانتقل إليكم جميعا، كانت ستموت في النهاية وتميتكم معها.
انهمرت الدموع من عيني مايكل دون إرادة، شعر وكأن مقبضا حديديا يعصر قلبه، لم يكن بمقدوره تخيل أن سارة ماتت! وبهذه السهولة والبشاعة. تذكر وجهها في تلك الليلة عندما كانت تهذي وتنادي بأسماء صديقاتها، تذكر ملامحها البريئة، العرق المتصبب على جبينها المتورد، يديها الباردتين وارتجافها بحضنه كورقة صفراء تكاد الريح تقطع وصلها بالغصن، وتهوي بها إلى مكان سحيق، ثم أجهش بالبكاء حتى صوت نحيبه لم يتغلب على أصوات رواد الحانة وهم في نعيمهم المزيف يتضاحكون ويتمايلون على أنغام الموسيقى. تحول بذهنه بياض الصالة إلى سواد قاتم، ووجوه روادها إلى وحوش ومصاصي دماء بملابس أنيقة، إنهم عبيد عصر الحداثة الزائف، عبيد لا يختلفون عن أجدادهم سوى بالمظهر المتصنع.
ضاق نفسه ولم يعد يحتمل البقاء أكثر، كان يريد أن يصرخ، يصرخ فقط، لا يوجد شيء آخر غير الصراخ ليعبر عما يشعر به تجاه كل هذا الظلم والوحشية التي يقبعون تحت ظلها.
بعدها انتصب واقفا وهم بالخروج، فأمسكه من يده السيد مارك وسحبه إليه وهو يطلق ابتسامة لمن انتبهوا إليهما وهمس بأذن مايكل: اهدأ واجلس، لا تزد علي ما أنا فيه.
حاول مايكل سحب يده معترضا، فعاد السيد مارك وسحبه بقوة. - قلت لك اجلس!
خارت قواه، فوضع رأسه على الطاولة وهو يبكي ويقول: كيف تسمحون لأنفسكم أن تكونوا أداة قتل لأبناء جلدتكم، كيف؟ أخبرني: هل أنتم يهود حقا؟! هكذا يفعل اليهودي بإخوته اليهود الضعفاء، هكذا يضعونهم بيد المجرمين؟ وأنا أقول لنفسي أين اختفى أولئك المرضى والمعاقون من الأزقة والطرقات، يا لإجرامكم وبشاعتكم! سيلعنكم التاريخ إلى الأبد أيها الخونة! - مايكل اسمعني جيدا، أنا لم أكن مضطرا لأخبرك هذا الكلام، ولو علمت النازية أني أخبرت أحدا من سكان الغيتو بهذا ستكون نهايتي في أحد معسكرات السخرة حيث الموت البطيء هناك، افهمني أرجوك، أنا بحاجة إلى من يسمعني سأنفجر من التفكير وملامة النفس، أنا مذ أصبحت في المجلس لم أنم وأنا صاح آتي كل ليلة هنا أشرب وأشرب حتى أثمل وأقع طريح الفراش بعد العودة إلى البيت لكيلا أفكر قبل النوم. - ولماذا لا تتركهم إن كنت تعاني مما تفعل هكذا؟! - لمن أترك الوظيفة؟ لضباط النازية؟! أتعلم لو قام أحد منهم بتنفيذ هذه الأوامر لتم قتل أضعاف العدد الذي أرسلته إليهم؟ نحن نضحي بالبعض لإنقاذ الكثيرين، نحن لا نقرر من يموت يا مايكل، نحن نقرر فقط من سيعيش.
بقي مايكل صامتا مذهولا يفكر بما سمع «نحن نضحي بالبعض لإنقاذ الكثيرين»، كانت الجملة فيها نوع من العقلانية البعيدة عن العواطف؛ فالموت واقع لا محال. - أنتم تقررون من سيعيش؟! لكن أخبرني من الذي أعطاكم دور الإله في شئون خلقه؟! - نحن لا نقوم بدور الإله ولسنا فرحين بما نفعل، وليس همنا من سنفقد، بل كم سننقذ، لكن أخبرني أنت، ماذا كنت ستفعل لو كنت في مكاني؟ - أنا لا أضع نفسي في هذا المكان مهما حصل، لن أكون أداة قتل بيد المجرمين، لن أعطيهم معلومات من يجب قتلهم حتى لو اضطررت للانتحار، لن أقوم بهذا العمل المخزي والمهين. إن أفعالكم هذه تتنافى تماما مع تعاليم الدين اليهودي، ألم تقرأ عن موسى بن ميمون أنه قال: «لو أن الوثنيين خيروا اليهود وقالوا: أعطونا واحدا منكم لنقتله وإلا سنقتلكم جميعا، فعليهم أن يختاروا الموت جميعا ولا أن تزهق روح يهودي.» - لكن بهذه الحالة سيفنى اليهود ولا يبقى لهم أثر إلى الأبد. أقنعني ماذا نفعل؟ نتركهم يقتلون الجميع وننتظر الذبح نحن كذلك كالخراف في المسالخ؟ ماذا بوسعنا فعله ولم نفعله؟ أنا أردت أن أزيل الهم عن كاهلي قليلا بالبوح فيما أثقل علي، وأنت زدت ما أنا عليه من تأنيب الضمير. سارة كانت ستموت في نهاية الأمر، أرجوك تفهم الأمر. - ماذا تريدني أن أفعل الآن؟ - لا تفعل شيئا، فقط اسمعني، لا أريد شيئا آخر منك، فقط سماعي، سأجن إن بقيت أكتم هكذا، أريد أحدا من أهل الضحايا لأشرح وأبين موقفي أمامه، وأن يكون الشاهد الوحيد أمام تلك الأرواح التي لي يد في إزهاقها، ولطالما أنني كنت مرغما على ما فعلته.
بعدها جاء النادل ووضع كأسا كبيرة من الشراب أمامه، ووضع فنجان القهوة أمام مايكل، والمقبلات والفواكه في منتصف الطاولة، لم يستطع مايكل أن يأخذ رشفة واحدة من الفنجان، كانت نفسه لا تتقبل أي شيء بعد سماعه بموت سارة، وما يحصل في الخفاء لسكان الغيتو. - لماذا لا تحتسي القهوة؟ - لا أستطيع، لقد سدت شهيتي، أشعر بضيق تنفس شديد. - أنا آسف، لكن هذا الذي حصل والقادم أسوأ على ما يبدو. - إن سمحت لي، سأغادر المكان، بت لا أستطيع التحمل. - سأقبل بمغادرتك شريطة أن تعدني بالمجيء مرة أخرى. - أعدك.
خرج من الحانة وهو يركض من زقاق إلى زقاق لا يدري إلى أين وجهته، أو بالأحرى كانت وجهته كل الأمكنة إلا البيت ووجه أمه، شعر أن هنالك شيئا ما سيخنقنه؛ فالخبر قد جثم على صدره، انفجرت الدموع من عينيه مرة أخرى وعاد يبكي بشدة وبصوت مبحوح على قارعة الطريق، تذكر سارة عندما كانت صغيرة يلاعبها ويشتري لها الهدايا ويراها تطير من الفرح وتحضنه وتقبله، يوم كانا يركضان سويا عندما يوصلها إلى المدرسة، يوم كانت تغفو بحضنه وهو يقرأ لها قصة ما قبل النوم، كان أباها بعد وفاة والدهما.
بعدما هدأ قليلا وشعر ببرودة آثار الدموع على خده في تلك الليلة القارسة، مسح وجهه بكم ردائه، وبات يفكر «هل أخبرها بموت سارة، أم أجعل الانتظار يعطيها أملا بالعودة المستحيلة؟ أيهما أقل وطأ على القلب؟! يا إلهي! ألم كبير دفعة واحدة بقول الحقيقة، أم ألم صغير مستمر طوال العمر بكذبة الانتظار؟ لكن ما الذي يضمن تحملها صدمة الفقد؟ إنها سارة آخر العنقود المدللة، ابنتها الوحيدة، لا، لا، لن أخبرها بالحقيقة، لا يمكنني تحمل حدوث مكروه لها، الانتظار هو الحل .. نعم لا شيء غيره».
عند بداية الزقاق رأى أمه من بعيد واقفة على الشرفة متحملة البرد القارس وتنتظره، تأملها وهي لا تراه، وقال في نفسه: «آه لو تعلمين يا أمي كم أحمل من شؤم وبؤس وحزن اليوم، سامحيني لأنني سأكذب عليك بعد قليل، لكن ليس في اليد حيلة، من لنا أنا وديفيد إذا حدث مكروه لك أنت أيضا؟»
اقترب من المبنى أكثر فأكثر، فرأته، لوح إليها بيده مع ابتسامة كاذبة، فأسرعت هي إلى الداخل لتفتح الباب. - هيا أخبرني ماذا قال عن سارة؟ - دعيني أدخل أولا، سنتحدث بغرفتنا، وأخفضي صوتك لئلا يستيقظ الرجل الفظ ويسمعنا كلاما يذهب فرحتنا. - هيا ادخل بسرعة، والآن أخبرني عنها؟ - هي بخير، لكن مرضها سيطول الشفاء منه، ويجب أن تلقى عناية خاصة في المشفى. - وكم سيطول؟ كم سننتظر بعد؟
قال في نفسه: «العمر كله يا أمي، العمر كله.» - سألته ذلك، فأخبرني أن الطبيب يقول إن الأمر بيد سارة، كلما استطاعت التجاوب مع العلاج سريعا ستشفى وتعود إلى أهلها.
ابتهجت الأم وانفرجت أساريرها. - لقد أرحت قلبي يا ولدي. - سارة قوية وستعود قريبا، لا تقلقي.
استرسلت الأم تردد الترانيم والمزامير وتشكر الله الذي لطف بحال ابنتها وأراح بالها، وطلبت العون والرحمة منه بأن يعجل عودتها إليهم ، كان مايكل يسمعها من تحت الغطاء ودموعه تذرف دون إرادة، ويكتم بكاءه لكيلا يخرج صوتا يثير انتباهها. قال في نفسه: «ما أبشع هذه الحياة وأقذرها .. وما أبشع أن تكون ضعيفا إلى هذا الحد فيها، ترى كل يوم وجوه من قتلوا أهلك وسلبوا مالك ودارك وحريتك وكل شيء جميل في حياتك، ثم وضعوك في قفص كبير كفئران التجارب وليس بوسعك فعل أي شيء لهم حتى مجرد وضع عينك بأعينهم مخافة العقاب والعذاب الشديد، أي إهانة للإنسانية هذه؟»
الفصل الثاني والعشرون
قرية أنجرلك - تركيا 1898م
إنها الفوضى يا بانوس، لقد تحولت المنطقة بأسرها إلى ساحة قتال همجية، ونحن أيضا تحولنا إلى وحوش فيها، دعني أخبرك سرا، لقد قتلت إلى الآن عشرة من العثمانيين، أتدرك ماذا يعني أن تقتل عشرة أنفس؟ وأنت تعلم جيدا أن ليس جميعهم يستحقون الموت، إنه أبشع شعور يمكن أن يصيب الإنسان، كل الأشياء السيئة في الحياة أمامها حاجز ما، وهذا الحاجز إما موجود فطريا في دواخلنا أو وضعته قيم وأعراف البيئة التي ولدنا وعشنا فيها، هذه الحواجز تحدد إنسانيتنا في الحياة، وما إن كسرنا واحدا منها للمرة الأولى، مالت إنسانيتنا نحو الهاوية واعتلينا تدريجيا سلم التوحش وتوحلنا فيه، حتى الشعور بالذنب لا يعود له ذلك التأثير الكبير على النفس، وكأن القتل يصبح أمرا اعتياديا كالنوم والاستيقاظ! - لكننا نعيش في غابة يا أرتين، إن لم تقتل تقتل، ثم نحن لم نختر هذا الطريق بإرادتنا، بل فرض علينا، لربما سمعت أن النساطرة أيضا شكلوا مجموعات مسلحة في مدينة «تياري» جنوب «وان»، وفي كوجنيس المقر الرئيس للبطريرك النسطوري قرب «جوليميريك». وأغاروا على بعض القرى الكردية وقتلوا الكثير منهم وحرقوا قراهم بالرغم من علاقاتهم الوثيقة والقديمة معهم بحكم الجيرة في المنطقة ذاتها لقرون عديدة، وهم لا يسعون إلى الاستقلال من العثمانيين أصلا، الكل تلطخت أيديهم بالدماء هنا يا أرتين، لم يبق مجرم وبريء أو ظالم ومظلوم، أي طرف يملك القوة يبطش بالآخر.
حتى الولاءات في المنطقة أصبحت على حساب المصالح المشتركة والتجارة المتبادلة والحصول على الأراضي أو الدعم أو الحماية أكثر من كونها ولاءات للدين أو القومية بالنسبة للسكان؛ لذلك تجد بعض العشائر الكردية كانت تقاتل معنا نحن الأرمن ضد الحكومة العثمانية بسبب رفضها الضرائب الضخمة التي تطلبها الدولة. - دعك من الولاءات وأخبرني كيف أصبحت؟ - أيام قلائل ويطيب الجرح، هكذا أخبرني الطبيب.
ربت على كتفه أرتين مع ابتسامة يملؤها الحب والطمأنينة. •••
كان لتدخلات القوى الأوروبية عن طريق الضغط على الباب العالي بإدخال الإصلاحات الفعلية، والاتفاق مع مهاجمي البنك العثماني من ثوار الآستانة، الذي نكثت الحكومة العثمانية الشروع به، وأخبار المجازر المتكررة التي انتشرت في الصحف الأوروبية؛ دور كبير في إجبار الحكومة على إصدار قرار بتغيير والي وان، وجعل النائب الأول للوالي الجديد من الأرمن. وتمتع النائب بصلاحيات واسعة فاقت صلاحيات جميع المسئولين عدا الوالي، وتم إلغاء ضريبة الإعفاء من الخدمة العسكرية التي توجبت على غير المسلمين لمدة سنتين، وكذلك أصدر الوالي الجديد «طاهر باشا» أوامر بمنع جباية الضرائب من محدودي الدخل، وجرت تغييرات كبيرة في سياسة الدولة تجاه الأرمن، كما أرسل القوات النظامية لاسترجاع بعض القرى والبيوت التي هجرها الأرمن واستولى عليها الفرسان الحميدية وبرروا ذلك بأن أهالي القرى كانوا موالين للثوار.
كانت الإصلاحات التي قامت بها الحكومة في وان سببا في ميل الكثير من الأرمن نحوها وابتعادهم عن الثورة التي ضرت بمصالحهم أكثر من الفائدة التي يروج لها الحزب في بياناته.
بعد مقتل «ديكران» اختار القائد فارتان أرتين لقيادة مجموعته في فصيل الاغتيالات، حينها استطاع أرتين ضم «غريغور وبانوس» إلى مجموعته، كان غريغور قد اشتهر بين المقاتلين ببطولاته أثناء ثورة وان، وفي الاشتباكات التي حصلت في طرق التهريب مع الفرسان الحميدية، أما بانوس فلم يتميز بين المقاتلين كثيرا، لكن وضع الثورة المتفكك حينها كان له دور في قبول أية حركة داخلية تؤدي إلى تنظيم صفوف المقاتلين وزيادة الروح القتالية لديهم، فتمت الموافقة عليهما سريعا.
كانت تلك الفترة هادئة بعض الشيء، وبالأخص بالنسبة لمجموعة أرتين التي لم تتلق مهمة اغتيال مذ أصبح قائدا عليها، وفي هذه الأثناء أجروا بيتا في الحي الأرمني؛ إذ بعد تولي «طاهر باشا» وحصول الحوادث مع النساطرة والأكراد وانشغال الحكومة بهم خفت الأنظار الحكومية عن الثوار في الحي الأرمني. - ألا تعتقدان أننا بحاجة إلى امرأة في هذا البيت، فقد تحول المطبخ إلى مكب نفايات، وأصبحت رائحته مقرفة، وغرفة نومنا في الحالة الطبيعية كأنها غرفة تعرضت للتفتيش أو السرقة، كل شيء فيها ليس في مكانه الصحيح الوسائد على الأرض، الأغطية متجمعة بشكل دائري وكأنها ثعبان ضخم، الفرش لم تغسل منذ شرائها، لا شيء في مكانه الصحيح.
ثم التفت نحو بانوس وقال له: ألم يحن الوقت لزواجك يا بانوس؟ - لكن يا أرتين أنا لا أملك المال الكافي، كيف أتحمل تكاليف الزواج؟! - سمعت أن الحزب يدعم أي مقاتل يريد الزواج ويقدم له مبلغا من المال.
ابتهج بانوس، ورد بحماس شديد: أحقا ما تقول؟ -نعم يا بانوس، هذا ما أخبرني به فارتان، لكن لا أظن المبلغ المخصص يكفي لكل تكاليف الزواج، وبما أنها ستأتي هنا وتخلصنا من هذا القرف الذي نحن فيه سنساعدك أنا وغريغور.
احمر وجهه خجلا، كان غريغور في المطبخ يعد الطعام ويتنصت إلى حديثهما، فقال بصوت مرتفع: أخشى أنها مثل حبيبها، لا تعرف سوى إشباع بطنها والرقود إلى النوم!
حمل بانوس غطاء قدر بجانبه وقذفه صوب غريغور: اسكت أيها الأبله، إنها أنظف من أمك التي تنام في حظيرة الأغنام.
وقع أرتين أرضا من شدة الضحك؛ فقد كانت أم غريغور مشهورة في القرية أنها تفضل النوم في الحظيرة على النوم في بيتها، وكانوا يقولون «إن لم تجدوا أم غريغور يوما في القرية بعد هجوم العصابات عليها فاعلموا أنها اختفت مع الخرفان المسروقة»، كانت تعتبر الخرفان أولادها ولعلها لم تهتم بغريغور قدر اهتمامها بهم. •••
قرب مقاطعة «أرتميد» كان أهالي القرية قد خصص لهم جزء من الأراضي في الجهة الجنوبية للقرية، وتم فيها بناء بيوت متقاربة من الطوب اللبن وإعطاؤهم أراضي أقل بكثير مما كانوا يمتلكون في «أنجرلك».
بالرغم من أنهم منذ قدومهم إلى هذه القرية لم يتعرضوا لأي هجوم ولم يحصل أية حادثة قتل للرعاة أو سرقة لمواشيهم، فإن أوضاعهم المادية كانت على المحك بالكاد، كانوا يجدون قوت يومهم وليس بإمكانهم مجاراة أهل القرية الحقيقيين في التجارة، ولم تعد المحاصيل التي تباع في سوق مدينة وان كالسابق؛ فعندما كانوا في «أنجرلك» كانت تخرج عدة عربات محملة بالمحاصيل المتنوعة والطازجة إلى وان، أما هنا فالقافلة تخرج بعربتين وأحيانا بعربة واحدة لكل محاصيل الأهالي، ولا تعود بذلك المردود الذي يسد حاجاتهم اليومية. كانت معادلة حياة أهل القرية تدور حول «إن حصلوا على الأمان جاعوا، وإن شبعوا فقدوا الأمان»، لم يحصلوا عليهما سويا يوما، ولربما هذه المعادلة التعيسة ليست لأهل القرية فقط، لربما هي معادلة الحياة في أصلها، يجب أن تفقد شيئا أساسيا في حياتك لكي تحصل على شيء أساسي آخر!
تحدث أرتين إلى والده المختار تلمكيان بأمر زواج بانوس من باتيل. - نعم يا بني ستكون خطوبتهما هنا، لكن الزواج سيكون في قريتنا «أنجرلك». - ماذا تقول! هل تريد العودة إليها بعدما استقر بكم الحال هنا؟! - لا، لست أنا من قرر هذا، لقد جاءتنا أوامر من الوالي الجديد «طاهر باشا»، وأعطانا ضمانات كبيرة بحماية قريتنا بعد عودتنا إليها؛ فقد جاء بإصلاحات كبيرة وأعاد العديد من الأرمن إلى قراهم وبيوتهم. - ومتى الرحيل إذن؟ - أخبرت رجال قريتنا بالتجهز للعودة، وسنقوم بعمل وليمة كبيرة لرجال هذه القرية ونشكرهم على استضافتهم لنا وتحملهم وجودنا في الفترة الماضية. •••
كانت الحشائش قد نبتت وتسلقت جدران البيوت، والأمطار الغزيرة قد أوقعت جزءا من أسقف بعضها، وأسوار الحظائر الخشبية قد تعرضت للتخريب. كان أرتين يراقب وجوه العائدين المملوءة فرحا لرؤيتها وشوقا إليها، والابتسامة تعلو شفاههم الخاوية، نظر نحو سفح الجبل، كانت شجرة الجوز ما زالت شامخة بأغصانها المتفرعة وتبدو حزينة لفراقهم لها.
استطاع الأهالي في فترة قصيرة إعادة الروح إلى قريتهم، ودبت الحياة فيها من جديد، من حسن الحظ كانوا في فصل الربيع؛ لذا لم يواجهوا صعوبات كبيرة في ترميم البيوت وتنظيف الحظائر وحرث الأراضي الزراعية، كان الجميع يعملون كالنمل في القرية؛ فحماس العودة وهدوء المنطقة نوعا ما كان دافعا كبيرا لهم.
في يوم عرس بانوس قاموا بتنصيب خيمة كبيرة أمام بيته، وبدأ الجميع بالاحتفال «الدبك والغناء وإلقاء الأشعار العاطفية»، أما الإكليل فكان يتم في بيت العريس حيث يحضر الكاهن ليعقد قرانهما ويبارك لهما، خرجت باتيل وحولها نساء القرية وهي ترتدي فستانا أحمر مزركشا وتضع على وجهها منديلا شفافا أحمر اللون، والخجل قد اعتلى وجهها وهن يطلقن الزغاريد ويغنين ويصفقن حولها، وأهل العريس يرشون الأرز تعبيرا عن الفرحة بها واستقبالا لها.
صعد أرتين وغريغور مع العريس «بانوس» إلى سطح بيتهم وأجلساه على كرسي خشبي، وكل منهما كان يحمل ديكا معلقا من قدميه بغصن شجرة في نهايته، والرجال في الأسفل يرقصون على أصوات الطبل والمزامير، وعندما وصلت العروس مع نساء القرية وهن يصفقن ويغنين، ألقى أرتين وغريغور الديكين فوق رأس القادمين، وهذه من التقاليد الأرمنية الموروثة، وكانت أم بانوس تحمل مغرفة بيد ورغيفا من خبز التنور السميك باليد الأخرى، وترقص وتتنقل بين الحاضرين، فتعثرت بحجر وسقطت أرضا، اعتلى المكان صوت ضحك، وتهامست النساء فيما بينهن «لم تصدق أنها ستزوج ابنها». - غريب أمر الأمهات يا بانوس، هذه التي سقطت أرضا من الفرح تراها بعد أيام تتشاجر مع زوجتك! - أمي ليست كذلك يا أرتين. - كل الأمهات هكذا، هنالك شعور لدى جميعهن أن الزوجة تسرق ابنها منها، وهي بنفسها كانت تلح عليه بالزواج، هذه الأحجية لم يستطع تفسيرها أعظم المفكرين. - دعكما من هذا الهراء، العروس قد وصلت، هيا يا بانوس انزل إليها لتكسر الجرة بوجودك.
كانت الجرة مليئة بالزبيب والسكاكر والحمص موضوعة عند عتبة الدار، كسرتها باتيل بمعول صغير، ثم وضعت قدمها على العتبة، واعتلت الزغاريد والأهازيج وضرب الطبول وهي تدخل مع بانوس الدار.
الفصل الثالث والعشرون
القدس - فلسطين 1944م
من أقصى الزقاق الضيق ذي الأرضية المرصعة بالحجر الرمادي على شكل مربعات متناسقة تتوسطها ساقية متعرجة تصب مياهها في الهوة المغطاة بالحديد المثقب قرب أرجل حسن، تناهى إلى سمعه أصوات ضحكات وغنج بنات لطالما شعر أنه المقصود بها وأنهن يتحدثن عنه ويضحكن، لكن ما المضحك في الأمر؟! ذلك سؤال لم يجد له جوابا البتة. عندما اقتربن منه تفحص حسن الوجوه فلم يجد بينهن من تهز عرش قلبه رؤيتها، فسرى خوف في جوفه وتسلل أسوار قلبه وانقض عليه شعور بالفقد، خطر على باله ألف سؤال وسؤال عن سر غيابها المفاجئ، مررن من أمامه يرمقنه بأطراف أعينهن وهو كالصنم متجمد في مكانه، أوقعت إحداهن ورقة صغيرة من يدها على غفلة من صديقاتها وغمزت له ثم أكملت طريقها معهن. دبت الروح من جديد في جسد حسن، تحرك نحو الورقة حملها بيد مرتجفة فتحها وقرأ فيها «ابق مكانك لا ترحل»، أعاد القراءة مرة ومرتين وثلاثا لم يفهم شيئا، ما هذا الطلب الغريب؟ تمعن في الخط وتساءل: هل خطها هي أم خط صديقتها، اشتبكت الأمور عليه وتداخلت الأفكار في رأسه، لكنه فهم شيئا واحدا وهو أن يبقى في مكانه.
مرت نصف ساعة تقريبا، وحسن قد تأخر على مدرسته، وظل حائرا بين أن يبقى أو أن يلحق الحصة الأولى، والورقة بيده يقرأ المكتوب فيها رغم حفظه للجملة ثم يضعها في جيبه. فجأة سمع من خلفه صوتا ناعما يتراقص نحو مسامعه، لم يكن غريبا ذلك الصوت بل مألوفا، مألوفا جدا في أذن قلبه المتيم. - حسن! -أنوشكا! هذه أنت، لا أصدق عيني.
احمر وجهه وتضاربت نبضاته وبدأ يرتجف ولا يسيطر على ارتباكه، ابتسمت أنوشكا وقالت: انتظرني غدا في الطرف الآخر من هذا الزقاق في مثل هذا الوقت.
ثم أعطته ابتسامة وتوجهت إلى مدرستها.
لم يصدق حسن ما سمع، ظن أنه في حلم لطالما تمنى أن يتحقق.
ظل طول الطريق يتكلم مع نفسه كالمجانين وهو يمر من زقاق إلى آخر نحو مدرسته، ويقول بصوت مسموع: أنوشكا تريد لقائي؟! لقائي أنا! يا لسعادتك يا حسن! •••
التقيا على الموعد في اليوم التالي، كانت أنوشكا قد ارتدت فستانا أحمر اللون وتحته سروال طويل، وتزينت بحزام قماشي مع صدرية مزركشة ملونة، وعلى رأسها قلنسوة حمراء فيها شراشيب سوداء، تفحص حسن وجهها، ملامحها وملابسها بنظرات بطيئة مسفرا عن ابتسامة تملأ وجهه، وقال في نفسه .. والله لقد وقع في قلبها ما وقع في قلبي حتى فعلت كل ذلك من أجلي وتزينت هكذا للقائي .. غمرت الفرحة أرجاء قلبه ولم يدر ماذا يفعل وهي واقفة أمامه، استمر يتأمل عينيها، شفتيها، وجنتيها الحمراوين، وتذكر قول أبي نواس:
الورد في وجنتيه
والسحر في مقلتيه
وإن عصاه لساني
فالقلب طوع يديه
ثم قال لها: القلب طوع يديك ماذا نفعل الآن؟ - دعنا نذهب من هنا. - إلى أين؟ - خذني بجولة كما تفعل مع سكينة. - وهل أخبرتك عن جولاتنا؟ - هي لا تخبئ عني سرا، ولا أنا. - هيا إذن نبدأ بقطعتي نابلسية عند «أبي أحمد النابلسي» مع قدحي شاي في بداية السوق كما تحب سكينة.
ردت .. هيا بشكل طفولي، شعر حسن أنها بريئة أكثر مما كان يظن.
في الطريق لم يستطع كسر حاجز التحدث عن المشاعر، تحدثا عن كل شيء إلا المشاعر أخبرته أنوشكا أنها وحيدة أهلها وتتمنى لو أن لها أخا أو أختا يكسر وجود أحدهما وحدتها. - أبي كبير في السن كما تعرف، تزوج متأخرا جدا وهو على مشارف الخمسين من عمره، كان يعيش في قرية على أطراف مدينة «جنين»، ثم انتقل إلى القدس وتزوج فيها، لكن بيتنا هناك ما زال قائما، نزوره مرة كل شهر أو شهرين. - وكم تبقون هناك في كل مرة؟
شاح وجه حسن، ابتسمت أنوشكا وقالت: لا نتأخر كثيرا، يومين أو ثلاثة أيام إلا في الصيف نبقى أسبوعا أو أسبوعين أحيانا، فالجو هناك معتدل جدا في الصيف. - وأنا! - ماذا أنت؟
تلعثم حسن وبلع ريقه. - أقصد كيف أتحمل فراقك وعدم رؤيتك كل هذه المدة؟!
قالها بعينين ممتلئتين شوقا وحبا، احمر وجهها خجلا، كانت تتهرب عن الخوض بأحاديث المشاعر في كل مرة. - هناك يوجد قبر جدتي، ماتت قبل أن أولد، يقول أبي إنني أشبهها كثيرا. - هل كانت اسمها أنوشكا أيضا؟ - لا، سماني أبي على اسم بنت صديق له .
سكت حسن هنيهة، نظر صوب سور المدينة القديمة جهة باب العامود وكأنه يريد جنين. - أهي بعيدة من هنا؟ لم أزرها من قبل. - أتقصد جنين ؟
هز رأسه، دون أن ينظر إليها. - نعم هي بعيدة؛ فعندما نزورها نخرج من الصباح الباكر بسيارة نقل خاصة إلى رام الله، ثم إلى نابلس ثم طولكرم ثم من هناك إلى جنين ومنها إلى القرية. الطريق متعب جدا ومرهق، أبقى بقية اليوم كله نائمة بعد وصولنا من شدة التعب.
ساد صمت بينهما، كانا يجلسان في مكان مرتفع يتأملان المدينة والبيوت القديمة، الداخلين والخارجين منها وإليها، عربات محملة بالأكياس تجرها البغال، رجال ونساء وأطفال وأصوات الباعة تتعالى من هنا وهناك، مدينة تعج بالحياة، فيها اجتمعت الأعراق والأديان والملل والطوائف واللغات والألوان، وكأنها فسيفساء، كل قطعة فيها من بقعة مختلفة، فيها ترى الأرض وأنت جالس في مكانك، نظر إليها حسن وهي تتأمل الناس وقال: أتعلمين يا أنوشكا؟
التفتت إليه والخجل قد اعتلى وجهها الملائكي. - ماذا؟ - عيناك تشبه القدس، فيها من كل شيء شيء.
زاد خجلها خجلا واحمرت وجنتاها أكثر فأكثر، اقترب حسن منها وهو يرتجف، أمسكها من يديها الناعمتين، أغمض عينيه، انحنى نحو أذنها اليسرى، همس فيها بكلمة «أحبك»، ثم طبع في خدها قبلة رقيقة، أخرجت أنوشكا شهقة، وكأن الكلمة حبست أنفاسها والقبلة طرحتها. لم تستطع تحمل كل تلك المشاعر الهائجة، حملت نفسها وقالت: لقد تأخرت عن البيت، يجب أن أذهب. - متى نلتقي مجددا؟
لم ترد بشيء، شعر حسن أنه تجرأ كثيرا، وأن القبلة كانت غير موفقة، فأراد أن يستدرك الموقف: أنا آسف. - لماذا تتأسف؟ - ربما تجاوزت حدي واستعجلت ما يجيء بالتأني.
اغرورقت عيناها بالدموع، جثت على ركبتيها، وبدأت تبكي وتجهش بالبكاء وتشهق من شدة التأثر. - حسن، أرجوك لا تفض علي بكل تلك المشاعر مرة واحدة، أنا لا أتحمل كل هذا، ولا أعلم شعوري تجاهك حتى الآن، عندما سمعت من سكينة عن جولاتها معك ورأيت سعادتها الكبيرة وهي تتكلم، تمنيت أن يكون لي أخ يفعل ما تفعله معها، وعندما تتحدث الفتيات عن الحب وتقص إحداهن عن الهدايا التي تأتيها ممن تحب وعن الاهتمام الشديد بها، أتمنى أن يكون لي حبيب كالذي عندها، أنا أريد أخا وسندا وأمنا واهتماما وحتى حبا، كل هذه المشاعر حاضرة في ولا أعرف كيف أتصرف وكيف أكون حبيبة أحد.
مد يده حسن ليمسح الدموع من على خدها، ولم يعلق شيئا على قولها، أعطاها ابتسامة طمأنينة ثم أمسك يدها وقال: هيا بنا لنعود.
الفصل الرابع والعشرون
غيتو وارسو - بولندا 1941م
هكذا هي الحياة، عادة تفرض إرادتها بكل قسوة، وليس لك من الأمر سوى الرضوخ لها، عندما تشعر أنك تؤدي مهمة أخلاقية غايتك فيها إنقاذ الكثير ببعض التضحيات البسيطة تحت المبدأ المقيت «الغاية تبرر الوسيلة»، ثم تكتشف أنك سلكت طريق اللاعودة، وتراكمت عليك التضحيات حتى صرت تتجه نحو الجريمة التي جاهدت ألا تقع فيها، وتوحلت في الطين أكثر مما كنت تتصور، فلا يمكنك العودة كما كنت في السابق ولا الاستمرار فيما أنت عليه، هكذا كان يشعر السيد مارك في عمله؛ لذا كان سكون الليل أعتى أعدائه فيقاتله في الحانة بالإفراط في الشرب لكيلا يستذكر ما حل بمن أرسلهم إلى الموت ويخدع نفسه بتلك الضحكات والسعادة الظاهرية المزيفة وفي جوفه جحيم مستعر. لكنها شجاعة عظيمة أن تتحمل كل ذلك الشعور المؤلم وتأنيب الضمير فقط من أجل تقليل عدد القتلى لسكان الغيتو، لعل النازية تهزم في الحرب القائمة قبل آخر قسط من اليهود، وبذلك يحقق الإنجاز العظيم بالحفاظ على أرواح ما كانت تزهق لو لم يقم بتلك المهمة الثقيلة والبشعة.
كان هناك الكثير من الأسئلة يدور في خلد مايكل، ولا بد أن الإجابة لديه ما دام يريد أن يبوح له ويزيح عن كاهله ثقل ما يحمل، كانت فرصته في إدراك ما وراء الحوادث التي تحصل يوميا في الغيتو.
في اليوم الذي وعد فيه السيد مارك بالمجيء إلى الحانة، اعتقلت الشرطة ديفيد مع عشرات الشباب من الحي، حاول سؤالهم: لماذا؟ ما السبب؟ ما الذي اقترفه ديفيد؛ فهو لا يغادر المنزل منذ قدومنا إلى الغيتو؟
كان ديفيد يرتعد خوفا؛ فقد حصلت له حالة نفسية من مثل هذه المشاهد يوم تم إشباعه ضربا ليلة الزجاج المحطم، ومن ثم ما فعلوا به يوم اعتقلوا مايكل وفتحوا لفائف جروحه بقسوة وهو يصرخ وجعا ليتأكدوا من جراحه، ومن ثم التعامل القاسي في الترحيل من ميونخ إلى هنا، لكن الشرطة لم يخبروه بشيء سوى أنها أوامر المجلس.
لحق بهم حتى يعرف أين سيتم اعتقالهم، لعل السيد مارك يساعده بإخراجه، تم جمعهم ورصهم بعضهم خلف بعض عند الباب الرئيسي، ثم بدءوا يتأكدون من الأرقام والعدد المحدد، وأصوات العربات العسكرية تأتي من خلف الباب، تذكر مايكل قبل أكثر من أسبوع تم أخذ مجموعة من الشباب أيضا بهذه الطريقة، ظن حينها أنها عملية ضمن برنامج إعادة التوطين، لكن بعد معرفته بما حصل للمرضى لم يعد يصدق بهذه الدعايات المخدرة للنفوس. عند عودته إلى البيت سألته أمه: هل سيرحلونهم إلى فلسطين، كما أرادوا ترحيلنا يوم كنا في ميونخ؟ - نعم، هكذا يبدو الأمر. - لكن ماذا عنا أنا وأنت؟ - وماذا عن سارة؟ أنسيتها؟ هل كنا سنتركها هنا وحدها في بولندا؟ - لم أنسها، لكن لا أدري من أين تحل علينا كل هذه المصائب دفعة واحدة يا بني؟! - لربما من شؤم انكسار المرآة في تلك الليلة التعيسة.
امتلأت عيناها بالدموع، سمع مايكل صوت حركة خلف الباب، أدرك أنه صاحب البيت كالعادة، كان يتنصت إلى حديثهما ويريد معرفة مصير ديفيد، هو لا يهمه أحد منهم، ويوم سعد عنده إن رحلوا وتركوا له البيت، لكن لا يمكنه النوم إلا بعدما يتنصت إلى حديثهم كل يوم، فلا يتنازل عن أنفته التي وهم نفسه بها، ويجالسهم ولا يتركهم في حالهم.
في المساء كانت هناك زخات مطر خفيفة تهطل مع رياح شمالية باردة، أسرع مايكل خطاه حتى يصل إلى الحانة قبل أن يهطل المطر بغزارة، كانت قطرات المطر تبدو تحت أضواء أعمدة الإنارة الصفراء التي رسمت دوائر مضاءة تحتها كأنها لوحة فنية بديعة كست بؤس ذلك المكان وتعاسة من يقبعون فيه بوشاح جميل. عند باب الحانة كان ذلك الحارس اللعين واقفا كالعادة، رمقه مايكل بنظرة غاضبة، فما كان منه إلا أن فتح له الباب وقال: تفضل بالدخول «سيدي».
قال مايكل في نفسه وهو يدخل: سيدي؟ تبا لك ولأمثالك يا كلاب النازية! الآن أصبحت سيدك؟ توجه مباشرة إلى طاولة السيد مارك في الزاوية اليمنى للحانة، ألقى التحية عليه وجلس. - توقعت عدم مجيئك يا مايكل. - ولماذا؟ - قلت لربما حمل علي في قلبه شيئا وكرهني من أجل موت أخته الصغيرة بسببي. - ليس ذنبك، لقد فكرت فيما قلت يومها ولم أجد حلا أفضل مما تقوم به، أما التعاليم الدينية فليست قابلة للتطبيق في كل الحالات «يجب أن يموتوا جميعهم»، ضرب من المثالية، الواقع والحقيقة تختلف كثيرا. - الآن أصبحت تفهم الواقع، وتستطيع أن تفرق بينه وبين المثالية المفرطة في بعض النصوص الدينية. - يبدو ذلك، لكن ماذا عن تأنيب الضمير؟! - دعني أخبرك شيئا، لو فرضنا أنني وضعت شخصا في حفرة عميقة واتفقنا أنك تسأله أسئلة محددة، إذا أخطأ في الإجابة سكبت عليه دلو ماء، هل في الأمر خطورة؟ تجربة جميلة ومسلية، أليس كذلك؟
أومأ مايكل برأسه، وبدا على وجهه علامات الاستفهام والتعجب، وشعر أن السيد مارك ثمل منذ بداية الليلة .. لكن ما الذي يخسره؛ فقد أتى لسماعه لربما الإنسان يكون أكثر صدقا عندما يفقد عقله، فقال: أكمل! - مع كثرة أخطائه سيرتفع منسوب الماء في الحفرة، في كل مرة أكثر فأكثر، وفي مرحلة معينة سيغمر الماء كامل جسده إلا رأسه، ويبدأ يستنجد بك بألا تسكب دلوا آخر ويتوسل إليك لأنه سيغرق، على الرغم من أنه نفس مقدار الدلو الذي لم يؤثر عليه في البداية! وهنا يكمن السؤال عندما تقرر أن الدلو التالي غير مقبول ومؤذ جدا له، فماذا كان مبرر الدلو الذي قبله؟! إن السلوك الأخلاقي الذي وصلت إليه تشكك في أخلاقية الخطوة السابقة. وهكذا تكون قد وقعت في المصيدة بالالتزام التدريجي لارتفاع الماء في الحفرة غير المؤذي وصولا إلى المؤذي بسبب ضآلة المسافات غير الملحوظة بين الخطوات. فيتصاعد مقدار تأنيب الضمير مع تصاعد التأثير فيه، فتكون كمن يقوم بنفس العمل دون زيادة في كل مرة، لكن مقدار تأثيرها يزداد في كل مرة، حينها تكون قد أوغلت في التجربة ووصلت طريق اللاعودة. هذه المصيدة تكشف مفارقة مهمة؛ «لا أحد يستطيع أن ينظف نفسه من الوحل دون أن يلطخ نفسه به، وإذا أراد المرء أن يخفي الوحل فلا بد أن يغوص فيه للأبد». هكذا حالنا بالضبط في المجالس يا مايكل، لقد وقعنا في المصيدة، فلا نستطيع أن ننقذ اليهود إذا لم نضح بالبعض، هذا إذا أردنا أن ننظف الوحل الذي أوغلنا فيه أو أن نخفيه ويفنى سكان الغيتو بأجمعه.
بقي مايكل صامتا مندهشا بعمق الفهم للواقع الذي يعيشه السيد مارك، إنه مصاب بداء الوعي المفرط، إنها لعنة حقيقية أن يكون وعيك إلى هذا الحد في مثل هذه الظروف غير الآدمية.
رفع السيد مارك يده ملوحا للنادل، فأقبل إليه. - أحضر لنا فنجان قهوة، مع شرابي المفضل، هيا بسرعة. - لعل القهوة تعيد تركيزك معي.
قالها مع ابتسامة صغيرة. - بالفعل تفعل ذلك وأكثر؛ فهي تعدل المزاج وتريح الأعصاب. - أووه كل هذا الوصف للقهوة، ماذا لو كنت مدمن كحول، ماذا كنت ستصفه، وهو يزيح الهم ويجلي الغم ويهبك سعادة غامرة. - ها قد أجدت في وصف تأثيره أحسن مني.
تعالى صوته ضحكا، وضرب طرف الطاولة بأصابعه الأربعة. بعدها استأذن لدقائق إلى أن يأتي النادل بما طلب منه ليقوم بجولة تحايا وضحك مع بعض الحاضرين، ثم بعض القبلات الحارة من شفاه إحدى الحسناوات. أحضر النادل فنجان قهوته، وبدأ يرتشف منها وينتظر عودة السيد مارك ليكملا الحديث ويسأله عما سيحصل بمصير ديفيد ومن معه. عاد منتشيا، حمل الكأس وأفرغها في جوفه مرة واحدة ثم جلس وهو يبتسم، فسأله مايكل: هل بالفعل هنالك إعادة توطين؟ وأن هؤلاء الشباب يتم سوقهم في كل حين لأجل هذا الغرض؟ - إنها كذبة. - أيضا! - كل شيء جميل تسمعه هنا كذبة. - وأين يتم سوق أولئك الشباب، لقد أخذوا أخي ديفيد اليوم ، لا تقل لي سيقتلونهم، لا يعقل هذا الأمر فليقتلونا جميعا وينهوا الأمر، لم هذا الانتظار كله؟ - لا، لا، اهدأ قليلا، عدنا إلى قتل الجميع! ما بك؟! لم أتصور أنك عصبي إلى هذا الحد. - لست كذلك، لكن الأمر بات لا يطاق. - لقد تم إرسالهم إلى معسكرات الاعتقال، النازية بحاجة للأيدي العاملة في مصانعها لرفع اقتصادها في ظل الحرب. - معسكرات الاعتقال، الموت البطيء .. لقد كنت معتقلا في معسكر داخاو قبل ترحيلنا إلى هنا بعدة أشهر، إنه الجحيم بعينه. - هل كنت معتقلا من قبل؟
دهش بما سمع. - نعم، وبقيت فيه قرابة السبعة أشهر، إلى أن تم إكراهنا على التوقيع في تعهد لترك ألمانيا في غضون ثلاثة أشهر، لكن غبائي المفرط قادني إلى التأخر في الرحيل حتى احتلت ألمانيا بولندا، وتغير كل شيء. حتى إن الضابط الذي وقعت في مكتبه التعهد في معسكر داخاو كان هو نفسه الذي جلب لك الأوامر بقتل المرضى، لقد رأيته على الدرج في طريقي إلى مكتبك. - الهر اللعين، لم يترك مكانا إلا ولديه بصمة قذرة فيه. - لكن لماذا غيرت النازية رأيها بترحيلنا إلى فلسطين بعد نشوب الحرب؟ - إن النازية بحاجة للأيدي العاملة في مصانعها المتنوعة، وبالأخص مصانع الذخائر، لإدامة انتصاراتها على الأعداء، وبما أن الفيرماخت (الجيش الألماني) لا يمكن لليهود ولا لبقية الأعراق أن يكونوا جنودا فيه، وكذلك الخوف من تكرار الخيانة التي يتهمون يهود ألمانيا فيها بالحرب العالمية الأولى بضرب اقتصاد ألمانيا الذي أدى إلى خسارتها وتوقيع معاهدة فرساي المخزية لها، وخسارة أجزاء كبيرة من أراضيها، وتحميلها مسئولية الحرب وإجبارها على دفع غرامات مالية للدول المتضررة، مما دفعها إلى جمع اليهود إضافة إلى بقية الأعراق في الغيتوات لضمان عدم تكرار الخيانة التي حملوها لنا، واستخدام الطاقات المتوافرة لمصلحة ألمانيا وحربها. - لكن إذا كان الأمر كذلك لماذا يتم قتل المرضى والمعاقين والأطفال والشيوخ؟! - ببساطة إنهم ينظرون إلينا نظرة مادية بحتة، ما الفائدة من أناس على قيد الحياة مستهلكين غير منتجين؟! بقاؤهم تجارة خاسرة. - وأطفالهم هم ونساؤهم وآباؤهم؟! - كل من لا يحمل عرقا آريا، فهو لا يعتبر من البشر، وبذلك لا يستحق التعامل الإنساني بل المادي؛ لذا يتم إرسال الشباب والشابات أصحاب الطاقة الإنتاجية إلى معسكرات السخرة، ويتم إبادة البقية على مهل. - لماذا لا يتم إرسالهم إلى المعسكرات دفعة واحدة إذن؟ - العدد كبير، والغيتوات كثيرة ومنتشرة في كل أرجاء سيطرتهم، آلية النقل إلى المعسكرات حسب الحاجة؛ لذلك في كل فترة يأتي طلب بعدد معين إلى المجلس فيقوم العضو المسئول بجمع العدد عشوائيا من الغيتو، وكما تعلم معلومات وعناوين جميع الحاضرين موجودة في السجلات، ويتم إرسالهم إلى المعسكرات. - يكفي إلى هذا الحد، ليتني لم أعلم حقيقة ما يدور هنا، يا لبشاعة مصيرنا! - أوما تراني أبالغ في الشرب حتى أستطيع الخروج من هذا الجحيم؟ - وكيف برجل أدخلته الجحيم وهو لا يشرب؟ - لا بد أن يشرب كي ينسى .. خذ الكأس من يدي وجربها، لن تندم. اسمع نصيحتي. - اشربه أنت، علي أن أغادر. - عدني بأن تأتي مرة أخرى إلى هنا. - أعدك. •••
كانت الرياح شديدة مع زخات مطر غزيرة، تبلل رداؤه بعد دقائق من مغادرته للحانة، خطا خطوات كبيرة، من زقاق إلى آخر، ومن ظل حائط إلى آخر، وما إن دخل الباب الخارجي للمبنى، حتى سمع صوت صراخ وطرق باب عاليا يصدر من طابقهم، صعد الدرج كالبرق، وإذ به رأى الجيران قد تجمعوا على باب بيتهم وصياح أمه يأتي من الداخل، ركل الباب بقدمه فانكسر القفل وانفتح، كان صاحب البيت ثملا قد تهجم على أمه ومزق ثيابها وهي تصرخ وتدافع عن نفسها، ركل مايكل رأس صاحب البيت بقدمه فأوقعه أرضا، ثم انهال عليه بالضرب دون أن يشعر وكأنه يخرج فيه كل ما أثقل عليه سماعه من السيد مارك، ثم أمسكه من أذنيه وبدأ يضرب رأسه على الحائط ضربات عدة وهو يصرخ في وجهه: «أيها الحقيييير»، «أيها الخنزييير»، «ألا يكفي ما يحل بنا ثم تأتي لتعتدي على أمي؟» «سأقتلك، سأقتلك»، خرج الدم من رأسه وأنفه وفمه، حاول الجيران تخليصه من يديه حتى انتزعوه منه. فأقبلت الشرطة وتم اعتقاله ونقل صاحب البيت إلى المشفى وهو بين الحياة والموت.
الفصل الخامس والعشرون
إسطنبول - تركيا 1905م «أيها القادة الحضور يا أبطال شعبنا الأبي، إن التاريخ سيسجل تضحياتكم في الدفاع عن قضيتنا العادلة التي رويت وتروى بدماء شهدائنا الزكية، وستتناقل الأجيال بطولاتكم في ساحات القتال ضد أكثر قوة ظلمت شعبنا وسلبت حقوقه وهويته واحتلت أرضه لقرون عديدة.
لقد كلفتني قيادة الحزب رسميا بإعادة تنظيم الفصائل المسلحة والتخطيط لعمليات نوعية كبيرة بعد فشل ثورة وان وما ردفها من انتكاسات شتى، لتسريع الخطى والخلاص من سلطتهم على رقابنا، ولعلكم سمعتم أن الجناح السياسي للحزب قد تحالف مع حزب الاتحاد والترقي المعارض في الخارج بعدما رأينا أن أهدافهم تتوافق إلى حد كبير مع أهدافنا.
إننا اليوم نمر بمنعطف كبير نحو بلوغ الغاية، وما كان مستحيلا في الأمس أصبح ممكنا اليوم، وما كان حلما غدا واقعا وحقيقة، وكأني أرى أمامي العلم الأرمني يرفرف شامخا على قلعة وان، لقد أبدت جميع الدول الأوروبية دعمها لقضيتنا وأن المسألة خرجت من كونها شأنا عثمانيا داخليا إلى شأن دولي وما يتطلب منا سوى زيادة نشاطنا والقيام بعمليات ترج الدولة العثمانية ويصل صداها لكل الدول.»
كان مانوكيان خطيبا مفوها، يدرك كيف يتلاعب في نفوس المستمعين ويدب في قلوبهم الحماس وإن كانوا في حالة يرثى لها، رجلا في منتصف عقده الرابع، ذا شارب كثيف مقسم من المنتصف وكأنه ورقتان من شجرة البرتقال يغطي شفته العليا بالكامل وعينين حاذقتين، ملامحه توحي أنه من أرمن روسيا، يرتدي جاكيتا أسود مع بنطال من نفس لون الجاكيت، يحمل غليونا في يد وقبعة سوداء في الأخرى، يتكلم بهدوء عند النقاش ويبتسم كثيرا، كان أرتين يتأمله وينظر إليه بنوع من الإجلال ويزداد يقينا وإيمانا بالثورة التي تملك قادة أمثال مانوكيان.
ثم قدم مانوكيان للقادة الحضور مساعديه «دافيت» و«سركيس» كان دافيت شابا نحيلا سبط القوام أهيف القد، وكأن ماء الجمال قد ترقرق في وجهه، يرتدي قميصا أبيض مع بنطال من قماش بني سميك، حركاته توحي بالخجل والحرج أمام أنظار الحضور وهو يقف قرب مانوكيان، على عكس زميله سركيس الذي كان يحملق في الوجوه وكأنه نسر يبحث عن فريسته بين الأدغال، رجلا مربوع القامة قصير الأخدعين، أصلع الرأس عرفه مانوكيان بالدكتور سركيس.
بعدما أكمل كلامه الموجز أجرى «مانوكيان» ومساعداه مقابلات مع قادة الفصائل، دخل أرتين مع قائده فارتان الغرفة وجلسا بالمكان المخصص لهما. كان «دافيت وسركيس» قد وضعا أمامهما دفترا لكتابة ما يدور في اللقاء. بعد الترحيب بهما وجه «مانوكيان» السؤال إلى قائد الفصيل «فارتان»: أخبرنا عن الفترة الماضية وعن العمليات التي قمتم بها؟ أنا لدي معلومات عنها لكن أريد السماع منك كقائد ميداني.
تنحنح فارتان وعدل جلسته ثم بدأ بالكلام: سيدي، نحن كفصيل اغتيالات عملنا في الساحة لا يشبه كثيرا أعمال بقية الفصائل، وكذلك نحن لا نقرر الشخصيات التي يجب اغتيالها، بل تأتينا أوامر مباشرة من القيادة بذلك، ونادرا ما نرفع بعض الأسماء التي تسببت في قتل الكثير من الأرمن، أما العمليات التي قمنا بها فكانت تتراوح بين النجاح والفشل حسب ظروف العملية. فشلت محاولة اغتيال «بحري باشا» والي وان السابق، استطاع مقاتلونا إصابته لكنه لم يمت، وأكثر عملية أعترف بخطئي فيها هي عملية اغتيال «زكي باشا» على الرغم من أخذ جميع التدابير اللازمة إلا أنني لم أضع في الحسبان أنهم يدركون نقطة الضعف في ذلك الطريق مما أدى إلى خسارة أحد قادتنا الشجعان وبعض المقاتلين. وكذلك قمنا بالعديد من عمليات التهديد بالسلاح لأثرياء الأرمن من أجل دعم الثورة، واستطعنا بذلك توفير ميزانية جيدة للعمليات في الولاية كلها.
ساد صمت في المكان، كانوا في بيت أحد رجال الأرمن الأثرياء من مؤيدي الثورة في السر، ولديه علاقة وثيقة مع مسئولي الدولة في العلن، كان بيته آمن مكان لاجتماع قادة فصائل الثورة في الحي الأرمني بمقاطعة غاردن.
انتصب واقفا مانوكيان، ثم خطا بخطوات وئيدة نحو اللوحة المعلقة على الجدار البعيد، بقي يتأملها وكأنه يفكر في شيء لم يدركه الحاضرون، كانت اللوحة تصور معركة طاحنة بين الجيشين العثماني والبيزنطي ، وقد تداخلت السيوف والرماح بين الصليب والهلال، بارزة صورة السلطان سليمان القانوني بتفاصيل وجهه، الأنف الطويل المدبب والبشرة البيضاء واللحية الطويلة وزيه السلطاني وعمامته البيضاء الكبيرة وهو على صهوة جواده وسيفه يهوي على رقبة خصمه لينقض عليه وحوله الجنود برماحهم وسيوفهم التي تقطر منها الدماء.
ثم كسر مانوكيان صمته قائلا: ما أبلغ رسالة الفنان في هذه اللوحة، لقد رتب سلم الأهمية في الحرب بلمسة فريدة، فبرز قادة الطرفين وأعطاهما تفاصيل أدق بكثير وألوانا حية عن الفرسان والجنود ثم أعطى هالة كبيرة للسلطان على حساب خصمه؛ فالناظر لهذه اللوحة يدرك من الوهلة الأولى ودون أن يفكر من هو الطرف الأقوى والأشجع ومن المنتصر في الحرب.
ثم غطى بكفه صورة السلطان في اللوحة، والتفت إليهم قائلا: إن اختفى، انتهى أمر جيشه وخسروا المعركة.
رفع كفه عن الصورة وأكمل: وإن بقي حيا يقودهم انتصروا.
ونحن الآن في معركة مشابهة، إن أردنا النصر وجب علينا أن نقضي على السلطان عبد الحميد الثاني بأي ثمن كان، وإلا فلن تقوم لنا قائمة. •••
على مشارف الآستانة من جهة البوابة الجنوبية المبنية من الحجر والمزينة بالنقشات الدقيقة من الطراز العثماني، بوابة عظيمة ارتفاعها أكثر من خمسة أمتار تذكر أرتين ببوابات قلعة وان الحجرية، لكنها لم تكن بهذه الضخامة.
بعد تفتيش القافلة من قبل الجنود، سمح لهم بالدخول إلى المدينة التي لم يروا مثل جمالها قط، حيث البيوت الفاخرة للأثرياء والمبنية من الرخام الأبيض والمآذن الطويلة التي تعانق السماء والأزقة المرصعة بأحجار مربعة دقيقة وتفوح منها روائح الأزهار المتسلقة على الجدران، أما الناس فكثر من كل بقاع الأرض يملئون الأسواق وأرصفة الشوارع والحدائق وشواطئ البسفور، وهي مدينة تعج بالحياة ليلا ونهارا.
كان «تهلريان» الرجل المسئول عن إيصالهم إلى الآستانة في تلك القافلة، وهو من أرمن الآستانة ولم يفصح لهم عن عمله في الحزب، كان يدخلهم من زقاق إلى زقاق ومن سوق إلى آخر، وهم لم يأبهوا به؛ فقد أخذت المدينة عقولهم وشغلت أذهانهم وكأنهم تحولوا إلى آلة للنظر، مرت أمامهم دورية للجنود يسيرون بشكل منضبط وكأنهم في ساحة استعراض عسكري، ضربات أقدامهم كأنها ضربة قدم واحدة، كل شيء حولهم كان لافتا للانتباه ومثيرا للاهتمام. •••
كان القبو واسعا ومظلما تملؤه رائحة رطوبة ثقيلة، مكونا من عدة غرف وممر ينتهي إلى بهو صغير، تناهت إلى مسامعهم أصوات بعيدة غير مفهومة، ساروا باتجاه الممر البعيد ثم توقف تهلريان فجأة أمام باب خشبي متهالك، طرقه ثلاث مرات متتالية، مرت دقائق سمعوا ذف أحذية تقترب، سأل من خلف الباب عن كلمة السر فقال تهلريان: «رأس الحية.» فتح لهم الباب شاب عشريني يحمل قنديلا بالكاد يضيء الممر أمامه، ثم قال: الحقوا بي.
عند نهاية الممر ولجوا غرفة مضاءة بالكامل، كان الحاضرون قد التفوا حول طاولة خشبية مستطيلة وعليها خارطة الآستانة، وعلى رأس الطاولة شخص منحن يحمل قضيبا طويلا يشرح مخطط العملية بشيء من التفصيل ويشير إلى قصر يلدز وميدان تقسيم، والأسواق المزدحمة في المدينة ويضع في مكان مجموعة لتنفيذ المهمة التي ستزلزل الآستانة والعالم برمته.
كان أرتين يظن وهو في «وان» والقائد فارتان يتكلم عن العملية النوعية ويزيد من حماسه ومعنوياته أثناء توجيهه للمهمة، أنه هو ومجموعته من سيقومون بالعملية، فكانت المفاجأة عندما تم توزيع المهام أن مجموعة أرتين ليست من ستقوم بعملية اغتيال السلطان؛ فقد أنيط بهم القيام بتفجير القنابل في «ميدان تقسيم» بعد التأكد من نجاح عملية الاغتيال.
كان «إدوارد جوريس» خبير متفجرات تم جلبه خصيصا للتخطيط وصناعة القنابل التي ستستخدم في العملية؛ إذ لا يمكن إدخال المتفجرات إلى الآستانة بسبب التشديد الأمني في مداخلها؛ لذا فقد تكفل بتحضير المتفجرات اللازمة لكل مجموعة من بعض المواد الأولية التي يسهل توفيرها من السوق، وتم استغلال فترة صناعة القنابل بالذهاب إلى ميدان تقسيم للتعرف على المكان والأزقة التي سيتم سلكها بعد التفجيرات، وأماكن الضعف والقوة في الميدان، وهكذا فعل بقية المجموعات لتتم تكملة العملية بنجاح بعد اغتيال السلطان.
تمت التحضيرات الكاملة لكل المجموعات وإيصال المتفجرات الخاصة بهم داخل أكياس الخضار والفواكه الورقية، عن طريق أرمن الآستانة الذين يعرفون المدينة وأزقتها جيدا، وكذلك تمت إضافة عنصرين مهمتهما نقل الخبر اليقين بمقتل السلطان بعد العملية إلى المجموعات خارج المسجد للبدء بالتفجيرات التي تهز المدينة وتخلق نوعا من الفوضى، فيستغل حزب الاتحاد والترقي تلك الأجواء للانقلاب على الحكم بعد مقتل السلطان.
كان كل شيء يجري كما هو مخطط له بإحكام، وفي يوم الجمعة 21 تموز من سنة 1905 خرجوا نحو «ميدان تقسيم»، كان أرتين حاملا على كتفه اليسرى حقيبة مصنوعة من الصوف وضع فيها القنابل بعدما لفها بعدة أقمشة وجعل جزءا من القماش يتدلى خارج فتحة الحقيبة لكي يظهر للمارة أنه يحمل نماذج أقمشة يعرضها للتجار بغية تحديد النوع قبل الاتفاق بجلب الكمية المطلوبة.
في الجهة الأخرى توجهت المجموعة المنفذة للعملية إلى مسجد قصر يلدز، قبل وصول السلطان إليه وحسب مراقبة السلطان في الجمع الماضية، كان الحرس يوقفون عربته في باحة المسجد ثم يتوجه السلطان مع حاشيته إلى الحرم في الصف الأول للمصلين، ويبقى حارسان قرب العربة مع مجموعة من الحراس المتوزعين في باحة المسجد. حسب خبرة «جوريس» فقد تم حساب الزمن الذي يتأخر فيه السلطان بعد انتهاء الصلاة، فالقنبلة المجهزة للاغتيال كانت تحوي مؤقتا زمنيا للانفجار عكس القنابل التي تم توزيعها للمجموعات، التي تحتاج إلى إشعال فتيلها ثم رميها إلى المكان المستهدف.
وصل السلطان المسجد والجميع منشغلون به، والبعض يحاول الوصول إليه بغية طرح مشكلته أو مظلمته عليه، والحرس يحيطون به من كل الجوانب ويمنعونهم منه. جلس السلطان في المكان المخصص له كالعادة، قرئ القرآن ورفع الأذان ثم اعتلى الخطيب المنبر، كان صوته يصدح خارج المسجد والحاضرون في خشوع تام وهو يتكلم عن فضل الجهاد في سبيل الله ضد أعداء الله من الكفار وأعوانهم من الخونة، ثم أكمل الخطبة بالدعاء للسلطان وحفظه بكنف الرحمن، أقاموا الصلاة وكبروا في جو إيماني كبير.
عندما انتهت صلاة الجمعة، وبينما كان السلطان يتجه مع حاشيته إلى باحة المسجد نحو العربة، أوقفه شيخ الإسلام جمال الدين أفندي، صافحه بلطف وقبل كتفه ثم جرى بينهما حديث داخل المسجد، مما أخر خروج السلطان إلى العربة، حينها وقبل أن يكملا حديثهما انفجرت القنبلة في الباحة على الحراس والمصلين الذين كانوا ينوون مغادرة المسجد ، وأدى الانفجار الذي أحدث فجوة كبيرة في مكانه وقذف الزجاج في جميع الأنحاء، إلى مقتل ثلاثة من العساكر وأربعة صحفيين وثلاثين شخصا من العامة، وجرح 58 شخصا نتيجة لتطاير عظام الخيول في الهواء. عند حدوث الانفجار هاجت الناس وماجت في ميدان تقسيم. نظر أرتين تجاه غريغور وقد أدخل يده في حقيبته يريد إخراج القنبلة أومأ إليه أرتين برأسه لينتظر قليلا؛ لأن الخطة تقتضي وصول الأرمني الذي سيجلب لهم الخبر اليقين بمقتل السلطان، كان الناس يركضون صوب مكان الحادث، حاول غريغور تفجير قنبلته. - ماذا تنتظر يا أرتين، لقد قتل هيا نكمل العملية. - توقف يا غريغور، يجب أن نلتزم بالخطة وننتظر الخبر اليقين، فإن لم يقتل سيكون مصيرنا الاعتقال، ومن بعدها الإعدام شنقا في هذه الساحة، اصبر قليلا، إن قتل فسينشغلون بالانقلابيين، وإن لم يقتل فسينشغلون بالمنفذين.
بعدها وصل الخبر اليقين من صاحب المهمة بأن العملية فشلت. - ارحلوا من المكان بسرعة، وتخلصوا من القنبلة بأية طريقة.
اتجهوا نحو الأزقة الضيقة والمتفرعة في تقسيم، كان التعرف على المكان قبل العملية مفيدا جدا؛ إذ أمكنهم معرفة الأزقة من الوصول سريعا إلى بيت تهلريان.
بعدما علم تهلريان أن العملية فشلت، لم يدعهم يمكثون في البيت، بسبب معرفته بما يحصل في مثل هذه الحوادث لبيوت الأرمن في إسطنبول، من مداهمات وتفتيش واعتقالات وضرب في الشوارع كما حصل بعد حادثة الهجوم على البنك العثماني قبل عدة سنوات، وكذلك عمليات الانتقام التي ينفذها أهالي المقتولين. - أرتين إن فرصتنا الوحيدة بالنجاة هي الخروج من الآستانة الآن ما دامت المدينة تعج بالفوضى وخبر عملية الاغتيال، إن تأخرنا فسيتم إلقاء القبض علينا.
توجهوا سريعا إلى البوابة الجنوبية التي دخلوا منها أول قدومهم إلى المدينة، توقف تهلريان فجأة! - هنالك تشديد كبير على البوابة، مخاطرة كبيرة خروجنا هكذا ونحن أرمن. - ما العمل إذن؟
خطرت فكرة مجنونة في ذهن أرتين، ومن دون أن يشرح لهم، حمل حجرة كبيرة من الأرض وضربها على رأس غريغور من الخلف، فأغمي عليه وسقط أرضا والدماء تسيل من رأسه، بقي بانوس وتهلريان مصدومين من فعلته. - ما هذا الذي فعلته بحق السماء؟ - لا مجال لدينا للنقاش هيا نحمله، إلى البوابة، وأنتما ابكيا عليه وقولا لحرس البوابة إنه مات جراء إصابته في تفجير مسجد قصر يلدز، هز تهلريان رأسه وبدا أنه فهم الفكرة، عندما وصلوا البوابة هرع إليهم الحرس مسرعين: ما الذي حصل له أخبرونا هيا! - لقد شج رأسه بانفجار القنبلة في باحة المسجد، ولم نلحق أن نوصله إلى المشفى حتى مات. - وأين تأخذونه؟ يجب أن يدخل المشفى ويتم إعطاؤه بيان وفاة له من الطبيب.
هنا بدأ أرتين يرفع صوته في البكاء عليه: «كيف تركتني وحيدا يا أخي كيف؟» وانقض عليه يحضنه ويزيد من صوت صراخه وبكائه، وتهلريان يحاول إسكاته: «هذا قضاء الله، هذا قضاء الله وقدره»، استرق النظر أرتين في وجه حارس البوابة فوجده متأثرا بما يحصل أمامه، توسل إليه تهلريان: أرجوك يا سيدي، دعنا نوصل الجثة إلى أمه أرجوك، الآن ليس وقت الأوراق والطبيب، ألا ترى الدماء التي عليه؟
نظر الحارس يمينا فرأى إحدى العربات تغادر المدينة. - هييي يا صاحب العربة، احمل هذا الميت ومن معه على عربتك وأوصلهم إلى قريتهم.
شكره تهلريان كثيرا وهم يغادرون البوابة، بعد عبورهم البوابة تنفس الصعداء، وكأن الروح قد عادت إليهم من جديد، تبادلوا الابتسامات فيما بينهم خلسة والمجنون ممدد على أرضية العربة، وعندما ابتعدوا عن المدينة أخبر أرتين صاحب العربة أن قريتهم خلف تلك التلة القريبة، وشكره على إحسانه معهم، لم يهتم صاحب العربة أن هنالك قرية خلف التلة أم لا، توقف مباشرة وكأنه يريد الخلاص منهم بأي وسيلة كانت.
الفصل السادس والعشرون
القدس - فلسطين 1945م
أصوات ضحكات تتعالى هنا، نقاشات حادة هناك، منافسة شديدة تجري بين أبي هشام وأبي خالد في لعبة «طاولة الزهر» وقد التف حولهما المتابعون، والمشجعون، يسحب أبو هشام نفسا من الأرجيلة، يرمق خصمه بنظرة ثاقبة، ثم يرمي النردين، فيتدحرجان على نفسيهما وكأنهما يؤديان الرقصة المولوية على الخشبة الرقيقة، ويصيح هيا «دو شيش، دو شيش»، تستقر النردان على «يك دو »، فيخرج صوت حسرة ويضرب كفا بكف: يا لحظي العاثر! يطلق أبو خالد ابتسامة مع هزة رأس، ويقول هذا «دو شيش» يا أبا هشام، فيرمي النرد وإذ به هو، يصدر قهقهة ويعتلي الفرح أساريره، لقد انتهت اللعبة، لن تلحق بي بعد. أثناء ذلك يدير صاحب المقهى الراديو فيخرج صوت مذيع يقلد «كمال سرور» الذي كسب قلوب الجماهير بصوته الرنان وبإلقائه الفريد من خلال إذاعة البي بي سي باللغة العربية منذ انطلاقتها الأولى بتلك الجملة الشهيرة منه «هنا لندن .. سيداتي سادتي .. نحن نذيع اليوم من لندن باللغة العربية للمرة الأولى في التاريخ.» معلنا أخبار السادسة مساء. يعم صمت مفاجئ إلا من صوت المذيع، وكأن المقهى خلا من رواده. «تتوالى انتصارات قوات الحلفاء في الحرب ضد قوات المحور؛ هذا وقد تقدمت قوات مشتركة من الحلفاء في بولندا نحو مدينة أوشفيتز التي تضم معسكر الاعتقال «أوشفيتز بيركناو» أحد أكبر معتقلات ألمانيا النازية التي تعيش أواخر أيامها بهزائمها المتتالية.» أخفض صاحب المقهى صوت المذياع، التفت إلى الحاضرين، كانت أخبارا سيئة، شاحت الوجوه، خرجت أصوات اتهامات: «إنه يكذب، ألمانيا ستنتصر، نعم ستنتصر وتكمم أفواههم»، رد آخر: «أحسنت، فهؤلاء لو سقطت لندن بيد قوات المحور لقالوا سقطت برلين بيد الحلفاء.» علت الأصوات الناقمة، غادر البعض المقهى غاضبا، وظل آخرون، كل يدلي برأيه فيما يجري، والكل يمني النفس بأن تكون أخبارا كاذبة ومفبركة سببها سياسة المحطة غير المحايدة؛ فهزيمة ألمانيا تعني انتصار المحتل البريطاني واستمراره في الهيمنة على البلاد.
غادر حسن المقهى وأجواءه الصاخبة، اعتلى الدرج الحجري في الحارة المؤدية إلى بيت أبي هشام، مفكرا بالذي جرى بينه وبين أنوشكا في آخر لقاء بينهما، تلمس شفتيه بظهر كفه اليمنى، شعر بالقبلة اليتيمة التي زرعها على خدها، قطف ياسمينة متدلية من إحدى النوافذ الخشبية وضعها على أنفه، أخذ نفسا عميقا انتشى بعبق الياسمين، تسارعت خطواته بين تلك الأزقة الضيقة، سمع صوتا قد ألفه أهل الحي جميعا، إنه الحاج صالح كعادته يرسل الرحمات بين الفينة والأخرى بصوت مرتفع: «الله يرحم ترابك عبد الحميد!» تذكر كلام والده عن المقصود بتلك الرحمة المتكررة، يوم كانوا في الباص المتوجه إلى دير ياسين، فاقترب منه حسن وقال: اللهم آمين.
رد الحاج صالح: من؟ - حسن أوما حفظت صوتي إلى الآن؟! - بلى، لكن آفة النسيان تغزو الذاكرة كلما تقدمنا في العمر يا بني. - ولم تنس السلطان المعظم؟! - في اليوم الذي لا تسمع صوتي أترحم عليه هنا، توجه إلى الأقصى ستجد المصلين هناك يكبرون أربعا على جنازتي. - أطال الله بعمرك، أخبرني إذن قصة ما أنت فيه.
أخرج الحاج صالح تنهيدة طويلة، ثم اتكأ على حائط الدار وبدأ يسرد قصته، وحسن يتأمل ملامح وجهه الذي سطت عليه أخاديد الزمن، وأظهرت تقسيمات على التقاسيم وتعرجات لا متناهية فيه. - انتدبني إلى حرس القصر رجل من علية القوم كان يتردد على دكان أبي هناك في السوق القديم، كنا نبيع أجود أنواع زيت الزيتون الفلسطيني في الآستانة كلها، لكنني لم أرغب يوما في تلك المهنة، وأبي لم يكن بحاجتي في الدكان بوجود أخي الأكبر «محمد»، هو من كان يدير التجارة بالكامل، يجهز طلبات الزبائن، يوصي التجار بالكميات المطلوبة من الزيتون الذي يجلبونه من فلسطين، يقيد سجلات الديون، يحسب الربح والخسارة يجهز القناني الزجاجية الخاصة بالزيت، يفعل كل شيء وحده في الدكان، وأبي كان المسئول عن المعصرة، غايته الحفاظ على إنتاج زيت نقي على نفس الجودة والطعم في كل مرة، كنت أشعر بينهما أنني حجر عثرة، فلا أستطيع أن أكون مثل محمد بهمته العالية ونشاطه الكبير، ولا أحب دخول المعصرة والعمل مع أبي، لكنها مهنة في النهاية، ومن الواجبات المسلمة عند الآباء الحث أو حتى إجبار أبنائهم على تعلم مهنة العائلة. وكم حاول معي لكن دون جدوى، كنت أريد الخروج من ضيق المعصرة والدكان إلى مكان أكبر وأوسع.
بعدما يئس أبي من تعلمي مهنته ووجد أن خير وريث له فيها هو محمد، أصبحت من حرس القصر بعد طلب من أبي وموافقة من ذاك الرجل الذي علمت فيما بعد أنه مسئول حرس القصر والقائم على شئونهم.
قصر يلدز، ياه يا حسن! لم تر عيني أجمل منه قط، بالرغم من أننا كحرس حول القصر لا يسمح لنا بالدخول لكل زواياه وأجنحته، وبالأخص جناح السلطان، إلا أنه كان يأسر القلب من المرة الأولى، الأسوار العالية المبنية من الرخام الأبيض والزخارف والنقوشات المنحوتة فيها على الطراز الأوروبي على امتداد القصر الواقع على تلة مرتفعة مطلة على داخل المضيق كانت غابة «قازنجي أوغلو» العجيبة التي فيها من الأشجار المتنوعة والأزهار النادرة التي تم إحضارها من جميع أنحاء العالم، عندما تجوب في هذه الغابة تشعر أنك خرجت من أسوار هذا العالم وولجت إلى عالم آخر مليء بالجمال والألوان الزاهية والأصوات العذبة والروائح الزكية، أما داخل القصر فقد كانت الأجنحة وصالات الاستقبال وغرف الطعام فيها من الرقي والفخامة ما يبهر العقول، من دقة التصميم وانسيابية اللمسات الفنية الساحرة وكأنه صرح ممرد من قوارير كما وصفت ملكة سبأ صرح سليمان، حيث إن سقف الصالات والغرف يتكون من الألواح المطلية بالذهب، أما أرضياتها فقد بنيت من الباركيه تغطيها المفروشات الصدفية المزينة بالصدف والأحجار الصغيرة اللؤلؤية كأنها السماء التي تزينها النجوم في الليالي المظلمة، إضافة إلى «الصالة الصدفية» ذات الأبواب المكسية بالصدف، المصنوعة في ورشة قصر يلدز بأمر من السلطان نفسه.
تحفة فنية معمارية تليق بمقام سلطان بقدر ومكانة السلطان المعظم عبد الحميد الثاني الذي كانت هيبته تطغى على كل هذا الجمال بأعيننا، وما إن يمر في عربته الخاصة ملوحا بيده للناس الذين يحيطون جانبي الطريق أينما حل وأينما ذهب، كانت تصيبني رؤيته بتجمد في العروق وكأنني أتحول إلى صنم لا أقوى على الحركة.
في أحد الأيام بينما كنا نحرس عند البوابة الرئيسية، خرج موكب السلطان من القصر. مرت العربات والفرسان على أحصنتهم في المقدمة والمؤخرة ونحن في وضعية الاستعداد. حبست أنفاسي عندما مرت عربته من أمامي كنت أراقبه بأطراف عيني دون أن ألتفت، ثم توقف الموكب فجأة نزل السلطان من عربته وأقبل إلينا وعلى وجهه ابتسامة تكسوها هيبة عظيمة، تكلم مع مسئول الحرس رمقنا بنظرة مليئة بالثقة ورفع يده مسلما فأعدنا السلام بالتحية السلطانية وضربة قدم قوية على الأرض، ثم وضع يده على صدره وقال: «إي ڤالله.»
ولا أنسى فرحة ذلك اليوم عندما انتشر في القصر خبر رفضه عرضا ضخما لتسديد ديون الدولة العثمانية مقابل أن يتنازل عن فلسطين لليهود، لقد كان سدا منيعا يا حسن ويهابه الأعداء ويخشونه أيما خشية. لكن الطعنة أتت من الظهر ومن داخل القصر، جاءته ممن كان يخشى عليهم أكثر من نفسه، تكالبوا عليه وأجمعوا أمرهم بأن يخلعوه ويقضوا بذلك على خلافة امتدت لأربعة قرون، ثم وضعوا بمكانه أخاه محمد رشاد كهيئة وصورة مسلوبة الإرادة والصلاحية، مهمته استقبال الرؤساء والقادة وتوديعهم لا أكثر. - لكن الخلافة العثمانية انتهت بعد خلع السلطان عبد الحميد بأكثر من أربع عشرة سنة؟ استفسر حسن مستغربا. - هذه النهاية الصورية، لكن السلطان عبد الحميد كان آخر السلاطين الفعليين للدولة العثمانية، وبعد خلعه انتهت فصول تلك الدولة العظيمة، وانجلى تأثيرها وتهدمت أركانها بعد الخطوة الغبية عندما دخلوا الحرب الكبرى. - وماذا عن الانفجار الذي أصبت فيه؟ - من أخبرك بذلك؟ - أبي.
سكت برهة، ضرب عكازه بالأرض ضربة خفيفة وقال: الأوغاد أرادوا قتله، لكن الله نجاه لصدق سريرته، كنت يومها مع مجموعة من الحرس خرجنا لحماية موكب السلطان لتأدية صلاة الجمعة في مسجد «يلدز»، كان الناس سيحيونه عند خروجه كالعادة، لأجل ذلك تطلب منا الخروج معهم وإبعاد الناس من أمام موكبه، كنت في باحة المسجد ذي الشكل المستطيل، أتأمل مئذنته ذات الشرفة، المصممة بطراز عمارة المقرنص، وهي محززة حتى القمة؛ إذ إن العمارة العثمانية كانت تراعي التسلسل التاريخي للحكم الإسلامي، فترى في الأعلى التقوس الأموي يدنوه التقوس العباسي ومن ثم اللمسة النهائية على الطراز العثماني، وكانت قبته المذهلة مثبتة على أربعة أعمدة حديدية سميكة، ومزينة ومنقوشة بالنجوم على أرضية زرقاء.
كانت الأمور تسير على ما يرام، صوت الخطيب يصدح من الداخل، وأصوات خرير المياه تأتي من أماكن الوضوء، انتهت الصلاة، بدأ المصلون يخرجون، فتجهز سائق عربة السلطان وفتح الناس الطريق، تأخر السلطان بالخروج من حرم المسجد على غير عادته، يبدو أنه انشغل لسماع مظلمة أحد أو سار في حديث مع أحد المشايخ الحاضرين، في هذه الأثناء حصل دوي انفجار في الباحة لم أسمع مثله قط، وقعت أرضا لا أشعر بشيء إلا بسائل دافئ يخرج من بطني، هاجت الناس وماجت وتناثرت الأشلاء وتطايرت عظام الحصان الذي انفجرت القنبلة الموقوتة بقربه، بدت الرؤية تضمحل شيئا فشيئا، وبدأت أشعر ببرودة تسري في داخلي حتى أغشي علي، ولم أفتح عيني إلا في المشفى. تعرضت لإصابات خطيرة ومكثت على السرير شهرا كاملا، أخبرني الطبيب أنني لن أستطيع العودة للعمل كحارس من جديد؛ فالوقوف لمدة طويلة يؤثر على صحتي.
بعد شفائي من الإصابة، عرض علي وظائف أخرى لا تتطلب جهدا كبيرا وقد أوصى بنا السلطان بنفسه وأمر بأن يتم تلبية طلباتنا كلها وتعويضنا بمبلغ كبير وفاء لنا للسلطان والدولة، لم أستطع البقاء في الآستانة أكثر، بعد الحادثة تغير كل شيء، انتباني شعور قوي بالعودة إلى القدس، لا أدري ما حصل لي وتغير تفكيري وحبي في البقاء داخل القصر ونعيمه، شعرت أن الجرح لم يبرأ وأن موتي اقترب، فقلت أكون بقرب الأقصى علني أدفن بقربه إن مت، لكن العمر طال بي حتى أرذله، طلبت العمل في متصرفية القدس، ودعت أبي وأخي وتوجهت إلى هنا.
الفصل السابع والعشرون
معسكر أوشفيتز - بولندا 1942م
كانت البرودة تتسلل إلى جوفه شيئا فشيئا، بعدما تجمد جسده من الخارج وبات لا يستطيع تحريك أطرافه من شدة البرد، نزعوا ثيابه وقيدوا يديه وقدميه بالسلاسل الحديدية، ثم رموه في الساحة قرب الباب الرئيسي للغيتو تحت المطر والرياح الشمالية العاتية. كانت تلك عقوبة ما ألحقه مايكل بذلك الخنزير اللعين الذي اعتدى على أمه، بقي كالجثة الهامدة ينظر إلى السماء ودموعه تذرف دون إرادة، وتختلط مع قطرات المطر المنهمرة على وجهه، كان يقول في نفسه: يا إلهي، ما هو الذنب العظيم الذي اقترفته في حياتي حتى تحل كل هذه المصائب على رأسي. انتزع هذه الروح الشقية من جسدي وأرحني يا إلهي، أرحني منها إلى الأبد .. أرحني من هذا الشقاء.
مرت تلك الليلة كأنها دهر. ومع بزوغ الفجر وتغاريد العصافير القادمة من أعلى السور، ركله الحارس الذي مضى ليلته معه ينظر إليه من محرسه الدافئ بين الفينة والأخرى على بطنه الفارغ منذ البارحة حتى قطع أنفاسه، وراح يضحك ويبتعد وهو يقول: «إنها هدية الوداع أيها القذر.» أتى زميله في الحراسة مزهوا قد نام ليلته كلها ليأخذ مكان الأول، حمله من ياقته وأجلسه. - ما الحقارة التي فعلتها أيها القذر؟ - هل لديك أم؟
صفع مايكل وقال ما لك ولها، سألتك فأجبني ما هي جريمتك؟ - ماذا تفعل لو رأيت أحدهم يعتدي عليها؟ - هل اعتدى أحدهم على أمك؟
أومأ مايكل برأسه. - ماذا فعلت به؟ - أدميته، حتى فقد وعيه.
ترك ياقته وبقي صامتا ينظر في وجه مايكل، ثم توجه إلى محرسه، جلب نصف رغيف خبز ملفوف على قطعة جبن وكوب ماء، التفت يمينة ويسرة فلم ير أحدا، أطعم مايكل بيده وسقاه على عجل ثم ربت على كتفه مع ابتسامة صغيرة. - أحسنت صنعا.
ثم عاد إلى محرسه، بقي مايكل مدهوشا يتساءل، أيعقل هذا منهم وهو يحمل كل تلك الغيرة والشهامة حتى خاطر بنفسه فأطعمني وسقاني؟ لا بد أن دمه لم يخالطه لحم الخنزير كما أولئك السفلة العديمي الشرف، كيف يعتقل ويهان من يدافع عن أمه؟
بزغت الشمس وراح ضوءها القرمزي يحدد على الساحة نهايات الأبنية والبيوت وشرفاتها بكل دقة متناهية، ويضفي على المكان الذي يقع فيه بريقا لامعا مظهرا جمال المطر الذي غسلت الساحة والأزقة والحارات وأحجارها السوداء المستطيلة المصفوفة قرب بعضها البعض كأنها قطعة كعكة مقسمة بسكين طباخ ماهر. التفت يمنة فرأى ثلاثة من الشرطة قادمين نحوه، حرك جسده محاولا ضم ركبتيه إلى صدره، وقف اثنان منهم على رأسه وتوجه الثالث نحو المحرس، تكلم مع ذلك الحارس الشهم ثم توقفا عن الكلام، قدم لهم شرابا ساخنا شعر مايكل أنهم ينتظرون شيئا من أجله، فلو لم يكن الأمر يخصه لما أتى الاثنان قربه، بل لذهبا إلى المحرس مباشرة مع زميلهما، بدأ يفكر ما الذي سيفعلونه بي؟ هل مات ذاك الرجل؟ ما عاقبة القاتل في الغيتو؟ ليتني سألت السيد مارك عن ذلك .. ثم ما الذي حل بأمي، ليتني استطعت إخبار ذلك الحارس عن عنوانها لعله يعتني بها إذا ما تم إصدار أوامر بقتلي أو زجي في السجن؟
السجن! حاول كتم ضحكة ساخرة ما كانت إلا تجيء بآخرته لو خرجت، وهل أنا حر حتى أسجن؟ وهل يسجن المسجون أصلا؟ لن أكلفهم سوى طلقة في الرأس وينتهي الأمر كله، كلب مات وفطس، ما المهم في الأمر؟!
اقتربت العربات العسكرية المعروفة من أصوات عوادمها التي تصدر دخانا أسود كثيفا، وحال وصول العربات خلف الباب، توجه الحارس حاملا مفتاحا حديديا كبيرا، وضعه في قفل الباب وأداره بكلتا يديه بقوة، أمسك مقبض الباب وراح يسحبه إليه، دخل أحد ضباط النازية بزيه الزيتوني الباهت وقبعته المرتفعة من الأمام بشعار النسر على الصليب المعقوف المصنوع من المعدن. كان طويل القامة، نحيل الجسد ذا نظرة ثاقبة، يمشي بخطوات ثابتة ورزنة، حاملا بيده ورقة صفراء، تكلم مع من أتوا قبل قليل ووقفوا عند المحرس، فأشار أحدهم إلى مايكل وأكمل الحديث معه، ثم وقع على الورقة، عصبوا عيني مايكل بقماش صوفي أسود وحملاه إلى الصندوق الخلفي لإحدى العربات، ثم سارت نحو المجهول.
شعر مايكل بالدفء قليلا، الأرضية مكسوة بطبقة من الخشب والسقف مغطى يمنع تسرب الماء والهواء إليه، تذكر هذه العربات منذ أيام معسكر داخاو، لم يكن بحاجة لأكثر من هذا الدفء البسيط الذي أنقذ جسده من زمهرير الليلة الفائتة. ولم يعد يخيفه الأمر حتى إنه لم يرتجف من الخوف للمرة الأولى، قال في نفسه: «فليفعلوا بي ما يشاءون، أكثر ما يخشاه الإنسان في الحياة هو الموت، وأنا أصبحت أتمناه، لعلي تجاوزت عتبة الألم وباتت الأشياء لا تفرق عندي كثيرا، تعذيب أم سجن أم حتى قتل وتنكيل لا شيء يفرق، الأهم أن عالم الأموات ليس فيه هؤلاء، هي لحظة، لحظة فقط ويتغير كل شيء مهما كان سيئا ومفاجئا سيكون بالتأكيد أفضل من جحيم الحياة هذه.»
مر وقت طويل ولم تتوقف العربات، حرك يديه المكبلتين فلمس قدم أحدهم، كان حافيا مثله، أدرك أنه ليس وحده، هنالك معتقلون آخرون معه أو على الأقل معتقل واحد يتقاسمه الشعور ويخفف عنه لمجرد وجوده معه.
توقفت العربة فجأة فدفعت الاستمرارية جسده إلى الأمام وارتطم رأسه بنهاية صندوق العربة، عض شفته السفلى من شدة الألم. سمع صوت جنود وبوابة كبيرة تفتح بعدها تحركت العربة مرة أخرى، ثم استدارت وتوقفت.
فتحوا العصابة من عينيه والقيود من يديه وقدميه، وأنزلوه على مهل، كان معه أربعة معتقلين آخرين في العربة نفسها، تم سوقهم إلى إحدى الثكنات في المعسكر لم يكن يعلم ماهية المكان، الطريق إلى الثكنة كان مبلطا بالحصو والأحجار الصغيرة السوداء المتكسرة التي كانت تقرص قدميه فتجعله يمشي بأطراف أصابعه متمايلا، أدخلوهم ثكنة تبدو أنها مخزن ملابس كبير جدا، وقد تم رص الملابس فيها داخل أكياس ورقية بنية اللون مفتوحة النهاية وظاهرة جزء منها للعيان في الزاوية اليسرى للثكنة، كان المشهد مشابها كثيرا ليوم دخل معسكر داخاو لأول مرة.
عاد هوس المثلثات ذات الألوان المختلفة على صدور المعتقلين إلى مخيلته، كان لون المثلث على صدر أحد الذين معه مثل اللون الذي على قميصه «أصفر»، واثنان آخران يحملان مثلثا أسود والأخير يحمل مثلثا بنفسجيا، شعر بضيق نفس شديد، قال في نفسه: «الجحيم مرة أخرى يا مايكل نجوت منه مرة ولن تتكرر النجاة منه مرة أخرى، الفرص في الحياة لا تتكرر، ومن لا يستغلها لا يجدي بعد زوالها ندم ولا حسرة. ماذا لو تركنا هذه الأرض الملعونة ورحلنا إلى فلسطين حال خروجي من داخاو؟! ما حجم العناد الأحمق الذي كنت أحمله يومها وآثرت البقاء إلى نهاية أيام التعهد! سامحيني يا سارة، وأنت يا أمي سامحوني كلكم أنا السبب بما حصل لكم.»
في الليل كان المعتقلون قد عادوا إلى الثكنة وتوزعوا إلى مخادعهم منهكين من يوم شاق، وجوههم شاحبة، عظام وجناتهم بارزة، والبعض قد نحل جسده حتى تدلت ملابسه البالية كأنه هيكل عظمي، أبصر الوجوه وكأنه رأى فيها مستقبل أيامه، وفجأة وقعت عينه على أحدهم كان يحمل على صدره مثلثا أخضر اللون «لا بد أنه من الغجر»، نصف وجهه الظاهر من زاويته يبدو ليس غريبا عنه تساءل: «أين رأيت هذا الوجه من قبل يا مايكل؟ أين؟» اقترب منه، كان فكره منشغلا سارحا بعيدا جدا خارج الأسوار الكهربائية التي تحيط بالمكان، واضعا كفيه تحت رأسه وقد أرخى جسده بطول السرير، كلما اقترب مايكل منه أكثر بانت ملامحه وزادت ظنونه يقينا بأنه يعرفه، عندما وقف على رأسه صدم! - روبرت!
التفت إليه مدهوشا ولم يحرك ساكنا، اختلجت عيناه وهز رأسه: أوه مايكل، صديقي العزيز!
تعانقا عناق الأحبة بعد غياب طويل. - كم أنا مشتاق إليك، هكذا تركتنا ورحلت فجأة حتى لم تودعنا .. يومها كنت أتمنى رؤيتك لكن في غير هذا الجحيم يا عزيزي.
أجلس مايكل بقربه وسأله: هل تم نقلكم هنا من معسكر داخاو يوم أبقوكم في الثكنة؟ - ما بك يا روبرت، حينها لم تكن بولندا محتلة من قبل الألمان، كيف يتم نقلنا إلى هنا؟ - ومن أين أعلم بذلك، أنا معتقل منذ سنوات، ولا أدري ماذا يجري خارج المعتقلات.
قص له مايكل ما جرى له يومها، وأخبره عن حماقته بعدم مغادرة البلاد خلال تلك الأشهر الثلاثة من التعهد، إلى أن نشبت الحرب وتغيرت كل الموازين، ومن ثم تم سوقهم إلى بولندا بقطار خاص لنقل المواشي. - يااه يا مايكل! كيف فعلت ذلك؟ من يجازف بالبقاء هناك بعد ما رأى كل ذلك العذاب؟! لو أتتني فرصتك لكنت الآن في أبعد مكان عن هذه البلاد الملعونة. - دعك من ذلك وأخبرني، أين بيتر؟ ما الذي حل به؟
صمت هنيهة وأطرق يقول بحسرة: إيه يا بيتر، ما الذي فعلته بنفسك؟ - أخبرني ماذا حصل له؟ - ما لبث يذكر يهوا ويتنقل بين المعتقلين يبشرهم إلى معتقده ويقول الموت قادم لا محال، موتوا على الطريق الصحيح، لا تخسروا يهوا، إنه ينتظركم بعد الموت، سيكافئكم بما تحملتم من عذاب وصبرتم في الدنيا، ويصدون عنه ويصر عليهم ويذكرهم بيهوا هكذا حتى وصل خبره إلى النازية، تخيل يا مايكل هو معتقل لأنه كان يبشر الناس بعقيدته ويتنقل بين بيوتات الألمان يبشرهم ثم يجازف هنا أيضا ويبشر المعتقلين الذين لا طاقة لهم لسماع أي شيء من التعب والمشقة. - ماذا فعلوا به؟ - أعدم. - أحقا ما تقول؟! - نعم، أعدم أمام الجميع في الساحة وهو يصيح: آمنوا بيهوا، آمنوا به، إنه المنقذ سأنتظركم هناك، مصيري اليوم هو مصير جميعكم غدا ... ولم يكمل كلماته الأخيرة حتى حالوا بينه وبينها، فانهمر الرصاص من فوهات البنادق على جسده فسقط جثة هامدة. - أووه يا بيتر! لروحه السلام، لقد كان يحمل إيمانا كبيرا بيهوا، عله هناك في السماء الآن في نعيم عنده. - ربما .. أنا لا أومن بهذا كله. - دعك من ذلك، وأخبرني أنت لماذا نقلت إلى هنا؟ - لم يتم نقلي أنا فقط، بل قاموا بنقل جميع من في الثكنة، وتم توزيعنا على المعسكرات المتفرقة بكل أنحاء سيطرة ألمانيا، وكان نصيبي هنا في هذا الجحيم الأكثر قسوة من داخاو. - في أي معسكر نحن؟ - في أوشفيتز، أكبر معسكر اعتقال في بولندا، حسب قول السجناء هنا، مساحته أكثر من 40 كيلومترا مربعا، وقد بني فوق قاعدة عسكرية سابقة جنوب بولندا قرب مدينة كراكوف، وخلال إنشاء المعسكر أغلقت جميع المعامل فيها، وتم إجبار سكان المناطق المجاورة على إخلاء منازلهم لغرض هدمها. الأمر المضحك أنه مكتوب في أعلى بوابة الدخول للمعسكر: «العمل يجعلكم أحرارا!» والعمل هنا جعلنا عبيدا!
ساد الصمت بينهما، ثم سأله مايكل: كيف تحملت هذه السنين في المعتقلات يا روبرت؟ فالذي يلاقيه السجناء في المعتقلات من نقص الغذاء والعمل المنهك للجسد لساعات طويلة دون توقف لا يمكن تحمله لمدة طويلة، لكل شيء حد وللقدرة البدنية حد أيضا. - أليست معجزة أنني حي إلى يومنا هذا؟
قالها مبتهجا وكأنه هزم النازية بعزيمته. - إنها كذلك وأكثر. - أتعلم أن ثلث عمري قضيته في السجون؟ - هل سجنت من ذي قبل؟ - نعم، حكم علي عشر سنوات مع الأعمال الشاقة، قبل وصول هتلر للحكم بعشر سنوات. - ماذا فعلت؟ - كان في قريتنا رجل غني جدا يمتلك ثلثي أراضي القرية، يبتز الفقراء ويستغلهم، يتفق معهم على أجور للعمل في أراضيه ورعي مواشيه وتنظيف الحظائر والاسطبلات، ثم لا يدفع أجورهم أو يأكل نصفها ويؤخر دفعها، متكئا على السلطة في القرية، ولا أحد يستطيع تقديم شكوى ضده، أو حتى إن قدمت شكوى ضده لا تحرك السلطة ساكنا؛ فهو الآمر الناهي والمتسلط على رقاب أولئك المساكين. لا أدري لسوء حظه أم لسوء حظي أنا، كنت بحاجة إلى المال حتى أسدد بعض الديون المترتبة علي، فاضطررت للعمل عنده، كنت شابا حينها في مطلع العشرين من عمري، مفتول العضلات شديد البأس لا أهاب أحدا في الدنيا، ولا أحسب لأي إنسان حسابا وأفعل ما أريد حتى ولو كان جنونيا. - كفاك تمدح بنفسك، أخبرني الآن لماذا حكم عليك عشر سنوات؟ - آتيك بالكلام، عملت عنده مدة ثلاثة أشهر في الأرض أحرثها وأزرعها وأسقيها، وبعد كل ذلك التعب والإرهاق اليومي، لم يدفع لي سوى أجرة نصف شهر، وكلما ذهبت لأطلب منه الباقي زجرني وقال إنك لا تستحق أكثر مما أعطيتك، الأرض لم تحرث جيدا، والزرع قد جف، إن شئت ابق وسأعطيك أجور الأشهر المقبلة إن صلح الزرع، وإلا فاذهب في سبيلك، هنالك العشرات من يقبلون شسع نعلي حتى أشغلهم عندي، قالها بتكبر رافعا رأسه إلى السماء، وقبل أن يدير ظهره لي لم أتمالك أعصابي إلا وأخرجت الخنجر من خصري وطعنته في بطنه عدة طعنات ثم وليت هاربا، لم أستطع الخلاص من رجاله الذين هبوا أمامي من كل حدب وصوب، أمسكوا بي وأشبعوني ضربا، وتم تسليمي إلى مركز الشرطة في القرية. - وهل مات؟ - ليته! - وكنت تتمنى موته؟ أنت مجنون حقا. - ولماذا طعنته إذا؟! هل كنت ألاعبه مثلا؟ موت مثل أولئك الكلاب خير للإنسانية جمعاء . - ماذا حصل بعد ذلك؟ أكمل! - نقلوني إلى المدينة وتمت محاكمتي خمس عشرة سنة مع الأعمال الشاقة، ثم تم تخفيف الحكم إلى عشر سنين بعد الطعن، وتقديم أدلة أنه لم يعطني أجور عملي عنده منذ أكثر من شهرين. وقد شهد بعض أهل القرية بذلك وأخبروا القاضي باستغلاله لهم وإهانته لكرامتهم. - قضيت عشر سنوات مع الأعمال الشاقة؟ - قضيتها نعم، وتعود جسدي على التعب وتحمل المشقة، لعل تلك السنين كانت مقدمة بسيطة لهذه الأيام التي سأقضيها هنا إلى نهاية العمر. •••
في فجر اليوم التالي تم سوق المعتقلين حفاة إلى الساحة على شكل طابور طويل، المسافة بين معتقل وآخر شبر واحد، الجميع مطأطئ الرأس وقد وضع كفيه على كتفي الذي أمامه، إلا الذي في المقدمة منسدل الذراعين ينظر إلى الأمام ويقود السير والحراس الألمان يحيطون بهم من كل جانب وفوهات بنادقهم مصوبة تجاههم، الطريق قد صار معبدا من وطأة أقدام المعتقلين عليه يوميا، كان العمل مقسما إلى مجموعات، فالمعتقل الجديد يوكل إليه مهمة تنظيف المراحيض، وإذا حدث أن بعضا من البراز قد تناثر إلى وجهه أو ثيابه وتقزز منها أثناء نقله عبر طريق وعر وأظهر انزعاجه من ذلك فكان يلقى العقاب مباشرة بالسوط من أحد الحراس. أما بقية المعتقلين فيتم توزيعهم بين حفر نفق لممر مائي تحت طريق من الطرق، أو قطع الأشجار ونقلها إلى مكان العمل في البناء وترميم البيوت. في اليوم الواحد كان يسقط العديد من المعتقلين ويغشى عليهم من التعب، فيتم حملهم وتكويمهم فوق بعضهم البعض على العربات التي تجرها الدواب في الأماكن الوعرة، وأحيانا في عربات عسكرية حسب موقع العمل، ويتم نقلهم للكشف عن حالتهم، والويل لمن يقع مغشيا عليه كذبا لغرض الاستراحة، على الفور يتم نقله إلى قسم التجارب الطبية وتكون أعضاء جسده أمام مشرحة الأطباء كجرذان المختبرات.
كان مايكل يحمل دلوا مليئا بالقذارة، ويتحاشى الأحجار أمامه لكيلا يتعثر بها ويسقط أرضا، فيكون من نصيبه سوط يرسم خطا مستقيما محمرا على ظهره، عند موضع جمع القذارة، انتبه من بعيد إلى أعمدة دخان أسود يتصاعد من أربع مداخن عالية تحيطها عدة ثكنات، قال في نفسه لربما مصنع للبلاستيك أو حرق للفحم بغية صهر المعادن وإعادة تشكيلها. عاد أدراجه نحو المراحيض اللعينة وهو يفكر في حال من يعملون هناك وتذكر تلك الحادثة التي حصلت في معسكر داخاو يوم حمل ذلك المسكين قطعة حديدية ساخنة بالخطأ واحترق باطن كفه ولم يتم إسعافه فبقي يتلوى على الأرض من شدة الألم.
الفصل الثامن والعشرون
مدينة وان - تركيا 1905م
عند سور القلعة على التلة المرتفعة المطلة على مدينة وان كان أرتين يجلس مع دافيت يتأملان المدينة والبحيرة الزرقاء خلفها، توثقت صداقتهما بعد سكن دافيت في الحي الأرمني، كان شابا مثقفا وقارئا شغوفا، يحدث أرتين عن التاريخ والدين وقصص عن حياة الأرمن وتقاليدهم في الماضي. - أتعلم يا أرتين، هذه القلعة التي خلفنا بنيت قبل ثلاثة آلاف سنة في عهد الملك الأرمني ساردوري الأول، كان ملكا عظيما حكمت مملكته أورارتو «المأخوذة من اسم جبل أرارات» هذه المنطقة لأكثر من قرنين، وكانت تسمى هذه القلعة باسم «توشبا» أيضا، وذلك البناء الذي يبدو جزء منه خلف السور كان معبد «أنالي قز»، وهنالك قبور صخرية لكل من آرغيشتي الأول، والملك منوا، وساردوري الثاني داخلها. - هذا يعني أننا نملك حقا تاريخا هنا؟ - لا أحد يعترف بالحقوق التاريخية يا أرتين، القوة والغلبة هما ما تحددان الحقوق في كل الأزمنة، دعني أخبرك حقيقة توصلت إليها من قراءة التاريخ: إذا أردت أن تعرف أصحاب الأرض الحقيقيين في أية مملكة كانت، فابحث عن الأقلية فيها، وهذه بلاد الرافدين أقرب مثال لنا، كانت من أعرق الحضارات التاريخية على وجه الأرض، والآن تجد مثلا الآشوريين والسومريين أقلية فيها! - إنك محق.
ثم ساد صمت بينهما، أدار دافيت وجهه نحو بحيرة وان يتأملها وأرتين يسترق النظر إليه بأطراف عينيه. - وكأنك تحمل هما كبيرا لا يسعه حتى تلك البحيرة الزرقاء؟
ارتسمت في وجه دافيت ابتسامة صفراء، أومأ برأسه دون أن يلتفت إلى أرتين .. ثم سأله: أرتين، ألا تفكر بالزواج؟
أصدر أرتين قهقهة وهو يقول: أنا متزوج منذ سنوات. - لم تخبرني بذلك؟! - لقد تزوجت الثورة. - دعك من هذا وقل لي لماذا؟ - لا أدري، لربما لن تصدقني إن قلت لك لم أفكر بالزواج، ومن ثم إن مصيرنا مجهول ونحن على حافة الموت مذ دخلنا هذا المعترك، لا أريد توريط فتاة معي، ما ذنبها أن تترمل على صغر؟! - لكن بانوس كان معك منذ البداية وقد تزوج وأنجب فتاة كأنها القمر ليلة البدر. - أنوشكا، بالفعل هي كذلك، لكن بانوس كان يحب زوجته قبل أن ينضم للثورة، وأنا أدرك تماما ما الذي يقاسيه من الشوق واللهفة والحنين إليها في كل مهمة نتأخر فيها أشهرا عدة ولا نعلم أنعود منها أحياء أم لا، مجنون من يتزوج من هو في مثل حالتي. - لا أدري ما أقول، لكن أتمنى أن يذكر أحفادنا ما نذرت لأجلهم به. - لا يهمني ذلك بقدر أن نصل إلى الغاية، وألا نفرط بالدماء التي أسيلت من أجل قضيتنا العادلة.
دعك مني وأخبرني عنك. - أنا؟!
هز رأسه أرتين. - نعم، أنت، من غيرنا في هذا المكان؟ - فاتان!
التفت أرتين يمنة ويسرة ولم ير أحدا. - من هذه؟ - إنها معي دائما، مذ رأيتها أول قدومنا إلى وان، لم أعد وحدي، لقد فقدت وحدتي، فهي تشاركني في كل شيء دون أن تكون معي! - ما بك يا دافيت؟ هذا كلام المجانين. - ومن قال لك لست كذلك؟! - المجنون لا يرى الجنون في نفسه.
أخرج قهقهة وربت على كتف أرتين. - يا لك من نبه!
سكت هنيهة، ثم نظر نحو وان وكأنه ينظر إلى فاتان ويتكلم. - بعد قدومنا إلى وان والسكن في الحي الأرمني، كانت مهمتي كتابة المقالات عن أوضاع الأرمن في وان، إضافة إلى كوني المساعد الأول لمانوكيان، أكملت يومها كتابة المقالة ووضعتها في ظرف خاص ثم توجهت إلى الإرسالية الأمريكية لأسلمها هناك ويتم نشرها في الصحف الأمريكية باسم وهمي، كانت فاتان تعمل في الإرسالية، وهي من تستلم التقارير والمقالات، عندما دخلت غرفتها كانت تقرأ تقريرا واضعة يدها على كفها وكأنها في عالم آخر، وصلت مكتبها ولم تشعر، تنحنحت لتنتبه، ثم فجأة رفعت رأسها فوقعت عيني بعينها وكأن سهما غرز في أعمق نقطة في قلبي، تجمدت العروق على جبيني، احمر وجهي وارتبكت حتى إنني نسيت سبب قدومي للإرسالية، ابتسمت هي فازداد الارتباك أكثر، كان قلبي ينبض بسرعة ويخفق بين نبضة وأخرى حتى قالت بلطف شديد: هل أستطيع أن أخدمك بشيء يا سيدي؟
تراقص صوتها إلى أذني وكأنه موسيقى ناي عذبة.
حاولت صرف النظر عن عينيها عل الارتباك يخف وأستطيع الكلام، انتبهت إلى الظرف في يدي. - أنا دافيت كاتب مقالات للصحف الأمريكية، أخبروني أنك الموظفة المسئولة عن استلام المقالات. - نعم، تفضل بالجلوس من فضلك.
بعدها كنت أتردد للإرسالية كثيرا، وأحاول كتابة أكثر من مقالة في الأسبوع لغرض رؤيتها أكثر فأكثر، شعرت بأنني معجب بها، لكن عيني كانت تقول أكثر من ذلك. كانت تتهرب من نظراتي وأحيانا أقبض عليها متلبسة بالنظر إلي.
ثم سكت هنيهة .. أخرج حسرة من جوفه وهو يقول: لكن الحب لعنة يا أرتين. - لعنة؟! وكيف يكون لعنة وكل هذا الشعور الجميل فيه؟! لقد كدت تقنعني أن أجرب الحب.
أطلق دافيت قهقهة وهو يقول: إذن جرب وتعرف حينئذ أنه لعنة. - دعك من هذا وأخبرني ما الهم الذي يأكل قلبك؟
عاد يتأمل البحيرة من جديد، ظل صامتا لدقائق، تدحرجت دمعة على خده، شعر أرتين بثقل الحمل الذي في جوفه؛ فالرجل ليس هينا عليه البكاء أمام رجل آخر .. ثم تحركت شفتاه وخرجت الكلمات تترى. - قبل شهر من الآن كنت ذاهبا كالعادة إلى مركز الإرسالية الأمريكية صباحا لأعطيها التقرير الأسبوعي، ونتبادل أطراف الحديث، وبيدي هدية صغيرة لها، لكن قبل أن أطرق الباب سمعت صوت ضحك وغنج ومغازلة خلف الباب، انقبض قلبي وكأن مقبضا حديديا عصره، كان صوت الرجل مألوفا على أذني، لكنني أردت التأكد أكثر فاسترقت النظر من الشباك وإذ بي أرى «فاتان» جالسة على ركبة «مانوكيان» وهما في جو رومانسي مريب وكأنهما في ملهى وليس في إرسالية محترمة. كانت الصدمة كبيرة يا أرتين. - ومانوكيان يعلم بحبك لها؟ - للأسف نعم.
دهش أرتين بذلك. - القائد مانوكيان يفعل ذلك؟! - أنت لا تعرف «مانوكيان» كما أعرفه، أناني خبيث لا يحب إلا نفسه، لكن لا، لن أدعه يفعلها، لن أدعه مهما كلفني الأمر.
شعر أرتين بالخوف، لم يكن خوفه على دافيت ولا على مانوكيان، كان خوفه على الثورة من هكذا قادة يتنافسون فيما بينهم على فتاة جميلة بينما المقاتلون نذروا أنفسهم للثورة والشعب! كانت مفارقة مؤلمة لم يشعر بالهوان تجاه الحزب كما شعر في ذلك اليوم، لكنه تعاطف مع دافيت وشعر أنه قد ظلم. - يا صديقي، لو كانت تحبك لما أسلمت نفسها إليه، اتركها فهي لا تستحق كل هذه المشاعر الصادقة. - لكن لولا تدخل مانوكيان لكانت لي أنا، لقد استغل مكانته ومنصبه وكسبها إليه. - التي تبيعك من أجل المكانة والمنصب لا تستحق أن تجعلها زوجة لك يا دافيت. - لكنني أحبها. - إنه لعنة كما وصفته. •••
حاول دافيت التوسط عند صديق له وهو مسئول كبير في الحزب بمدينة «بتليس» عله يتدخل في الأمر ويقنع مانوكيان بالابتعاد عنها، لكن قبل عودته من «بتليس» تزوج مانوكيان من فاتان، فانقطعت الأخبار عن دافيت. بعدها بيومين فقط داهمت قوة عسكرية نظامية البيت الذي كان يسكن فيه مانوكيان، لكنه استطاع الفرار قبل مجيئهم وحصلت إبلاغات على عدة مخابئ للأسلحة في الحي وتمت مصادرة خمسمائة مسدس واعتقال بعض الثوار معها.
أحدثت تلك العمليات المفاجئة صدمة للثوار وجعلت وجودهم في الحي الأرمني يشكل خطورة كبيرة، ولا أحد يعلم ما الذي يحصل، لكن مداهمة بيت مانوكيان وكشف مكانه بهذه الطريقة كان دليلا واضحا أن دافيت قد تحول إلى مخبر سري لدى الحكومة.
وبسبب تبليغات دافيت صادرت الحكومة ما يقارب ألفي قطعة سلاح والمئات من رزم الديناميت وأحزمة الذخائر، وفي فترة قصيرة اشتهر دافيت في «وان» كلها وكرمته الحكومة على أفعاله تكريم الأبطال، ولأجل زيادة الحماية على حياته أعلن دافيت إسلامه وأطلق على نفسه اسم «محمد» مما أثار ذلك حفيظة الثوار ولقب بالخائن الأكبر بينهم، ولعل أرتين كان الشخص الوحيد الذي يعلم مدى صدق وأمانة دافيت للثورة والقضية الأرمنية، ولم يكن ليفعل ما فعل لولا ظلم مانوكيان له وأخذ روحه منه، لكن من يفهم هذا الكلام ومن يصدقه ومن يبرره ! الناس لا ينظرون إلى الأسباب ولا إلى الدوافع، هم لا يرون سوى النتائج فقط!
بعدها صدرت الأوامر بالتخلص من الخائن دافيت بأي وسيلة كانت، صلى أرتين للرب بألا يتم اختياره في تلك العملية، ولأجل ذلك طلب الإذن من القائد «فارتان» لزيارة قريته بضعة أيام، لعل المهمة توكل لغيره هذه المرة. - لا أستطيع إعطاءك إجازة يا أرتين، إن القائد مانوكيان قد اختارك أنت بالذات لهذه العملية، وأخبرني أن كل ساعة إضافية في حياة دافيت تقابل سنة كاملة من تهريبنا للأسلحة، لا بد أن يتم التخلص منه بأي طريقة كانت وعلى الفور، اقض هذه المهمة يا أرتين وبعدها سأعطيك إجازة مفتوحة تعود إلى وان متى شئت.
وضعت الحكومة دافيت في بيت «أحمد بيك» الذي كان يعمل ضابطا في سلك الشرطة، بالجزء الغربي من مقاطعة «غاردن»، كانت مهمة أرتين لا تستدعي الكثير من المقاتلين، بل مراقبة البيت واغتنام فرصة خروجه إلى الشرفة وإطلاق النار عليه، أو ضجر دافيت من البيت وخروجه مع عدد قليل من الحراس.
بعد مرور شهر كامل من المراقبة، أخيرا خرج دافيت مع مسئول حماية بيت الضابط وحارسين إلى السوق القريب من البيت، كانت تلك فرصتهم في الوصول إليه، وفي زحام السوق أشار أرتين على من معه في المهمة بإطلاق النار صوب الحرس، فهاجت الناس وماجت وبدأت الطلقات تتطاير في السماء، ولحق الحراس بمن أطلقوا النار، حينها هرب دافيت بين الناس متوجها إلى بيت الضابط «أحمد» فلحق به أرتين بين الأزقة الضيقة حتى اقترب منه فمد قدمه بين رجليه وأسقطه أرضا، ثم انقض عليه كالنسر وقد وضع كوفية على وجهه، حاول دافيت الدفاع عن نفسه بكل قوته ومنعه من غرز الخنجر في صدره؛ إذ لم يكن بمقدور أرتين استخدام المسدس في الزقاق خشية أن يعرف مكانه وهو في حي المسلمين ، كان دافيت قويا لكن الرهبة التي في قلبه جعلت أرتين يتمكن منه، وقبل أن يدخل الخنجر في صدره كشف بيده عن وجه أرتين حينها خارت قواهما، نظر في وجه أرتين وقال: أنت؟ أنت تريد قتلي يا أرتين؟
صرف أرتين نظره عنه ولم يستطع أن ينظر في عينيه. - هيا افعلها يا أرتين، لم يبق لي في الحياة ما يستحق البقاء، كل من أحببتهم غدروا بي، افعلها هيا! - سامحني يا دافيت سامحني، لقد بعتم الثورة من أجل فتاة لا تساوي قطرة من دم شهيد.
ثم غرز الخنجر في صدره حتى خرج الدم من فمه، وبقي دافيت ينظر إليه نظرة المظلوم وهو يفارق الحياة، أغلق عينيه أرتين بمسحة كف ولف كوفيته ثم فر هاربا من الحي.
بقيت تلك النظرة تلاحقه في المنام كل ليلة فيرى نفسه وسط آلاف الجثث كلهم دافيت، وينظرون إليه تلك النظرة القاسية البريئة، يهرب يمينا تخرج له صورته من الأرض، ينظر إلى السماء وكأنها تحولت إلى صورته ونظرته تلك، فيهب من نومه وهو يصرخ سامحنيييي.
الفصل التاسع والعشرون
القدس - فلسطين 1945م
في إحدى ليالي الصيف المقمرة كانت باحة الأقصى تحتضن بين حناياها مجموعات متفرقة من الرجال وكبار السن هنا وهناك، يتسامرون على أحاديث الأيام الخالية وأخبار أهل الكرامات والأولياء، وما يدخل العقل وما لا يدخله من قصص وحكايات الأولين، ويحيط بهم الفتيان الذين يتشوقون لسماع تلك الأحاديث الشيقة، ويقوم الشباب في خدمة الجمع من سقي الماء وتوزيع الأطعمة والحلويات وفناجين القهوة وأقداح الشاي، وسط جو من الفرح الذي يعتلي الوجوه.
اتجهت الأنظار نحو الشيخ إبراهيم ذي اللسان المفوه واللغة الفصيحة والبلاغة المبهرة، ليقص لهم ما يريح النفس ويجلي الهم ويحلي الجو. فبدأ بمقولة لحسن بن سهل: «الآداب عشرة؛ فثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربية، وواحدة أربت عليهن، فأما الشهرجانية، فضرب العود، ولعب الشطرنج، ولعب الصوالج. وأما الأنوشروانية، فالطب والهندسة والفروسية. وأما العربية فالشعر والنسب وأيام الناس. وأما الواحدة التي أربت عليهن، فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس بينهم في المجالس.» فنحن ما بين الثلاثة العربية والواحدة التي أربت عليهن، أقص عليكم من أخبار العابدين الحامدين الأولياء المنزهين الذين وصلوا المقامات العلى وكشفت لهم الأسرار وعلموا بالأحوال والأهوال وزهدوا في الدنيا ، وقلوا وأقلوا ولبسوا الصوف واخشوشنوا ولم ينعم لهم سرير، ولا ملأ النوم لهم جفنا. وصدق ابن معتز حين قال: «وعد الدنيا إلى خلف، وبقاؤها إلى تلف، وبعد عطائها المنع، وبعد أمانها الفجع، طواحة طراحة، آسية جراحة، كم راقدا في ظلها قد أيقظته، وواثقا بها قد خانته، حتى يلفظ نفسه، ويودع دنياه، ويسكن رمسه، وينقطع عن أمله، ويشرف على عمله، وقد رجح الموت بحياته، ونقض قوى حركاته، وطمس البلى جمال بهجته، وقطع نظام صورته، وصار كخط من رماد تحت صفائح أنضاد، وقد أسلمه الأحباب، وافترش التراب، في بيت نجرته المعاول وفرشت فيه الجنادل، ما زال مضطربا في أمله، حتى استقر في أجله، ومحت الأيام ذكراه، واعتادت الألحاظ فقده.» فخرجت أصوات من هنا وهناك: «صدق القائل وأجاد الناقل»، «أحسنت التذكرة وأجزت الوصف». التفت حسن إلى هشام فرآه يتأمل القمر، سارحا في تفكير عميق غير آبه بما يجري في المجلس من أحاديث شيقة وقصص معبرة وتذكرة بزوال الدنيا الفانية والآخرة الباقية، فهمس حسن في أذنه: أين أنت يا هشام؟ - هناك، حيث يجب أن أكون.
استغرب حسن من إجابته المبهمة، ثم افترقا عن أهل المجلس خلسة وهم غارقون في لج قصة من قصص الشيخ إبراهيم. - أخبرني ما الذي يجري معك؟ - لا شيء، أخبرني عنك أنت. - دعك مني وقل لي ما بك؟
امتلأت عينا هشام بالدموع، مسح وجهه بكفه، أخذ نفسا عميقا، كان كل شيء فيه يريد البكاء والبوح إلا أنه يقاوم ذلك ويصد وجهه عن حسن. - دعني وعد إلى المجلس. - لا أدعك إلا بعد أن تخبرني، ما الذي جرى؟ هيا تكلم.
التفت إليه وقال بصوت مبحوح: لقد استشهد «عمر». - رحمه الله، ومن يكون عمر؟ - عمر الصفدي، التقيت به للمرة الأولى في عملية الكمين الذي نصبناه على طريق القدس-رام الله، أتذكر يوم أخبرتك عنها؟ - أذكر جيدا. - بعد تلك العملية المشتركة بين فصيلنا وفصيلهم تعرفنا على بعض، من الوهلة الأولى شعرت أنني أعرفه منذ زمن، لربما خالجك مثل هذا الشعور أن تتحدث مع إنسان للمرة الأولى فتشعر أنك تعرفه منذ زمن بعيد بعيد جدا، كان يحمل في وجهه البشوش صدق ثورتنا وجهادنا. كل مقاتلي الفصيل كانوا يكنون له الحب والاحترام ويتحدثون عن إقدامه وبسالته في المعارك، كان على وشك الزواج، أخبرني قبل عملية الهجوم الأخيرة على إحدى ثكنات الجيش البريطاني، أنه إذا خرج منها سالما فسيأخذ إجازة طويلة ليتزوج هناك في قريته على أطراف صفد، كان متحمسا جدا يجوب بين المقاتلين ويبث روح الحماسة فيهم، وكأنه ماض إلى عرسه لا إلى حتفه.
كانت الثكنة محصنة بشكل جيد، أخذنا مواضعنا حولها فرمى قائد العملية قنبلة يدوية على مدخل الثكنة فسقط جنديان على الأرض وبدأت المعركة، كانت مفاجأة غير متوقعة للعدو، فالهجوم حصل مع بزوغ الفجر، قتلنا كل الجنود عند الباب، لكن الجندي صاحب مدفع الرشاش في أعلى الثكنة شل حركتنا، ينهمر الرصاص كالمطر من سلاحه لا يستطيع أحد تركيز الهدف عليه من شدة الرمي، كان التأخير ليس لصالحنا؛ فالإمدادات العسكرية إذا وصلت سنخسر الكثير من مقاتلينا، نادى القائد إن لم نقض عليه سيقضى علينا، أثناء ذلك انبرى عمر من بيننا فجأة أطلق رصاصة من بارودته فانهمرت الطلقات على صدره وهوى الجندي من أعلى الثكنة ميتا، وسقط عمر بيننا يلفظ أنفاسه الأخيرة، هرعت إليه وأنا أصيح بصوت عال: «عمر!» حملت رأسه بكفي اليسرى، كان يبتسم وبالكاد يستطيع الكلام، يأخذ نفسا يخرج حشرجة من صدره وهو يقول لي: يبدو أن الله أراد عرسي في السماء لا في الأرض.
وأنا أبكي وأهز رأسي ولا أستطيع الكلام، بقي هكذا حتى فارق الحياة، وعيناه مفتوحتان وكأنه يراقب سمو روحه إلى السماء. - يا لشجاعته! رحمه الله. - لو ترى يا حسن كيف كان تشييع جنازته في القرية، منظر مهول تجمع المئات من الأهالي .. أطفال ونساء ورجال وكبار بالسن، والبعض قدم من القرى المجاورة، وآخرون من المدينة «من صفد نفسها»، أطلقنا الرصاص في السماء تكريما له، وارتفعت أصوات التكبير: «الله أكبر ولا إله إلا الله، والشهيد حبيب الله».
الفصل الثلاثون
معسكر أوشفيتز - بولندا 1945م
غطت الثلوج المعسكر بطبقة سميكة، وكست أسطح الثكنات والطرقات والأشجار بمنظر أبيض جميل. مع توالي ضوء الفجر كان الطابور الصباحي في الساحة مميتا، البرد يتسلل إلى أجسادهم الهزيلة التي تمكن منها الوهن واعتراها الجوع الشديد. تعالت صيحات الأوامر وصفارات القيادة، معلنة بدء يوم تعيس آخر، كان سماع تلك النبرات الفظة الصاخبة روتينا يوميا يستمتع بها أولئك الوحوش بأجساد وأشكال آدمية.
كانت فكرة الانتحار تراود الكثير من المعتقلين؛ فالإحساس بالعجز وعدم القدرة على المواصلة أكثر وتحمل كل ألوان التعذيب والقسوة ودنو خطر الموت كل مرة وقتل البعض أمامهم أو وقوعهم جثة هامدة قد كسرت من هيبة الموت لديهم، الموت الذي يخشاه الإنسان بفطرته، كانت الإرادة على البقاء تنهار يوما بعد يوم حتى يصل حال من يقرر الانتحار أنه يبقى على سريره وهو يسمع صفارات القيادة وصراخ الحراس.
في ذلك الصباح تعالت الأصوات من إحدى الثكنات وبدا أنهم قد انهالوا بالضرب على أحد المعتقلين، ثم سحبوه من قدميه ووجهه مخضب بالدماء نحو الساحة، كان يبدو عليه فاقدا للوعي للوهلة الأولى، وكانت دماؤه ترسم خطا أحمر على الثلج خلفه، تركوه وسط الساحة ليعطوه درسا أمام الجميع ويكون عبرة لمن يعتبر، انتبه مايكل إليه وهم يركلونه ببساطيلهم الثقيلة المتجمدة أنه لم يفقد الوعي، بل فقد الإرادة. كانت ملامح وجهه لا يظهر فيها التأثر بالضرب، لكنه كان يبتسم رغم كل ذلك، فقد بلغ حد اللاشعور. كانت ابتسامته تستفزهم كثيرا فتزداد الضربات شدة ووحشية، حتى أخرج الضابط مسدسه الشخصي من أعلى ركبته وأطلق على صدره ثلاث رصاصات، كانت الحد الفاصل بين العذاب والرحمة والسكون الأبدي.
منذ نقل مايكل من غيتو وارسو إلى أوشفيتز كان يبحث في وجوه المعتقلين عن ديفيد، ويمني النفس أن يجده كما وجد روبرت بالصدفة، لكن المعسكرات كثيرة في كل أنحاء الرايخ ، وحتى أوشفيتز تضم أكثر من أربعين معسكرا ثانويا داخلها، كلها منفصلة عن بعضها البعض، ولا أمل برؤية جميع المعتقلين، والوصول إليه يحتاج إلى معجزة إلهية. - روبرت كيف يمكن للمعتقل أن ينتقل إلى معسكر آخر داخل أوشفيتز؟ - ولماذا تسأل؟ هل مللت من صديقك؟ - ليس كذلك، بل أبحث عن أخي ديفيد، بحثت عنه هنا ولم أجده بين المعتقلين عله في معسكر آخر من معسكرات أوشفيتز. - لا يمكن نقلك من هنا إلا في حالة أنك صاحب حرفة خاصة ويكونون بحاجة لتلك الحرفة في معسكر آخر، أو أن يتم نقلك بوساطة ضابط من فرق الإس إس، وهذا من مستحيلات الحياة بالنسبة لنا. - حرفة؟ أنا لم أعمل في غير التجارة. - إذن لا يمكنك الانتقال، الظروف الذي نعيشها هنا لا تتحمل البحث عن أحد، أنت لست حرا حتى تبحث وتجتمع مع من تريد، نحن هنا عبيد والعبد لا أهل له فاترك عنك هم البحث، وحتى إن وجدته ما الذي يمكنك تقديمه له، هل تستطيع أن تنقذه من هذا الجحيم؟ - لكن ... - اسمع نصيحتي يا مايكل، لربما إن وجدته ستندم كثيرا لأنك ستراه يتعذب أمامك ولا يمكنك فعل شيء لأجله، اهدأ يا صديقي واطلب من الرب أن يغمره برحمته ويهبه القوة والصبر لتحمل العذاب والمشقة أينما كان.
هز مايكل برأسه مقتنعا، فربت روبرت على كتفه وأعطاه ابتسامة مليئة بالعطف. - محق فيما تقول يا روبرت، إنك محق. •••
فتح باب الثكنة ودخل ضابط مع حارسين خلفه، وصفارته في فمه يصدر صوت صفير متقطعا، وبيده سوط يضربه على خشبة الأسرة ذي الطوابق الثلاثة، قفز مايكل من سريره، ووقف بوضعية الاستعداد منسدل اليدين ورأسه إلى الأمام. سار الضابط بكامل قيافته النازية المعروفة، وسط صفين متقابلين من المعتقلين ثم بدأ يتكلم: اليوم سيتم نقلكم إلى المعسكرات الأخرى للعمل، الأجواء في الخارج لا تساعد على العمل بالإنتاجية المعتادة.
سكت قليلا وخطا خطوات ثابتة، ثم أدار وجهه إلى المعتقلين في الصف المقابل لمايكل، وبدأ يختار منهم ليكون مجموعات متفرقة، كل خمسة معتقلين مجموعة، بعد اختيارهم أمر الحارسين باقتيادهم خارجا. - هؤلاء إلى ثكنة فرز حقائب النزلاء الجدد.
أدار وجهه إليهم فاختار عشرة أشخاص هذه المرة، من بينهم مايكل مع روبرت، ثم أمر الحارسين بنقلهم إلى عربات معسكر بيركناو ، انتبه مايكل إلى روبرت، كان وجهه قد اصفر وشحب أكثر مما هو مصفر وشاحب في الأصل، شعر أن هناك سرا خطيرا في ذلك المعسكر، لماذا امتقع وجه روبرت عند سماعه بيركناو.
حال نزولهم من العربة في المعسكر ألقى مايكل نظرة في المكان فرأى المداخن الطويلة التي تعلو الثكنات، تذكر أعمدة الدخان الأسود المتصاعدة التي رآها في ذلك اليوم عندما كان ينقل البراز بالدلو .. دهش للوهلة الأولى، إنها نفس الثكنات المستطيلة ونفس المداخن، لكن لا توجد أعمدة دخان يتصاعد منها، يبدو أن العمل لم يبدأ فيه بعد.
لم يكن المعسكر يختلف كثيرا عن الأماكن التي قضى فيها من قبل، فالبؤس نفسه والعمل شاق أينما كان، استقبلهم في الفراغ بين الثكنتين المتجاورتين مجموعة من الجنود وهم قد وضعوا الكمامات على أفواههم، نادوا على أحد المعتقلين باسم «آفيرام» وأدخلوه إلى غرفة خاصة كانت تبدو غرفة ضابط من فرق الإس إس تأخر فيها قرابة عشرين دقيقة، ثم خرج إليهم، بعدها تم توزيع كمامات وقفازات لهم أيضا، ثم انسحب الجنود وأمروهم باتباع ما يقول «آفيرام» بدقة تامة لحين انتهاء العمل. وقف آفيرام والأنظار متجهة صوبه، بلع ريقه بصعوبة ثم بدأ يتحدث: القدماء منكم يعلمون ما سنقوم به اليوم، أما الذي جيء به للمرة الأولى هنا، فأطلب منه أن يتماسك قليلا، لكي نحافظ على حياتنا يجب أن نطبق ما أرادوه منا بحذافيره وأن نكمل المهمة اليوم. - فصاح أحدهم: كفاك تلمح، أخبرنا ماذا سنفعل؟
وكأنه قال ما كان ينوي مايكل قوله. - لقد تم تجميع جثثت المرضى المصابين بالأمراض المعدية كالتيفوئيد والكوليرا من معسكرات أوشفيتز والغيتوات القريبة منها، وهم الآن داخل هذه الثكنة الخاصة، وأشار بيده نحو باب على اليمين، هذه الأمراض معدية، ودفن هؤلاء قد يتسبب في انتشار المرض وموت الكثير من البشر، لا يوجد حل سوى حرق جثثهم.
صدم مايكل بما سمع، التفت إلى روبرت فأومأ إليه بوجه شاحب. - حرق؟! - نعم، مهمتنا اليوم حرق الجثث. - ماذا تقول؟ كيف نحرق البشر؟! - أقول ما سمعتم، سيقوم كل اثنان منا بحمل جثة ونقلها إلى غرف المحارق الأربعة أسفل المداخن، ويجب أخذ الحيطة والحذر، لا أريد أحدا منكم أن ينزع قفازته من يده أو كمامته من على فمه، لئلا ينتقل المرض إليه، وينتهي الأمر به إلى الحرق هنا بعد موته.
خارت قوى مايكل، في بداية الأمر لم يكن يصدق ما سيقوم به، فتح آفيرام الباب ثم ولجوا خلفه إلى الثكنة، كانت الجثث مكدسة فوق بعضها البعض كأنها سيقان أشجار مقطوعة ومكومة، نساء ورجال شبان بعمر الورود وأطفال ومراهقون وشيوخ.
كان مايكل يتحاشى النظر إلى الوجوه، لكن ما من سبيل، لا بد من النظر قبل حملهم إلى المحرقة، وكان روبرت يتشارك معه في حمل الجثة من قدميها وهو من يديها أو العكس، ذهابا وإيابا من الثكنة إلى المحرقة، حتى يتكدس المكان بالجثث، فيأتي آفيرام ويغلق باب المحرقة الحديدي من الداخل ثم الباب الثاني ويفتح صمام الوقود الذي يصل بأنابيب داخل غرف المحرقة لدقائق معدودة فيتم رشها بالوقود، ثم يوصد قفل الصمام ويضرم النار في فتيل ويقذفه من فتحة دائرية إلى الغرفة، فيهب النار فيها وتحترق الجثث وهم يسمعون أزيز احتراق جلودهم وخروج دهون أجسادهم.
كان المشهد أقسى ما يمكن أن يراه الإنسان في حياته، بشر يحترقون أمامهم وهم يسمعون أزيزا مقرفا ويشمون رائحة نتنة، كان بعضهم لا يستطيع تحمل المنظر والرائحة فيستفرغ كل ما في جوفه، ويسقط أرضا وهو يسعل ويبكي. رفع مايكل بصره نحو المدخنة فرأى أعمدة الدخان تتصاعد منها إلى السماء وكأن أرواحهم تتطاير بهدوء وسكينة لم يعهدوها منذ مدة طويلة وهي تعرج إلى السماء، قال في نفسه: «ليتنا لا ندرك حقيقة كل ما يلفت أنظارنا في الحياة، ما أجمل توقعاتنا وما أقسى الواقع والحقيقة، حين رأيتها في ذلك اليوم توقعت أنها احتراق للفحم من أجل أفران صهر الحديد! لا عزاء لإنسانيتنا اليوم؛ فقد تبخرت إلى الأبد. أي قلب يتحمل كل هذا؟ إني أعجب كثيرا من تحملنا مثل هذه المواقف دون أن يغشى علينا! يبدو أن الإنسان يمكنه القيام بكل الأعمال البشعة والشنيعة لمجرد أن يفعلها مرة واحدة، مرة واحدة فقط ويكسر الحاجز، ونحن لم يبق حاجز ولم نكسره بإرادتنا أو رغما عنا.»
في الجولة الثانية من عملية نقل الجثثت، سحب مايكل جثة شاب من بين الجثث المتكومة من يديه فسقط أمامه، توجه روبرت إلى الجهة الأخرى ليحمله من قدميه، لكن مايكل بقي صامتا ينظر في وجهه ويداه ترتجفان. - ما بك يا مايكل؟ ما بك ترتجف؟! - إنه ديفيد، ديفيد!
ثم صرخ مايكل بأعلى صوته «أخيييي» ضمه إلى حضنه وهو يبكي ويلعن نفسه ويندبها: أنا الذي قتلتك يا ديفيد، أنا القاتل، سقط روبرت منهارا مدهوشا أمامه، تجمعوا فوق رأسه وهم يحاولون تهدئته ثم أقبل آفيرام مسرعا. - مايكل هون عليك، يجب أن تتركه، سينتقل المرض إليك.
كان يبكي بكاء الأطفال ويحرك جثة أخيه بحضنه والدموع تذرف من عينيه وكأنه يبكيه بكل ما فيه، لم يرد على آفيرام. - هيا انتزعوا الجثة من يديه. - لا تقتربوا منه، سأحرق من يحمله هناك، ابتعدوا عنه. - اهدأ يا مايكل اهدأ، لا يمكننا إبقاء أية جثة هنا، سيتم قتلنا جميعا .. الحي أبدى من الميت يا مايكل. - وهل تعتبرون أنفسكم أحياء؟ إن الموت أشرف من هذه الحياة القذرة التي تحاولون الحفاظ عليها!
حاول روبرت تهدئته لكنه لم يستطع؛ فالمشهد الذي أمامه كتم على صدره وبات يخرج صوته مبحوحا .. عندما رأى آفيرام ألا جدوى من انتزاع جثة ديفيد منه، أمر البقية بإكمال عملية النقل بعيدا عن مايكل .. بقي ديفيد بحضنه إلى أن تم حرق جميع الجثثت إلا جثته .. أقبلوا إليه جميعا. - مايكل، إن كانت حياتك لا تهمك فهي تهمنا نحن، أرجوك أن تعطينا الجثة قبل أن يأتوا ويروك هكذا، سيضعوننا في المحرقة أحياء ويضرمون النار فينا .. هيا لا نريد إجبارك بالقوة.
حدق في وجوههم الشاحبة وبحث عن وجه روبرت فأبصر في عينه ما في أعين البقية .. ثم قال: أنا من سيضعه في المحرقة.
انفرجت أساريرهم جميعا، وربت آفيرام على كتفه .. حمل جثة أخيه، حاول روبرت مساعدته لكنه امتنع بحركة من يده، عندما دخل المحرقة سحب الباب على نفسه ونادى: إن أردتم حياتكم فاحرقوني مع أخي، وإلا فسنحترق جميعا!
من سوء الحظ لم يكن هناك قفل من الداخل، القفل خارجي فقط، سحبوا الباب وأخرجوه منها بالقوة وهو يصرخ ويبكي. - دعوني أحترق معه، اتركوني مع أخي، لا أريد حياتكم هذه، أنقذوني منها وأنقذوا أنفسكم!
لكن دون جدوى .. أغلقوا الباب على ديفيد وأضرموا النار فيه، فعاش هو ومات مايكل في الحياة.
الفصل الحادي والثلاثون
مدينة وان - تركيا 1909م
كان شعورا أشبه بالنشوة عندما سمع أرتين الخبر؛ فبعد عقدين من القتال والمذابح التي راح ضحيتها الآلاف ومحاولة اغتيال فاشلة، ها هو السلطان ينتهي به الأمر في المنفى يناظر سلطانه الزائل من خلف البسفور، ويرى أولئك الذين استهان بقدرتهم يجوبون في حنايا قصره على قمة تلة قازانجي أوغلو ويتنعمون بملكه وحديقته الغناء ويستقبلون المهنئين بصالة استقبال الضيوف التي منها نشأت الفرسان الحميدية وظلمت وطغت في الولايات الأرمنية تحت إمرة زكي باشا وزبانيته، يطلق حسرات وزفرات ويحوقل جيئة وذهابا. من كان يصدق أن الأتراك أنفسهم دون الملل الأخرى القابعة تحت الحكم العثماني يخلعون السلطان بتلك الطريقة المهينة!
آه يا عبد الحميد! كيف يمكن التغاضي عن نواياهم التي بانت لك واتقيت الظلم فيهم فأطاحوا بسلطانك؟ أما كنت تتصف بالشدة والحنكة؟ كيف وهنت وتساهلت، وأنت تدرك أن «الحكم والزهد لا يجتمعان»، والحاكم الزاهد بالدنيا الذي لا يتقي شر أقرب الناس إليه مصيره الموت أو النفي كما حصل للخلفاء الثلاثة، عمر وعثمان وعلي، حتى أدرك ذلك المفهوم بنو أمية فأحاطوا سلطانهم بالحذر والحيطة والشدة وقطع رأس الفتنة أول بزوغها، فاستمر حكمهم أكثر من الخلفاء الراشدين، وعندما أراد عمر بن عبد العزيز أن يعيد الزهد إلى الحكم سمم وقتل؟!
انتشر خبر خلع السلطان عبد الحميد الثاني كالنار في الهشيم بكل أرجاء الدولة العثمانية، وتناقل أرمن المدينة أخبارا تفيد بأن الإصلاحات التي وعد بها حزب الاتحاد والترقي حليف حزب الطشناق الأرمني ستكون على رأس القائمة، واستبشروا خيرا بطي صفحة السلطان إلى الأبد. كانت الفرحة ظاهرة على وجوه رواد المقهى قرب الخان، وكأن الأرمن ولدوا من جديد وأزيح عنهم الخوف القابع في صدورهم لعقود خلت، وتم تغيير الولاة التابعين للسلطان المخلوع وإعادة العمل بمجلس المبعوثين (البرلمان) ومجلس الأعيان لتشارك جميع القوميات والملل في القرار العثماني.
كان سوق مدينة وان يعج بالناس والباعة المتجولين والعربات التي تجرها البغال، وأصوات مناقشات حادة تأتي من هنا وهناك وكلام حول إهانة السلطان بكلمة «الخلع» ودفاع وذم ومناوشات واتهامات بالظلم ومدح بالعدل، كان الكلام حول السلطان وخلعه وتنصيب أخيه محمد رشاد ذي الشخصية الضعيفة بمنصب شكلي مسلوب الإرادة الشغل الشاغل للأهالي لشهر كامل، وحدثت حالات مشاحنات وقتال بالسكاكين في ساحة السوق بين المؤيدين والمعارضين للخلع أدت إلى تدخل الدرك أكثر من مرة، كانت حادثة لا يمكن أن تمر مرور الكرام؛ فللسلطان هيبته ومكانته في نفوس المسلمين؛ لأنه يحمل صفة خليفة رسول الله، وهو من سلالة السلاطين العثمانيين الشرفاء. •••
كانت باتيل في المطبخ تجهز العشاء ورائحة اللحم المسلوق مع البهارات وحبات القرفة قد ملأت باحة البيت، نادت بانوس بأن يحضر الطاولة ويفرش القماش الأبيض المزخرف عليها ويجلب الكراسي من غرفة أرتين وغريغور، ويخبرهما بأن العشاء قد جهز.
على المائدة كان غريغور يأكل بشراهة كعادته وباتيل تطلق الابتسامات خلسة مع زوجها بانوس، لم تكن ابتسامة استهزاء بقدر ما كانت شعورا بالسعادة؛ فكل النساء تحبذن من يأكل طبخهن بهذا النهم، إنهن يشعرن أن ساعات التعب والتحضير لم تذهب سدى. - برأيك كيف سيكون حال الثورة بعد عبد الحميد يا بانوس؟
وضع الملعقة من يده على الصحن والتفت إلى أرتين: بالتأكيد سيكون أفضل بكثير. - لكن مانوكيان في آخر اجتماع للقادة قال: «لا يغرنكم شعارات الاتحاد والترقي بالإصلاحات والوعود بالحكم الذاتي للأرمن، إننا ندرك جيدا أنها يكذبون ويماطلون، وهذا ما رأيناه في أول اجتماع معهم بعد خلع السلطان.» - حتى لو كانت الوعود كاذبة، لكن التضييق على الثوار سيقل، وستكون حركتنا أكثر حرية من ذي قبل و...
قاطعه أرتين قائلا: أصبت، وهذا ما نوه إليه مانوكيان، قال يجب أن نستغل فترة التغاضي عن الثوار بانشغالهم في توطيد أركان الحكم، ونعمل على زيادة تهريب الأسلحة نحو وان والقرى الأرمنية، فلا يمكن تخمين ما تئول إليه الأمور في البلاد، السلطان حي ومؤيدوه من المسئولين والضباط في الجيش ينتهزون الفرصة لزعزعة الأوضاع وإشاعة الفوضى في البلاد لكي يثور الشعب على حزب الاتحاد والترقي ويعيدوا السلطان من المنفى إلى سدة الحكم من جديد.
عندما سمع غريغور بإمكانية عودة السلطان رفع رأسه عن الصحن، كانت حبات الأرز عالقة على شاربيه وقطرات من مرق اللحم تطفو على لحيته، تجهم وجهه وكأن الكلام انتزع لذة الطعام لديه فانتصب واقفا وقال: إن عاد السلطان من جديد إلى الحكم فسيكون أشد بطشا من ذي قبل، وسيكسب تأييدا منقطع النظير، ويكسر شوكة معارضيه ويستأصل شأفتهم إلى الأبد.
رد عليه بانوس: أرى أن الخوف من السلطان المخلوع قد تمكن منك أيها البطل المقدام!
أطلق أرتين قهقهة امتقع وجه غريغور بسببها، وعلم أن بانوس يريد أن يستفز غريغور المجنون، فهو يتقبل أبشع الأوصاف إلا أن يتهم بالخوف أو أن يتم وصفه بالجبان، ولولا وجود باتيل وخجله منها لانقض على بانوس وأشبعه ضربا، لم يتمالك نفسه فرد عليه وقد اكفهر وجهه من الحنق: الخوف يعرف أهله يا بانوس الشجاع! وثورة وان الأخيرة خير دليل على ذلك، وهي شاهدة على من كان في الصفوف الأمامية يقاتل العدو ويقتل العديد من الجنود والفرسان الحميدية ومن أصيب من أول لحظة وبقي بالصفوف الخلفية طيلة أيام الثورة؟ إن وصفك هذا مجرد خرقة كانت بالية عليك فرميتها بي، وأحذرك من أن تعيدها، أحذرك!
كان غريغور يحرك سبابته متوعدا وهو يغادر المائدة، وبانوس يحرك رأسه هازئا وعلى وجهه ابتسامة مستفزة ويرد عليه: افعل ما بوسعك.
كان بانوس يدرك أن وعيد غريغور مجرد كلام؛ فهو طيب القلب يهدد ويتوعد في كل مرة ولا شيء وراء ذلك، كما أنه لا يريد أن تظن باتيل بأن زوجها محق بما وصفه، إنه شعور قابع في مخيلة جميع الرجال، لا يجب الظهور أمام النساء بما يعيب رجولتهم وينتقص منها، لربما يظهر الرجل ضعفه بين أقرانه، يتعرض للإهانة ولا ينتفض، يهزم ويستسلم بسهولة، إلا أن حضور امرأة واحدة يكفي بأن يظهر القوة مهما شعر بالضعف وينتفض ولا يستسلم لآخر نفس.
الفصل الثاني والثلاثون
القدس - فلسطين 1946م
في باحة الدار جلس حسن على كرسي خشبي واضعا قدميه إلى الكعبين في ماء النافورة البارد، يحركهما ببطء فتظهر موجات صغيرة على الماء، تتراقص الموجات على السطح ثم تختفي شيئا فشيئا، يغرف منه بكفيه مجتمعتان يغسل وجهه ويبرد جسمه من حر ذلك اليوم، سمع أم خالد في الداخل ترد على سكينة التي تتذمر من شدة الحر وتقول لها: «في تموز بتغلي المية في الكوز»، لكن لولا هذا الحر الشديد والشمس القوية لما نضجت الثمار على الأشجار، وما يبس القمح والشعير في سنابلهما، ولما حصد الناس تعبهم ومجهودهم طوال السنة، كلها خير يا بنيتي كلها خير.
فجأة طرق الباب، انبرى حسن من مكانه وهو ينادي «آت آت»، لكن الطارق لم يتوقف وكأن أمرا جللا قد حصل، أسرع حسن خطواته نحو الباب وهو يقول بصوت عال: على رسلك ستكسره هكذا، فتح الباب وإذ بأنوشكا أمامه، صدم للوهلة الأولى، رأى الدموع في عينيها الواسعتين. - ماذا حصل؟ - أبي بين الحياة والموت، الحق به يا حسن. - هيا عودي إلى البيت، وأنا سأجلب الطبيب وألحق بك.
نادت أم خالد: من الطارق يا حسن؟ لم يرد عليها، ارتدى ثيابه على عجل، ووضع كل ما يملك من جنيهات في جيبه، ثم خرج كالبرق من البيت، كان يركض كالمجنون بين الأزقة الضيقة نحو بيت طبيب الحارة، كان الفرح يختلج صدره لأن أنوشكا فكرت به دون غيره ليقف معهم، أخذته أفكار كثيرة وهو يعبر زقاقا تلو الآخر، وقال في نفسه إنها فرصة كبيرة للتقرب من عائلتها.
دخل الطبيب إلى غرفة المريض، خرجت أنوشكا مع أمها من الداخل، رمقت الأم حسن بنظرة غريبة، همست بأذن أنوشكا، ودار حديث هامس بينهما، انتهى الحديث بابتسامة من أمها وكلمة شكر لحسن، هز رأسه وقد تجمدت عروق الدم على جبينه من الخجل، تأخر الطبيب في الداخل، كانت الأم لا تستطيع الجلوس من شدة القلق فتروح وتجيء ذهابا وإيابا في باحة المنزل وتتمتم بأدعية وتصلي للرب من أجل زوجها، وأنوشكا تسترق النظر إلى حسن وتبتسم.
خرج الطبيب من الغرفة، فهرعت الأم إليه: أخبرنا عن وضعه، أهو بخير؟ - هو بخير، أعطيته بعض المهدئات، سيستريح ويخلد للنوم بعد قليل، حرارته مرتفعة وجسده الهزيل لا يتحمل ذلك، عندما يستفيق في المساء أعطيه ملعقة من هذا الدواء، وغدا عند الصباح ملعقة أخرى، وهكذا لمدة ثلاثة أيام، وإن لم يتحسن حاله فأخبروني.
مكث حسن النهار كله في بيت العم أرتين، أكل للمرة الأولى بمائدة واحدة مع أنوشكا وأمها وهو في قمة السعادة، شعر وكأنه أصبح من أهل الدار، قالت له الست مريم: وجهك ليس غريبا عني، أظنني قد رأيتك في مكان لا أذكره. - نعم، عند باب أم فاطمة في ليلة حناء ابنتها. - آه تذكرت، لقد كبرنا وغزا النسيان ذاكرتنا. - ما زلت شابة، لا بل إنك أجمل من صديقات أنوشكا.
ضحكوا جميعا من مقولته، فردت الست مريم وهي ترمق أنوشكا بأطراف عينيها: وأجمل من أنوشكا أيضا؟
سكت حسن واحمر وجهه وتلعثم لا يدري ماذا يرد حتى نظر في عينيها وقال: جمالها من جمالك، وما سعة العينين التي عندها إلا من عينيك، باختلاف اللون الذي أخذته من أبيها. - تهرب واضح.
ابتسم حسن ولم يستطع الرد، ثم دار حديث طويل بينهما، كانت امرأة خفيفة الظل حلوة المعشر، لكنها تثرثر كثيرا، قصت لحسن حياتها منذ الطفولة إلى ذلك اليوم، وكم تقدموا لخطبتها من شبان الحي ومن خارجه حتى من خارج القدس قدموا لخطبتها، لا بل حتى ضابط بريطاني أغرم بها، لكنها كانت ترفض وترفض، فسار العمر على عجل وقلت الخطى إلى بابها، وبدت ملامح الكبر تظهر عليها حتى قبلت برجل على أبواب الخمسين من عمره هربا من فك العنوسة! قال حسن في نفسه: هذه نهاية أغلب الجميلات، يقتلن الفرص الكبيرة بأيديهن في زهرة العمر، ثم عندما تذبل تقبل بأي كان، ثم تفتأ تندب حظها طول العمر!
بعدها تحسنت صحة العم أرتين، شكر حسن كثيرا على وقفته معهم وقال: بارك الرب بك يا بني.
كان الطبيب حاضرا يكشف على حاله فأضاف إليه: ليس غريبا عنه ذلك؛ فحسن من زينة شباب حارتنا.
اعتلى الاحمرار وجه حسن، فرد على خجل: شكرا لكما.
التفت العم أرتين إلى الطبيب وسأله: هل يمكنني السفر بهذا الحال؟ - سفر بعيد أم إلى أطراف القدس؟ - بعيد إلى قرية قرب جنين، هناك الجو معتدل والهواء نقي وأجواء القرية الهادئة تعيد لي بعضا من نشاطي. - ومن يعتني بك هناك إن ساءت حالتك، أو يجلب لك طبيبا من المدينة أو يأخذك إليه؟ إن كنت عازما على السفر فخذ حسن معك.
صدم حسن عندما سمع اسمه، انتابه شعور بالفرح وتذكر وصف أنوشكا لذلك المكان يوم التقيا للمرة الأولى، تحمس للسفر معهم، لكن كيف له أن يقنع والده بذلك؟ التفت الاثنان إلى حسن ثم تكلم الطبيب: ما رأيك يا حسن؟ - أتمنى، لكن ... - لكن ماذا؟ - «لا تضغط عليه.» قال العم أرتين للطبيب. - كيف أقنع أبي بالموافقة؟ - لا عليك، أنا أقنعه، لقد كبرت وتستطيع السفر وحدك وليس مع عائلة لطيفة مثل هؤلاء، ستقضي أياما لا تنساها هناك في أجواء القرية الخلابة. - بيتي في أجمل مكان هناك في القرية.
وضع الطبيب أدوات الفحص في حقيبته ثم ربت على كتف حسن: هيا بنا إلى مقهى الحي علنا نجد أباك فيه وأكلمه عن سفرك.
في الطريق قص الطبيب لحسن مغامراته عندما كان شابا بمثل عمره، وذكر قصة طريفة حصلت له في القطار المتوجه إلى يافا، يقول: صادفت في تلك الرحلة عائلة من الغجر، أما مع ابنتيها وهن على الزي الغجري المعروف، فساتين طويلة ومزركشة بالتطريز الغجري الخاص ذي الألوان المتعددة، والحلقات المتدلية من الشال الملفوف على الرأس التي تصدر صوتا بأدنى حركة منهن وتجلب الانتباه إليهن، رمقنني بنظرات غريبة وأنا أحضن حقيبتي وأحاول صرف النظر عنهن نحو نافذة القطار، اقتربت البنت الكبيرة مني وقالت دعني أقرأ لك الطالع، قلت لها لا أريد، شكرا لم ترد على رفضي ففرشت منديلها الأسود المزخرف بألوان وخطوط ومربعات متداخلة ورمت أحجارا صغيرة فوقها أخرجت صوت دهشة جلبت انتباهي لها ثم قالت: أخبرني عن اسم أمك.
شدني الأمر فأخبرتها، وبدأت تسرد عني معلومات عامة بعبارات غامضة، وقالت ستتعرض لمشكلة أو مخاطر في يافا، فيجب أن تكون حذرا جدا ثم انسحبت إلى مقعدها ولم تطلب مقابلا على غير عادة الغجريات. بعد وصولنا للمحطة في يافا نزلت من القطار وضعت يدي في جيبي ولم أجد الجنيهات، فتشت جيوبي كلها والحقيبة فلم أجد شيئا، اكتشفت حينها أني تعرضت للسرقة، الأخت الكبيرة ألهتني بالطالع والصغيرة سرقتني، لا يوجد أي احتمال آخر، بحثت في كل زوايا المحطة عنهن ولم أجد لهن أثرا، عندها أدركت أنها كانت صادقة فيما أخبرتني به «ستواجه مشكلة في يافا». أخرج الطبيب قهقهة وقال: الحمد لله أنني صادفت في المحطة صديقا لي من يافا أخبرته بالذي جرى معي واستدنت منه بعض الجنيهات، أجرة الفندق وتذكرة العودة إلى القدس في اليوم التالي. لذلك يا حسن، في السفر احذر لطف الغرباء. •••
على متن سيارة الكاديلاك كان العم أرتين جالسا على المقعد الأمامي والست مريم تتوسط أنوشكا وحسن على المقعد الخلفي متوجهين إلى جنين، كان السائق صديق العم أرتين كثير التفاخر بسيارته التي اشتراها من ضابط بريطاني باعها له قبل أن تنتهي خدمته العسكرية في القدس ويعود إلى لندن.
إنها مريحة وسريعة وأنيقة، لقد صممت للملوك والوزراء والرؤساء، سيارة لا مثيل لها في القدس كلها.
قاطعه العم أرتين: وها أنت تملكها، ولست بملك ولا وزير! - لست أقل منهم. - هون على نفسك يا أبا يوسف، المال الكثير دون سلطة لا يجلب لك صفة الملوك ولا الوزراء. - لو أردت ذلك لنلته. - ربما.
ساد صمت بينهما، وحسن يتأمل الطريق، وهو في قمة السعادة التفت نحو أنوشكا فرأى خصلات شعرها الحريري المتموج تلمع وكأنها خيوط ذهبية تحت أشعة الشمس فتتطاير خارج نافذة السيارة وتضرب وجهها وهي تزيحه بلطف عن عينيها.
مروا بمدن وقرى كثيرة حتى وصلوا جنين ومنها إلى القرية، كان بيت العم أرتين يقع خارج القرية على سفح جبل مطل على سهل مرج ابن عامر، إطلالة ساحرة وهواء بارد رغم فصل الصيف، وقف حسن على شرفة المنزل يتأمل المنظر يستنشق الهواء ويشعر أنه يتسلل إلى أطراف أصابعه، لم يكن يحمل في ذهنه صورة مقاربة لما يرى إلا غابة «قازنجي أوغلو» ذات الأشجار والأزهار المتنوعة التي تحيط قصر يلدز يوم وصفها له الحاج صالح.
الفصل الثالث والثلاثون
معسكر أوشفيتز - بولندا 1945م
قبل الغروب وصل الجنود مع أحد الضباط، تفحصوا المكان، لم تبق أي جثة، كلها تحولت إلى رماد، أثنى على ما قام به آفيرام بإكماله المهمة، كان الذي يقوم بهذه العملية يحصل على كابونات إضافية، كل كابونة يمكن فيها طلب وجبة إضافية من الطعام أو سجائر بعدد محدد، وكانت تلك هبة عظيمة لدى المعتقلين في المعسكر. كان مايكل متكئا على جدار الثكنة القريبة لا يقوى على الوقوف على قدميه وقد طأطأ رأسه ويصدر نحيبا من شدة البكاء، فتوجه نحوه الضابط غاضبا وضربه بسوط على كتفه: هيا قم أيها الخنزير!
لم يشعر بأي ألم من ضربة السوط وكأن جسده مخدر، حاول آفيرام إدراك الموقف. - اعذره يا سيدي؛ فقد كان أخوه من بين الجثث التي حرقناها. - أخوه؟! - نعم يا سيدي.
يبدو أنه تأثر بالموقف، فأمر الجنود بتحويله إلى المشفى والاعتناء به في تصرف أذهل الجميع حتى مايكل رفع رأسه وعيناه غارقتان بالدموع غير مصدق بما سمع، ثم أمر البقية بالعودة إلى أوشفيتز في العربة المخصصة لنقلهم.
مكث مايكل في المشفى عدة أيام لا يقوى على الحركة، ولا يشتهي الأكل رغم ألم الجوع الشديد الذي كان يشعر به، كلما أغمض عينيه رأى وجه ديفيد المزرق وعظام وجنتيه البارزتين من الشحوب وبرودة يديه عندما سحبه من فوق الجثث، وكأن تلك الصورة قد التصقت على جفنه من الداخل.
رأى في الحلم ذات ليلة أنه في بيتهم بميونخ جالسا على الأريكة قرب جهاز الراديو وأمامه ديفيد وسارة يحدقان به، وهو منشغل بسماع ما تذيعه المحطة النازية المحرضة على اليهود غير منتبه لهما، فجأة اقتربا نحوه وعيناهما مفتوحتان بالكامل اقتربا كثيرا وهو يحاول دفعهما عنه والصراخ ومناداة أمه لكنها كانت تسمع ولا تبالي، بعدها اختفت أجسادهما ولم يبق منهما سوى حدقات العيون، وهي ما زالت تكبر وتقترب أكثر فأكثر حتى دخلتا في عينيه، ولم يشعر إلا أنه فزع من النوم بصراخ جلب الممرضة المناوبة من الردهة المجاورة إليه.
ظل هذا الكابوس يلازمه فترة طويلة حتى بعدما رأف بحاله الضابط النازي «آرنست» للعمل في بيته نهارا والعودة إلى المعسكر في الليل، ومع مرور الوقت أصبحت حالته الصحية أفضل من بقية المعتقلين، أما حالته النفسية فبقيت منهارة، قبل حادثة حرق جثة ديفيد كان يحلم بالحصول على رغيف خبز مع صحن من الأرز أو حتى وعاء حساء كبير مع عدد حبات بازيلا أكثر، أما الآن فالأطعمة أصبحت متوفرة أمامه، والضابط يحسن معاملته، لكنه فقد شهيته بالحياة.
كان في الليل يحدث روبرت عن منزل الضابط الواسع والأدوات المنزلية الفخمة والأطعمة المتنوعة التي يتم تحضيرها في المطبخ، وعن الحياة المرفهة التي يعيشها مع زوجته الحسناء «تريسا» التي كانت تشمئز من وجود مايكل في بيتها لكنها لا تستطيع منع زوجها من أي شيء يريده، مع توءميهما «ويلدا» و«فاندا» ذواتي العيون الزرقاء كأنها تعكس لون السماء الصافية في الشتاء، والشعر الذهبي المتموج واللامع .. بريئتان إلى الحد الذي لا تظن أن أباهما ضابط في أبشع منظومة أباحت أرواح الأبرياء واستخدمتهم كعبيد لتنفيذ مصالحها. - براءة الطفولة لا تعرف الكراهية والحقد يا مايكل، لكن عندما تكبران ستغيرهما البيئة المحرضة والكراهية المقيتة للآخرين، سيضحكون عليهما بعرقهما النقي .. حينها تدفن كل هذه البراءة وترحل بلا عودة .. ويظهر الوجه النازي المنزوع الرحمة بدلا عنها. - ربما أنك محق، لكن أليس من الجرم أن تتحول كل هذه البراءة إلى البشاعة النازية؟! - كلهم كانوا بريئين في طفولتهم .. وأصبحوا مجرمين عندما كبروا، دعنا منهم ومن براءتهم وأطفالهم سفاحي المستقبل، وأخبرني إذا طلبت منك شيئا أتستطيع جلبه لي من بيته؟ - لا يمكنني جلب شيء أو أخذ شيء؛ لأنهم يفتشونني جيدا عندما يتم نقلي إلى بيته وحين عودتي منه .. ماذا كنت تريد؟ - لا شيء انس الأمر. - أخبرني، ماذا تخسر؟ - كنت أشتهي بعض الأطعمة التي لم أذقها منذ زمن، حلوى، فطائر، فواكه أي شيء غير هذا الحساء ذي الرائحة الكريهة والخبز المتعفن. - ليتني أستطيع يا صديقي، ليتني. •••
في أحد الأيام عاد السيد آرنست إلى المنزل بسيارته العسكرية مع مرافقيه، محمر الوجه يبدو عليه الخوف والتوتر الشديد، كان مايكل في الباحة تحت شجرة الصنوبر يصنع أرجوحة لويلدا وفاندا من الحبل وإطار سيارة قديمة، وهما حول مايكل تراقبانه بشغف كبير والابتسامة تعلو شفاههما الجميلة، دفع الباب الرئيسي للمنزل بقوة لم يعر مايكل انتباها للصوت أكمل عمله، لكن فكره كان منشغلا ويتساءل ما الذي حصل؟ هل تم نقله أم أنه قد عوقب؟ وجهه لا يسر.
بعدها خرجت السيدة تريسا ونادت ويلدا وفاندا بصوت عال على غير عادتها، كانت عادة ترسل الخادمة «ماتيلدا» لأخذهما حين يجهز الغداء أو حين تريد أن تحممهما، أو تبدل ملابسهما. جرت التوءمتان نحوها وهما تلوحان إلى مايكل بيديهما للعودة حالا.
مرت ساعة تقريبا، ثم خرجت السيدة تريسا ممسكة بيد ويلدا وفاندا وركبت السيارة في المقعد الخلفي، ثم وضعت الخادمة ماتيلدا حقيبتين كبيرتين في صندوق السيارة، ثم تحركت نحو الباب الخارجي للمنزل والسيد آرنست يلوح بيده مودعا زوجته وطفلتيه وهن يلوحن له. كان المشهد غريبا جدا، ازدادت التساؤلات في ذهن مايكل ما الذي حدث؟ إن أرسلهم السيد آرنست إلى زيارة بيت أهلها، فلماذا هذه العجلة والحركات المربكة كأنها تريد الهرب لا الخروج إلى الزيارة! غريب أمرهم اليوم! بعدها لوح بيده إلى مايكل فهرع إليه. - نعم سيدي. - مهمتك من اليوم فصاعدا هي مساعدة «ماتيلدا» في المنزل. - أمرك سيدي.
في الأيام التي تلت رحيل زوجة السيد آرنست وطفلتيه من المنزل، حضر ضباط آخرون إلى منزله وأصبحوا مقيمين دائمين فيه، كان مايكل يراهم يجتمعون ويخططون لشيء لم يستطع معرفته إلا أن حالهم كان لا يسر؛ لقد تغيرت تلك الوجوه الجبارة التي لم يدخلها الخوف من أي شيء مذ رآها قبل عدة سنوات، أما اليوم فبات الخوف العنصر الأبرز فيها والأكثر وضوحا. لم يكن يعلم مايكل أن النازية بدأت تخسر الحرب وتتراجع وتفقد البلدان التي احتلتها تباعا، حتى وصلت قوات الحلفاء مشارف بولندا.
كانت الإذاعات النازية تصدح بالأغاني الحماسية وتحاول قدر الإمكان التماسك، ورفع الروح الحماسية لدى مواطنيها، ولا تنقل الصورة الحقيقية لمجريات الحرب، لكنها لا تجد مبررات لتلك الطائرات التي تقصف وتدمر المدن وتقتل العشرات منهم في عمق الأراضي الألمانية. يومها دعا السيد آرنست الضباط إلى اجتماع عاجل في مكتبه الخاص بالطابق الثاني للمنزل، كانت ماتيلدا كالعادة تنظف الصالة وتمسح الغبار من أطراف الأرائك الخشبية والطاولات وزجاج النوافذ بقماش ودلو صغير فيه ماء، بعد إكمالها التنظيف أبقت النوافذ مفتوحة وذهبت إلى المطبخ لتحضر وجبة الغداء. كان مايكل جالسا على الأريكة في الصالة حين هبت ريح قوية ودخلت من النوافذ المفتوحة وأوقعت المرآة المعلقة على الحائط المقابل لها.
هرع إلى أبواب النوافذ وأغلقها جميعا، ثم أقبلت ماتيلدا لترى ما الذي انكسر .. وقبل أن تصل هي وصل صوتها وهي تنادي: ما الذي انكسر؟
أصاب مايكل الذهول لبرهة، هز رأسه واختلجت عيناه، إنه نفس المشهد يوم هبت ريح قوية وانكسرت المرآة في بيتهم بميونخ قبل سبع سنوات تقريبا، يوم نادت أمه من المطبخ «ما الذي انكسر»، أيعقل أن الأسطورة الرومانية تكون صحيحة؟! «إن المرآة تحوي وتعكس روح صاحبها، وكسرها دليل على فنائه وموته. وانكسارها يجلب سبع سنوات من الحظ السيئ؛ لأن الروح بعد موت صاحبها تحتاج إلى سبع سنوات حتى تتشكل من جديد». حصلت تلك الحادثة في نوفمبر من سنة 1938 وهم الآن في يناير 1945، سبع سنوات تقريبا!
هل كان ذلك دليلا أن السنة السابعة هي الخلاص النهائي من القتل والتعذيب وأعمال السخرة وحرق الجثث، والتجارب الطبية الشنيعة، أم إنها أسطورة لا تحصل إلا على الضعفاء من البشر؟!
الفصل الرابع والثلاثون
قرية أنجرلك - تركيا 1914م
على سفح الجبل المطل على القرية تحت ظل شجرة الجوز كان أرتين يتأمل المنظر أمامه، البيوت المبنية من الحجر والطين ومداخنها المرتفعة التي يتصاعد منها دخان رمادي باهت، الطريق المتعرج المؤدي إلى الجبل، حيث تجلس مجموعة من النساء يخبزن بتنور ملاصق لبيت المختار تلمكيان، وأخريات ينظفن الحظائر ويجهزنها ويملأن السواقي بالماء قبل قدوم الرعاة مع المواشي. كانت القرية تعيش شيئا من الهدوء الذي لم تعهده منذ انتهاء الحرب الروسية العثمانية قبل أكثر من ثلاثة عقود، التفت يمنة على صوت أنوشكا، كان بانوس يلاعبها، يقذفها في السماء ثم يلتقطها وهي تطلق ضحكة تملأ المكان. - انتبه!
وضعها بانوس بحضنه وقبل خدها ثم توجه نحو أرتين: لن تفلت من يدي، جاذبية حبي لها أقوى من جاذبية الأرض.
ابتسم أرتين، ثم أردف بانوس قائلا: أحيانا يراودني شعور بأننا خلقنا من روح واحدة، ثم جزأها الرب إلى ثلاث أرواح. - ولم ثلاث، أتود أن تبقيها وحيدة دون أخ أو أخت؟! - لا أدري، أظن أننا اكتملنا. - غريب ما تفكر به يا بانوس.
قاطعتهما أنوشكا بابتسامتها البريئة، فقال أرتين: إنها تشبه باتيل كثيرا. - وأمي تقول ذلك، بل إنها تردد دائما «باتيل ولدت نفسها.» - العجائز لديهن عبارات جاهزة لكل شيء. - إنها حكمة السنين وتجارب الحياة. - لا تنس الموروث الشعبي لا يحفظه عن ظهر قلب سواهن.
ساد صمت بينهما، عاد أرتين يتأمل ويفكر بمصير الثورة بعد سنوات طويلة من القتال والنجاحات الصغيرة والفشل الكثير، سنوات مرت كالبرق، تذكر يوم التقوا هنا تحت ظل شجرة الجوز واتفقوا على الانضمام إلى الثوار، وها هم على حالهم الذي لم يتغير كثيرا حتى بعد مرور خمس سنوات على خلع السلطان عبد الحميد.
كانت الدولة العثمانية تخسر أراضيها هنا وهناك ، بعد معركة البلقان قبل سنتين وهزيمة العثمانيين فيها استقلت بلغاريا وصربيا والجبل الأسود، وتم تهجير مئات الآلاف من المسلمين منها نحو الداخل العثماني، وكان نصيب الولايات الأرمنية كبيرا من أولئك المهجرين لقرب مناطقهم إلى البلقان .. قاطع تفكيره بانوس وهو يقول: أنور باشا سيعجل نهايتهم، ويدخل الدولة العثمانية في الحرب الكبرى مهما كلفه الأمر، وما إن دخلتها لن تخرج منها حية.
شعر أرتين أن بانوس كان يشاطره التفكير، ولربما التفكير بالفوضى التي كانت تعيشها المنطقة يشغل فكر الجميع، وقد تحول كل فرد في شرق الأناضول إلى محلل سياسي لديه رؤيته الخاصة في الأوضاع، وأن الحرب القائمة بين الدول الكبرى هي بداية النهاية وستطرأ تغييرات كبرى في العالم كله، «إنها الحرب التي ستنهي كل الحروب»، بدأت بين إمبراطورية النمسا وصربيا ثم توسعت ودخلت فيها إمبراطوريات ودول عظمى على الطرفين، إنها الحرب الأكبر في التاريخ.
أومأ برأسه أرتين وأخبره: سمعت أنه طلب من قيادة الحزب تحريض أرمن روسيا ضد جيش القيصر نيكولاس الثاني مقابل الاستقلال لولاياتنا، إنه يريد استعادة البلقان من الروس والثأر لخسارتهم، لكنه طلب غبي، هل يرانا حمقى لنصدق وعوده؟ - وهل رفض الحزب طلبه؟ - دون تردد، سمعت فارتان يقول إن روسيا جندت أكثر من مائة ألف من أرمن روسيا في الحرب الكبرى مع جيشها، ونحن لن نقاتل إخوتنا الأرمن مهما كلفنا الأمر. •••
باءت محاولات أنور باشا مع الأرمن بالفشل، ولم يكن بمقدوره الاستفادة منهم إلا بزجهم أمام الروس بعد دخوله الحرب الكبرى وتحالفه مع ألمانيا للدفاع المشترك عن مصالحهما.
ستون ألفا من الأرمن جندوا في الجيش العثماني، وانضم إليهم مئات الآلاف من العرب والكرد والشركس، تم سوقهم طوعا أو كرها من بلدانهم تحت مسمى النفير العام «سفربرلك» للجهاد من أجل الخلافة العثمانية ضد المعتدين الكفار على الرغم من تحالفهم مع الألمان غير المسلمين!
جرت محاولات فرار للمجندين الأرمن من كل وحدات الجيش الثالث المسئولة عن شرق الأناضول وحصل تقهقر للقوات العثمانية في أغلب معاركها ضد الروس مما دفع القيادة العثمانية إلى الإسراع بقرار سحب الأسلحة من الجنود الأرمن وزجهم في أعمال السخرة وإصدار بيان بالخيانة العظمى للجنود الأرمن بحق دولتهم، وأصدر أنور باشا تعليمات صارمة في ذلك «يحظر إشراك الجنود الأرمن في الجيوش المتنقلة ووحدات الدرك المتنقلة والثابتة في الخدمات القتالية أو توظيفهم في مكاتب المقرات العامة أو أجنحة القادة، وكذلك من واجب الجيش وقادة فيالق الجيش والمناوبين عنهم والقيادات كافة أن يقمعوا سريعا وبأقسى الطرق أي معارضة أو اعتداء مسلح أو مقاومة لأوامر الحكومة، وأن يقضوا على أي أعمال عدائية أو مقاومة ويسمح للقادة أن يعلنوا العمل بالأحكام العسكرية فورا وحيثما يرون ذلك ضروريا.»
تحول الجنود الفارون من الخدمة العسكرية داخل الأراضي العثمانية إلى مجموعات قتالية صغيرة، حاولت زعزعة الأمن في المدن وقطع طرق الإمداد للجيش العثماني ومهاجمة خطوط التلغراف بين الوحدات العسكرية، واستخدمت الأسلحة التي تم تهريبها طوال الفترات الماضية من روسيا وإيران، في استمرار عمل هذه المجموعات الثورية.
كانت معركة صاريقاميش على الحدود العثمانية الروسية من جهة أرضروم القشة التي قصمت ظهر البعير في شرق الأناضول بالنسبة للقوات العثمانية؛ إذ جازف أنور باشا بإرسال تسعين ألفا من الجنود في أجواء برد قارسة وعواصف ثلجية ليتسللوا جبل الله أكبر ويفاجئوا العدو الروسي بحركة غير متوقعة، لكن التجهيزات العسكرية لتلك الأجواء الثلجية لم تكن كافية، إضافة إلى وجود أعداد كبيرة من الجنود العرب في جيش أنور باشا الذين لم يستطيعوا تحمل تلك الأجواء القارسة فسقط عشرات الآلاف من البرد على سفح الجبل وخسر العثمانيون المعركة قبل بدايتها، كانت تلك الخطوة الجنونية من أنور باشا سببا كبيرا في تقهقر العثمانيين في شرق الأناضول.
كان أرتين مع مجموعة من الجنود الأرمن الذين فروا من الجيش العثماني باتجاه الحدود الروسية، قرب «بحيرة بالق» الصغيرة، ثم انضمت المجموعة إلى القوات الروسية الزاحفة نحو مدينة وان.
دهش أرتين وهو يسير بين جنود المشاة الروسية بالأسلحة الحديثة التي يحملها الجنود والعربات العسكرية والمدرعات والمدافع التي تجرها سيارات خاصة، كان لأول مرة في حياته يشاهد جيشا منتظما ومسلحا بهذا القدر، شعر أن الجنود الأرمن الفارين من الجيش العثماني عنصر نشاز بينهم، أو قوة فائضة لا يمتلكون ميزة إلا معرفة جغرافية المنطقة والقرى الأرمنية منها والكردية أو التركية.
الفصل الخامس والثلاثون
القدس - فلسطين 1946م
كانت شمس ذلك اليوم تلفظ أنفاسها الأخيرة وهي على حافة السماء البعيدة، تحيط بها هالة من اللون الأحمر الممزوج بالأصفر الداكن، وكأنهما يشيعانه إلى مثواه الأخير معلنين نهاية النهار، ولعل نهاية اليوم نفسه؛ ففي معركة بني إسرائيل مع القوم الجبارين هنا في أرض فلسطين استمرت المعركة إلى حين الغروب فخشي نبي الله يوشع بن نون أن تغيب شمس الجمعة بالكامل فيحرم عليهم القتال بدخول يوم السبت، فنادى: «اللهم احبسها علينا.» فاستجيبت دعوته وتوقفت الشمس عن الحركة حتى أتاهم النصر ودخلوا بيت المقدس، ثم عادت الشمس إلى حركتها الطبيعية فدلت تلك الحادثة على أن نهاية اليوم كانت مع غروب الشمس ولم تكن لحين منتصف الليل.
عند الزقاق المؤدي إلى البيت انتبه حسن إلى رجل بالزي الريفي متلثم بكوفية لا ترى من وجهه إلا عيناه، قد انبثق على عجل من بيت أبي هشام، مر الرجل من جانبه كالبرق وهو يحمل ظرفا توضع فيه الأوراق المهمة عادة. كانت الأزقة خاوية على عروشها وحسن عائد من حارة الأرمن بعد وصولهم من جنين فكر الطريق كله وتساءل، يا ترى من يكون هذا الشخص الغريب؟ لم يخطر في ذهنه إلا أن أبا هشام يدعم المقاومة بماله أيضا، اختلجه شعور بالتعظيم لعائلة أعز صديق لديه، كم ستكون فلسطين مدينة لهذه العائلة العظيمة، أب يمنع الأرض عن اليهود ويدعم المقاومة بماله، وابن يقاتل في سبيل الأرض والوطن .. أخذ نفسا عميقا وتمنى أن يكون كاتبا يوما ما ليخلد أسماءهم على صفحات التاريخ.
لم تكن تلك حادثة عابرة؛ ففي اليوم التالي اختفت عائلة أبي هشام من الحي كله، تجمع أهل الحارة عند الباب، طرقوه مرات عديدة ولم يخرج لهم أحد، بدأ الناس يتساءلون عن سر اختفائهم، فقال أبو أحمد حلاق الحارة: يا أهل الحارة ، إن أبا هشام لا يختفي هكذا دون أن يعلم أحدا بذلك، لا بد أنه أخبر أحدا من أهل الحي.
التفت إلى أبي خالد وكأنه يقصده ثم استرسل: ومن حق الجيرة عليه أن يخبرنا ويطمئننا عنه، فهو عزيز علينا جميعا ونحن نفخر بوجود رجل كأبي هشام بحينا وإن كان قد تعرض لتهديد أو مخاطر فنحن له سد منيع ونفديه بأرواحنا.
ساد صمت بين الحاضرين، ثم علت الأصوات بينهم، هذا يقول: «إنهم الصهاينة قد لفقوا عليه تهمة عند البريطانيين، فعلم بذلك واختفى قبل أن يعتقل.» وأضاف آخر: «لعلهم علموا أن هشاما مع المقاومة.» خرجت أصوات دهشة من بعض الحاضرين وتهامسوا بينهم «هشام معهم»، كبر شأن العائلة في نفوس أهل الحارة أكثر فأكثر، ثم أخبرهم حسن عن ذلك الرجل الغريب المتلثم الذي رآه يخرج من بيت أبي هشام حينها كأن الجميع اقتنعوا أن الأمر متعلق بالمقاومة، وجنود الاحتلال سيحضرون في أي وقت للتفتيش والبحث عنه، فقال أبو خالد: «هيا تفرقوا إذن.» أثناء ذلك سمع دوي انفجار هز المدينة كلها هرع الحاضرون إلى خارج الحي ليروا أين موقع الانفجار، ارتفعت أعمدة دخان من خارج السور القديم، سمعوا أصوات تكبيرات، لقد تم تفجير «فندق الملك داوود» مقر حكومة الاحتلال البريطاني. أمسك حسن ياقة أحد المكبرين: اصمت، لحاك الله! المقاومة لا تفجر مكانا يعج بالمدنيين، ولا تمتلك متفجرات بهذه القوة المدمرة.
تجمع الناس حول مكان الحادث الذي طوقته الجنود البريطانيون بعرباتهم العسكرية، تدافع حسن ليصل إلى مقدمة الجمع فرأى الجانب الأيمن من الفندق قد تهدم من الأمام بطوابقه السبعة وأشلاء الضحايا قد تناثرت على المكان وبين الأنقاض وتحت الركام، لم يسمحوا للناس بالقرب من المكان أكثر، كانت فرق الإسعاف تحمل الجثث وتنقلها إلى المشفى، السيارة تلو الأخرى، تناقل الحاضرون بينهم: الضحايا كثر خمسون، لا بل مائة وأكثر. وكأنهم في مزاد! شعر حسن بالضيق الشديد وقال في نفسه: «بأي ذنب قتلوا يا رب؟» ترحم عليهم وقرأ الفاتحة على أرواحهم، ثم عاد أدراجه إلى الحي.
وقبل حلول الظلام جاءت دورية للجيش البريطاني طرقوا باب أبي هشام، فخرج أهل الحارة إليهم، وصل مختار الحي: ما الذي يجري؟ أهل البيت ليسوا هنا! - أليس هذا بيت أبي هشام؟ سأل مترجم الدورية. - بلى، يبدو أن هناك سوء فهم، أخبرونا ماذا يحصل؟ - عن أي سوء فهم تتكلم، لقد وجدنا جثة ابنه هشام بين ضحايا التفجير، أخبروهم بأن يأتوا لتسلم جثته من المشفى.
عندما سمع حسن الخبر لم يتمالك نفسه، خارت قواه وبرك في أرضه غير مصدق بما سمع، هشام مات! بقي كالصنم توقف عقله عن التفكير، أقبل إليه خالد يخفف عنه ويربت على كتفه، ثم فجأة انبرى حسن من مكانه وهرع نحو المشفى، كانت دموعه تتطاير وهو يركض من زقاق إلى زقاق، وشريط ذكرياتهما معا يظهر أمامه، بمقاطع سريعة وكأنه طائر نسر يحلق فوق أرضية الذكريات يصور له المواقف بعيدا عن متحكمات الزمان، أصوات ضحكاتهما تأتي على مسامعه، صور من المواقف الأخوية، باحة الأقصى، باب المغاربة، ظل الشجرة المعمرة، قبة الصخرة، حبات الصنوبر، وكأن كلها تركض معه نحو هشام الذي أحبهم وأحبوه، تذكر كلامه عن «عمر الصفدي» في تلك الليلة وتأثره به، يبدو أن روحيهما تآلفتا وتعانقتا في السماء الآن.
حضر تشييع جنازته أهل الحي جميعا، أطفال ونساء، شيب وشبان، وأهل الأحياء المجاورة من المسيحيين العم أرتين والست مريم وأنوشكا، امتلأت باحة الأقصى بالمشيعين مع غياب لافت لأبي هشام الذي اختفى مع عائلته اقترب أحدهم من حسن أثناء التشييع: أأنت حسن؟ - نعم أنا هو. - هذه رسالة كتبها هشام لك، قبل موته وأوصاني أن أوصلها إليك عند تشييعه في باحة الأقصى.
انسحب حسن جانبا، جلس تحت الشجرة المعمرة وفتح الورقة بيدين مرتجفتين سقطت دمعة من عينه على الرسالة وبدأ يقرأ: «عزيزي حسن، أرجو أن تكون بخير عندما تقرأ رسالتي، أنت أخي الذي لم تلده أمي، أحببت أن أخبرك بسر أتمنى أن تخفيه عن أهل الحي كلهم، وعلى رأسهم أبوك، سر مؤقت لا بد من أن يتم كشفه يوما ما.» اختلج حسن شعور بالخوف والفضول ابتلع ريقه، وعاد للقراءة: «بعد آخر لقاء بيننا في باحة الأقصى عدت إلى البيت، لفت انتباهي حركة في غرفة أبي، كانت ستارة غرفته مفتوحة شيئا ما، رأيته يحمل رزما من الجنيهات وأوراقا ومستندات يحاول جمعها على عجل ، ووضعها في حقيبة خاصة، أحسست أنه يخبئ سرا كبيرا، بعدها خرج إلينا وأخبرنا بوجوب الرحيل من القدس خلال أيام قلائل، عارضته وسألته عن السبب فلم يجب، وحصلت بيننا مشادة كلامية، هرعت إلى غرفته وأخرجت الحقيبة والمستندات، حاول أن يمنعني منها لكنني استطعت أن أكشف سره، لقد خان أبي الجميع، خان الأرض والوطن وباع كل الأراضي التي اشتراها من الفلسطينيين بأبخس الأثمان لليهود بأضعاف أضعاف سعرها، كانت كلها سندات بيع للأراضي والعقارات؛ أرضكم في أطراف القدس، وأراضي كثيرة، حتى بيتنا الذي في الحارة باعه لهم.» توقف حسن عن القراءة وتذكر الرجل الغريب الذي كان يحمل ظرفا عندما مر من جانبه البارحة، شعر بوخزة في قلبه، وعاد ليكمل القراءة: «حسن، أرجوك إذا انكشف سر أبي لا تكرهني بسببه، أنت، أنت بالذات من يعرف هشاما حق المعرفة، أنا لا أخون ولو على دمي، أعلم أن أهل الحي سيندمون على تشييعهم لي يوما ما، أخبرهم أنني تركت البيت لهذا السبب وأخبرت عنه قيادة المقاومة، وأنني صادق في تضحيتي لأرضنا، أخبرهم أن هشاما ضحى بنفسه من أجل فلسطين ولم يرض بفعلة أبيه، أخبرهم أن روحه كانت رخيصة من أجل وطنه.» «وأنا أكتب هذه الرسالة لك أشعر أن الموت قريب مني قريب جدا، وروح عمر الصفدي تأتيني كل يوم في المنام وتناديني: لقد اقترب موعدنا، لقد اقترب لقاؤنا. هذه رسالتي لك، وأستحلفك بالأخوة الصادقة التي جمعتنا، ألا تترك زيارة قبري كل حين، وتتحدث إلي كما كنا نتحدث تحت ظل الشجرة المعمرة عند باب المغاربة. وأخبرني عن أنوشكا وحبكما، أخبرني عن كل شيء، وأنهي بما قال الشيخ إبراهيم: «وعد الدنيا إلى خلف، وبقاؤها إلى تلف، وبعد عطائها المنع، وبعد أمانها الفجع، طواحة طراحة».» «أخوك ورفيق عمرك، هشام».
وضع حسن الورقة على صدره وبكى بكاء شديدا على الرسالة وما فيها من أوجاع ومآس، خيانة ووفاء، صدقه وكذب أبيه، أمانة وخداع وإيثار وطمع، اجتمعت في وصيته كل النقائض التي تزيد الألم ألما وتعمق الجراح جرحا. ثم قال في نفسه : بعد فقدك لعزيز كأن كل شيء يموت معه، ثم تولد الأشياء بعده من جديد!
أول يوم دونه،
أول أسبوع دونه،
أول شهر دونه،
أول رمضان دونه،
أول عيد دونه،
أول دخول من باب المغاربة دونه،
أول جلسة تحت ظل الشجرة دونه،
أول قضمة لحبة صنوبر دونه،
أول نظرة إلى قبة الصخرة دونه،
كل شيء حولك يولد من جديد ويرتبط به وكأنه يصفر عداد السنين في رزنامة حياتك.
الفصل السادس والثلاثون
معسكر أوشفيتز - بولندا 1945م
لم يتخيل مايكل يوما أن يرى الشحوب والاصفرار في وجوه ضباط فرق الإس إس الألمان أصحاب العرق النقي كما يصفون أنفسهم، حسب أن ملامح الخوف لا تعرف طريقها إلى تلك الوجوه القاسية من بأسها وشدة بطشها، أو أنها ملامح ظالمة طاغية لا تعرف سوى وجوه الفقراء والمساكين أمثال المعتقلين في المعسكرات والغيتوات والمحتشدات، لكن ما من سبيل، الجميع من طينة واحدة لا عرق ولا أصل يؤثر أو يقف عائقا أمامها، كان مايكل من قلائل اليهود الذين غمرتهم الفرحة العارمة برؤية تلك الملامح التي كسرت العظمة النازية وأنفتها وكبرها.
قبيل الغروب خرج السيد «أرنست» من مكتبه، تقدم صوب مايكل بخطوات وئيدة وهو يحمل بعض الماركات النقدية بيده، ابتسم في وجهه وقال: هذه أجرة الأشهر الستة التي قضيتها في خدمتي.
حدق مايكل في عينيه مستغربا، ثم أشار بإصبع السبابة نحو صدره: أجري أنا؟! - نعم يا مايكل، أنت تستحقها، خذها من يدي ستنفعك. - لكن يا سيدي إن أخذتها فسيعاقبني حرس باب المعسكر؛ فهم يفتشونني حين أغادره وحين أعود إليه، سيتهمونني بالسرقة، ولربما أعدم عند الباب، ونحن منذ متى نأخذ أجرا يا سيدي! نحن نخدمكم دون مقابل، مجرد نقلك لي إلى هذا المكان فضل لن أنساه لك طوال حياتي. - خذها، وأنا سوف أوصي الحرس بألا يتم تفتيشك اليوم عند الباب. - هل هنالك أمر خطير يا سيدي؟ معذرة لكن الذي أراه منذ رحيل ويلدا وفاندا والسيدة تريسا هو أن الأمور قد تغيرت كثيرا. - لا توجد خطورة عليكم .. هيا عد إلى المعسكر. «لا توجد خطورة عليكم». كانت الجملة التي تشغل تفكير مايكل طول طريقه إلى المعسكر: «لماذا خصنا نحن؟ ثم من نحن بالتحديد؟ المعتقلون جميعهم؟ أم اليهود فقط؟ ثم ما هي هذه الخطورة أصلا؟»
عندما دخل من باب الثكنة تذكر روبرت فضرب كفا بكف ندما، آه كيف نسيت جلب بعض الأطعمة التي كان يشتهيها روبرت ما دام السيد آرنست أوصى بعدم تفتيشي عند العودة؟! دخل الثكنة وهو يردد: غدا سأجلب له، غدا أفعلها وإن اضطررت للتحدث إلى السيد آرنست عن ذلك. - روبرت، أين أنت؟ - أين أكون أيها الأبله! في غرفة مسئول المعسكر أحتسي القهوة؟!
ضحك مايكل بأعلى صوته، ثم قفز إلى سريره. - انظر، إنها ماركات قد أعطانيها السيد آرنست. - وكيف سمحوا لك بإدخالها إلى هنا؟ - لقد أوصى حراسه بعدم تفتيشي لدى الباب. - وما فائدتها هنا؟! لا تفرق شيئا عن الأوراق العادية ما دمت لا تستطيع بها شراء رغيف خبز. - لا أدري، لكنه قال خذها ستنفعك. روبرت لقد تغيروا كثيرا، لو رأيت أولئك الضباط لما حسبت أنهم يمتون بصلة إلى النازية سوى بزاتهم العسكرية تلك، والصليب المعقوف أعلى قبعاتهم. - لم يحصل شيء، إنك واهم، لربما هؤلاء أدركوا أن عقوبة ما ستطالهم؛ فالمنظومة النازية مهما كانت قاسية معنا فهي أقسى على من يخونها أو يتردد في تنفيذ أوامرها من المنتمين إليها بأضعاف كثيرة. - ربما يكون كما وصفت، لكنه ذكر جملة شغلتني منذ خروجي من منزله «لا توجد خطورة عليكم»، هنالك خطورة قادمة، لكن لم يفصح عنها. - لعلهم سينقلونه من هنا، أو أنه يتعرض لضغوطات من القيادة، نحن لا نعلم ماذا يدور في الكواليس يا صديقي. - إذا كان الأمر كذلك فالسيد آرنست كان مقصده من إعطاء الأجر أن اليوم كان آخر يوم لي عنده. - متوقع جدا. - وأعود للعمل الشاق مرة أخرى؟ لقد اعتاد جسدي على الراحة. - استعد للغد يا صديقي، المعول قد اشتاق إلى قبضتك. - يااه! - هيا ارحل إلى سريرك، أنا متعب ولا أقوى على الكلام بعد.
كانت فكرة العودة إلى الحفر وتكسير الحجارة وحمل المعول من الفجر إلى حين غروب الشمس والمشقة والعناء، هما شغل فكر مايكل وعقله مع شعور بقبضة في القلب لرؤية تلك المساحات الشاسعة اللعينة ومنظر العمال هنا وهناك بملابسهم الرثة وأجسادهم الهزيلة.
وبينما هو في قمة البؤس ويمني النفس أن تطول تلك الليلة قدر البعد بينه وبين الموت، فجأة سمع صوت انفجار قريب هز الثكنة كلها وأيقظ جميع الراقدين على أسرتهم، وتلا الانفجار أصوات طلقات نارية، واكتمل المشهد بتحليق الطائرات فوق المعسكر، تجمعوا قرب الفتحات الهوائية الصغيرة أعلى الجدار في الثكنة يحدقون منها لعلهم يبصرون شيئا يقودهم لفهم ما الذي يجري في الخارج، العربات العسكرية كانت لا تهدأ وهي تصدر أصوات عادمها العالي والطائرات تحلق بشكل منخفض، والمدفعية تطلق الصواريخ، إنها معركة لا محال. أقبل روبرت نحو مايكل وسحبه من وسط الجموع التي تراقب ما يحصل في الخارج. - الآن فهمت مقصد السيد آرنست. - ماذا فهمت؟ - «لا توجد خطورة عليكم»، يقصدنا نحن المعتقلين، الحلفاء قادمون سينقذوننا يا مايكل. - هذا يعني أني غدا لا أحمل المعول اللعين؟
قالها بفرح يغمر وجهه. - هذا الذي يهمك، المعول؟ فعلا إنك أبله، سنكون أحرارا يا أحمق! عن أي معول تتكلم؟! - لا تسبق الأحداث، من قال إن الحلفاء سينتصرون؟ - أنا أقول ما دام حال ضباط النازية كما وصفت، فتلك دليل الهزائم المتكررة .. أرجو من الرب أن يحمينا في هذه الليلة. - مم تخاف؟ - أخشى أن يقوموا بتصفيتنا قبل الانسحاب .. صبرنا كل تلك السنين ونموت قبل أيام أو ساعات من التحرير! أي قدر تعيس هذا إن حصل؟ - لا يهمني البقاء على قيد الحياة بعد الآن، المهم أني رأيت الأيام الأخيرة للنازية.
استمرت المعركة إلى منتصف الليل، الطائرات لم تهدأ في سماء المعسكر، والمدفعية ما لبثت تقصف منذ بدء المعركة وأضواء الانفجارات ترى من بعيد وتضيء المكان لبرهة وتختفي.
بعدها فجأة ساد صمت مخيف سوى طلقات نارية متقطعة، وصوت طنين طائرة يبدو أنها تحلق على ارتفاع عال. ما الذي جرى؟ هل انسحبت النازية من المعسكر؟ أم انتهت المعركة بانتصارهم على المهاجمين ؟ كان كسر الباب والخروج مجازفة كبيرة، والبقاء دون معرفة ما الذي جرى لا يمكن تحمله .. لم ينم أحد تلك الليلة إلى الفجر.
حان وقت مجيء الجنود لسوقهم إلى الطابور المقيت، لكنهم تأخروا على غير عادتهم، زادت الظنون يقينا وبدت البهجة تظهر على وجوه المعتقلين، الالتزام بالوقت من المقدسات النازية الأساسية، تأخرهم يعني وجود أمر مستجد .. لم يأتوا بأية حركة خشية من أنهم ألغوا الخروج للعمل جراء معركة الليلة الماضية، لربما الوضع في المنطقة غير مستقر ويتوقعون هجوما في أي لحظة.
تأخروا كثيرا حتى بزغت الشمس وتسلل ضوءها من فتحات التهوية المستطيلة للثكنة، في مثل هذا الوقت في العادة يكون كل معتقل في المكان المخصص له للعمل، وبما أن للصبر حدودا، وهذه الحدود لم يتم رسمها لكل البشر بنفس المقياس، يبدو أن أحد المعتقلين لم يتحمل أكثر من ذلك، فركل الباب بكل ما أوتي من قوة، لكنه لم ينفتح، أصدر صوتا عاليا فصمت الجميع فجأة وشحبت الوجوه مرة أخرى، إن سمعوا الصوت فالعقاب الجماعي آت لا محالة، انتظروا وقتا كافيا ليصل الجنود إلى الثكنة، لكن ما من أحد .. تشجع آخر وآخر وتناوبوا على ركل الباب حتى كسر القفل وانفتح الباب.
خرجوا إلى الساحة، لا يوجد أحد .. هدوء مخيف، ألقى مايكل نظرة إلى أبراج المراقبة، الحراس غير موجودين، بدأ المعتقلون يركضون كالمجانين نحو الثكنات يكسرون الأبواب فيخرج معتقلون آخرون وآخرون، حتى عج المكان بهم بلباسهم الرث المخطط وأجسادهم النحيلة والمثلثات الملونة على صدورهم مع أرقامهم.
حالما سمعوا صوت دبابة تقترب من الساحة هرع الجميع إلى ثكناتهم، حسبوا أن النازية قادمون، أغلقوا الباب على أنفسهم وتسلق البعض ليسترق النظر إلى الساحة من فتحة التهوية في أعلى الحائط، وبدأ يخبرهم بما يرى، بلغت القلوب الحناجر، والكل يمني النفس بالخلاص. - وصلت دبابة.
ثم يسكت. - وصلت عربة عسكرية غريبة.
سأل أحد المعتقلين: أخبرنا هل هم النازية أنفسهم؟ - وكيف لي أن أعرف؟ - من البزة العسكرية أيها الأحمق! - لم ينزل أحد من الدبابة ولا من العربة.
ظل يراقبهم إلى أن صاح: نزل أحد الجنود لقد نزل. - أمن النازية؟ - لا أظن، إنني لأول مرة أرى هذا الزي العسكري، ها قد خرج إليهم المعتقلون ولم يفعلوا لهم شيئا، إنهم ليسوا نازيين.
عمت الفرحة والبهجة والسرور المكان وطغت على وجوه المعتقلين، وتعانق الجميع مع بعضهم البعض، ركض روبرت نحو مايكل فاتحا كلتا يديه وعانقنه بكل ما أوتي من قوة وهو يبكي ويضحك في الآن نفسه. - لقد تحررنا يا مايكل، تحررنا!
لم يفرح مايكل كثيرا كما فرح الجميع، كانت دموعه تذرف دون إرادة وكأن السعادة التي نحلم بها تتفق مع أسوأ الأوقات؛ لتحمل في جوفها ألما يزيح بهجة مجيئها، قال في نفسه: ماذا لو وصل هؤلاء قبل موت ديفيد وأنقذنا حياته؟ ما الذي ربحته النازية من التسبب في موتك يا ديفيد؟ كيف لي أن أسعد بحريتي وأنا السبب الأساسي بموتكما أنت وسارة؟ فليغفر لي الرب خطيئتي! - أين ستكون وجهتك؟ - سأرجع إلى وارسو علني أجد والدتي هناك، وأنت؟ - أنا أنتظر دخول الحلفاء إلى ألمانيا، ثم أعود لقريتنا علني أجد أحدا من أهلي، هذا إن بقوا على قيد الحياة إلى الآن. - تعال معي إذن، تمكث في وارسو لحين دخولهم ألمانيا.
قبل العودة كان الجوع قد أخذ منهما مأخذه، هرعا نحو بيت من بيوت ضباط فرق الإس إس، كان جنود الحلفاء فيها يبحثون عن الأوراق والمستندات والخرائط، توجها مباشرة إلى المطبخ لم يمانعوا تحركاتهم في المعسكر، كان المطبخ مليئا بالأطعمة، اللحم والخضار والفواكه والحليب والجبن والخبز الطري وكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، كان روبرت يأكل بكلتا يديه بشراهة حتى تنتفخ وجنتاه وبالكاد يستطيع إغلاق فمه، لا يدري أيمضغ الطعام أم يبلعه حتى كاد أن يختنق. - ما بك تأكل كالمشردين! لن يسرق طعامك أحد، على رسلك. - لو لم يشبع بطنك ذلك النازي اللعين لكنت تفعل مثلي أو أكثر. - السيد أرنست يختلف عن النازية كثيرا يا روبرت، على الأقل كان يحمل في قلبه قليلا من الرحمة تجاهنا. - مهما يكن فهو نازي لعين. - أكمل طعامك، سأبحث عن ملابس نرتديها عند عودتنا إلى وارسو. - خيرا تفعل.
الفصل السابع والثلاثون
مدينة وان - تركيا 1915م
أعمدة دخان أسود كثيف كانت تتصاعد من أحياء متفرقة في وان، أصوات طلقات نارية متقطعة تأتي بين الفينة والأخرى، المدفعية العثمانية تقصف الحي الأرمني بالقنابل، حركة الجنود ترى من التلة البعيدة وهي تستعد للمواجهة المرتقبة، الأعلام الحمراء ترفرف فوق المباني العالية، مشاهد نزوح للأهالي بالاتجاه البعيد نحو القرى الغربية لمدينة وان، كان هنالك خوف ورعب من القوات الروسية والمجاميع الأرمنية التي عمدت إلى مجازر بشعة بحق الأكراد والأتراك في تقدمها نحو مدينة وان، وهول الناس أخبار تلك المجازر حتى أصبحت هذه القوى تحتل القرى دون مقاومة تذكر.
أثناء تقدم أرتين مع الجيش في وحدة المشاة القتالية، تعرضوا لإطلاق نار من إحدى القرى الكردية على طريقهم، وقع عدد من الجنود جرحى وتم إسعافهم سريعا، بعدها وجهت المدفعية على القرية وتم قصفها بست قنابل، فتهدمت بعض البيوت الطينية من جراء القصف وهزة الانفجارات، كانت أصوات بكاء الأطفال وصيحات النساء قادمة منها، في مدخل القرية ظهرت أمامه امرأة من أحد البيوت وهي تحتضن رضيعها وتهرع خارج القرية هاربة، كانت ترتدي الزي الكردي النسائي؛ جلبابا أزرق فضفاضا مع عباءة سوداء ذات أكمام طويلة تتطاير مع الريح، وجه أرتين فوهة بندقيته صوبها، وقبل أن يرديها قتيلة تذكر العصابات التي كانت تغير على قريتهم وتقتل النساء والأطفال دون رحمة، تخيل أنه لو فعلها، لا يختلف شيئا عمن كانوا سببا في انضمامه للثوار، وفي خضم هذه الأفكار في مخيلة أرتين والمرأة تبتعد عن ناظره سقطت فجأة، ظن أن تعيسة الحظ قد تعثرت، التفت إلى يساره وإذا بجندي يلوح بيده فرحا وينادي: «لقد أصبتها.» بعدها توجه إليها، كان الطفل يصرخ من شدة البكاء، وقف الجندي على رأسها وأطلق النار على صدر الرضيع وكأنه يقتل كلبا لا إنسانا من لحم ودم.
بعدها تم إعدام جميع من وجدوا في القرية من النساء والأطفال والشيوخ رميا بالرصاص، إلا أولئك المسلحين الذين استسلموا بعد قتال دام لعدة ساعات ، فتم تعذيبهم حتى الموت، ثم حرقت تلك الجثث ومنازل القرية بالكامل، كانت حربا شعواء منزوعة الرحمة من الطرفين، حرب إبادة جماعية، كانت وحشية المقاتلين الأرمن أضعاف وحشية الجنود الروس، دوافع الثأر جعلتهم لا يميزون بين مذنب وبريء، الكل أصبحوا أعداء ويجب قتلهم. لم يستسغ أرتين تلك الوحشية ولم ير لها أي مبرر، لكن لا سيطرة له عليهم، هو الآن ليس قائدا لمجموعة الاغتيالات كما كان أيام الثورة، بل جنديا بسيطا تحت إمرة الجيش الروسي لا يتقدم خطوة للأمام إلا بأمر ولا يتراجع إلا بأمر.
على المدخل الشرقي لمدينة وان تحركت قوات المشاة ومعهم بعض من الجنود الخيالة بهجوم مكثف لفتح الطريق إلى الحي الأرمني، وبعد قتال شرس وقصف بالمدفعية واشتباكات بين الجنود دامت إلى حلول الظلام، انسحبت القوات العثمانية إلى حي المسلمين خلف سوق المدينة، وتم فتح الطريق أمام دخول القوات الروسية داخل الأحياء الأرمنية، ولاقتهم الأهالي من الأرمن بالأهازيج والفرح بوصول المنقذين لهم من الحصار والقصف اليومي لعدة أسابيع.
توجه أرتين سريعا إلى منزلهم في الحي الأرمني لعله يجد بانوس أو غريغور هناك، لكن المفاجأة كانت أن البيت كان مهدما بقنابل المدفعية العثمانية، صلى للرب أن تكون زوجته وابنته قد أرسلهما بانوس إلى القرية قبل نشوب المعركة. وبينما أرتين يتفحص البيت وينبش عن الذكريات بين الحطام والجدران المهدمة، سمع رجلا يتنحنح خلفه، التفت إليه فإذا بغريغور واقف أمامه والدموع تذرف من عينيه، انقض عليه أرتين وأمسكه من ياقته بشدة وغريغور مرتخ لم يأت بحركة. - أخبرني ماذا حصل؟ تكلم هيا! - لقد ماتت باتيل وابنتها أنوشكا في القصف قبل عدة أيام.
عندها خارت قوى أرتين وصرخ بوجهه: هذا ليس وقت مزاحك الثقيل يا غريغور. - هذه ليست مزحة، لقد دفنتهما بيدي هاتين. - يا يسوع عونك، أخبرني أين بانوس الآن، أين هو؟ - اهدأ يا أرتين، أرجوك أن تهدأ، سأخبرك بكل شيء، فقط اهدأ قليلا واترك ياقتي ستخنقني هكذا. - حسنا تركتها، هيا تكلم، أين هو؟ أريد رؤيته، هيا خذني إليه. - بعدما أخرجنا جثة زوجته وابنته من تحت الأنقاض ورآهما في تلك الحالة، صار كالأسد المجروح حتى إنه لم يبك عليهما من هول الصدمة، جلس بقربهما ووضع يديه على رأسيهما وأقسم أن يثأر لهما. بعدها حمل سلاحه وتوجه إلى الخطوط الأمامية، حاولت أن أمنعه لكنني لم أستطع.
للمرة الأولى أعترف أنه كان أشجع منا جميعا، كانت عيناه تقدحان شرارا، لم يكن بانوس الذي أعرفه، حتى إنه لم يفكر بدفنهما، لا أدري لربما لم يرد أن يجف الدم قبل أن يثأر لهما.
ثم سكت غريغور وصد وجهه عن أرتين وهو لا يريد أن يكمل الحديث. - هيا أكمل، ماذا حدث بعد ذلك؟ - قاتل بكل شراسة في الخطوط الأمامية، وكان سببا رئيسيا في صد إحدى الهجمات المباغتة للجيش العثماني من جهة كنيسة ديره التي لو وقعت بأيديهم لسقط الحي الأرمني بأكمله ولحدثت مجزرة عظيمة للأهالي، فقتل منهم عشرة جنود، لكنه ... - لكنه ماذا؟ - سقط شهيدا بعدها، كان في صدره آثار ثلاث طلقات نارية.
وقع أرتين أرضا من شدة هول الخبر، حمله غريغور إلى أقرب حائط اتكأ عليه، فنظر إلى غريغور مبتسما وعيناه تذرفان الدموع بلا إرادة. - عندما كنا على سفح الجبل قال لي: «يراودني شعور بأننا خلقنا من روح واحدة ثم جزأها الرب إلى ثلاث أرواح.» لم أفهم يومها ماذا كان يقصد، لم أفهم أنه كان يريد القول إن موت أحدنا هو موتنا جميعا؛ لأن الروح واحدة .. لم نفهمك يوما يا صديقي.
أومأ غريغور مبتسما والدموع تنهمر من عينيه: آه يا بانوس، ليتني سمعت كلامك يوم ترددت بالخروج معنا من القرية إلى «وان»، وقلت يومها: «نحن ندافع عن أهلنا هنا في القرية، وهناك سندافع عن أبناء جلدتنا من الأرمن، ما الفرق في ذلك، لا، بل أهل القرية بحاجتنا أكثر من غيرهم.» ليتنا بقينا نقاتل العصابات التي كان همها سرقة الخراف والأموال، ليتنا يا بانوس ليتنا.
ثم أجهش بالبكاء، اقترب منه غريغور وحاول أن يهدئه: كفاك تعاتب نفسك يا أرتين، الموت بيد الرب «ليس لإنسان سلطان على الروح ليمسك الروح ، ولا سلطان على يوم الموت». هيا يا أرتين أعني على نفسك ودعني آخذك إلى مكان آمن، سيبدأ القصف في أي وقت لا محال.
كان غريغور يردد آيات من الإنجيل بصوت مبحوح، وقد لف أرتين ذراعه حول رقبته ويمشيان الهوينا في الزقاق المؤدي نحو الإرسالية الأمريكية القديمة، مر على ذاكرته أيامهم الجميلة مع بعض، أخرج شهقة وهو يقول لغريغور: كنا عندما نذكر الموت نضحك ونقول لبعضنا البعض: إذا مات أحدنا فسيرقص الباقيان في عزائه ويوزعان الحلوى فرحا بخلاصهما منه.
أصدر غريغور نحيبا وهو يهز رأسه دون أن يستطيع الكلام. - كنا نقول: الأرض لا تتحملنا في بطنها يوما واحدا؛ لذلك فهي تدعو وتصلي للرب كل يوم ألا يأخذ أرواحنا كي لا تتأذى معدتها الكبيرة بسببنا. يا للطفولة! كم هونت وحقرت أخطر ما يخاف منه الإنسان في الحياة حتى جعلتنا نضحك للموت!
الفصل الثامن والثلاثون
القدس - فلسطين 1946م
الخيبة اعتلت الوجوه، والصمت ساد المكان، تصاعد دخان القهر والحيف من أفواه الحاضرين وكأن المقهى تحول إلى عزاء مفتوح لأهل الحي جميعا، عزاء الثقة التي اهتزت في النفوس، عزاء الوفاء للأرض والوطن. اكتشف حسن يومها أن العزاء ليس فقط لمغادرة روح جسد إنسان، لا، بل هنالك عزاءات أعظم أثرا وأعمق جرحا في النفوس منها في الحياة.
بعدما انكشف سر الاختفاء المفاجئ لأبي هشام، وتناقل الناس أخبارا تقول إن هناك من رأوه يركب سفينة متجهة إلى بريطانيا مع عائلته وقد ارتدى لباسهم وحلق شاربيه ووضع قبعة سوداء على رأسه. خرج صوت من بين الحاضرين: «لقد باع نفسه وشرفه قبل أن يبيع أرضه.» أردف آخر «سيلحقهم العار إلى أحفاد أحفادهم.» لم يحتمل الموقف حسن، وثقل عليه أجواء المقهى المليء بالخيبة والخذلان، ضاق نفسه، تذكر يوم الخيبة عند فشل الثورة الكبرى قبل عدة أعوام، وخيبة هزيمة ألمانيا في الحرب الأخيرة. قال في نفسه: خيبات متكررة تنهال علينا من القريب والبعيد، أينما أدرت وجهك رأيتها بارزة ظاهرة على الوجوه وكأنها أصبحت السمة التي تميزنا عن باقي الشعوب!
لم يكن لديه من يخفف عنه ثقل ما يحمله غير هشام، حتى لو كان تحت التراب فمجرد شعوره بالقرب منه يخفف عنه الكثير. جثا على ركبتيه ونثر حبات الصنوبر على قبره، قرأ سورة الفاتحة على روحه، ثم أخبره أن أهل الحارة لا يذكرونه بشيء، لا بخير ولا بشر، وكأن ما فعله أبوك قد أنساهم إياك، لا تحزن يا صديقي؛ فالشر يغطي الخير مهما كان حجمه صغيرا، هكذا نحن البشر، بل هكذا هي الحياة، لا إنصاف فيها لأحد. وما دمت خرجت من الدنيا فلا يضيرك نسيانهم ما ضحيت به من أجلهم.
سمع حسن خلفه حركة، التفت وإذا بأنوشكا وعليها فستان أسود طويل وشال أبيض شفاف يغطي جزءا من شعرها المنسدل على وجهها، مسحت الدموع من عينيها بأطراف أناملها، صلت للرب من أجل هشام، وقبلت الصليب الذهبي الذي كان يتدلى على رقبتها وجلست بقرب حسن. - تبكينه وأنت لم تريه في حياتك! - أبكيه لأجلك، عندما رأيت تأثرك وبكاءك الشديد في يوم التشييع علمت مدى حجم فقدك الكبير له، شعرت أن لا أحد يشيعه بصدق غيرك. - هشام لم يكن صديقي فقط يا أنوشكا، هشام كان أخي وسندي وموضع سري، وشريك ذكريات لا تنسى. بفقده هوى ركن كبير في وتحطم إلى الأبد، هشام لا يعوض أبدا يا أنوشكا.
ساد صمت بينهما، مكثا يتأملان القبر لدقائق حتى فاجأت أنوشكا حسن بقولها: إن تزوجنا ورزقنا الرب بطفل فسنسميه هشاما.
ابتهج حسن وقال بدهشة: أحقا ما تقولين؟ - نعم؛ فاسمي كان على اسم بنت بانوس أعز أصدقاء أبي كما أخبرتك من قبل، ما الضير أن يكون اسم ابني على اسم أعز صديق لزوجي. يبدو أن قدر أسمائنا متعلق بأناس ضحوا بأنفسهم من أجل أن يحيا الآخرون.
أعطاها حسن ابتسامة مليئة بالدفء ونظرات مليئة بالحب، وأمسك يدها بلطف، هاجه شعور كبير بأن يرتمي إلى حضنها ويبكي كما يبكي الأطفال بأحضان أمهاتهم، لكن موانع كثيرة حوله حالت بينه وبين ما يريد. - حسن أريد أن أخبرك بأمر مهم.
هز رأسه دون أن يتكلم. - لقد قرر أبي الرحيل من القدس. - أنت أيضا تتركيني كما فعل هشام! - أنا لا أريد ذلك، لكن أبي غير مطمئن للأوضاع هنا، يقول جنين أكثر أمنا وأبعد عن المشاكل. تفجير الفندق زاد الأمور سوءا، ولربما يعقبه تفجيرات أخرى، من يدري. - قبل قليل كنت تتكلمين عن زواجنا وسنسمي ابننا هشاما، والآن تخبرينني بأن هذا لقاؤنا الأخير! - لم أقل هذا لقاؤنا الأخير، قد زرت بيتنا هناك وتستطيع زيارتنا متى شئت. - افعلي ما تشائين. - لا تتكلم معي هكذا. - وكيف أتكلم معك؟ تتركينني وأنا بأمس الحاجة لوجودك بقربي؟! ماذا أقول لك! رافقتك السلامة، انتبهي لنفسك كما يفعل الغرباء!
اغرورقت عيناها بالدموع، كان حسن يتجنب النظر إلى عينيها لكيلا يضعف ويبكي هو أيضا. - حسن أرجوك افهمني، أنا لا أريد ذلك، هنا أنت وصديقاتي ومدرستي وذكرياتي، أتظن أنني فرحة على فراقكم جميعا والذهاب للعيش وحدي هناك في تلك القرية النائية؟ كيف أمنع أبي وقد عزم الرحيل وأخبر صديقه أبا يوسف بذلك؟
أطلق حسن زفيرا طويلا واقترب من شاهد قبر هشام وقال: أتسمع يا صديقي؟ ستتركني أنوشكا أيضا.
أخرج قهقهة مليئة بالأسى، ثم رفع رأسه إلى السماء ونادى: يا إله الأرض والسماء، إن كنت قد كتبت علينا الفراق فلماذا عرفتني بهم من الأساس؟ ما ذنبي وما جرمي لأعذب هكذا؟ - اهدأ يا حسن، ولا تسيء الظن بالرب.
انكب على قبر هشام وهو ينتحب بصوت مسموع، لم تدر أنوشكا ماذا تفعل، أخرجت منديلها ووضعته بيد حسن، ثم هرعت نحو الحي وهي تبكي.
لم يحتمل حسن فراقين مرة واحدة، فراقا تحت ظل التراب وفراقا تحت ظل المسافات البعيدة، مكث في غرفته أياما لا يخرج منها لا للعمل مع والده ولا لأي شيء آخر، لا يوجد شيء يستحق الخروج من أجله، لا هشام ينتظره تحت ظل الشجرة المعمرة عند باب المغاربة، ولا أنوشكا ستعود من المدرسة ليوصلها إلى البيت.
كانت سكينة تحاول جاهدة أن تخرج أخاها من جو اليأس الذي أحاطه بنفسه، لكن دون جدوى. - لقد التقيت بها قبل أن ترحل.
لم يجلب انتباهه ذلك الخبر. - كانت تذرف الدموع دما على فراقك، لقد أوغلت في قلبها يا فتى. - أرجوك يا سكينة اتركيني وحدي.
بعد الحادثة تغير حسن جذريا وكأنه أصبح إنسانا آخر، لا يمزح مع أحد، لا يضحك البتة، بالكاد يظهر ابتسامة بوجه أحد إذا مازحه، صار جديا على غير عادته، يتكلم بثقة كبيرة، ولا يسمع له صوت في البيت، لا يبادر بالكلام مع أحد، لزم الصمت فوهب الهيبة، شعر أبو خالد أن ابنه أصبح رجلا للتو، وتخلص من مراهقته وأصبح بالإمكان الاعتماد عليه الآن، زاد احترام خالد له في البيت والدكان، حتى في المقهى وبين أهل الحارة تغيرت نظرة الناس إليه، وتعاملهم معه.
عند قبر هشام، وضع حسن يده على شاهده، وأقسم بتراب قبره الشريف وبدمائه الزكية التي أريقت من أجل هذه الأرض المباركة أن يكمل ما انتهى إليه هشام وينضم للمقاومة.
في أول عملية له مع المقاومة، استبسل حسن وقاتل بشراسة واستطاع قتل ضابط الدورية بحركة بطولية لفتت انتباه الجميع، والتف حوله المقاتلون بعد العملية، يحيونه ويمدحون شجاعته وكيف انقض على الضابط وقتله، سمع حسن القائد يقول لأحد مساعديه: «أين كان يختبئ هذا الأسد عنا؟» أطلقوا عليه خليفة «عمر الصفدي» تثمينا لشجاعته وإقدامه في القتال.
كان يمر على حسن لحظات يستغرب فيها من نفسه، كيف يمكن لذلك الفتى الذي كان يخشى صوت الطلقات النارية على بعد مئات الأمتار، وتصيبه رعشة ورهبة منها، أن يدخل اشتباكا ضاريا مع قوات الاحتلال ويطلق النار من بارودته هو، ويقتل الأعداء دون أن يهتز له جفن! كيف كان يجهل كل هذه الشجاعة المطمورة في جوفه؟
الفصل التاسع والثلاثون
وارسو - بولندا 1945م
كانت رائحتهما كريهة؛ إذ لم يكن يسمح لهم بالاستحمام لفترات طويلة، اعتلى الدرج الخشبي نحو الطابق العلوي حيث غرفة نوم الضابط، فتش الخزانة، كان فيها بزتان عسكريتان وثلاثة بناطيل وخمسة أقمصة ورداءان، أحدهما أسود اللون والآخر أخضر باهت، وملابس نوم وثلاثة أزواج أحذية من الجلد الطبيعي، لفت انتباهه صورة مؤطرة على طاولة خشبية صغيرة قرب السرير ، ألقى نظرة فيها، كانت صورة امرأة تحمل طفلا في الخامسة من عمره، يبدو أنها زوجته وابنه، استلقى على السرير حاملا الصورة بيديه ويفكر في غرابة الإنسان، هذا المخلوق العجيب كيف كان يقتل ويتسبب في قتل الأطفال والنساء في النهار ثم في الليل يضع هذه الصورة على صدره ويحضنها شوقا إلى طفله وزوجته؟! كيف يقسو من يحمل هذه المشاعر المرهفة؟! ألم يفكر يوما ماذا لو حل بابنه ما يحل لأبنائنا بسببهم؟ أسئلة لا يمكن إيجاد أجوبتها حتى لو كان صاحب الصورة أمامه.
توجها إلى وارسو بإحدى العربات العسكرية للحلفاء، وللمرة الأولى صعد مايكل على الصندوق الخلفي لعربة عسكرية دون الخوف من مصير مجهول أو اعتقال بلا سبب يذكر، كانت نظراتهما هو وروبرت تتحدث دون النطق بكلمة وترتسم على وجهيهما البسمة والفرح، أمر لا يصدق، البارحة في مثل هذا الوقت كنا معتقلين يائسين عبيدا مذلولين مهانين في بقعة صغيرة لا نخطو فيها إلا بأمر، ولا نعيد الخطوة للوراء إلا بأمر، واليوم نحن أحرار وكأن الدنيا فتحت أبوابها لنا وكتبت لنا حياة جديدة! كل الناس ولدوا مرة واحدة في حياتهم إلا نحن، ولدنا مرتين فيها.
على الضفة الثانية لنهر فيستولا الذي يمر من منتصف وارسو، كانت أسوار الغيتو المبنية من الطوب الأحمر وأبنيتها تبدو محطمة ومحترقة من بعيد. وصلا قرب البوابة الرئيسية للغيتو؛ المكان الذي تم نقل مايكل منه إلى معسكر أوشفيتز. نزل من العربة مسرعا متلهفا لرؤية أمه والخوف قد سرى إلى جوفه بعد رؤيته المباني المهدمة. كان المكان يبدو قد فرغ من البشر والباب الرئيسي مخلوع، كان روبرت يتفحص المكان، ومايكل يخبره عن بعض الذكريات في طريقهما نحو المبنى الذي كان يسكن فيه مايكل. حطام المباني المهدمة كان قد سد بعض الأزقة بالكامل. - روبرت، هنا في هذه الساحة بت ليلة كاملة تحت المطر والبرد، وهناك في تلك الغرفة الصغيرة المحطمة كان المحرس، يومها أتى ذلك الحارس الشهم بقطعة جبن ملفوف عليه الخبز وأطعمني.
ثم سارا يمينا ودخلا أحد الأزقة ثم يسارا . - هذا مبنى المجلس اليهودي، كان أعضاؤه من اليهود يديرون شئون سكان الغيتو ويقدمون القرابين لأسيادهم، بعضهم كان يفعل ذلك ليحيا حياة طيبة على حساب الآخرين، والبعض الآخر كان يبرر فعلته بالقول: «إذا تركنا الأمر للنازية فسيكون عدد الضحايا أكثر.» حتى وصل الحال بهم ليكونوا آلهة يقررون من سيبقى ومن سيرسل للموت. وهذا مبنى الشرطة اليهودية، كانوا يتنافسون في البطش بأبناء جلدتهم حتى ينالوا الرضا من النازية ويحصلوا على الترفيعات! - مايكل، إن هذا الحطام قديم، يبدو أن المدينة تحررت منذ زمن .. انظر إلى الأعشاب التي نبتت بين الحطام. - إنك محق .. لكن بالرغم من ذلك لدي بصيص من الأمل أنني سأجدها.
كل شيء حولهما كان يقول إن المكان مهجور، أسرعا الخطى حتى وصلا زقاق المبنى، فجأة توقف مايكل. - ما بك يا مايكل، هل وصلنا؟ - لقد تذكرت يوم عدت من مقابلة السيد مارك في الحانة لأجل مرض سارة وعلاجها ثم أخبرني أنها ماتت، هنا في هذا المكان وقفت يومها أحدق إلى والدتي وهي على الشرفة تنتظر مني خبرا سارا عنها .. انظر يا روبرت تلك هي شرفة غرفتنا. - المبنى مهدم يا مايكل، والشرفة آيلة إلى السقوط .. مؤكد أن لا أحد فيه. - لا أريد الاقتراب أكثر، دعنا نخرج من المكان يا روبرت، بدأت أختنق، كل شيء هنا مرتبط بذكريات سوداء تعيسة، هيا علنا نجد أحدا خارج السور نسأله ماذا حل بأهل الغيتو. - هيا بنا.
صادفا رجلا طاعنا في السن خارج السور، كان بالكاد يستطيع المشي وهو متكئ على عكازه الخشبي اللامع .. اقترب مايكل منه وأعطاه ابتسامة صغيرة. - هل بإمكاني أن أسألك سؤالا؟
حدق بوجهه وتفحص ملابسه، ثم قال: إن كنت من أهل الحاجة فليس عندي ما أعطيك. - وهل يبدو على هيئتي ذلك؟! - حسن، وماذا تريد إذن؟ - دعني أجلسك على تلك المصطبة الحجرية، يبدو عليك التعب.
أمسكه من ذراعه اليمنى وتوجها بخطوات بطيئة نحو المصطبة الحجرية .. بعدما أخذ الرجل نفسا سأله مايكل: هل أنت من وارسو؟ - نعم أنا من يهودها. - يهودي! - نعم، وهل هناك ضير في ذلك؟ لم يمر بالوقت الطويل حتى تخلصنا من أولئك النازية الملاعين، ثم تأتي وتستغرب أني يهودي!
وكأنه كان يوبخ مايكل بتلك الكلمات. - على رسلك، أنا أيضا يهودي مثلك، وقد كنت معتقلا في هذا الغيتو، ومن ثم تم نقلي إلى أوشفيتز. - أحقا ما تقول؟! ابتهج الرجل .. وكيف نجوتم من المعسكر؟! - تم تحريرها البارحة ليلا من قبل قوات الحلفاء .. لكن أخبرني، هل هذا الدمار حصل للغيتو أثناء التحرير؟ - لا، الدمار سببه الثورة التي حصلت ضد النازيين قبل سنتين في وارسو. - ثورة! وما الذي حل لسكان الغيتو؟ - نعم، ثورة قام بها الآلاف من سكان المدينة، كانت مقاومة شرسة استمرت أكثر من شهرين على أمل تحرك القوات الروسية لمساندتهم، لكنهم خذلوا ولم يحرك الجيش الأحمر ساكنا. أنهكتهم بشاعة الرد النازي، فهدمت الأسوار وبعض البنايات وتم حرق بعضها الآخر، وقتل الكثير من السكان، ونقل الباقون إلى المعسكرات النازية. - إلى أي معسكر تم نقلهم؟ - لم يحدد معسكرا معينا.
وضع كفيه على وجهه كما يفعل الأطفال حين يشرعون بالبكاء، وقال: يا إلهي! أي عذاب هذا، وأي شقاء، لم يبق لي في الحياة سواها وأخذتها مني، أبقيت من تسبب في موتهم بغبائه وحمقه وعناده وأخذت الأبرياء، أما كان الأجدر أن يعيشوا هم وتنتزع روحي أنا المذنب بحقهم؟! هل تعاقبني فيهم يا إلهي؟
اقترب منه روبرت وهو يربت على كتفه. - هون عليك يا مايكل، هون عليك، من قال إنها ماتت؟ لربما تكون قد تحررت مثلنا من معسكرها .. الأحرى بك أن تبحث عنها، لا أن تندب وتنوح كالنساء.
صمت فجأة، كان تفكيره مشوشا لا يستطيع التركيز في شيء. - إنك محق فيما تقول، هنالك احتمال أنها على قيد الحياة.
مسح الدموع من على وجهه بكم ردائه. - وأين تقترح أن أبحث عنها؟ - نسأل الجنود عن المعسكرات التي تم تحريرها، وبالتأكيد لديهم سجلات بأسماء المعتقلين الذين تم تحريرهم، كما تم تسجيل اسمينا عند مغادرة أوشفيتز.
عرضا على الرجل الطاعن في السن المساعدة لإيصاله إلى بيته، لكنه رفض وقال: اذهبا وابحثا عنها، ولا تيأسا .
بحثا في الكثير من المعسكرات المحررة ولم يجدا لها أثرا، كانت الماركات التي أعطاها السيد آرنست لمايكل لها الدور الكبير في سرعة تنقلهما من معسكر إلى آخر بتأجير سيارات خاصة لأجل ذلك، أمضيا عدة أيام في التنقل والسؤال هنا وهناك لكن دون جدوى.
أخبرهما أحد المحررين من معتقلات النازية عن حدوث حالات هروب قد حصلت من المعسكرات قبل التحرير، وبهذا لا يمكن إيجاد اسمها في أي معسكر محرر إن استطاعت الهرب، وآخرون أخبروهما أنها لربما قد نقلت إلى المعسكرات التي لم تتحرر بعد في الداخل الألماني. - ماذا ستفعل الآن يا مايكل؟ - لا أعلم، دعني أفكر، لقد تشابكت علي الأمور، وبت لا أستطيع التركيز. - أقترح أن تنتظر تحرير بقية المعسكرات لعلك تجدها. - لكن ماذا لو وجدت اسمها من بين الذين تم تحريرهم ولم أجدها هي؟ - عندها تكون قد خرجت تبحث عنكم كما تفعل أنت. - احتمال وارد جدا .. إذا كان الأمر كذلك فهي لن تفكر في العودة للغيتو للبحث عنا؛ فقد تم نقلنا أنا وديفيد منه قبل الثورة.
عندما ذكر اسم «ديفيد» خطر في ذهنه أنه قال لأمه: تم اعتقال ديفيد في الغيتو ليرحل إلى فلسطين ببرنامج إعادة التوطين. - وماذا تعني بذلك؟ - أخشى أنها بقيت تصدق تلك الإشاعات التي كانت منتشرة في الغيتو بقضية الترحيل إلى فلسطين، ولربما تتوقع أنه تم ترحيلي إليها أنا أيضا. - إذن وجهتها هناك في النهاية إن هربت أو إن تحررت من المعسكرات المتبقية. - هذا الاحتمال المنطقي. - وترحل؟ - لا خيار أمامي.
الفصل الأربعون
مدينة وان - تركيا 1915م
عمت الأفراح مدينة وان كلها، تجمع الأهالي في ساحة السوق ورقصوا وغنوا على أصوات الطبول والمزامير مع الجنود الروس، محتفلين بالنصر العظيم وتحرير المدن الأرمنية من الاحتلال العثماني الذي دام لقرون عديدة، وإقامة دولة أرمينيا من جديد. أقبل غريغور يتمايل في مشيته، ثملا، يحمل كأسه وتتساقط من لحيته قطرات من الشراب الأحمر، يتحدث بكلمات متقطعة غير مفهومة مع أرتين الذي لم يكن قادرا على مشاركتهم تلك الفرحة التي لطالما انتظرها، فرحة النصر وبلوغ الغاية جاءت ناقصة بغياب بانوس، كان يشعر بتأنيب الضمير تجاهه، تمنى لو أنه خرج وحيدا من القرية يومها ولم يصحب معه حتى غريغور، قال في نفسه: كانت فكرتي، وكان من الأجدر بي أن أقوم بها وحدي، آه يا بانوس، لقد تركت في قلبي ندبة لا تندمل إلى الأبد وخلفت وراءك جرحا لا يلتئم وألما لا ينقطع.
بعدها أعلن عن تعيين «مانوكيان» حاكما على وان، وتم إعطاؤه الصلاحيات العامة في حكم المدينة، بالتشاور مع الجنرال «نيكولاف» الذي لاقى ترحيبا كبيرا من الأهالي عندما أعلن عن إقامة حكومة وان الجديدة بقيادة حاكم أرمني.
وقبل سقوط هذه المدن على أيدي الروس بمساعدة الأرمن العثمانيين مع وجود أرمن روسيا، أصدرت الحكومة العثمانية بيانا اتهمت فيه الأرمن في الولايات الستة بعبارة «خونة الأرض والوطن». وفي 24 نيسان 1915 اعتقلت السلطات العثمانية قرابة 250 من مثقفي وأدباء ومفكري الأرمن في الآستانة، وتم قتلهم جميعا بذريعة التعاون مع قوات الحلفاء، وخشية قيامهم بإثارة الأوضاع في المدينة، وكتبت الصحف العثمانية حينها عن خيانة الشعب الأرمني للوطن وتأييدهم للأعداء. «إذا أردت أن تعرف كيف تسير الأمور في الحرب الكبرى فما عليك سوى النظر إلى وجه الأرمني، إن كان شاحبا فاعلم أنها تسير لصالح قوات المركز، وإن كان زاهيا فاعلم أنها تسير لصالح قوات الحلفاء.»
استقرت الأوضاع في وان بعدها، ودبت الحركة في السوق، بغياب التجار الأكراد والأتراك فيه، وانتقلت العوائل التي هدمت بيوتها والعوائل القادمة من القرى التي حرقتها القوات العثمانية إلى الجزء الغربي (حي المسلمين) من مقاطعة غاردن، وسكنوا في البيوت التي لم تتعرض للهدم والحرق في المعارك الأخيرة، وعمد الروس إلى انتزاع السلاح من أيدي المجموعات الأرمنية وضمهم إلى الجيش النظامي، وأبقت السلاح بيد الحكومة فقط بعد محاولات لبعض الثوار في سرقة أثاث بعض بيوت المسلمين أو حرقها، وحصل تبادل إطلاق نار بينهم لمرات عديدة. •••
بعد زوال نشوة النصر وعودة الحياة إلى طبيعتها لم تكن الأوضاع الاقتصادية للمدينة على ما يرام؛ فالحرب أثرت على طريق التجار الذي كان يمر من وان، فأدى ذلك إلى شحة في توافر الاحتياجات الضرورية للسكان، وقلت العملة بيد الناس، وارتفعت أسعار السلع إلى ضعفين أو أكثر، كانت الجهة الغربية والجنوبية للمدينة موصدة في وجه التجار الأرمن؛ لأنها تحت سيطرة العثمانيين، وفي الجهة الأخرى روسيا كانت تمر أيضا بأزمة اقتصادية بسبب الحرب الكبرى، فلا تستطيع توفير ما يسد رمق الناس تحت ظل سيطرتها، بل العكس كانت تعمل على تصدير خيرات المدن التي سقطت بيدها نحو مدن روسيا لتخفف الغضب الشعبي من تردي الأوضاع المعيشية.
بدأ السكان يتحسرون على أيام العثمانيين في الخفاء، شعروا بأنهم كانوا في نعيم من العيش لم يدركوها. سمع أرتين في المقهى قرب الخان أحدهم يقول لصاحبه: لقد كانت أحلام الحزب والثوار وردية إلى حد كبير، هل كانوا يظنون أن حكم البلاد أمر يسير إلى هذا الحد؟! وأن غاية الناس أن يعود الحكم للأرمن مهما كانت النتيجة؟! هذا الغباء بعينه، إن الناس لا يهمهم من يحكمهم إن كان أرمنيا أم تركيا بقدر ما يهمهم من يوفر لهم سبل العيش، وكثرة الموارد، وتوفر العمل. لربما لا تصدقني إن أخبرتك منذ سيطرة الروس على المدينة وتنصيب مانوكيان حاكما عليها لم يدخل بيتنا ليرة واحدة؟! انظر إلى تلك الدكاكين المحترقة على امتداد السوق، إنها لتجار الأكراد والأتراك كانت تغذي المدينة بكل ما تحتاجه، وتوفر العمل للكثير من أبنائها، ولم يكن أولئك الأتراك أو الأكراد يفرقون بين أرمني وكردي أو تركي. رد صاحبه: صدقت والله، لقد كنا جيرانا منذ أمد بعيد ولم يحصل بيننا إلا كل خير، ما لنا ولهذا الأمر كله، هم يتنعمون بالخيرات مع الروس، ونحن لا نحصد سوى الجوع والعوز، وإن عاد الجيش العثماني فسنكون نحن الضحية، وهم سيفرون مع من أتوا بهم.
كان هاجس الخوف بين الأهالي في وان يدور حول ما سيحصل بمصيرهم إذا انتهت الحرب الكبرى بهزيمة الحلفاء، وبالأخص «الروس»، كيف سنواجه الوعيد العثماني بعدما وضعونا في قائمة الخيانة العظمى للأرض والوطن؟
لربما لم يفكروا بهذه المخاوف إلا بعد السيطرة على المدن ونزوح قاطنيها من الأتراك والأكراد والمذابح التي جرت للباقين منهم، فتحولت جراءها القضية في تلك المناطق إلى بقاء الطرف الأقوى على الأرض، لا يمكن العودة إلى التعايش المشترك بين الطرفين مرة أخرى وكأنهم عبروا نقطة اللارجوع، لا يمكن أن يعيش على هذه الأرض الأرمن مع الأتراك والأكراد من جديد. •••
كان المختار تلمكيان طريح الفراش، غير راض بما آلت إليه أوضاع البلاد، على الرغم من أن القرية لم تتأثر كثيرا بالأوضاع الاقتصادية المتردية في المدينة بسبب اعتمادهم على الزراعة وتربية الحيوانات، إلا أن المختار تلمكيان كانت له نظرة بعيدة ولم يؤثر في رأيه السابق انتصار الثورة وبلوغ الغاية بالحكم الذاتي.
قبل رأسه أرتين وطلب رضاه، ثم جلس قربه على كرسي خشبي، كانت غرفة المختار دافئة بالرغم من البرد القارس في الخارج، ورائحة حساء الفطر المجفف تملؤها، أقبلت أمه وهي تحمل وعاء فخاريا بيدها وملعقة خشبية، سكبت لهما وجلست قرب النار تتمتم بأدعية، وتدعو يسوع بأن يشفي زوجها ويعيد له صحته.
تناول أرتين ملعقتين من الحساء وهو يراقب والده الذي كان يأكل ببطء شديد، وشعر أنه غير آبه بوجوده بعدما علم بعمل أرتين مع الثوار سنوات طويلة دون علمه ورضاه. - أبي، ها قد انتصرت الثورة وبلغنا الغاية.
ارتسمت على وجه المختار ابتسامة صغيرة ورد هازئا: انتصار! أمتأكد من ذلك يا بني؟ - بعد شفائك سآخذك إلى المدينة لترى بعينك، لربما هنا في القرية لا يمكن تمييز ذلك، لقد وضعوا مانوكيان الأرمني حاكما على وان بدلا من واليها العثماني، وتم بناء قوات أرمنية لتحافظ على أمن المدينة، وتحول الثوار من مقاتلين إلى جنود منظمين، وهذه حال الدول الفتية يا أبي، تبدأ ضعيفة متكئة على حليف قوي حتى تقوى ساعدها وتبني مؤسساتها وتقف وحدها وتستمر. - لكن الحرب لم تنته بعد، والعثمانيون ينتهزون الفرصة ليعيدوا هذه المدن تحت سيطرتهم، ومن اتكأتم عليها تفكر في مصالحها قبل كل شيء، وإن حصل تعارض بينكم وبين تلك المصالح فسيتركونكم لقمة سائغة للضباع. عندما كنت طفلا صغيرا يا بني حدثت حرب بين الدولتين، واستطاع الروس بلوغ مشارف الآستانة، وفرح الأرمن بتلك الانتصارات واستبشروا خيرا بأن روسيا ستعيد لهم حقوقهم المسلوبة بإقامة دولة أرمينيا المستقلة، لكن فجأة جلسوا على طاولة المفاوضات ووقعوا معاهدة بينهما، حصدت روسيا منها ما تريد وبقيت الأرض للعثمانيين.
ساد صمت بينهما، تذكر أرتين كلام السيد كيفورك في يريفان بالمركز التدريبي، عندما ذكر لهم أحداث الحرب وتلك المعاهدة الغريبة في توقيتها، الروس لا يؤتمنون وليس لهم صديق دائم ولا عدو دائم، الصديق الدائم هو مصالحهم فقط، سرى فيه شعور بالخوف وأحس أن كلام والده فيه من الخطورة الكثير، إن صدق ما يلمح إليه فإن حياة الأرمن على المحك، لكن ما من سبيل ولا خيار آخر، ولا يمكن العودة إلى الوراء، الذي حصل بين الأرمن والعثمانيين كعقارب الساعة يستحيل أن تدور للخلف وتعيد أيام الألفة والتعايش.
الفصل الحادي والأربعون
القدس - فلسطين 1947م
أخبرتك يومها أن كل إنسان خلق لتأدية رسالة ما في الحياة، وهذه الرسالة هو من يختارها بإرادته، لا تفرض عليه، يومها رأيت فيك مما بان لي ومما ظهر عليك، أنك لا تصلح للقتال، وأخبرتك أنه ليس بالضرورة أن نقاتل جميعا، لكن هذا لا يعني أننا مجبرون على ذلك؛ فالإنسان مخير، وليس مسيرا. - «هل سمعت بالمجبرة يا حسن؟» سأله الأستاذ محمود الخطيب.
هز حسن رأسه نافيا. - إذن دعني أخبرك عنهم قليلا، هذه الفرقة اعتقدت أن الإنسان مسير «مجبر على كل أفعاله»، وليس مخيرا فيها، يستدلون ببعض آيات القرآن، منها:
وما تشاءون إلا أن يشاء الله ، وكذلك:
قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون ، ثم يفسرونها أن أعمالنا من عند الله وبمشيئته، وما نحن إلا منفذون لتلك الأعمال دون أن يكون لنا رأي أو إرادة فيها! ومن غريب ما يذكر في هذا، أن هشام بن عبد الملك قبل توليه الحكم استمع إلى خطيب تكلم على بني أمية، في زمن خلافة عمر بن عبد العزيز، فتوعده بالعقاب فور استلامه السلطة، وحين تولى الحكم اعتقله وأمر ببتر ذراعيه وساقيه ، ثم قال له: «انظر إلى ما فعل بك ربك.» وهو يشير إلى أن ما فعله ليس بإرادته، بل هذا ما أراده الله، وهو نفذ به إرادة الله!
صدم حسن بما سمع، وبدا عليه الاقتناع بأن الذي نقوم به من خير وشر كله من الله! - لا يا بني، هذه نظرة ظاهرية للأمر، ولو كان الله خلق أعمالنا وأجبرنا عليها دون إرادتنا، فلماذا يعذبنا في النار على شيء لم نختره نحن ولم نفعله؟! هذا ظلم كبير لا يمكن أن يخرج من رب استهل كتابه الكريم بالرحمة، ثم إن الآية على هذا الفهم الجبري فيها تناقض كبير، كيف يتعجب منهم بقوله:
أتعبدون ما تنحتون ، ثم يقول:
والله خلقكم وما تعملون ، فإذا كان عملهم من خلقه فلم العجب إذن لعبادتهم لما ينحتون؟! - صحيح، استفسار في مكانه. - لأجل ذلك، هنا يأتي معنى
وما تعملون ؛ أي ما تصنعون بأيديكم لتعبدوه؛ أي الحجارة التي يصنعون منها الآلهة ليعبدوها، الله الذي خلقها كما خلقهم. فهم في الخلق سواء، فكيف يعبد المخلوق مخلوقا آخر شكله بيده ويترك عبادة الذي خلقهما!
دهش حسن للفهم العميق لمعنى الآية والتفصيل الدقيق للمسألة، ثم تذكر ما خرج من لسانه يوم فراقه لأنوشكا عند قبر هشام. - هل كان الله يعلم قبل أن أتعرف على هشام أنني سأفارقه يوما، وأنه سيموت، وأتعذب هكذا على فراقه؟
ابتسم الأستاذ محمود واتكأ على طرف الأريكة التي كان يجلس عليها، ثم أخذ نفسا عميقا وقال: أنا أفهم إلى أين تريد أن تصل، وهذه النقطة بالذات فيها الكثير من الإشكاليات. - كيف؟ - سأشرح لك، بداية لا يمكن قطعا نفي العلم عن الله؛ لذلك جواب سؤالك مبدئيا نعم، الله كان يعلم بما سيحصل. ستسألني إن كان يعلم بذلك فلماذا عرفني به وتسبب لي في كل هذا العذاب، أليس كذلك؟
هز حسن رأس موافقا. - هل كان هشام وحده من تعرفت عليهم، أم كان لك معارف كثيرة غيره؟ ستقول عرفت غيره الكثير. جميل، هل أجبرك أحد على تعميق علاقتك به إلى هذا الحد دون غيره ممن عرفتهم، أم إنك أنت من رأيت فيه الشخص المناسب ليكون صديقك المقرب؟ - أنا طبعا. - ألم يكن بإمكانك ترك صداقته منذ البداية؟ - بلى. - إذن ما علاقة الله بالذي اخترته أنت لحياتك؟ أم إنك مثل المجبرة تفعل الأمر ثم تنسب عواقبه لله! الله لم يسلب إرادة أحد، وأعطانا الحرية التامة في الاختيار والقيام بالأفعال بإرادتنا نحن، وهذه الحرية والإرادة ثمنهما حساب في الآخرة، وهنا تتحقق العدالة الإلهية.
سكت حسن، وشعر أنه أساء الظن بالله، لم يدر ماذا يفعل، فقام وقبل رأس الأستاذ محمود الخطيب، ودعا له: «زادك الله من علمه، وفتح بصيرتك وسدد خطاك.» ثم خرج من مكتبه إلى باحة الأقصى تحت ظل الشجرة المعمرة قرب باب المغاربة، جلس حسن يتأمل المارة يفكر في سرعة ما حصل له، وكيف دارت رحى الأيام هكذا، وبشكل فظيع جدا اختلجه شعور غريب وتمنى أن يفاجئه هشام، وينبثق من باب المغاربة والابتسامة تعلو شفاهه وهو مقبل إليه كعادته، أو أنه ينتظر أنوشكا هناك عند الزقاق المقابل لمدرستها، وكل ما جرى له كان مجرد حلم مزعج في ليلة مضطربة. يبدو أن كل شيء بالحياة لا يبقى على ما هو عليه مع مرور الزمن، وأن ثمن الاستمرار بها باهظ جدا، وأن من يبقى على قيدها يجب أن يدفع الثمن مرغما، ثمن خسارة صديق أو أخ أو حبيب أو حتى أرض أو وطن. كل الذين قتلوا في معارك الدفاع عن الأرض والوطن، لم يخسروا بالمفهوم الحقيقي للخسارة، من خسر هم الذين بقوا على قيد الحياة! وعاشوا مرارة الفقد والحرمان. هشام دفن في أرضه، وإن اغتصبت منا يوما ما فسنخسرها نحن ويبقى هو فيها منتصرا رغم هزيمتنا!
أثناء ذلك لفت انتباهه بنيامين وهو يدخل من باب المغاربة مع رجل غريب وعليه رداء أسود طويل مع قبعة سوداء وضفيرتاه تتدليان إلى الكتفين. كانا يتكلمان بالإشارة وينطق له بنيامين الكلمات العربية ببطء شديد ومخارج دقيقة للحروف مع توصيف بحركات اليد، اقتربا من حسن، أصدر بنيامين صوت دهشة، أوه حسن هنا ! لم يأبه به حسن، أراد بنيامين أن يستفزه فقال: أتدري من أين هذا الرجل؟
رمقه حسن بنظرة غاضبة، التفت إلى الرجل، تفحص وجهه، كانت ملامحه تدل على أنه ليس من أهل هذه البلاد. - لا يهمني من أين يكون، الأفضل له أن يرحل من هذه البلاد، فالحرب على الأبواب. - إنه من يهود ألمانيا، أتذكر يوم التقينا لأول مرة وسألتني لمن كنت تدعو بصلاتك؟
لم يجب حسن بشيء، فأكمل بنيامين: كنت أدعو الله لأجلهم، ها قد نجاهم الله من النازية ووصل إلى أرض أجداده. - متى تعقل يا بنيامين، أي من أجدادك لديه هذه الملامح الأوروبية، أكاد لا أميزه عن الجنود البريطانيين، لا تقل لي إن أجداد البريطانيين أيضا كانت هذه أرضهم!
أردف حسن كلامه بابتسامة هازئة: إنه من يهود الأشكناز، يهود أوروبا. - ها أنت تقول بلسانك «يهود أوروبا»، ماذا يفعل هنا إذن؟ - أخبرتك يومها: «إن النبتة إذا اقتلعت من أرضها تجف وتموت.» جاء ليحيا على أرضه. - عن أي حياة تتكلم؟! رائحة الموت تفوح في كل مكان هنا، من يبحث عن الحياة لا يأتي إلى فلسطين، هذه الأرض لم تهدأ منذ آلاف السنين، وما زالت الدماء تسيل فيها والأرواح تزهق من أجلها وكأنها مصب دماء الأمم ومنتهى آجالها.
كان الرجل يرمق حسن بنظرات غريبة ويبتسم له وكأنه مجنون أو لم ير بشرا من ذي قبل!
شعر حسن أن النقاش مع بنيامين غير مجد كالعادة، كلام لا طائل منه حتى لو اتفقا على رأي واحد وخرجا بنتيجة، من منهما يستطيع تطبيقها وفرضها على الطرفين! فتركهما ومضى باتجاه المصلى القبلي.
الفصل الثاني والأربعون
القدس - فلسطين 1946م
كانت الحارات القديمة وأزقتها الضيقة، والقناطر التي تتدلى منها أغصان الياسمين، والأسواق المزدحمة بالمارة والباعة المتجولين ، وروائح الأطعمة الزكية التي تفوح منها، قد شغفت قلب مايكل منذ زيارته الأولى إلى القدس؛ إذ وفرت له الوكالة اليهودية المسئولة عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين في المادة الرابعة لصك الانتداب، غرفة في أحد بيوتات حي مونتفيوري خارج أسوار القدس القديمة الذي بناه أحد أثرياء اليهود في عهد محمد علي باشا. فكان يزور هذه الحارات بين الفينة والأخرى مع بنيامين الذي تعرف عليه في أحد التدريبات القتالية بمنظمة الأرغون التي انضم إليها بعد أشهر قليلة من قدومه إلى فلسطين، وكانت المنظمة تقدم مغريات كبيرة للشباب الجدد المهاجرين من البلدان المتفرقة للانضمام إليها.
كان بنيامين شغوفا بالتعرف والتقرب من القادمين الجدد من اليهود الذين تعرضوا للاضطهاد في المعسكرات النازية، ويرى بنجاتهم استجابة دعواته وصلواته المتكررة لأجلهم. كانت الفرحة تعتلي وجهه وهو يحاول التحدث إليهم بالرغم من عدم إجادته لغير العربية. خلال الفترة التدريبية القصيرة التي جمعته مع مايكل توطدت علاقتهما كثيرا.
عند مدخل باب المغاربة انتبه بنيامين إلى شاب يجلس تحت شجرة معمرة وهو سارح في تفكير عميق أصدر صوتا لفت انتباه مايكل إليه. - أوه إنه حسن!
مضيا نحوه وبنيامين كأنه يطير من الفرح، شعر مايكل أن حسن من أعز أصدقائه؛ فالفرحة التي ارتسمت على وجهه بعد رؤيته له لا تدل إلا على ذلك. عندما اقتربا منه أصاب مايكل الذهول، كانت ملامح حسن تشبه كثيرا ملامح أخيه ديفيد، ظل مايكل يتأمل وجهه المليء بالحزن والأسى وينظر إليه وهو يتذكر ابتسامة أخيه وذكرياته معه في ميونخ، تسلل إلى قلبه شعور ممزوج بالسعادة والحزن، تمنى لو أنه لم ير بعينيه جثته في معسكر بيركناو ولم يسمع أزيز احتراقها وتطاير رمادها إلى السماء؛ ليخدع نفسه بأن ديفيد قد وصل هنا قبله وتعلم لغتهم وصار منهم! ثم انتبه إلى حديثهما، كان النقاش حادا، قال في نفسه: «يبدو أنهما ليسا صديقين حميمين كما ظننت في البداية، بل عدوين حميمين!» تركهما حسن بعدما أكمل حديثه دون أن ينتظر بم يرد بنيامين، فكان الرد إليه مع ابتسامة عريضة : أرأيت! لقد انسحب ضعيف الحجة.
ظلت ملامح حسن في مخيلة مايكل حتى بعدما عاد إلى غرفته في مونتفيوري، ارتمى على فراشه وشعر أن هنالك سببا ما ربطه بهذه البلاد؛ فقد كان شعور الهجرة إلى أمريكا يراوده بين الفينة والأخرى، وبالأخص بعدما وجد اسم أمه في سجل الوفيات لدى الوكالة اليهودية. يبدو أنها نجت من النازية لكنها لم تنج من صدمة الفقد لأولادها، فحدث لها ما كان يحدث للسجناء من فقدان الإرادة بالحياة، ثم الموت تدريجيا. •••
عند قبر أمه مسح يده على الشاهد الحجري وتلمس الأحرف البارزة المكتوبة باللغة العبرية، ثم انتبه إلى تاريخ الوفاة 25 / 11 / 1945 فاختلجه شعور غريب، لمعت عيناه وهو يحاول فك شفرة الأرقام وكأنها كانت تدل على سر وفاتهم جميعا إلا هو! مرر إصبعه على الرقم 19 وهو يقول عمر ديفيد حينما توفي وأحرقت جثته، ثم الرقم 45 عمرها هي عند وفاتها، كانت الدموع تذرف من عينيه دون إرادة، 11 عمر سارة حينما أرسلها السيد مارك إلى الموت من غيتو وارسو، إلا الرقم الأخير خيب ظن التاريخ المشئوم ولم يوافق القدر. - هون عليك يا رجل.
التفت مايكل بعينين محمرتين من البكاء. - ليس كل شيء يهون في الحياة يا بنيامين. - أعلم أن خسارتك كبيرة، لكن هذا قدرهم، لم يكن بإمكانك تغييره، فلماذا تلوم نفسك إلى هذا الحد؟ - وهل القدر خط مستقيم نساق إليه دون إرادة؟! إن كان الأمر كذلك ما قيمة وجودنا في الحياة إذن؟! - ليس مستقيما إلى هذا الحد، أحيانا يتغير في اللحظات الأخيرة، وأحيانا أخرى لا نفهم مغزاه فنظن بسوء أقدارنا، ولربما كانت في الحقيقة اختبارا لمدى تحملنا وصبرنا في الحياة؛ ففي رحلة إبراهيم مع ولده إسحاق إلى موريا أراد الرب اختبار إبراهيم وطلب منه تقديم ولده إسحاق قربانا له بذبحه.
على الطريق ظهر الشيطان إلى إبراهيم على هيئة رجل طاعن في السن وقال له: «أأبله أنت لترتكب هذه الحماقة مع ابنك الذي رزقت به على كبر؟! ثم كيف لك أن تقوم بذبح من ليس له ذنب؟! كيف ستقوم بعمل لا يفعله سوى الرب؟!»
كان مايكل ينصت إليه بتركيز شديد، ويطلب من بنيامين لفظ الكلمات ببطء لكي يفهم القصة التي لم يسمع بتفاصيلها من قبل.
لم يأبه إبراهيم بكلام الرجل فصد عنه، عندها عاود الشيطان محاولته فظهر أمام إسحاق على هيئة شاب وسيم ابتسم في وجهه وقال له: «كيف ترضخ لوالدك الأبله الذي يريد ذبحك دون ذنب؟! لا تنصت إليه ولا تدع روحك السامية وصورتك الجميلة تفنيان من الحياة.» لكن إسحاق أيضا لم يأبه بوساوس الشاب الوسيم فمضى مع أبيه إلى قدره بثبات، حينها وكأن إبراهيم أحس أن الشيطان يحول بينهما وبين ما خرجا من أجله، فسأل ابنه إسحاق: هل يساور قلبك الشك بصحة ما نقوم به يا بني؟ - لا يساورني الشك لأحيد عن الكلمات التي حدثك الرب بها يا أبتي، ولم يدب الخوف في قلبي مما سيحصل، بل امتلأ بالسعادة؛ لأن الرب اختارني لأكون قربانا له.
سعد إبراهيم بكلام ابنه، ومضيا نحو المكان الذي تحدث الرب عنه، ثم على المذبح الذي بناه إبراهيم، وضع إسحاق خده مستسلما لقدره على الخشب في أعلى المذبح، وقال: أبتاه، شد وثاق يدي وقدمي، أخشى أن أضعف عند رؤية السكين فأمنعك مني رغبة بالحياة، وأجرح نفسي فلا أصبح صالحا لأكون أضحية، حد سكينك جيدا ولا تتوان عن تنفيذ مشيئة الرب، تماسك ولا تضعف، فإن ضعفك يؤخر خروج روحي ويطيل عذابي.
كانت الدموع تذرف من عينيه على الخشب كما تذرف من عيني أبيه، لكنها لم تكن سخطا على قضاء الله وقدره، بل حزنا على فراقهما، ثم أغمض عينيه مستسلما، واستجمع قواه إبراهيم، ثم رفع ثوبه بجانبه وضم ركبتيه على إسحاق بقوة ليمنعه من الحركة ومقاومة الرغبة في البقاء رغم خضوعه للأمر الرباني، وعندما هم إبراهيم بذبحه ووضع السكين على رقبة ابنه صرخ الملاك ميخائيل: إبراهيم، إبراهيم، ارفع يدك عنه!
دب الفرح في قلبه، لكنه رد متسائلا: أمرني الرب بذبحه، وتأمرني أنت بألا أذبحه، أيكما أحق بالطاعة؟! - إنه أمر الرب.
وهكذا في لحظة تغير قدر إسحاق ودبت فيه روح الحياة من جديد، وبارك الرب بهما وفداهما بكبش من السماء يكون أضحية إبراهيم بدلا من ابنه إسحاق؛ لذا فالقدر قابل للتغيير أحيانا وليس خطا مستقيما نساق فيه دون إرادة، حتى إن إسحاق كان بمقدوره عدم تلبية رغبة أبيه. - لكنه في النهاية لم يمت، فيما يعني أنه لم يقدر له الموت في أي طريقة كانت بقبوله أو حتى برفضه. - أنت الآن أجبت على تساؤلك الأول بنفسك، فلربما لو رحلت من ألمانيا قبل الحرب لغرقت السفينة التي كانت ستأتي بكم إلى هنا وماتوا هم وبقيت أنت وحدك على قيد الحياة.
شعر مايكل لأول مرة منذ سنوات طويلة براحة نفسية، وكأن هما ثقيلا أزيح عن كاهله بتلك الكلمات من بنيامين.
الفصل الثالث والأربعون
مدينة وان - تركيا 1916م
كان أرتين يجري كالبرق على جواده متجها من وان نحو قريتهم وغريغور يحاول اللحاق به بغية دفع أهل القرية إلى التوجه إلى وان، ومن ثم إرسالهم إلى الأراضي الروسية مع المهاجرين. في الطريق كانت الأهالي تنزح زرافات زرافات نحو وان تاركة وراءها قراهم، يحملون ما خف حمله وغلا ثمنه وفي وجوههم الهلع والخوف؛ فالناس هنا لديهم ذكريات سيئة مع العثمانيين، ففي أيام الثورة كانت المذابح لا تعرف مذنبا أو بريئا، فكيف الآن وقد تم اتهام الأرمن جميعا بالخيانة العظمى للأرض والوطن؟
وقبل وصولهما إلى القرية صادفا رجالا يلوحون لهم من بعيد بالتوقف .. عندما اقتربا منهم صاح غريغور: هؤلاء رجال قريتنا. - ما الذي تفعلونه هنا يا بوغوز؟ - لقد هربنا من القرية بعدما دخلتها القوات العثمانية. - وأين البقية؟ هل خرجوا معكم؟ - الجميع كانوا يجهزون أمتعتهم للنزوح، لكن البعض تأخروا ولم يلحقوا بنا، ولا نعلم من بقي، لكن حوالي نصف الأهالي نزحوا منها قبل وصول العثمانيين. - أبي «تلمكيان»، هل حاول الخروج معكم؟
قالها وعيناه تبرقان من الأسى. - لا أعتقد المختار قادرا على الحركة بسبب المرض، من المؤكد أنه بقي في القرية. - وتركتم المختار وحده أيها الجبناء؟!
طأطأ رأسه بوغوز ولم يجب، أدار أرتين وجهه للبقية فصدوا وجوههم عنه خجلا من موقفهم. - لقد دخلوا القرية على حين غفلة منا، كانوا كثرا يا أرتين لم نستطع مجابهتهم، يجب أن نسرع إلى وان، العثمانيون في تقدم مستمر وسيصلون هنا في أية لحظة.
كانت الثورة العمالية على سلطة القيصر الروسي «نيكولاس الثاني» في بدايتها، اضطر القيصر الروسي إلى سحب قواته من الغرب لإخماد الثورة الشعبية التي ضاقت ذرعا من سياسات القيصر في زج أبنائهم بالحروب، والأوضاع المعيشية الصعبة التي يقاسونها من جرائها. ومع بدء انسحاب القوات الروسية نحو الشرق هاجر عشرات الآلاف من الأرمن معهم إلى داخل الأراضي الروسية وراء الحدود القديمة خشية الانتقام العثماني. استغلت القوات العثمانية الانسحاب الروسي بالتقدم نحو الأراضي التي فقدوها، وبدأت القرى الأرمنية تسقط تباعا تحت سيطرتهم.
على امتداد طول طريق العودة كان أرتين كمن فقد كل شيء يثبته بالحياة، شعر لأول مرة أن أباه كان على صواب عندما كان يمنعهم من الثوار، لكن لم يستطع إظهار ذلك الشعور المميت في داخله، رفع رأسه ونظر يمنة ويسرة تأمل وجوه الهاربين نحو بر الأمان وهم يتركون وراءهم الأرض التي قاتلوا من أجلها سنين خلت، وتساءل هل تلك الفترة القصيرة تحت حكمنا كانت تستحق منا كل ذلك القتال والدماء التي أريقت من أجلها! عشرون سنة من القتال وهذه هي النهاية المنتظرة!
عند مدخل وان كان بعض المقاتلين يحفرون الخنادق حول المدينة تحضيرا للقتال، وآخرون يتدربون ويستعدون للمعركة المرتقبة، كان أرتين يتفحص البيوت والأزقة كالأب الذي ينظر إلى وجوه أولاده وهو يحتضر، نظرة مليئة بالألم والشوق قبل الفراق. ثم كان لا بد من وداع طويل على قبر بانوس الذي لربما ستطول زيارته له في المرة المقبلة أو لربما هي ستكون الأخيرة، جلس قرب شاهد قبره وقال بصوت يملؤه الأسى: «بانوس يا صديق الدرب، ها نحن اليوم نمر بأخطر أيام تاريخ شعبنا، لقد قاتلت قتال الأبطال، وفديت بنفسك وأهلك في سبيل أن تحيا أمتنا، ورويت بدمائك الزكية أرضنا الطاهرة، أعدك إن بقي في العمر المزيد أن أخلد ذكرك بين أبنائنا وأحفادنا إلى الأبد، ارقد بسلام يا صديقي، ارقد بسلام أنت وأهلك.» ثم قبل الصليب الذي كان يتدلى من رقبته، ومضى إلى المدينة.
جنود مشاة وخيالة وأعلام حمراء وسوداء ترفرف على مشارف مدينة وان، والعثمانيون يحملون الشر في أعينهم والثأر في قلوبهم، ثأر الخيانة العظمى للدولة العليا، أي مصير أسود ينتظركم أيها الأرمن؟! كانت الغربان تجوب سماء المدينة وتصدر صوت نعيقها، وتنذر بشؤم ما سيحصل بعد حين. ثم بدأت المدفعية بالقصف كعادة استراتيجيات الجيوش قبل اجتياح أية مدينة. ومن حسن حظ الثوار الأرمن كان الروس قد تركوا خلفهم عددا من مدفعياتهم التي فاجئوا بها العثمانيين، واستطاعوا تأخير تقدمهم لعدة أيام، كانت الروح الحماسية بين المقاتلين عالية، فلا خيار أمامهم، إما النصر أو الاستشهاد في سبيل الأرض، حتى بعض الفتيات والنساء الأرمن أبين الرحيل من المدينة وبقين لتحضير الطعام للمقاتلين وإسعاف الجرحى، استبسل الجميع حينها وفقدوا الكثير من القتلى جراء القصف. كانت تمر أوقات هدوء بين الطرفين من النهار أو الليل، ثم تعاود أصوات الطلقات والمدفعيات عزف سيمفونية الموت في الهواء الطلق وتحت أنقاض البيوت.
استمرت المعركة قرابة شهر كامل ولم تستطع القوات العثمانية دخول المدينة، إلا حينما شعر الثوار أن الأسلحة لا تكفي لمدة أطول، حينها انسحبوا تدريجيا نحو ساراي تاركين خلفهم مجموعات فدائية لتعيق التقدم السريع للعثمانيين، لم يمتلكوا خطوط إمداد بالأسلحة، وكذلك لم يكن بمقدورهم الصمود أكثر أمامهم، وبالأخص بعدما حصلت حالات فرار بعض المقاتلين من المعركة فأثرت على معنويات الباقين، وعندما كثرت هذه الأفعال الفردية لبعض المقاتلين أصدر «مانوكيان» أوامر بقتل كل من يفر من أرض المعركة دون أوامر بالانسحاب من قادة الوحدات المقاتلة، وإن فر قائد الوحدة يقتل من قبل الجنود، لكن كل هذه القرارات كانت غير مجدية أمام الاجتياح العثماني المدجج بالأسلحة المتطورة التي حصلوا عليها من حلفائهم الألمان.
ولم يمض الوقت الطويل حتى أدركوا أن زحف القوات العثمانية اقترب من بلدة ساراي عندما شاهدوا جنود استطلاع الجيش العثماني على أحصنتهم يجوبون بعيدا، لم تكن لدى مقاتليهم الروح المعنوية العالية للقتال بوجود مجموعة كبيرة من الجرحى الذين لا بد من نقلهم بعيدا حتى لا يقعوا لقمة سائغة لدى الأعداء، وآخرون قد خارت قواهم وانهارت معنوياتهم من كثرة الهزائم التي ألحقها بهم العثمانيون، فنتجت هذه الأسباب عدم إطالة مقاومتهم لهم حتى فر الجميع وتشتت المقاتلون، كل يريد إنقاذ نفسه، حتى إن بعضهم قد ألقى سلاحه وفر هاربا بحصانه نحو الحدود الروسية. - غريغور لا بد من العودة إلى القرية، لقد بقي أبي وأمي هناك، وإخوتي لا أعلم ما الذي جرى لهم، سأصل إليهم مهما كلفني الأمر. - أجننت؟! كيف يمكننا العودة ونحن ملاحقان من قبلهم، سيقطعوننا إربا إن حظوا بنا. - لم أعد أخشى شيئا، إن كنت لا تريد المجيء فلا تحملني ذنبا آخر كما أشعر تجاه بانوس. - لم أرفض فكرتك، لكن كيف يمكننا الوصول إليهم؟
نظر إليه وهو يفكر في سؤاله: لا بد من طريقة توصلنا إليهم.
في الطريق نحو الحدود الإيرانية مروا بقرية خاوية على عروشها كانت تبدو أنها قرية كردية تم إحراق بيوتها وقتل أهلها أثناء الاجتياح الروسي، دخلا البيوت بحثا عما يسد الرمق، فالجوع قد أخذ منهما مأخذه، وبينما أرتين يجوب غرف أحد البيوت الذي لم يحترق بالكامل وجد صندوقا خشبيا مقفلا، كسر القفل وإذا به ممتلئ بالملابس الكردية، نادى غريغور بأعلى صوته. - لقد وجدتها، وجدتها.
جاء غريغور وقد أمسك بدجاجة وهو يلهث: لقد أنهكتني حتى استطعت الإمساك بها، قل لي ماذا وجدت؟ - انظر، إنها ملابس كردية. - وماذا نفعل بها! - أيها الثور الهائج، أعلم أنك عندما ترى الطعام، حتى وإن كان كائنا حيا في يديك، تنسى نفسك. - دعك من ذلك، قل لي ماذا نفعل بهذه الملابس. - سنرتديها ونتجه نحو قريتنا ونظهر لهم أننا أكراد، وبذلك لن يعترض طريقنا أحد. - وماذا لو سألونا عن بطائقنا التعريفية وعلموا أننا أرمن؟ - ومن يلتفت للبطائق بهذه الأجواء المضطربة في المنطقة، إضافة إلى أننا سنتجنب القرى والأقضية في طريقنا، وإن رأينا دورية أو مجموعات من البشر فسنحاول الاختباء أو الفرار منهم إن تطلب الأمر ذلك. ما بك يا غريغور، أصبحت تذكرني ببانوس في تساؤلاته، هيا اختر منها ما يناسبك وقم بارتدائها.
كانت تلك القرية النائية توحي بنوع من الطمأنينة، لذلك قررا الاستراحة فيها؛ لأن أبدانهما لم تذق طعم الراحة منذ شهرين من القتال والانسحاب والفرار.
على امتداد الحدود الإيرانية توجها غربا نحو قرية «ديز» العثمانية، وفجأة في الطريق رأيا من بعيد رجلين يركضان بكل ما أوتيا من قوة، فأسرع أرتين وغريغور بالاختباء وراء صخرة كبيرة على سفح تلة، لاح لهما بعد ذلك ثلاثة من الخيالة بالزي العسكري العثماني، أطلقوا النار عليهما فسقط أحدهما مصابا، رجع صديقه يريد مساعدته، فأشار الثاني بيده إليه بالمضي دونه، وصل الجنود إلى الرجل المصاب فوقف اثنان على رأسه، والثالث أكمل طريقه خلف الرجل الثاني الذي قرر أن يتجه نحو التلة التي يختبئ فيها أرتين وغريغور بسبب وجود الصخور الكبيرة التي تعيق سرعة من يطارده، عندما وصل التلة استطاع أن ينجو بنفسه من الجندي الذي وقف غاضبا وهو يطلق النار التي ترتطم على الصخور وترتد إلى السماء، وصل الرجل قربهما وعندما أدار ظهره لكي يحتمي بصخرة كبيرة تفاجأ بوجودهما حوله فأصابه الجمود، حسب أنهما من العسكر بالزي الكردي، وضع غريغور إصبع سبابته على شفتيه بشكل عمودي موحيا له بالسكوت، حينها انفرجت أساريره وهز رأسه مبتسما ابتسامة صفراء بوجه شاحب من شدة الخوف.
بعدها نادى الجنديان على صاحبهما لكي يعودوا أداراجهم، وتم ربط الشخص المصاب بحبل وجره حصان أحدهم طول الطريق وهو يصرخ من شدة الألم، وضع الرجل كفيه على أذنيه وتكور على نفسه وهو يبكي حتى لا يسمع صراخ صديقه، توجه إليه أرتين وربت على كتفه: هون عليك يا أخي.
عدل جلسته ونظر في وجه أرتين، كانت نظراته تحمل وجعا عميقا مغمورا بتلكما العينين الغائرتين: أخبرنا لماذا كانوا يلاحقونكما؟ - أنا أرمني.
قالها وهو يرتجف خوفا، ثم أكمل: لكن والذي تؤمنان به لم أكن مع المتمردين.
شعر أرتين بانتكاسة كبيرة عندما رأى الهوان الذي وصل إليه الأرمن حتى يقول تلك الجملة مع كل هذا الخوف. - وهل كلمة أنا أرمني تجلب كل هذا الانكسار في الوجوه؟
صمت الرجل ولم يجب بشيء، كان يرتجف ويشهق دون إرادة من شدة الخوف. - لا تخف، نحن من أرمن مدينة «وان»، وقد تنكرنا في الزي الكردي حتى لا يعترضنا أحد، اهدأ قليلا، ثم أخبرنا ما الذي حصل حتى كانوا يريدون قتلكما.
سقاه غريغور ماء ثم رشه على وجهه ومسح الدموع من عينيه، تخلص من الخوف وشعر بالأمان بعدما احتضنه غريغور وهو يخفف عنه. - عندما سيطروا على قريتنا بعد انسحاب الروس منها حاول الثوار صد الهجوم العثماني لكنهم لم يستطيعوا الصمود ففروا هاربين إلى قرية «زرناق»، ولم نستطع الفرار من القرية، بعدها جمع العثمانيون الأهالي في وسط القرية، الرجال في مجموعة والنساء والأطفال وكبار السن في مجموعة أخرى، ثم أحضروا أحد الخونة من أهالي القرية فجال الخائن بيننا وأي شخص يؤشر عليه يتم ضربه بالعصي وسوقه على جنب، فأخرج من بيننا كل من تعاون مع الثوار أثناء المعركة وعمل مع الروس عندما سيطروا على القرية في الأشهر الماضية، إلا أنا وأخي الكبير الذي أخذوه قبل قليل كما رأيتم. - كان أخاك؟! - نعم، لم يؤشر علينا الخائن فنجونا، اقتادوا أولئك المساكين خارج القرية، وسمعنا بعدها أصوات طلقات نارية «تم قتلهم جميعا»، وبدأت النساء بالبكاء والصراخ، لكنهم لم يأبهوا بذلك وأخبرونا أن نحضر أنفسنا جميعا للرحيل من القرية غدا صباحا. - هل فعلوا ذلك فقط في قريتكم أم جميع القرى المجاورة؟ - يبدو أنه كان فرمانا حكوميا؛ لأننا رأينا في اليوم التالي مجموعات من قرى مجاورة يسوقهم الجنود على الطريق، الجميع قد واجهوا مصيرا مشابها. - أكمل، أكمل كيف استطعتم الهرب؟ - قبل أن تصل القوات العثمانية إلى قريتنا أرسلنا عائلتنا مع الذين نزحوا في بداية الأمر إلى مدينة وان، ومنها إلى الأراضي الروسية، وبقينا أنا وأخي مع الثوار نقدم لهم المساعدة في الخطوط الخلفية أثناء القتال، لكننا لم نستطع الهرب معهم؛ إذ لم يكن هناك تنسيق عال بين المقاتلين. هرب القادة فجرا، وفي الصباح تفاجأ المقاتلون بذلك، ولم يستطع الكثير منهم الهرب فقتل من قتل في المعركة، والباقون قتلوا بسبب الخائن. - لكن لماذا لم يؤشر عليكما؟ ما دمت تقول إنكم ساعدتم الثوار؟ - هذا الخائن عندما كان صغيرا، مات أبوه بعدما سقط على رأسه من سطح بيتهم ؛ لأنه كان ثملا، وتزوجت أمه بعد ذلك من تاجر أرمني مرت قافلته من القرية فرآها وأعجب بها، فتركته أمه وراحت مع زوجها الجديد إلى بتليس حيث أهله، فأشفقت عليه أمي وربته كابنها معنا، لقد عاش بيننا ولم يشعر يوما أنه فاقد لأبويه؛ لذلك لم يؤشر علي وعلى أخي يومها.
أما كيف هربنا .. فعندما خرجنا من القرية مع الأهالي كلفوا عشرة جنود لحمايتنا في الطريق وبعدما ابتعدنا عن القرية قليلا أوقفونا وطلبوا منا أجور الحماية وإلا سيتركوننا في الطريق لقمة سائغة لقطاع الطرق، فجمعوا من الأهالي كل ما يملكون من ذهب ومصوغات، وكانوا يعتدون على الفتيات الجميلات ونحن لا نستطيع فعل شيء لهم، سوى سماع بكاء أمهاتهن عليهن، وتم بيع بعضهن إلى أثرياء القرى التي مررنا منها للعمل في خدمة الحرملك، لم نتحمل وجودنا بينهم ونحن لا نستطيع فعل شيء لأجلهم؛ لذلك خططنا الهرب منهم نحو إيران إلى روسيا، ومن ثم إلى أوروبا. كان الوقت الأمثل للهرب هو قبل الفجر؛ إذ كان الحراس لا يستطيعون مقاومة النعاس حينه، انتهزنا الفرصة اليوم فجرا أنا وأخي وهربنا لا ندري بأي اتجاه، فقط نريد الابتعاد عنهم، لم يكشف أمرنا في البداية، لكن يبدو أنهم أحسوا بذلك بعد طلوع الشمس، ومن حسن حظنا أن هذه الأراضي ليست مستوية فلا يمكن رؤية أحد من بعيد بسبب التلال المتوزعة فيها، لكن لا أدري كيف لحقوا بنا ولم نشعر إلا وهم خلفنا يأتون كالبرق على صهوة خيولهم، وأظنكما تعرفان ماذا حصل بعد ذلك. - أتعلم ما حل بأهلي قرية «أنجرلك»؟ - أظن أنهم رحلوا إلى ولاية الموصل منذ مدة، لكن بالتأكيد إنهم لم يصلوا بعد؛ فالسير بهذه الأعداد الكبيرة من الأشخاص وبوجود الأطفال وكبار السن والتوقفات التي تحصل في القرى يؤخر وصولهم كثيرا، هم لا يسلكون الطرقات العامة الرئيسية بين المدن، بل يحبذون الطرق الفرعية بين القرى لأجل الوقوف فيها والتزود بالمؤن. آخر قرية مررنا منها إن لم تخني الذاكرة كانت قرية «باش قلعة». - لم تخبرني ما اسمك؟ - اسمي «ديرون »، وأنتما؟ - أنا اسمي أرتين وهذا غريغور، أخبرنا ماذا ستفعل الآن بعد خلاصك منهم؟ - سأتجه إلى إيران وأحاول الوصول إلى روسيا ومنها أخرج إلى أوروبا. - إذن سر من هذا الاتجاه ستجد في طريقك قرى كردية مهدمة، ابحث في البيوت عن ملابس كردية، وارتدها، ثم بعد ذلك توجه إلى إيران وكن حذرا.
الفصل الرابع والأربعون
قرية عين كارم - فلسطين 1948م
على خط الصد الأمامي قرب قرية «عين كارم» كان حسن متكئا على صخرة كبيرة، يحمل رشاشه نوع ستن الذي اغتنمه من أحد جنود الجيش البريطاني، يضع الطلقات النارية بحذر في مخزنه، وقد انتشر المقاتلون على امتداد خط الصد، كل يجهز سلاحه ويتجهز لأي هجوم وشيك من عصابة الهاغانا الصهيونية؛ إذ بعد قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، تراجعت القوات البريطانية خطوة إلى الوراء وخطت العصابات الصهيونية «الهاغانا والأرغون وشتيرن وغيرها» خطوة للأمام في ساحة المعارك، فطرأت تغييرات كبيرة على القتال؛ إذ إن الاشتباك مع القوات النظامية يعني أنك لا تخشى على الأهالي من القتل الجماعي والمصير المجهول إن هزمت أو انسحبت من الاشتباك، لكن القتال مع العصابات الصهيونية التي تنتهج معركة الأرض المحروقة وتتبع سياسة زرع الرعب في نفوس أهالي القرى العربية والمجازر التي يتعمدون إليها، جعل التراجع أو الانسحاب أمرا مستحيلا، بالنسبة للمقاتلين إما النصر وإما الشهادة.
كانت السماء ملبدة بالغيوم الرمادية الثقيلة، وتنذر بهطول أمطار غزيرة في أي لحظة، ولعلها تنتظر بدء القتال لتنخرط السماء في معركة الأرض المرتقبة بين الحق والباطل وتنهمر منها القطرات كما تنهمر الطلقات من فوهات البنادق، لكن قطرات السماء تنهمر على الطرفين على الحق والباطل! إذن هي ليست مع الحق لتدافع عنه ولا مع الباطل لتقاتل دونه، تذكر حسن بنيامين الذي يعتقد جازما أنهم على حق، وقال في نفسه لربما هي معركة بين الحق والحق لكن بوجهات نظر مختلفة، أو كما بوجهة نظر السماء!
اقتربت أصوات العربات العسكرية، تأهب حسن وصوب سلاحه نحو جهة الصوت، رمق بنظرة خاطفة صاحب مدفع الرشاش الذي كان يعتلي مكانا مرتفعا وقد أمسك مقبضي سلاحه وتجهز للرمي، وكأنه فارس يمسك لجام فرسه وهو يسابق الريح. وما إن برزت العربات لهم حتى سمع تكبير أحد المقاتلين وبدأ الاشتباك، كانت العربات العسكرية المصفحة تتقدم السير وخلفها يختبئ مقاتلو الهاغانا، كانت الطلقات التي تصطدم بالعربات لا تحدث فيها أي أثر، فأخرج حسن قنبلة يدوية ورماها بأقصى ما لديه من قوة لعلها تقع خلف العربات، لكن المسافة كانت بعيدة فارتطمت بواحدة منها وانفجرت دون أن تحدث تأثيرا كبيرا فيها، كانت مدافع الرشاش المنصوبة على تلك العربات تمطر الطلقات دون توقف ولا تدع مجالا للتصويب، سقط بقربه أحد المقاتلين، هرع إليه حسن مطأطأ الرأس، كانت الطلقة قد اخترقت صدره، والدم يتدفق من مكان الإصابة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، حاول حسن أن يلقنه الشهادة، لكنه لم يلحق به، انتبه إلى يده فرآه قد رفع السبابة، أغمض حسن عيني الشهيد بمسحة على وجهه، ثم تابع القتال بحماس أكبر وبدأ يكبر ويدب الحماس بنفوس المقاتلين ويطلق النار تجاه العربات، سقط العديد من الشهداء هنا وهناك، والعربات تقترب ببطء وثبات شديدين، كان تسليح جنود الهاغانا على أتمه، والعربات المصفحة لها دور كبير في تقدمهم نحو القرية.
حاول حسن مع ثلاثة من المقاتلين الالتفاف على العدو ومفاجأتهم من الخلف، وفتح ثغرة في صفوفهم بحركة بطولية، لكنها باءت بالفشل ووقعوا تحت نيران المدفع الرشاش، فأصيب حسن في ساقه اليسرى ووقع في حفرة كبيرة، واستشهد اثنان ونجا الثالث من الإطلاقات، حاول الثالث أن يحمل حسن وينسحب لكن التحرك من مكانهم والخروج من الحفرة كان يعني الموت المحتم، نزع المقاتل قميصه وشقه من النصف ثم ربط به مكان الجرح، شعر حسن ببرودة تسري بداخله وظن أن الموت دنا إليه أكثر من أي وقت مضى، نظر إلى السماء رأى فيها وجه أنوشكا وهي تذرف الدموع، سقطت قطرة في خده ظن أنها دموع أنوشكا، اختلجه شعور غريب اعتلت ابتسامة على وجهه، سقطت قطرة ثانية وثالثة، ثم أنيرت السماء ببرق رسم على خدها مسارا معوجا أردفه صوت رعد عال، ثم هطلت الأمطار بغزارة، ظن حسن أنها النهاية وأن روحه ستلحق بروح هشام هناك في السماء. لكن فجأة علت أصوات التكبيرات، حاول المقاتل الذي معه في الحفرة أن يسترق النظر تجاه القرية، فصاح بلهفة الفرج هو أيضا: الله أكبر! واقترب من حسن: تحمل قليلا يا صديقي، لقد وصلت الإمدادات العسكرية وجنود جيش الإنقاذ العربي المرابط في الجهة الثانية للقرية.
بعدها بدقائق بدأت أصوات العربات العسكرية تبتعد شيئا فشيئا من مسامع حسن وتقدم المقاتلون للأمام حتى وصلوا الحفرة. وضعوا حسن على حمالة نقل الجرحى على عجل وأسعفوه إلى مؤخرة الصفوف.
مكث حسن في أحد بيوت قرية عين كارم لحين تماثله للشفاء بعدما أخرج الطبيب العسكري الرصاصة من ساقه وربط موضع الإصابة باللفائف البيضاء. كان صاحب البيت «أبو عثمان» يشعر بفخر كبير؛ لأنه يستضيف مقاتلا من المقاومة في بيته، يسهر الليل كله عند رأسه، وعندما يستيقظ حسن يسأله عن حاجته ويحضر أنواع الطعام إليه، ويبادله الحديث لكيلا يضجر، وكأن حسن ملك نزل عند أحد رعيته، كان حسن يردد كل مرة: يا أبا عثمان، لا تتكلف كثيرا، البلد يمر بظروف صعبة، ونحن على أبواب حرب لا ندري كم ستطول. - أنا لا أتكلف، هذا أقل من واجبك، ثم إن دماءك التي أريقت من أجلنا تستحق هذا وأكثر. الخير كثير والحمد لله، وذبيحة واحدة لأجل بطل مثلك لا تساوي شيئا في مقاييس الكرم عند العرب.
لم يرد حسن بشيء؛ فالجود والكرم وواجب الضيف عند العرب وأهل القرى مسألة لا نقاش فيها، ثم ابتسم بوجه أبي عثمان وقال: تذكرني يا أبا عثمان بقصة ذكرها لنا ذات مرة أستاذ الدين «محمود الخطيب» عن حاتم الطائي. يقول: قرأت ذات مرة أنه «قيل لحاتم: هل في العرب أجود منك؟ فقال: كل العرب أجود مني. ثم أنشأ يحدث قال: نزلت على غلام يتيم من العرب ذات ليلة، وكانت له عشرة من الغنم، فذبح لي شاة منها وأتاني بها. فلما قرب إلي دماغها قلت: ما أطيب هذا الدماغ ! فذهب، فلم يزل يأتيني منه حتى قلت: قد اكتفيت. فلما أصبحت إذا هو قد ذبح العشر شياه، ولم يبق له شيء .. قيل: فما صنعت به؟ فقال: ومتى أبلغ شكره ولو صنعت به كل شيء. قال: على كل حال أعطيته مائة ناقة من خيار إبلي.» - وأين نحن من جودهم وكرمهم يا حسن؟! - يا أبا عثمان، يقول أبو الطيب المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتال
ربت أبو عثمان على كتف حسن وقال: نعم الفقر الذي يأتي من الجود يا بني.
الفصل الخامس والأربعون
القدس - فلسطين 1947م
الخوف خيم على المدينة العريقة التي تمتد إلى جذور التاريخ وارتسم على وجوه سكانها، وتحولت الأحياء إلى غيتوات بعد حوادث القتل الفردية والمناوشات بين العرب واليهود، وقلت حركة الناس في الأسواق وخارج المدينة، وارتفعت الأسعار إلى الضعف، واتجه الأهالي إلى التزود بالمؤن تحسبا لأي طارئ، وكأن ملامح حرب قادمة تلوح في الأفق؛ لأن البريطانيين يلمحون بالانسحاب من الساحة، ولا بد لنهاية الانتداب من معركة مصيرية.
ضغط مايكل زر الراديو، ثم اتكأ على الأريكة الخشبية كما كان يفعل في ميونخ، كانت الأخبار باللغة العربية والمذيع ينطق الكلمات بمخارج حروف متقنة وبصوت جهوري: «هذا وقد حصلت اشتباكات عنيفة في مدخل حي قطمون جنوبي القدس بين الثوار والعصابات الصهيونية المجرمة، مما أدى إلى مقتل اثنين منهم وجرح ثلاثة آخرين، إلى أن تدخلت القوات البريطانية إلى جانبهم وانسحب الثوار دون خسائر تذكر.» لم تكن تلك الأخبار سارة بالنسبة له، شعر بضيق شديد، ثم أقبل إليه بنيامين وهو يبتسم: - يا لكذبهم! لقد كنت في الاشتباك ولم يقتلوا منا أحدا غير إصابات طفيفة. - بدأت الأوضاع تتأزم هنا كثيرا يا بنيامين، أحيانا أفكر في ترك هذه البلاد، إن الأجواء تذكرني بأيام ما قبل الحرب العالمية الثانية، لقد تعبت من الحروب والقتال، ألا تسع الأرض الجميع؟ - المسألة ليست بهذه البساطة، إنها أرضنا وفيها كان هيكلنا، أرض الميعاد ونهاية الشتات، هنا حكمنا أربعة قرون، وكانت لنا وستعود لنا وحدنا بوعد الله لإبراهيم «لنسلك أعطي هذه الأرض»، ولم يكن ليعده بذلك لو لم نكن شعبه المختار لنكون بعدها أسيادا على باقي البشر. - كلامك يذكرني بالنازية والعرق الآري وسيادة الإنسان الأعلى الذي يخصهم دون غيرهم!
قطب بنيامين حاجبيه وأظهر انزعاجه من كلام مايكل الذي شبههم بالنازية. - أعلم أن الكلام لم يرق لك، لكن كل الشعوب تظن أنها شعب الله المختار، والله في الحقيقة لا يعترف بالشعوب، بل بالأفراد، بكل إنسان وما يفعل من خير وشر دون النظر إلى قومه وشعبه وحتى دينه إن كان يؤمن به.
رد عليه بنيامين: إذن كل واحد منا «فرد الله المختار».
هز مايكل رأسه يائسا. - دع الله في شأنه وأخبرني هل صحيح ما يشاع أن البريطانيين قد عزموا الرحيل؟ - يبدو ذلك. - ويتركونا وحدنا أمام العرب؟! - لن يتركونا وحدنا، بل نهاية الانتداب تعني بدايتنا. - لم أفهم. - حلم هرتزل سيتحقق. - أي حلم؟ ومن يكون هرتزل هذا؟ - يهودي ولا تعرف هرتزل! إن خنقتك بيدي هاتين من سيعاتبني؟! - لا يعاتبك أحد، لكن لو قضيت يوما واحدا في معسكرات النازية لنسيت أنك إنسان أصلا ولك اهتمامات معرفية أو ثقافية، هيا أخبرني ماذا كانت خطته؟ - حسنا .. قبل خمسين عاما كتب هرتزل خطة اقتصادية كاملة لكيفية إقامة دولة يهودية هنا على هذه الأرض على شكل كتاب صغير، حينها كانت هذه المنطقة بأسرها تحت الحكم العثماني، ولم يسمح العثمانيون بتمليك الأراضي لليهود فيها، فحاول إقناع السلطان ببيع أراض لليهود مقابل سد ديون الدولة العثمانية، لكن السلطان رفض عرضه وطرده. بعدها بسنوات مات هرتزل بعمر ناهز ال 44 سنة. - مات صغيرا! - لكن فكرته عاشت طويلا، وستعيش إلى الأبد. - ماذا كانت خطته؟ - لو سألتك لم تأخرت الرحيل من ألمانيا، لقلت إنك كنت تأمل في تحسن الأوضاع والبقاء هناك. - ربما. - هذا وأنت من عائلة متوسطة الدخل، فكيف يمكن إقناع اليهود أصحاب رءوس الأموال الكبيرة بترك تلك البلاد التي ألفوها وأسسوا فيها حياتهم وتجارتهم ثم دعوتهم للمجيء إلى أراض مقفرة لا حياة فيها؟ بالتأكيد لن يتركوا حياتهم هناك. - كلام منطقي، لكن أين الخطة؟ - ببساطة كانت خطته تقول: «في بداية الأمر يهاجر الفلاحون اليهود من أصحاب الدخل المحدود وصغار الكسبة والحرفيين إلى فلسطين بسهولة إذا ما تم توفير الأراضي وفرص العمل لهم، مقابل الحصول على أجور تكفيهم للمعيشة .. هؤلاء يعبدون الطريق أمام أصحاب الدخل المتوسط من التجار والمستثمرين؛ لأن العمال والفلاحين يكونون نواة لفتح الأسواق التجارية، وهؤلاء التجار يلبون متطلباتهم واحتياجاتهم .. وهؤلاء التجار أيضا يجلبون رءوس الأموال الكبيرة والمستثمرين الكبار إليها، وهكذا بالتدريج تتحول أرض قاحلة إلى مركز تجاري كبير، في حين لا يمكنك إقناع أي تاجر كبير أو صغير بالهجرة إلى أرض لا حياة فيها .. إذن البداية بالفلاحين وصغار الكسبة، والنهاية مركز تجاري ضخم ينافس فيه التجار على مستوى دولي .. وهذه صلب فكرته الاقتصادية.»
ساد صمت بينهما، كان مايكل يفكر بما سمع وهو يتأمل السماء الملبدة بالغيوم من خلال نافذة الغرفة، ثم أطرق قائلا: أظن أن الخطة تصلح في مكان آمن، وتلك هي فكرته لما أراد أن يشتري أراضي من السلطان بشكل رسمي ولم يرد الدخول في صراع مع الفلسطينيين هنا، أما وقد حصل ما حصل لا أظن أن الفكرة قابلة للتطبيق الآن.
الفصل السادس والأربعون
ديار بكر - تركيا 1916م
برقت السماء وأنارت بوميض أبيض رسمت على خدها خطوطا متعرجة طويلة لامست الأرض عند نهاية المدى، وكأنها توحي إلى طرق الهجرة القسرية للشعب الأرمني من موطنهم الأصلي إلى أرض الشتات يسوقهم الجنود بالسياط دون رحمة لأيام وليال. وجوههم شاحبة غزاها الخوف من المصير المجهول، وأسبالهم رثة حفاة يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يتساقطون على قارعة الطرقات جثثا هامدة من شدة الجوع والعطش والبرد القارس، والسير لا يتوقف لأجل أحد، كل من يحتضر يترك في مكانه يجابه مصيره لوحده في الفلاة، ثم يكون لقمة سائغة للوحوش البرية.
كان نهر دجلة شاهدا على أرواح لأجساد ناعمة بيضاء لم تطأها يد إنسان بسوء مذ خلقها الله، تعرضت للاعتداء الجسدي فلم تحتمل البقاء على قيد الحياة، فغسلت نفسها بالنهر ثم ارتقت إلى السماء، تبعتها صرخات الأمهات الثكالى دون أن يسمع لهن صوت أو يرأف بهن قلب، جثث تطفو على النهر، تجري الهوينا وكأنه مشهد تشييع تلاحقها أسراب من النوارس إلى مثواهم الأخير. كانت في مؤخرة الركب عربة يجرها أحد الشبان بصعوبة بالغة عليها رجل مسن يبدو أنه مريض أو لا يستطيع المشي، شيخ طاعن في السن ما كان قوته وتأثيره على الدولة حتى يهجر قسرا! لكن الفرمان، فرمان لا يفرق بين مذنب وبريء أو بين كبير وصغير. •••
انكسرت عجلة العربة ووقع الشيخ أرضا، توقف الجميع عن المسير وتجمعوا حوله، جرى حديث بين الشاب والجنود، كان يبدو عليهم الاستعجال لإنهاء مهمتهم. بعدها أجبروا الباقين بالمسير وتركوا الرجل المسن مع عجوز بدت أنها زوجته، على قارعة الطريق حاول ذلك الشاب إقناعهم بالبقاء معهما لكنهم أبوا ذلك، وانطلقوا في طريقهم، بقي الشاب يبتعد عنهما وهو يلتفت إليهما ويلوح بيد ويمسح دموعه بالأخرى.
بعد اختفاء المجموعة من على امتداد البصر، هرع أرتين مع غريغور نحوهما، عندما رأت المرأة العجوز القادمين صوبها راحت تحضن الشيخ، تبكي وترتجف من الخوف وتناجي الرب أن يحفظهما من شر القادمين، كلما اقترب أرتين منهما كانت الرؤية تتضح أمامه وضربات القلب تتسارع مع خفقان كبير، التفت إليه غريغور بوجه يعتليه الشوق: - ويكأنني أعرف هذه الهيئة وإن شحب الجسد.
ابتسم أرتين وكأنه ازداد يقينا بما شك فيه، لكن العجوز كانت قد ضمت رأس الشيخ إلى حجرها وتكورت عليه، فلا يرى منها سوى ثوب أسود وإشارب أبيض. عندما بلغا المكان قال أرتين لها: لا تخافي، نحن لسنا عثمانيين ولا قطاع طرق.
أخرجت المرأة شهقة عندما سمعت الصوت، ثم رفعت رأسها وصاحت بأعلى صوتها. - أرتين! - أمي.
ارتمى إلى حضنها وكأنه طفل صغير، كان وجهها شاحبا، وثيابها رثة تبكي وتشم أرتين وهي تكاد لا تصدق رؤيته، كان المختار تلمكيان يئن من الألم بسبب وقوعه من العربة، فقال غريغور: إن وجودنا هنا خطر، يجب أن نبتعد عن طريق الدرك ونحاول إيجاد مكان آمن.
حملاه على جواد أرتين وسارا مبتعدين عن الطريق، انتبه أرتين إلى أبيه وقد ذوى عوده، وخوي عموده، وانحنى صلبه، ورق جلده، ودق عظمه، ولم يبق من هيبته وكبريائه سوى ذلك الجسد الهزيل والوجه الشاحب، واللحية البيضاء الطويلة.
قرب شجرة جوز وحيدة على سفح التلة تنحنح المختار، ثم قال بصوت أجش: أنزلاني.
كان يبدو عليه الاحتضار .. ارتمى إليه أرتين. - أبي لا تمت أرجوك، سنصل إلى قرية «المنصورية» ونجلب لك الطبيب، تحمل قليلا، أرجوك يا أبي تحمل.
تنفس المختار بصعوبة، ثم قال: كانت أمنيتي أن أموت وأدفن بأرضنا هناك في «أنجرلك» في مقبرة العائلة، لكن ما من فائدة، لم تفهموا خطورة ما فعلتم، أهذا الذي يرضيكم؟ أن نموت مثل الكلاب على الطرقات؟ - سامحني أرجوك، نعم أنا لم أسمع كلامك، لكن الثورة كانت ماضية بي وبدوني. - قل لي أين قادتكم؟ لماذا لم يلاقوا ما يلاقيه شعبنا؟! - لكن الحكومة التي أفنيت عمرك بالولاء لها، ها هي اليوم أخرجتك من دارك، لماذا لا تلومهم بما يفعلون من جرائم بحق شعبنا؟
التفت إليه غريغور ينهره: هذا الكلام ليس وقته الآن يا أرتين! - دعه يا غريغور، هذا النقاش عمره أكثر من عقدين.
ثم التفت إلى أرتين وقال: وماذا تريد منهم أن يفعلوا بعد وقوفكم مع الروس؟ لم تبقوا لنا عذرا أو تبريرا نستطيع الاتكاء عليه أمامهم.
كان يتكلم ويستنشق الهواء مع صوت صفير يخرج من صدره يظهر مدى صعوبة التنفس. - أبتي، لم تكن الغاية أن نوصل شعبنا إلى ما وصل إليه حالهم اليوم، نحن أردنا إعادة بناء دولتنا المستقلة، أردنا خلاصهم من ظلم الحكم العثماني يا أبتي، ثم نحن الثوار الذين وقفنا أمامهم وقاتلناهم وتحالفنا مع الروس، فلماذا يتم تهجير الشعب بأكمله؟ فليحاسبونا نحن لا الشعب الأرمني كله. - ألم يهجر المسلمون من البلقان بمئات الآلاف؟ لقد كانت إمبراطورية عظمى تدعمهم، ومع ذلك تم قتلهم وتشريدهم من أراضيهم، لماذا لم تأخذوا العبرة منهم وتعدلوا عن قرار وقفوفكم مع روسيا في الحرب؟ لقد باعوكم في أول اختبار حصل لهم، فروسي واحد عندهم أهم من ألف أرمني.
طأطأ رأسه أرتين وهو يقول: لقد أخطأنا، أعترف بذلك. - وما فائدة هذا الاعتراف بعدما خسرنا كل شيء وتحولنا من أمة لها أرضها وتاريخها إلى مشردين وعبيد وخدم، وبيعت نساؤنا في الأسواق، وتشردنا بين الأمم، من يجمعهم ويعيدهم إلى أرضنا مرة أخرى؟! هل الروس أم الأوروبيون وإرسالياتهم! ثم أين هم مما يقاسيه إخوتهم في الدين، هذا إن كان لديهم دين وانتماء للمسيحية. ستلعنكم الأجيال القادمة يا ولدي ويحملونكم خسارة أرضهم وتاريخهم، لكنني أعلم أن قادتكم الجبناء الآن يجلسون في قصور سادتهم وملوكهم ليكتبوا التاريخ على أهوائهم ويبرئوا ساحتهم من المسئولية في هذه الجريمة التي كان لكم فيها اليد الأولى، ويضعوا الإجرام والوحشية بحق العثمانيين والأكراد، وأنا لا أبرئ هؤلاء أيضا، لكنهم لم يفعلوا هذا دون سبب. - لكن يا أبتي ألم تر كم جرت على أيديهم من مذابح طوال سنين خلت، كيف لنا أن نقف معهم؟! ثم إن التهجير القسري والمذابح التي يقومون بها الآن ما هي إلا تكملة لتلك المذابح ومخطط لها مسبقا. - مخطط لها مسبقا!
قالها وهو يبتسم ابتسامة استهزاء، ثم استرسل بالكلام: أنا أعرفك أذكى من ذلك يا بني، أية حكومة غبية هذه التي تريد إبادة شعب كامل، وقبل الإبادة يزج أبناءها في جيشها ويدربهم على القتال ويعطيهم السلاح! هل العثمانيون حمقى حتى يعطوكم السلاح الذي كانوا في أمس الحاجة إليه؟ ألم تخونوا الدولة عندما فررتم من المعارك مع أسلحتكم ثم تجمعتم على شكل عصابات لضرب خطوط الإمداد العسكري؟ قل لي ماذا يفعلون بنا بعد كل هذا؟ أتستغرب من قتلنا وتهجيرنا؟ أية حكومة هذه التي تتهاون مع هكذا خيانة، كم خسروا من جنود وأراض بسبب خيانتكم لهم؟ قل لي كم؟! - هون عليك يا أبتي ، لا تتعب نفسك بالكلام أرجوك. - لقد قتلتم كل أمل لشعبنا في الحياة .. فليسامحكم الرب على فعلتكم، فليسامحكم الرب!
بعدها بدأ يتنفس بصعوبة أكبر ويصدر صوت حشرجة من صدره. - عندما أموت ادفنوني في قبر من دون شاهد، لا أريد أن يعرف أحفادي بمكان رفات جدهم الذي لم يستطع الحفاظ على أرضهم. ثم نظر في عيني أرتين نظرة تحمل كل آلام الأرمن ومآسيهم فيها وأغلق عينيه إلى الأبد.
صرخت أمه ونثرت التراب فوق رأسها وهي تبكي وتنوح عليه، ارتمى أرتين على صدره وهو يبكي ويقول: قم يا أبي أرجوك قم، أبي أرجوك لا تحملني ذنب الأمة كلها، نعم عصيتك ولم أسمع قولك! نعم أذنبت بحقك وبحق كل من أوذي وخسر أهله وماله وأرضه جراء ما حصل!
لكنني أشهد الرب أن نيتي كانت الخير لهم، لقد بعت الحياة لأجل راحتهم، ودخلت المعارك والحروب، وعرضت نفسي للموت مرات ومرات من أجل أن يعيشوا بعزة وكرامة، قتلت بيدي هاتين كل من ظلمهم وأخذ حقهم وقتل أبناءهم، أبي هل هذا جزاء من أراد الخير لأمته وأفنى عمره في سبيلهم؟ هل هذا جزاؤه؟!
حاول غريغور أن يهدئه فسحبه إليه وضمه إلى صدره: - كفاك تقسو على نفسك وتحملها ما لا ذنب لها.
ثم وضع غريغور يده على جبين المختار وبدأ يردد: «بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد .. أيها الإله العظيم الذي تعذبت على خشبة الصليب من أجل خطايانا، كن معنا يا يسوع المسيح بصليبك المقدس، ارحمنا، نجنا من كل أذى، نجنا من كل سلاح ماض، من كل خطيئة مميتة، أوصلنا إلى طريق الخلاص، نجنا من كل خطر جسدي أو روحي، كن تعزيتنا وقوينا على حمل الشدائد لأجل محبتك، زدنا إيمانا وثبتنا بمحبتك تعالى إلى الأبد. لصليبك يا سيدي نسجد، ولقيامتك المقدسة يا رب نمجد، بحق ميلادك العجيب ودمك الثمين وموتك على الصليب لأجل خطايانا، احفظنا، آمين، احفظنا يا يسوع لأنك قادر أن تقودنا إلى طريق الخلاص، واجعلنا نكون من مختاريك .. آمين.»
تحت ظل شجرة البلوط الوحيدة على سفح التلة وارى الثرى المختار تلمكيان بعيدا عن قريته، دفنه أرتين مع غريغور كما أراد دون شاهد أو اسم. كان أرتين يبكي بحرقة وهو ينثر التراب على جثمانه وكأنه يدفن كل آمال الأرمن بأرضهم وثورتهم إلى الأبد، حتى هبت ريح قوية أصدرت الشجرة حفيفا قويا وكأنها تحتفي بروح المختار وتستقبل رفيقها الأبدي.
الفصل السابع والأربعون
دير ياسين - فلسطين 1948م
امتلأت باحات الأقصى بالمشيعين، وكأن أهل القدس كلهم قد تجمعوا فيها، كانت الجنازة الخشبية المغطاة بالعلم بالفلسطيني قد وضع فوقها إكليل من الورود بشكل دائري تكريما للشهيد، يحملها على الأكتاف ستة رجال يتقدمهم ضابط ببزته العسكرية الرسمية، وعلى جانبي الجنازة صفوف من الجنود يرتدون زيهم العسكري الأخضر، وعلى رأسهم الغترة والعقال، وخلفها القادة والضباط وشخصيات القدس المعروفون، يمشون الهوينا مع حشد غفير من الناس الذين يكبرون ويهللون، أطلق الجنود الرصاص نحو السماء، بكت فلسطين شهيدها بعيون أبنائها ونعاها كما تنعى الأم وحيدها، ثم شيعوه إلى المصلى القبلي، ليصلوا عليه. لم تشهد القدس صلاة جنازة مثلها قط، اصطف الناس في الباحات والحدائق والطرقات وحتى البعض اعتلى الجدران لضيق المكان، ولأن الصلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، لم يكن يفصل بين صف وآخر سوى شبر واحد، كانت مآذن الأقصى وجوامع القدس تصدح بالتكبيرات وأجراس الكنائس تدق بحزن على رحيله.
انتشر خبر استشهاد عبد القادر الحسيني وتشييعه المهيب كالنار في الهشيم، في كل أرجاء فلسطين. كان حسن في قرية عين كارم عندما سمع الخبر يحاول الوصول إلى القدس بعد تماثله للشفاء، لكن الطرق سدت، والمعارك كانت دائرة على أطراف القدس. - «لقد خسرت الثورة أعظم رجالاتها يا حسن.» قال أبو عثمان ذلك وهو يحوقل ويضرب كفا بكف.
هز حسن رأسه متأسفا، أدرك أن الأمور ستزداد سوءا بعد استشهاد الحسيني، استأذن منه ليتمشى قليلا في أزقة القرية، ويمرن ساقه على المشي. - «أمامنا أيام عصيبة يا أبا عثمان.» قال حسن ذلك وهو يبتعد منه. سار بين تلك البيوت المبنية من الأحجار الكلسية، ذات النوافذ الخشبية المقوسة النهايات والأبواب المحفوفة بقنطرة تتخلف قليلا كالمحراب عن واجهة البناء، تذكر حارات القدس ورائحة الياسمين، وصل قرب جامع القرية، اغترف بيده من ماء عين مريم البارد الذي يجري من خلاله فابترد به، ثم توجه إلى ساحة «الحرجة» حيث يتجمع رجال القرية وتجارها هناك يتبادلون أطراف الحديث وأخبار القتال الدائر في البلاد، والآمال المعهودة بجيش الإنقاذ العربي. لكن في ذلك اليوم كان الحزن والحداد والخيبة التي تعتلي الوجوه سيدة الموقف، خيبة أخرى من خيبات هذا الشعب المخذول دوما، تذكر حسن وجوه الرجال في مقهى الحي بعد خيانة أبي هشام.
اقترب منه أحد جنود جيش الإنقاذ العربي، ألقى السلام، ثم صافحه بحرارة وهو يقول: الحمد لله على سلامتك.
استغرب حسن من حفاوته الكبيرة به، فقال: يبدو أنك تعرفني. - نعم، فقد كنت مع الجنود الذين أسعفوك في ساحة الاشتباك يوم أصبت في ساقك.
شكره حسن كثيرا، ثم دار بينهما حديث طويل عن المعارك وإمكانية جيش الإنقاذ مقابل الإمكانية الضخمة للعدو الذي اشترى عتاد القوات البريطانية المنسحبة من فلسطين وامتلك حتى الطائرات، كان الجندي شابا في نهاية عقده الثاني ذا ملامح سمراء جميلة، يتكلم باللهجة العراقية المحببة، يقول: قد شارك أبي في ثورة العشرين هناك في العراق، وقتل العديد من جنود الاحتلال البريطاني، وما إن سمع أنهم فتحوا المجال للجهاد في فلسطين حتى أرسلني مع أول مجموعة غادرت العراق، كانت وصيته لي قبل السفر: «بني، إن وصلت الأقصى صل ركعتين فيها، ثم عاهد الله وأنت تنظر للقبة المشرفة وتمد يدك نحوها على ألا تعود للعراق إلا بعد تحرير فلسطين بالكامل أو شهيدا على جنازة.» - وهل عاهدت الله في الأقصى؟ - فور وصولي إلى القدس.
نظر حسن إليه فرأى في عينيه ما رآه في عيني هشام يوم أخبره عن استشهاد عمر الصفدي في تلك الليلة القمراء في باحة الأقصى، وكأن الشهادة سمة تظهر في العيون التي تصبو إلى المعالي، وتزرع في النفوس الهمم العالية، فما الذي يدفع شابا إلى ترك حياته ومدينته الآمنة وعيشه الرغيد ليقطع آلاف الأميال ويرخص نفسه من أجل فلسطين إلا تلك الهمة العالية التي تنبع منها. •••
تسللت أشعة الشمس خلسة من النافذة الخشبية لغرفة حسن في بيت أبي عثمان، وأيقظته بأناملها الدافئة وهي تتلمس وجهه وكأنها أنامل أنوشكا، وحالما فتح عينيه هاجه شعور قوي بالشوق إليها؛ فقد مر وقت طويل على رحيلها ، فجأة تذكر أنه رآها في الحلم الليلة الماضية، كانت جالسة على شرفة منزلهم في جنين تتأمل مرج ابن عامر وشعرها المنسدل كذيل حصان يتطاير مع الريح، ثم فجأة مدت يدها ناحية المدى ونادت بأعلى صوتها: حسن، حسن، وهي تبكي وتذرف الدموع، ثم انتهى الحلم هكذا. لم يخطر في ذهنه تفسير لذلك الحلم إلا أنها بحاجته والشوق قد أخذ منها مأخذه كما فعل به هو أيضا.
أثناء ذلك تناهى إلى مسامعه أصوات صيحات نساء وبكاء أطفال قادمة من ساحة الحرجة، ظن أن القرية تعرضت للهجوم من العصابات الصهيونية، لكن الغريب في الأمر أنه لا يوجد صوت إطلاقات نارية، فز من فراشه ارتدى ملابسه وحمل جعبته ورشاشه الستن المركون في زاوية الغرفة، ثم هرع إلى الساحة.
كانت النساء تصيح وتندب وتستنجد برجال القرية أن يلحقوا الأهالي في قرية دير ياسين التي تعرضت لهجوم مباغت منذ الفجر من قبل العصابات الصهيونية، وصل ضابط جيش الإنقاذ العربي المرابط في أطراف القرية إلى الساحة، ارتفعت صيحات النساء عند رؤيته، كانت إحداهن تبكي وتقول: «لقد قتلوا زوجي وابني وحرقوا الدار، إن لم تلحقوا بهم فسيقتلون أهل القرية جميعا.» كان الضابط يردد كل مرة: لا توجد أوامر بالتحرك، لا توجد أوامر!
صاح أحد شبان القرية: أعطونا أسلحتكم ونحن نذهب للقتال هناك. - الأمر ليس بهذه البساطة، اهدءوا، يجب أن نتبع أوامر القيادة، أخشى أن نتحرك إلى دير ياسين، فتتعرض القرية إلى هجوم أيضا، من يدافع عنها حينها؟!
بين جموع أهالي القرية الغاضبين لعدم تحرك جيش الإنقاذ لنجدة أهالي القرية، همس أحدهم بأذن حسن وقال: هيا أيها البطل، لا وقت لدينا لنضيعه.
كان الشاب متلثما بكوفية، انتبه حسن إلى سلاحه فعرف أنه أحد جنود جيش الإنقاذ، كشف عن وجهه وإذا به ذلك الشاب العراقي. - وتخالف الأوامر؟ - أية أوامر هذه، إخوتنا يتعرضون للموت إن لم ننجدهم ونقاتل دونهم فلماذا أتينا للقتال إذن، وما فائدة السلاح الذي نحمله؟! - صدقت.
كانت قرية دير ياسين على بعد ميلين عن قرية عين كارم، وكلما اقتربا منها تناهت إلى مسامعهما أصوات الانفجارات والإطلاقات النارية، فيسرعان خطاهما، أخبره حسن أنه قد زار القرية من قبل يوم أتى مع والده إلى بيت الحاج أسعد. - أعتقد أن الهجوم حصل من مستوطنة جفعات شاءول الواقعة شرق القرية من جهة القدس، إضافة إلى وجود مستوطنات أخرى إلى جنوبها. - كيف استطاعت تلك النسوة الهرب مع أطفالهن إذن؟ - لا يوجد منفذ إلا من الجهة الغربية، ومنها سنتسلل للقرية.
عند مشارف القرية، صادفا مجموعة أخرى من النساء والأطفال وكبار السن وهم يفرون منها مذعورين وقد شاحت وجوههم وبلغت القلوب الحناجر، لم يتأثر حسن ببكاء الأطفال ولا صيحات النساء بقدر تأثره لدموع ذلك الشيخ الطاعن في السن، عندها أدرك حجم ما يتعرض له أهالي القرية من الوحشية والإجرام. - «اتجهوا نحو تلك التلة، الطريق آمن إلى عين كارم لا تخشوا شيئا.» قال كاظم ذلك للأهالي. - «أين الإمدادات العسكرية؟ أين جنود جيش الإنقاذ العربي؟» سألت إحدى النسوة ذلك.
نظر حسن إلى كاظم وقد طأطأ رأسه ولم يدر ما يقول. - سيأتون، سيأتون الآن، هيا امضوا في طريقكم على عجل.
لم يتمالك كاظم نفسه فهرع نحو القرية وهو يكبر ويطلق الرصاص نحو السماء، لحق به حسن بين البساتين وأشجار العنب والتين فولجا بيتا في مدخل القرية كان الباب مفتوحا على مصراعيه، استطلع حسن الغرف بحذر واعتلى كاظم السطح ليلقي نظرة إلى داخل القرية، وكيف يمكن لهما التقدم والوصول إلى مقاتلي القرية لمساندتهم، انتبه حسن إلى سفرة على الأرض وأطباق الزيتون والجبن والزيت والزعتر عليها وأكواب شاي مملوءة للمنتصف وقطع خبز متروكة على أطراف السفرة، اختلجه شعور بالحزن لحالهم، جلس متكئا على سلاحه، أغمض عينيه وأخذ نفسا عميقا ثم حوقل وقام من مكانه. سمع أصوات أقدام تقترب خارج البيت، اتكأ على حائط الغرفة وصوب سلاحه نحو الباب، فجأة بدأت الإطلاقات النارية تنهمر على البيت، وكاظم على سطح المنزل يكبر ويطلق النار، وينادي حسن ليصعد إلى السطح.
شعر حسن أن الموت لا محال هذه المرة، ألقوا قنبلة يدوية على باحة المنزل فتهاوت قطع من السقف وامتلأ المكان بالدخان والغبار، فتح النار حسن من رشاشه وهو ينسحب من الغرفة إلى الدرج، خرج أمامه جندي فأرداه قتيلا بثلاث رصاصات متتالية، سمع تكبير كاظم وكأنه أصاب أحد المهاجمين وصل قربه. - كاظم لا تطلق إلا لهدف! نحن محاصرون هنا، سنموت عندما تنفد ذخيرتنا! - لا عليك، لقد قتلت اثنين منهم وأصبت الثالث. - وأنا أيضا قتلت واحدا. - هؤلاء جبناء، ولولا أسلحتهم الحديثة وذخيرتهم التي لا تنتهي لهزمناهم أنا وأنت وحدنا. - سنهزمهم بإذن الله، ابق أنت هنا وأنا أذهب للطرف الآخر، يجب أن نقتل هذه المجموعة قبل أن تصلها الإمدادات.
استمر القتال قرابة النصف ساعة، كان كاظم يقاتل بشراسة واستبسل في القتال، حتى رمي بقنبلة يدوية فسقط يلفظ أنفاسه الأخيرة، هرع إليه حسن، حمله إلى حضنه، كانت الابتسامة تعلو شفاهه وهو يقول لقد وفيت عهدي لله بوصية أبي، ثم أخذ نفسا وصوت الحشرجة يخرج من صدره، ثم شهق وغادرت الجسد روحه الزكية إلى السماء. وبينما هو يمسح وجهه بكفه ليغلق عينيه، وضع أحدهم فوهه سلاحه على رأس حسن وقال بلغة ركيكة: ارفع يديك!
الفصل الثامن والأربعون
دير ياسين - فلسطين 1948م
اتجهت ثلاث عربات عسكرية من حي مونتفيوري محملة بالمقاتلين المدججين بالأسلحة في تلك الليلة الربيعية الهادئة من شهر نيسان إلى مستوطنة جفعات شاءول، وكان مايكل في الصندوق الخلفي لإحدى تلك العربات مع مقاتلي الأرغون وقد حمل بندقيته بيديه وجلس القرفصاء متكئا على ظهر مقاتل آخر خلفه، التفت يمنة ويسرة، بالكاد استطاع رؤية ملامح من معه من الظلام المخيم على الطريق، تذكر أيام معسكرات الاعتقال والغيتو، لم يكن يمتلك ذكريات جميلة في أي صندوق خلفي لعربة عسكرية سوى يوم التحرير عندما خرج مع روبرت إلى وارسو، شعر بضيق في التنفس على الرغم من الهواء البارد الذي يصفع وجهه من سرعة سير العربة.
أخبروهم بأن العملية التي سيقومون بها لا تقل أهمية عن عملية قتل عبد القادر الحسيني أحد أكبر قادة العدو نهار ذلك اليوم في معركة القسطل، لقد دب الخوف والانكسار في قلوب مقاتلي العدو، وتلك العملية حسبت للهاغانا، ولا بد للأرغون وشتيرن أن تظهرا للرأي العام اليهودي أن أي عملية مشتركة بينهما ستغير الكثير من مجريات المعركة لصالحهم.
عند وصولهم إلى ساحة المستوطنة وثب مايكل من العربة خلف المقاتلين ثم اصطفوا خلف بعضهم البعض، كان هنالك مقاتلون آخرون وصلوا قبلهم وهم بكامل جهوزيتهم، خرج إليهم قائد العملية بن تسيون كوهين بزي عسكري، وقد شمر عن ذراعيه ووضع بيريته السوداء أسفل موضع الرتبة العسكرية على كتفه، كانت ملامحه قاسية ونظراته ثاقبة، خطى بين صفوف المقاتلين بخطوات وئيدة ثم عاد إلى المقدمة وأدار وجهه نحو المقاتلين: اليوم سنثبت للجميع أن الأرغون وشتيرن لهما ثقلهما في هذه المعركة المصيرية للأمة اليهودية وهي تحاول استعادة أرضها من الغاصبين لقرون طويلة، لا مكان للرحمة اليوم، كل رجال قرية دير ياسين يجب تصفيتهم، وكل من يقف بجانبهم إن كانوا نساء أو أطفالا أو شيوخا، ستكون دير ياسين عبرة لكل أهالي القرى الأخرى. أريد أن يرتجف كل من يسمعون بقدوم الأرغون وشتيرن نحوهم، هؤلاء العرب لديهم شرف نسائهم أهم من كل شيء، فاعتدوا عليهن، فإن اجتمع في قلوبهم الرعب من قوتنا ووحشيتنا والخوف على نسائهم وبناتهم من الاعتداء هربوا أمامنا كالفئران المذعورة. •••
قبل حلول الفجر كان المقاتلون قد توزعوا إلى مجموعات صغيرة للهجوم على القرية من أربعة محاور مختلفة، كان مايكل مع المجموعة التي ستقتحم القرية من جهة الجنوب الغربي، تحت إمرته سبعة من المقاتلين للسيطرة على المرتفعات بين دير ياسين ومستوطنة بيت هكيرم، صوب المقاتل الذي تم تزويده بمدفع رشاش نوع
Bren
نحو بيوت القرية منتظرا إشارة البدء بالهجوم برشقة ضوئية في السماء من سلاح أحد مقاتلي مجموعة القائد كوهين.
كان الهجوم على دير ياسين بالنسبة لمايكل يمثل إثبات النفس أمام القيادة بعد توليه إمرة مجموعة من المقاتلين، على الرغم من عدم اقتناعه بكلمة قائد العملية كوهين قبل التحرك نحو القرية، لكنه ظن أنه كان يريد دب الحماسة في قلوبهم، وشعر لأول مرة أن الحياة أحيانا تفرض قوانينها بالقوة، إن لم تقتل تقتل، هكذا هي المعادلة اليوم، والبقاء له ثمن، يجب أن تفقد شيئا من إنسانيتك لتستمر فيها، كل الذين تمسكوا بالقيم قذفتهم الحياة من الحافة وكأنهم الفرخ الأضعف في عش طائر اللقلق.
انطلقت الرشقات الضوئية في الهواء وكأنها نجوم تصعد إلى السماء إيذانا ببدء المعركة، كانت السيارة المصفحة تتجه نحو منتصف القرية ببطء وترشق بوابل من الطلقات النارية يمنة ويسرة، وتشتبك مع مقاتلي القرية، تسلل مايكل مع مقاتليه الواحد تلو الآخر حتى أصبحوا على مقربة من ثلاثة منازل متلاصقة، ثم فجأة سكنت طلقة في صدر أحد مقاتليه فأردته قتيلا، انبطحوا جميعا، نادى مايكل صاحب المدفع الرشاش: - إنه على السطح!
انهمرت الطلقات على جدران السطح، فأتت طلقة برأس صاحب مدفع الرشاش، كان المقاتل الذي أمامهم قد اتخذ موضعا يصعب الوصول إليه، مما شل حركة مجموعة مايكل، شعر أنه في ورطة كبيرة، لقد خسر اثنين من مقاتليه في الدقائق الأولى للمعركة، يبدو أن الذي يقبع خلف الجدار قناص ماهر، أخرج مايكل من جعبته قنبلة يدوية، سحب المفتاح ورماها بقوة نحو مكان القناص، فانفجرت القنبلة على سطح المنزل وأصدرت دخانا كثيفا استطاعوا خلاله التراجع للخلف والابتعاد عن مكان الخطر. بقوا منبطحين لحين بزوغ النهار وظهور ملامح البيوت أمامهم، كانت أصوات الطلقات النارية تأتي من كل جهات القرية، أرسل مايكل أحد مقاتليه إلى مقر قيادة العملية في الخطوط الخلفية ليخبرهم بأمر القناص ومعالجته، ثم تحرك مع الباقين بعيدا عن تلك المنازل الثلاث.
خلال الساعات الأولى للعملية استطاعوا التوغل إلى منتصف القرية، كانت صيحات النساء وبكاء الأطفال تتعالى مع أصوات الإطلاقات النارية والانفجارات المتقطعة هنا وهناك، وصل مايكل وسط ساحة القرية مع مجموعته، كانت السيارة المصفحة تتوسط الساحة والمقاتلون قد أعدموا عشرة من رجال القرية وكدسوا الجثت فوق بعضها البعض وتجمعت النساء في زاوية قريبة منهم ويتم سوقهن الواحدة تلو الأخرى من خلال باب خشبي داخل بيت كبير وصرخاتهن تتعالى مع ضحكات المقاتلين المتمتعين بهن، للوهلة الأولى صدم مايكل بما رأى، التفت إلى يساره فرأى أحد المقاتلين يسحب شابا من قدميه وقد تخضب وجهه بالدماء وقطرات من دمه ترسم نقاطا متقطعة على التراب، اختلطت المشاهد بذاكرة مايكل، فتذكر الدماء التي كانت ترسم خطا أحمر على الثلوج عندما كان حراس النازية يجرون قدم ذلك المعتقل الذي فقد إرادته في الحياة في معسكر أوشفيتز، خارت قواه وجلس متكئا على حائط أحد المنازل يراقب ما يحدث أمامه مذهولا، كانت أصوات صاخبة تتعالى في مخيلته، أصوات صفارات القيادة هناك وصيحات النساء وبكاء الأطفال هنا، صور القتل بدم بارد هنا وهناك حتى اشتم رائحة لم تكن غريبة على أنفه، لكنه لم يكن ليصدق أن غير النازية يفعلونها، انتصب واقفا واتجه نحو تلك الرائحة النتنة المألوفة، ولج أحد البيوت فرأى المقاتلين يتضاحكون وقد جمعوا أطفالا ونساء وشيوخا في غرفة يحرقونهم بعد القتل، وصوت أزيز احتراقهم يصدر منها، بشكل يبعث الاشمئزاز ويظهر مدى التوحش لدى الإنسان، لم يتمالك نفسه مايكل، وقع على ركبتيه ثم أخرج كل ما في جوفه وهو يسعل ويبكي ويتذكر وجه ديفيد، برودة يديه، أزيز احتراق جثته، شعر أن اليهود تحولوا إلى نازية جدد وأنهم يحرقون جثة ديفيد وكل من يقف في وجههم، لم يكن بمقدوره الانسحاب، فحمل سلاحه وانطلق إلى حيث لا يدري، لحق به مقاتلوه من زقاق إلى آخر حتى ولجوا كرم عنب على أطراف القرية، كان مقاتلوه ينادونه: «الى أين يا مايكل؟ إلى أين؟» وهو لا يبالي ولا يسمع غير صخب الذكريات الأليمة في مخيلته، إلى أن تعرض لطلقات نارية من سطح منزل وحيد بين تلك الأشجار، لم يبغ القتال مايكل، لكن مجموعته اشتبكوا معه، في البداية ظنوا أنه بمفرده على السطح، لكن تبين فيما بعد أنهما اثنان، سقط أحد مقاتليه أرضا بعدما أصيب بطلقة في صدره، ثم سقط آخر فبقي معه مقاتل واحد ولج البيت بحركة بطولية. سمع مايكل إطلاقات نارية داخل البيت فعلم أنه قتل هو الآخر، لم يكن أمامه خيار آخر سوى القتال، فأخرج قنبلته اليدوية الثانية ورماها نحو السطح، فسمع صراخا ظن أنه أصابهما بتلك القنبلة، ولج البيت بحذر شديد، تفحص الغرف فلم يجد أحدا، اعتلى الدرج بخفة مصوبا بندقيته نحو الأعلى، اتكأ على حائط الدرج وصعد بحذر دون أن يصدر صوتا، استرق النظر نحو السطح فرأى في الجهة البعيدة شابا يودع صديقه الذي يحتضر، اقترب منه مايكل ببطء ووضع فوهة بندقيته على رأسه وقال: ارفع يديك!
وضع الشاب رأس صاحبه على مهل ثم رفع يديه، وعندما التفت نحوه سقطت البندقية من يد مايكل ونادى بأعلى صوته: «ديفيد»، وسحبه إلى حضنه. كانت تأثيرات المجزرة في ذهن مايكل قد أعادته إلى معسكر أوشفيتز، ولم يكن يرى أمامه سوى ديفيد. بكى مايكل بحرقة ومظاهر الاستغراب والدهشة مرسومة على وجه الشاب، انتبه إلى بندقية مايكل على بعد قريب منه، خطر في ذهنه أن يحمل السلاح ويفاجئه بحركة مباغتة، وقال في نفسه: ما الذي يضمن لي أن ليس هنالك جنود آخرون سيأتون بعد قليل؟ إن لم يقتلني هو فسيقتلني أولئك .. لكنه شعر أن ما فعله الرجل معه لا يمكن رده بهذه الطريقة، الغدر ليس من شيم الرجال ولو تعرضوا للموت المحتم.
ابتعد عنه مايكل وقال: يجب أن نغادر من هنا، سيأتون في أية لحظة. - أخبرني من أنت، ولماذا فعلت ما فعلت؟! - ألا تتذكرني؟ أنا صديق بنيامين، التقينا بك في باحة الأقصى عند باب المغاربة. - آااه! أنت الألماني. - نعم. - ومن ديفيد هذا الذي ناديتني به؟ - لا وقت لدينا للنقاش، سأحدثك عنه لاحقا، لكن الآن يجب أن نبتعد، إنهم يقتلون الجميع ويحرقون الجثث. - إذن سنهرب باتجاه عين كارم، لكن يجب أن تغير ملابسك، إن رآك جيش الإنقاذ العربي فسيقتلونك، انزل إلى الغرف وابحث لك عما ترتديه، وأنا سأحمل كاظم على ظهري، لن أترك جثمانه مهما كلفني الأمر.
انطلق مايكل كالبرق وهو يحمل سلاحه نحو الأسفل، ثم اتكأ حسن على ركبة واحدة فقبل جبين كاظم ثم رفعه على ظهره، كان كاظم ضعيف البنية، لكنه كان شجاعا لا يهاب الموت، ترك أهله ودياره ومدينته الآمنة بغداد وحياته المرفهة فيها، وجاء يطلب الشهادة وقد نالها، شعر حسن أنه يحمل على ظهره كل شهداء الثورة .. هشام، عمر الصفدي حتى عبد القادر الحسيني. ثم هبط الدرج على مهل متكئا على الحائط، أقبل إليه مايكل وقد ارتدى الزي الفلسطيني القروي، حمل بندقية الجندي الميت عند عتبة الغرفة وعلقها على ظهره، ثم حاول مساعدة حسن للإسراع بالخروج .. اتجها نحو البساتين وبين الأشجار، تناوبا حمل كاظم حتى ابتعدا عن القرية، وتضاءلت أصوات الإطلاقات النارية القادمة من القرية.
في عين كارم دفن كاظم واجتمعت الأهالي وجنود جيش الإنقاذ العربي للصلاة عليه، ارتفعت أصوات التكبيرات وتهليلات النساء، كان مايكل يراقب الحدث بعيدا عن الجمهور المتجمع في ساحة القرية. - ماذا نفعل الآن يا حسن؟
أطرق حسن يفكر وهو ينظر إلى مايكل ولا يراه، لم يكن باستطاعتهما البقاء في عين كارم، إذا كشف أمر مايكل فمصيره مجهول، الغضب الشعبي بعد مجزرة دير ياسين التي هزت فلسطين كلها ودبت في نفوس أهله الرعب فأصبح الانتقام من اليهود على أشده.
شعر حسن أن مايكل يريد الهرب من صور الموت والقتل والقتال كما يشعر هو أيضا بعد استشهاد كاظم بين يديه وتخاذل جيش الإنقاذ العربي عن إغاثة أهل دير ياسين بحجة عدم وجود أوامر! هاجه إحساس بالشوق إلى أنوشكا وعينيها وذكرياتهما الجميلة، ارتسمت ابتسامة على وجهه، لم يكن في مخيلته مكان آمن لمايكل غير بيت العم أرتين هناك في تلك القرية النائية على أطراف مدينة جنين. - مايكل سنرحل من هنا. - إلى أين؟ - إلى جنين عند أنوشكا. - ومن تكون؟ - إنها ملاذ الخائفين الهاربين من بؤس الحياة. •••
ارتمت أنوشكا بحضن حسن، وتعانقا عناق العشاق بعد غياب طويل، لم يشعر حسن بدفء يغمره من قبل كما شعر بجسد أنوشكا وهي تلتصق به وتبكي بكاء الأطفال فرحا بقدومه. - كنت على يقين بأنك ستأتي، لقد انتظرتك كثيرا.
كان مايكل يراقب المشهد أمامه والدموع تذرف من عينيه، تمنى لو كانت سارة ترتمي بحضنه وتعاتبه على الغياب كما تفعل أنوشكا.
ولجا منزل العم أرتين خلف أنوشكا، ثم قادتهما إلى غرفة أبيها. كان العم أرتين طريح الفراش لا يقوى على الحركة، أمسك حسن يده وقبل جبينه قبل أن يجلس بقربه، ارتسمت ملامح الفرح في وجه العم أرتين عند رؤيته. - حسن، أما زلت تتذكرنا؟! - وكيف أنساكم عماه؟!
حضن العم أرتين يد حسن بكفيه وأعطاه ابتسامة صغيرة ثم سأله: أخبرني ماذا حل بالقدس؟ - ما يحل به على مدار التاريخ.
حرك العم أرتين رأسه متحسفا على ضياع القدس، تذكر يوم الهزيمة أمام القوات العثمانية في وان، وضياع الحلم الأرمني ببناء دولتهم، تذكر وجه المختار تلمكيان قبل أن تعرج روحه إلى السماء وفي عينيه كل آلام الأرمن وضياعهم وتشتتهم، مر على مخيلته وجه بانوس وباتيل وابنتهما أنوشكا، ديكران، دافيت ووجوه جميع قتلى المجازر، أخرج حسرة من جوفه ثم التفت إلى مايكل وتفحص وجهه: - ومن يكون صاحبك يا حسن؟ - إنه الضحية وأداة الجريمة. - كيف يكون الضحية أداة للجريمة أيضا؟!
اتجهت الأنظار صوب حسن الذي أطرق رأسه ينظر نحو بلاطة الغرفة، بقي صامتا دون أن يجيب، ثم انتصب واقفا من مكانه وخطا بخطوات ثابتة نحو النافذة الخشبية المطلة على البستان المليء بالأشجار المثمرة، علق يده من على بابها المفتوح وقال: كلنا ضحايا ومجرمون في الآن نفسه. - وكيف ذلك؟! - المسيحيون الأرمن كانوا ضحية بيد العثمانيين المسلمين، واليهود كانوا ضحية النازية المسيحية، والمسلمون عادوا ليكونوا ضحية اليهود في فلسطين، وهكذا توازنت المعادلة، كلنا ظلمنا وظلمنا، قتلنا وقتلنا، هجرنا وهجرنا، استبحنا أراضي واستبيحت أراضينا .. إلى هنا لا بد أن تنتهي قصة القتل والمجازر بيننا إلى الأبد، وإلا فسيفني بعضنا بعضا. - لن تنتهي.
نامعلوم صفحہ