فحدثته نفسه بأن يرد عليها قائلا: «بل هو الآن مع سلمى»، لكنه أمسك وسكت، فعادت هي إلى حمل إناء المرق بيدها، وقدمته له قائلة: «بالله يا ولدي إلا قبلت رجائي وتناولت هذا المرق الخفيف!» ثم مدت يدها الأخرى إليه بالملعقة، فلم يسعه إلا أن يمد يده لتناولها من يدها متأثرا بعطفها وحنانها، ثم هم بالنهوض ليتناول الإناء من يدها الأخرى، وما كاد يحمله بعد أن استوى جالسا حتى ارتجفت يده واهتز الإناء فانسكب جانب من المرق على حافة السرير، فاحمر وجهه خجلا وأسفا. لكن السيدة سارعت إلى تهدئة خاطره قائلة: «لا بأس يا ولدي!» ومسحت حافة السرير المبتلة بالمنشفة، وجاءته بمنشفة أخرى وضعتها على ركبتيه، وقالت: «بالهناء والشفاء يا ولدي، سآتيك بقطعة صغيرة من اللحم المشوي لتتغذى بها وفق مشورة الطبيب.»
فحاول أن يعتذر من عدم استطاعته تناول أي طعام آخر، لكنها سرعان ما انطلقت إلى المطبخ ثم عادت وهي تحمل إناء به بعض اللحم المشوي، فوضعته على المنضدة. ثم فتحت خزانة بجانب السرير وأخرجت منها ملاءة بيضاء نظيفة لتضعها على السرير بدلا من الملاءة المبتلة بعد أن يفرغ سليم من تناول الطعام. ولم تتركه حتى شرب المرق وتناول شيئا من اللحم، فأبدلت ملاءة السرير، وبقيت بجانبه تسليه وترفه عنه بالأحاديث حتى رأته يغمض جفنيه وكأن النوم يداعبه، فنهضت وتسللت خارجة من الغرفة تاركة إياه لينام.
على أنه في الحقيقة لم يكن يريد النوم، بل تظاهر بذلك كي يخلو إلى نفسه، ويعاود التفكير في أمر سفره إلى والدته، وفي أمر سلمى وحبيب. وكلما مضت ساعة دون أن يرجع هذا من القاهرة، اشتدت الغيرة بسليم، وهاج حنقه عليه وعلى سلمى، حتى إن نفسه حدثته أكثر من مرة بأن ينهض ويغادر المنزل كي يستقل القطار إلى القاهرة ويفاجئهما في خلوتهما هناك، ثم ينتقم منهما شر انتقام.
ولما جاء المساء دون أن يرجع حبيب، لم يعد سليم يقوى على تحمل ما يساوره من الوساوس والهموم. وكان إلى ذلك يشعر بأنه أشد تعبا وتخاذلا منه بالأمس، ويتوقع أن تعاوده الحمى أشد مما كانت. وعبثا حاولت شفيقة ووالدتها أن ترفها عنه، وضاق هو بمحاولتهما فتظاهر بحاجته إلى النوم، حتى اضطرهما إلى تركه وحده.
في الإسكندرية
وصل حبيب إلى الإسكندرية بالقطار السريع الذي يصل إليها في الساعة الأولى بعد الظهر، فاستقل عربة توجه فيها من فوره إلى منزل والدة سليم في شارع المسلة. وكان يعرفها من قبل وبينه وبين ابنها فؤاد شقيق سليم صداقة ومحبة، وسبق له أن زار المنزل أكثر من مرة وهو يصطاف في الإسكندرية.
ولما بلغ المنزل وطرق الباب، فتحته له سيدة لا يعرفها متوسطة العمر مكتنزة الجسم تنم ثيابها وزينتها عن الغنى وحب الظهور. فلما وقع بصره عليها حسب أنه أخطأ المنزل أو أن من كانوا فيه انتقلوا منه إلى غيره؛ فاعتراه الخجل وقال للسيدة التي استقبلته متلعثما: «أليس هنا مسكن الخواجة فؤاد؟»
قالت: «نعم، ولكنه ليس هنا الآن.» وظهرت على وجهها أمارات الارتباك.
فقال حبيب: «وهل السيدة والدته غائبة أيضا؟»
فقالت: «لا يا سيدي بل هي هنا.» ثم تنحت عن الباب ودعته إلى الدخول، فدخل مترددا وجلس في حجرة الاستقبال، بينما مضت السيدة لتدعو والدة سليم.
نامعلوم صفحہ