فتردد قليلا، ثم قال: «ماذا أقول؟ يكفي أني دخلت يوما منزل الخواجة سليمان هذا دون أن أقرع الجرس، فلما دخلت غرفة الفتاة وجدتها جالسة بجانب شاب - كنت أعده صديقا للأسرة - في هيئة مريبة.»
وهنا يعجز القلم عن شرح حالة سليم عند سماعه ذلك الاتهام الموجه إلى حبيبته التي يعتقد فيها العفاف والطهر، فلم يستطع إمساك عبراته، وغادر الغرفة متظاهرا بأنه يريد حاجة خارجها، ثم عاد بعد أن مسح دموعه فجلس على كرسيه ساكتا مصغيا ولكن قلبه يتقد غيرة وحنقا.
وتجاهل داود ما لاحظه على سليم، وأخرج منديله فمسح به أنفه وشاربيه وعاد إلى إتمام حديثه فقال: «ولما رأيتها مع الشاب المشار إليه في تلك الخلوة المريبة، لم أتمالك عن الخروج حالا وقد اتقدت نار الغيرة في قلبي، ورجعت من حيث أتيت وبقيت مدة لا أزور ذلك البيت. على أني كنت أفكر دائما في أمر المائة جنيه التي اقترضها مني أبو الفتاة، وأخيرا لاح لي استشارة محام ماهر لرفع الدعوى على الرجل مطالبا إياه بأداء ذلك الدين. ثم رأيت أن أطالب الرجل أولا، فلما طالبته أخذ يماطلني ويعدني تارة بالدفع، ويسألني تارة عن سبب عدولي عن خطبة الفتاة فألفق له بعض الأعذار. وأخيرا كشفت له حقيقة ما وقفت عليه من أمر ابنته فقال لي: «إن ذلك الشاب صديق الأسرة كما تعلم، ولا شك في أنه هو الذي غرر بالفتاة مستغلا بساطتها، لكنه لم ينل منها شيئا.» ولما يئس من إقناعي، ورأى أني مصر على إرجاع مالي الذي أخذه، أنكر أنه اقترضه مني. فهل تظن أني إذا رفعت عليه دعوى أستطيع ربحها؟»
فقال سليم وقد أمسك عواطفه: «لا يخفى على فطنتك أن الدعاوى المالية لا تقوم إلا بالبينة، فهل عندك بينة أو شاهد يشهد بذلك؟»
فقال: «إني دفعت إليه المبلغ سرا دون أن يعلم أحد بذلك، ولكن الشاب الذي حدثتك الآن عن صلته بالفتاة، علم بالأمر خلال تردده إلى المنزل، على أني ما أظنه يقبل إثبات هذه الدعوى؛ لأنه كان السبب الأكبر بل هو السبب الوحيد لما حصل، وبناء عليه أقول إنه ليس لدي بينة أو شهود.»
فاشتغل بال سليم بذلك الشاب وأحب معرفة اسمه فقال: «هل تعرف ذلك الشاب الذي أشرت إليه؟»
قال: «هو شاب لا أراه في القاهرة الآن إلا يسيرا، واسمه حبيب.»
فاضطرب سليم عند سماعه اسم صديقه بعد أن سمع ما قيل عنه وعن سلمى، لكنه تجاهل وأجاب متظاهرا بأنه غير مكترث قائلا: «إني أعرف هذا الشاب معرفة بسيطة، وإذا لم تستطع الحصول على شهادته لا أظنك تستفيد شيئا من رفع دعواك.»
فقال داود: «أما شهادته فأنا واثق بأني إن خاطبته في شأنها فلن يقبل أداءها، وربما ادعى أنه لم يرني قط ولا عرف شيئا عني، وعلى هذا أرى الأولى بي أن أترك عوضي على الله، وأكتفي بأني تخلصت من الشرك الذي كان منصوبا لي، وأشكر الله أني عرفت حقيقة الفتاة قبل العقد عليها، ولو كان ذلك بعد الاقتران بها لكانت المصيبة أعظم. والآن لا حاجة بي إلى أن أذكرك بقسمك، لكي تكتم حديثنا هذا عن كل إنسان كما وعدت وتعتبر أني لم أقابلك الآن ولا خاطبتك في شيء.»
ثم نهض مودعا شاكرا لسليم حسن مشورته، وأراد أن ينقده أجر هذه المشورة فلم يقبل سليم، فخرج مكررا الشكر، وترك سليما على مثل الجمر.
نامعلوم صفحہ