نعم الإوز! الإوز الأبيض يتحرك عبر مرآة من اليشم والكهرمان الأسود؛ مرآة تعلو وتهبط وترتعد وكأنها تتنفس، حتى كانت صورها الفضية تتكسر ثم تلتئم، تتجزأ ثم تتكامل. - ما أشبهها بشعارات النبالة المنقوشة. رومانسية، جميلة بصورة تفوق التصديق؛ ومع ذلك فهي طيور حقيقية في مكان حقيقي. ما أقربها إلي الآن فإني لأكاد ألمسها، ومع ذلك ما أبعدها؛ فهي تبعد عني مئات الأميال. بعيدة جدا فوق تلك المياه الساكنة، وكأنها تتحرك بفعل السحر، في هوادة وفي عظمة ...
تتحرك في عظمة وجلال، تعلو بها المياه المظلمة وتهبط كلما تقدمت بصدورها المستديرة، تعلو المياه وتهبط ثم تتراجع في موجات صغيرة تأخذ في الاتساع وخلفها نبات يتألق كما تتألق رءوس السهام. وقد استطاع أن يرى الإوز وهي تتحرك عبر المياه المظلمة، واستطاع أن يسمع صوت الغربان وهي فوق البرج، واستطاع أن يشم - خلال رائحة المطهرات المختلطة بعبق الجاردينيا التي تحيط به - رائحة الخندق الغوطي الذي يشق ذلك الوادي الأخضر البعيد، تلك الرائحة الباردة الهادئة التي تحمل معها عبير الأعشاب. - إنها تطفو بغير جهد. «تطفو بغير جهد»، لقد أعطته هذه الألفاظ إحساسا عميقا بالرضى.
وقالت: كنت أجلس هناك، أنظر وأمعن في النظر، وبعد هنيهة أشعر كأنني كذلك أطفو، أطفو مع الإوز فوق سطح الماء الهادئ الساكن بين الظلمة من تحتي وحنان السماء الشاحبة من فوقي. وأطفو في الوقت ذاته فوق ذلك السطح الآخر بين هنا القريب وهناك البعيد، بين الحاضر والمستقبل. وفيما بين هذه السعادة التي عادت إلى ذاكرتها، وهذا الحاضر الغائب الملح الموجع كانت تجول بخاطرها، وقالت بصوت مرتفع: كنت أطفو على السطح بين الواقع والخيال، بين ما يأتينا من الخارج وما يأتينا من الداخل، من الأعماق السحيقة هنا.
ووضعت يدها على جبينه. وقد تحولت الألفاظ بغتة إلى الأشياء والحوادث التي ترمز لها، وأصبحت الخيالات وقائع؛ فلقد كان فعلا يطفو.
وألح الصوت في هدوء مرددا: أطفو، أطفو كالطائر الأبيض فوق سطح الماء، أطفو فوق نهر الحياة العظيم؛ نهر عظيم صقيل أملس يتدفق في سكون شديد حتى لتكاد تظنه مسترسلا في نوم عميق، نهر نائم، ولكنه يتدفق بشدة لا تقاوم. - تتدفق الحياة في سكون وبدرجة لا تقاوم وتصب في حياة أخرى أكمل، في هدوء حي أشد عمقا، وأكثر ثراء وأقوى وأتم؛ لأنها تدرك كل آلامك وأسباب تعاستك، تدركها وتضمها إليها وتدمجها في طبيعتها. وفي الهدوء تسبح الآن، تسبح فوق هذا النهر الأملس الساكن الذي ينام ومع ذلك فهو لا يقاوم، وهو لا يقاوم على وجه التحديد لأنه نائم، وأنا أطفو معه. وكانت توجه خطابها إلى هذا الرجل الغريب، ولكنها كانت تخاطب نفسها كذلك ولكن على مستوى آخر. أطفو بغير جهد، لا أقوم بأي عمل. إنما يكفيني أن أترك نفسي على سجيتها، وأسمح لنفسي بأن تسترسل، وأسأل نهر الحياة هذا النائم الذي لا يقاوم أن يحملني إلى حيث يتجه، وأنا على علم تام أنه يتجه إلى حيث أريد، إلى حيث ينبغي لي أن أتجه: إلى حياة أعمق، إلى هدوء حي، مع النهر النائم - بغير مقاومة - إلى الإذعان والقبول التام.
وعلى غير إرادة منه وعلى غير وعي تنهد ويل فارنبي تنهدا عميقا، ما أشد السكون الذي ساد العالم من حوله! يا له من سكون صاف عميق، على الرغم من أن الببغاوات كانت في حركة دائمة وراء نافذته، وعلى الرغم من أن الصوت الذي كان ينصت إليه ما برح يشدو إلى جواره! سكون وفراغ، ومن خلال هذا السكون وهذا الفراغ يتدفق النهر، نائما لا يقاوم.
وحدقت سوزيلا في الوجه المستلقي على الوسادة، وبدا لها فجأة كأنه وجه فتى صغير، كوجه الطفل في صفائه وسكونه. وقد اختفت تجاعيد التجهم التي كانت تخطط جبهته، وانفرجت الشفتان اللتان كانتا مطبقتين من شدة الألم، وخرجت الأنفاس في بطء وانسياب يكاد لا يحسها إنسان، وتذكرت بغتة الألفاظ التي ترددت في ذهنها حينما حدقت ذات ليل مقمر في البراءة التي بدت على وجه ديوجولد: إنها تعطيها النوم المحبوب.
وقالت بصوت مسموع: النوم، النوم.
وكأن السكون قد أمسى مطلقا والفراغ أشد عمقا.
وأخذ الصوت يقول: نائم على سطح النهر النائم، وفوق النهر، في السماء الشاحبة، ترى سحب ضخمة بيضاء. وعندما تخترق ببصرك السحب تحس كأنك تسبح متجها إليها، نعم تسبح نحوها؛ فالنهر الآن يجري في الهواء، وهو نهر لا يرى يحملك إلى الأمام وإلى أعلى، ثم يسمو بك ويسمو. إلى أعلى خلال الفراغ الصامت. ولقد أمست الصورة هي ذات الشيء والألفاظ هي الخبرة بعينها.
نامعلوم صفحہ