وبعد هنيهة انغلق باب الغرفة خلفها دون أن يحدث صوتا مسموعا، ثم كانت طقطقة المزلاج التي توارت بعدها عن الأنظار.
وقفز من مكانه وانطلق نحو الباب الخارجي وفتحه واستمع إلى خطوات تراجعها على الدرج، وكأنها شبح عند منبلج الصباح خلف وراءه عطرا خفيف الرائحة مألوفا أخذ يتلاشى في الهواء. وأغلق الباب مرة أخرى وأخذ يجول في غرفة النوم الرمادية والصفراء وتطلع من النافذة. وبعد بضع ثوان رآها وهي تعبر الطريق وتركب السيارة. واستمع إلى صوت مفتاح التحريك وهو يدور بصوت عال، دفعة أولى، ثم دفعة ثانية. وبعدئذ استمع إلى طنين المحرك، فهل يفتح النافذة؟ وأصغى إلى نفسه وهو يصيح في خياله: مهلا يا مولي، مهلا!
وظلت النافذة مغلقة، وبدأت السيارة في التحرك، ودارت عند الناصية، وأصبح الطريق خاليا. وفات الأوان، واستمع إلى صوت ساخر أجش وهو يكرر القول: الحمد لله، لقد فات الأوان! ومع ذلك فقد كان الإحساس بالذنب في صميم الفؤاد، وتأنيب الضمير يجز في نفسه، ولكنه استطاع برغم هذا التأنيب أن يشعر بشيء من السرور؛ فلقد كان هناك شخص وضيع فاسق همجي، شخص غريب بغيض - ولكنه يعبر في الواقع عما في نفسه - تساوره الفرحة بأنه لم يعد أمامه الآن ما يعوقه عن الظفر بما يريد، وما يريد هو عطر آخر؛ هو الدفء والمرونة ينبعثان عن جسم أكثر نضارة وشبابا.
ثم نادى المزمار: انتباه!
نعم، انتباه! انتباه إلى مخدع بابز الذي يفوح بالمسك، والذي يتوارى في فجوة قرنفلية اللون كالفراولة، لها نافذتان تطلان على شارع تشارنج كروس يتسرب من خلالهما طوال الليل وميض خاطف يصدر عن لوحة مرتفعة عالية تعلن عن «بورترجين» وتقع على الجانب الآخر من الطريق. وكلمة «جين» قرمزية اللون؛ وقد أمست الفجوة لعشر ثوان قلبا مقدسا، ولعشر ثوان معجزة. تلألأ الوجه المتورد - الذي كان يلاصقه - وكأنه وجه صاروفيم. وقد صاغته نار الحب الدفينة في صورة أخرى. ثم حدث بعد ذلك تحول أشد عمقا في ظلام الليل. ودقت الساعة دقة أولى، وثانية، وثالثة، ورابعة ... ربي اجعلها تدق أبد الآبدين! وعندما دقت الساعة الكهربائية دقتها العاشرة تبدت له رؤية أخرى؛ رؤية الموت والفزع الأكبر؛ ذلك أن الأضواء هذه المرة كانت خضراء وتحولت فجوة بابز الوردية لعشر ثوان مقيتة إلى بؤرة من الوحل، واستحالت بابز إلى ما يشبه الجثة التي أصابها صرع بعد الموت. وعندما اتخذ إعلان «الجين» اللون الأخضر تعذر نسيان ما حدث وحقيقة الإنسان الذي كان. ولم يعد بوسعه إلا أن يغمض عينيه ويغوص - إن استطاع - بدرجة أشد عمقا في العالم الآخر، عالم الشهوات الحسية، وأن يغوص بعنف، وعن عمد، في تلك النوبات التي تطير بصوابك، وهي نوبات كانت مولي المسكينة غريبة عنها تماما؛ انتباه! مولي التي هي الآن في ضمائدها. وفي مثواها الرطب في هايجيت.
ولقد كانت هايجيت - بطبيعة الحال - هي السبب الذي يجعله يغمض العين كلما سقط الضوء الأخضر على بابز وهي عارية فيحيلها إلى لون الجثة. ولم تكن مولي وحدها هي ما جال بخاطره؛ فلقد رأى ويل من خلف جفنيه المطبقين أمه شاحبة اللون كالكاميو (حجر كريم) روحانية الوجه مستسلمة للألم، يداها في صورة بشعة وقد أصابهما التهاب المفاصل فهبط بهما إلى مستوى دون مستوى البشر، كما رأى أخته مود واقفة خلف كرسي المقعدين الذي كانت تعتليه الأم وقد كساها الشحم واهتز جسمها كما يهتز الهلام واستولت عليها المشاعر التي لم تعبر عنها قط تعبيرا صحيحا بالحب الذي يبلغ ذروته. - كيف تستطيع ذلك يا ويل؟
ورددت مود العبارة قائلة: نعم، كيف تستطيع؟ بصوتها الرنان المرتعش والدمع يساقط من عينيها.
ولم يحر جوابا، أي جواب في ألفاظ يستطيع أن يتفوه بها في حضورهما، وإن استطاع فإن هاتين الشهيدتين - الأم التي استشهدت في زواج غير سعيد، والأخت التي استشهدت في برها بأمها - لا يمكن أن يفقها قوله. لا جواب، اللهم إلا أن كان في لفظ أشد ما يكون موضوعية علمية فاحشة، وفي صراحة مرفوضة، يسألانه كيف استطاع أن يفعل ذلك؟ لقد استطاع، بل لعله أرغم عمليا على ذلك؛ لأن لبابز خصائص بدنية معينة لم تكن من صفات مولي، كما كانت في بعض اللحظات تسلك سلوكا لا يمكن أن يتطرق إليه ذهن مولي.
وسادت فترة طويلة من الصمت، ثم - وعلى غير انتظار - عاد الصوت الغريب يردد قوله : انتباه، انتباه!
انتباه إلى مولي، وانتباه إلى مود وإلى أمه، وانتباه إلى بابز، وفجأة برزت من ضباب الغموض والاضطراب ذكرى ثانية؛ فلقد أوى إلى ركن بابز القرنفلي ضيف آخر، وارتعش جسمها نشوة من عناقه، فشعر - بالإضافة إلى الإحساس بالذنب - بهم في قلبه وغصة في حلقه. - انتباه!
نامعلوم صفحہ