جوہر انسانیت
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
اصناف
عن شبكة هيدروليكية شاسعة من الجسور الأرضية في شكل متعرج، بالإضافة إلى برك تغطي مساحة أكثر من 500 كيلومتر مربع. وحتى يومنا هذا تعج هذه الممرات المائية المهجورة بعدد يتراوح بين 100 ألف و400 ألف سمكة في الهكتار؛ من نوع بوشر ويالو وكوناري وبلميطة وسبالو وبنتون. في الأوقات السابقة على قدوم الإسبان كانت هذه المزارع السمكية الصناعية تنتج مئات الأطنان من القواقع القابلة للأكل أيضا. وعلى جانبي المياه ما زال النخيل (نخل البوريتي) ينمو أيضا. وكان ثمة 5 آلاف نوع مختلف من الفاكهة الغنية بفيتامينات «أ» و«د» والزيت والبروتين يمكن جنيها من شجرة واحدة سنة بعد سنة. وكانت ألياف سعف النخيل تستخدم - كما هو الحال في عصرنا الحالي - لصنع السلال والحصير والأرجوحات الشبكية والأوتار وقش الأسقف. باختصار، اخترع الإنكا تقنية مكنتهم، عبر الاحتفاظ ببراعة بمياه الأمطار ، من الحفاظ على عدد هائل من السكان الذين يعيشون في بيئة من السافانا. ومثل كل الحضارات التي نشأت في أمريكا الوسطى والجنوبية، لم تفتقر إلا إلى سبيل واحد للراحة؛ العجلة. تجعل هذه الحقيقة وحدها المرء يساوره شك عميق بشأن أولئك الذين يقترحون وجود صلة ثقافية بين العالم القديم والجديد؛ فمن بين كل أوجه التشابه الموجودة لتشير إلى دخول الأشياء من الشرق إلى الغرب - مثل الأهرامات الحجرية والجثث المحنطة وزوارق القصب - من المؤكد أن العنصر التكنولوجي الوحيد الذي يمكن لدخيل مزعوم من العالم القديم أن يفتقده ويعوضه على الفور هو استخدام العجلة.
بخلاف هذا كانت تكنولوجيا الإنكا واسعة النطاق؛ فكانت ورش العمل تقام من أجل إنتاج مصنوعات خزفية فاخرة، ومنسوجات وأشياء معدنية مصنوعة من الفضة والذهب والبرونز. واشتمل فن المعمار لديهم على إتقان تركيب المباني الحجرية، التي تقام عادة في أكثر الأماكن صعوبة. هذا وتشهد المباني الموجودة في ماتشو بيتشو، التي تضم قصرا ومعبدا للشمس قابعين على سفح تل منحدر في الغابة الأنديزية أسفل كوزكو، على المهارات المعمارية للإنكا. وللعجب لم يعثر الإسبان قط على ماتشو بيتشو، ولم تكتشف إلا في عام 1911 على يد عالم آثار أمريكي يدعى حيرام بينجهام.
21
وبعدما ظلت سليمة وقبعت دون تدخل فيها طوال 400 عام، لم يكن تأثير الحضارة الحديثة عليها حميدا؛ فقد سقطت رافعة استخدمت في تصوير إعلان جعة مؤخرا وأحدثت ضررا لساعة الإنكا الشمسية الحجرية في 10 ثوان يفوق الضرر الذي استطاع الطقس إحداثه لها في نصف ألفية.
للأسف لم يكن مقدرا لعلم الإنكا وثقافتهم البقاء؛ فقد دمرها فرد إسباني غير متعلم من الطبقة الدنيا في المجتمع؛ فقد ترك فرانثيسكو بيثارو إسبانيا في سن الثالثة والعشرين ليقضي السنوات الخمس والعشرين التالية فيما يعرف حاليا ببنما، في قتل السكان المحليين والبحث عن الذهب. وعندما فشل في العثور على الذهب، أبحر جنوبا على طول ساحل المحيط الهادئ ووصل إلى حدود إمبراطورية الإنكا. في الواقع قيل إنه سيجد الثروات التي يبحث عنها في هذا المكان. لكن في هذا الوقت كان طبع بيثارو السيئ قد تسبب في ترك معظم جيشه له، وفي عام 1528 عاد إلى إسبانيا لإحضار مزيد من الرجال. وبدعم من كارلوس الخامس عاد إلى بيرو بعد أربع سنوات. وفي العام التالي قبض على زعيم الإنكا أتاوالبا في مدينة كاخاماركا. حاول أتاوالبا رشوة الإسبان بذهب وفضة يكفيان لملء حجرتين. أخذ بيثارو هذه المعادن النفيسة وأذابها، ودمر بهذا قرونا من المهارة الحرفية. وبعد ذلك خان أتاوالبا من خلال اتهامه بالخيانة وحرقه على عمود. وأصبح مانكو ابن الزعيم المتوفى حاكما دمية للإنكا. بعد ذلك زحف بيثارو بجيشه ألف ميل جنوبا نحو العاصمة كوزكو. في هذه المرحلة، مثل حال الإسكندر الأكبر في آسيا بعد 1800 سنة، كان متوغلا في أراضي العدو ومعزولا عن أي تعزيزات ممكنة. فاقت قوات العدو عدد قواته بنحو 100 إلى واحد، لكن كان ثمة اختلاف؛ ففي عام 300 قبل الميلاد دار القتال بين قوات الإسكندر وقوات داريوس بأسلحة متشابهة، لكن في عام 1537 كان الإسبان يمتطون الخيول ويستخدمون البارود، بينما كان الإنكا يعتمدون على اللاما ويستخدمون أسلحة العصر البرونزي. وعليه، فازت التكنولوجيا الحديثة؛ فهزم جيش مانكو وسقطت كوزكو في يد الغزاة، وبذلك اختفت إمبراطورية الإنكا.
اعتبر توينبي حضارتي المايا والإنكا حضارتين أساسيتين. وفي ضوء كثير من الاكتشافات الأثرية التي حدثت منذ عصره، ربما يكون من المناسب أكثر اعتبار حضارة الأولمك في أمريكا الوسطى والتشافين في أمريكا الجنوبية حضارتين أساسيتين بالمثل، واعتبار الحضارات التالية عليها، وإن كانت أكثر اتساعا، مثل حضارات المايا والإنكا، ثانوية، تماما مثلما تكون الثقافة المينوية سلفا لحضارة اليونان الأكثر تطورا. وهذا الأمر متروك حسمه للمؤرخين. الواضح أن حضارات العالم الجديد تركت أثرها على المجتمعات التالية لها، تماما كما فعلت حضارات العالم القديم؛ السومرية والمصرية والهندية والصينية والمينوية، فربما تلاشت ثقافة المايا، لكن ليس قبل أن تلهم بعض إنجازاتهم الآزتيك. ورغم أنهم تعرضوا، مثل الإنكا، للإبادة إلى حد كبير على يد الفاتحين في القرن السادس عشر، فإن ثمة سمات معينة في حياتهم، مرتبطة تحديدا بالمنتجات الزراعية، أدخلت في الأساليب الإسبانية وسرعان ما انتشرت في بقية أنحاء أوروبا، والأمثلة الواضحة على هذا البطاطس والأفوكادو والشوكولاتة والتبغ. (8) أماكن أخرى
لم أتحدث حتى الآن عن أي ثقافات وجدت في جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، لنفس سبب تجاهلي لتلك الموجودة في شمال أوروبا أو أمريكا الشمالية؛ عدم انطباق المعايير التي اخترتها بناء عليها؛ وهي: بناء القرى والمدن، والأهرامات والمعابد، والموانئ والطرق، وإنتاج الأدب والفن، والتكنولوجيا والتجارة.
22
إن هدفي هو إظهار كيف أدى تفاعل الإنسان مع التحدي، وسعيه المستمر للبحث عن جودة حياة أفضل، إلى تغيير العالم الذي يعيش فيه؛ فإن الدوائر الحجرية في ستونهنج وأفيبري في جنوبي إنجلترا، وممرات الميغاليث في كارناك في بريتاني، والأكروبوليس في زيمبابوي العظمى، وسبح هنود البومو في كاليفورنيا، والمنازل الكهفية التي يبلغ ارتفاعها خمسة طوابق لهنود الأناسازي في شاكو كانيون في ولاية نيو مكسيكو؛
23
نامعلوم صفحہ