جوہر انسانیت
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
اصناف
في حالة الحضارة المينوية (وثمة من لا يعتبرونها حضارة بدائية على الإطلاق) فيصعب تحديد التحدي الذي فرضته الحياة على جزيرة كريت. تتمثل الحجة التي يعرضها أرنولد توينبي في أن التحدي كان قد حدث بالفعل عند استعمار الجزيرة، وتمثل في الواقع في البحر. وتشير الأدلة الإثنولوجية إلى أن المستوطنين لم يأتوا من أوروبا أو آسيا، ولكن من شواطئ شمال أفريقيا الأكثر بعدا؛ فيبدو أن جفاف المراعي لم يدفع مؤسسي الحضارة المصرية نحو مستنقعات النيل فحسب، لكنه أيضا حث مجموعة أخرى من الرجال، المستعدين لمواجهة تحد مختلف، إلى عبور البحر إلى جزيرة كريت.
من بين التفسيرات الثلاثة التي ذكرتها لظهور الحضارات البدائية - العرق أو البيئة الملائمة أو البيئة غير الملائمة - يتجه تفضيلي الشخصي كثيرا نحو التفسير الثالث.
9
إنه التحدي؛ تحدي المجهول، الذي له جاذبية خاصة لدى الإنسان؛ لأن البحث جزء أساسي من طبيعته؛ فهو يبحث عن طرق للتغلب على المحنة، وللنجاح حيثما فشل أسلافه. وقد رأينا أن رغبة الإنسان الفطرية في الاستكشاف أدت إلى استقراره في جميع أنحاء العالم، بداية من التندرا المتجمدة في ألاسكا وكندا حتى الصحراء في أفريقيا وآسيا، ومن سهول سيبيريا حتى غابات بورنيو والبرازيل. لم يغامر أي من الرئيسيات الأخرى بالخروج من بيئة أسلافه، ولو حدث هذا، لمات من البرودة أو الحرارة، أو من نقص الطعام والماء. فإن إبداع الإنسان وبحثه عن طرق للتغلب على القيود المفروضة عليه من البيئة، هو الذي مكن الإنويت من ارتداء ملابس والحياة في أكواخ الإسكيمو في درجات حرارة تنخفض إلى أقل من −40 درجة (على هذا النطاق تتطابق الدرجات المئوية والفهرنهايتية بعضها مع بعض)، ومكن البربر من التكيف مع الجفاف والحرارة في الصحراء عبر رصد كل نقطة مياه متاحة والحفاظ عليها. ومع ذلك لم يقم الإنويت أو البربر حضارة؛ فإذا كان التحدي قاسيا للغاية، فلن تتمكن المجموعة ببساطة من التغلب عليه. إن التوازن بين التحدي والقدرة على التغلب عليه هو أمر دقيق للغاية. لقد استبعدت الفروق في الخلفية العرقية بوصفها سببا في ظهور الحضارات، لكني أقر بأن مدى إبداع الإنسان، وسعيه للتوصل إلى طرق جديدة للحياة، أمر نسبي؛ فيوجد لدى بعض الناس أكثر من غيرهم. ومن الواضح أن جميع مجموعات الإنسان العاقل تمتلك غريزة استكشافية، بالإضافة إلى القدرة على الاستفادة من هذه الصفة من خلال استخدام اللغة وحركات اليدين، أكثر من أي من الرئيسيات الأخرى.
عودة إلى السلم؛ نقول إنه ليس كل المجموعات تصعد السلم، فبعضها يظل في مكانه، وأحيانا ينزلق أكثر إلى الأسفل. أشرت في الفصل السابق إلى البولينيزيين سكان جزيرة الفصح. فبعدما ارتقوا السلم للوصول إلى هذه الجزيرة في المقام الأول، ثم لبناء أروع تماثيل على الإطلاق، سقطوا إلى الأسفل عدة درجات عندما استنفدوا كافة مواردهم دون التفكير في الغد. هل كان هذا لأنهم، بسبب العزلة، لم يتعرضوا لتحد كاف من الدخلاء؟ وهل كان هذا أيضا السبب في أن حضارة المايا داخل الغابات المطيرة الكثيفة - شهدت أوج ازدهارها بين القرنين الرابع والثامن الميلاديين - انهارت على مدار سبعة قرون؟ ثمة سبب آخر للانحدار أسفل السلم وهو عكس الخمول؛ فالدمار قد يكون خارجيا أو داخليا؛ فالإمبراطورية الرومانية، على الأقل في الغرب، انهارت بسبب اضمحلال داخلي جعلها غير قادرة على صد الغزوات المتتالية من الفانداليين والقوط والفرنجة. كان أحد العوامل المساهمة ظهور القيم المسيحية، التي أثبتت عدم توافقها مع حكم الإمبراطور (تعلم الحكام الذين جاءوا فيما بعد، سواء في إيطاليا أو إسبانيا، جيدا كيفية التغلب على مشكلة التواضع والتسامح في الدين المسيحي؛ فكانوا يتجاهلونها). ربما كان من بين العوامل الأخرى، المرض على سبيل المثال، توجد أدلة على أن الملاريا جاءت إلى جزيرة سردينيا، وانتقلت منها إلى البر الرئيسي على يد الفاندال المغيرين، الذين أحضروا البعوض المصاب معهم من سواحل شمال أفريقيا.
10
أما باقي الإمبراطورية في الشرق، فرغم تراجع تأثيره وحجمه، فقد ظل موجودا لمدة ألف سنة أخرى قبل اجتياح العثمانيين له في النهاية. وفي عصرنا الحالي، يظهر مثال الصين تحت حكم ماو تسي تونج كيف يمكن لإبادة الثقافة من الداخل تدمير حضارة. لا تظل كثير من المجتمعات على حالها لفترة طويلة؛ فكما ترتفع قيمة سوق الأسهم وتنخفض، لكن نادرا ما تظل ثابتة، فإن مصائر الثقافات إما تتحسن أو تتدهور، لكنها نادرا ما تظل كما هي. وفي النهاية، ألا تكون قيمة سوق الأسهم مجرد انعكاس للنجاحات والإخفاقات المادية؟ مجرد خطوات أعلى السلم المالي أو أسفله؟
إن سلم الإنجازات نفسه ليس ثابتا؛ فهو سلم متحرك - سلم دوار - ويتحرك في اتجاه واحد فقط، إلى الأعلى؛ فالحضارات قد تتدهور، لكن هذا يكون تراجعا مؤقتا. فالعرف الصيني المتمثل في التفاخر بالمهارة اليدوية والمعرفة ربما توقف لجيل أو اثنين في النصف الثاني من القرن العشرين (مع فقدان نحو 55 مليون مواطن صيني بريء حياتهم بسبب المجاعة أو الانتحار، وهو عدد أكثر من ضحايا ستالين وهتلر معا، خلال قفزة ماو العظيمة إلى الأمام)، لكنها لم تفقد وأعيد إحياؤها في أثناء تأليفي لهذا الكتاب. ومعظم الناس على وجه الأرض حاليا يعيشون حياة أفضل مما كان عليه الوضع منذ 5 آلاف سنة. وإذا كان سكان الأحياء الفقيرة المعدمين في مكسيكو سيتي أو مومباي (بومباي سابقا) يعيشون حاليا حياة أسوأ من التي عاشها أجدادهم؛ فإن هذا لأن محاولتهم لتحسين جودة حياتهم بالانتقال من القرية إلى المدينة بحثا عن عمل ثبت أنها خاطئة؛ فلم تكن توجد وظائف. كان عنصر السعي موجودا، لكنهم ساروا في الطريق الخطأ. (2) توريث القدرات البشرية
إذا كانت المهارات التي اكتسبتها الحضارات السابقة لا تفقد ، فهل هذا يعني أننا نزداد ذكاء بمرور الوقت؟ نعم؛ فطالما أن الذكاء يشير إلى قدرتنا على بناء منزل أو سد أو زورق أو طائرة أو صاروخ أفضل، أو قدرتنا على التواصل مع بعضنا عبر الهاتف أو لا سلكيا أو عبر الإنترنت. إن التقنية التي يتوصل إليها أحد الأجيال تعد نقطة الانطلاق للجيل التالي؛ فالمعرفة هي أصل في زيادة مستمرة، ولأن مزيدا من الناس يشاركون تباعا في السعي، لأن التقنية الواحدة تنتج عنها عدة تقنيات جديدة، فإن اكتسابنا للمهارات يزيد بمعدل أسي. وقد اكتسبنا تقنيات أكثر في المائة سنة الأخيرة أكثر مما حدث في السنوات العشرة آلاف السابقة عليها. لا يغير أي نوع آخر بيئته على هذا النحو؛ فنمط حياة الحيوانات من حولنا هو نفسه إلى حد كبير كما كان منذ مليون سنة. الأمر الذي لا يتغير هو قدرة الإنسان على اختراع شيء جديد؛ قدرته الذهنية. فيمتلك الأفراد، كما أكدت، قدرة ذهنية بدرجات متفاوتة، لكن تظل هذه الدرجات نفسها على مدى آلاف الأجيال.
أما الصفات الجسمانية مثل شكل الوجه ومرونة الأطراف، والصفات العقلية مثل الحالة المزاجية أو البراعة، أو الطيبة أو القسوة، والنزعة للاستكشاف أو صنع أعمال فنية، فتتحدد جميعها بشبكة من الجينات المتفاعلة وامتدادات الدي إن إيه الأخرى. تحدد هذه معا مجموعة من عدة بروتينات تعمل في تناغم. وتتأثر النتيجة النهائية بالبيئة أيضا؛ بعوامل مثل نظام غذائي صحي من ناحية، أو مستوى غير صحي من التلوث أو إصابة جرثومية من ناحية أخرى. يبدو أن الذكاء، مثلا، تحدده جيناتنا والبيئة بالقدر نفسه تقريبا. كذلك يبدو أنه لا يتغير كثيرا مع التقدم في العمر؛ فمعدل ذكائنا في السبعين يعادل القدر نفسه الذي كنا عليه في السابعة (تماما كما تظل شخصيتنا - ضعيفة أو قوية، كاذبة أو صادقة - نفسها طوال حياتنا). إن معرفتنا - ما نتعلمه - هي التي تزيد مع التقدم في العمر، تماما مثلما تكون المهارات التي تكتسبها الثقافات المتعاقبة تراكمية، كما أن قدرتنا على استخدام هذه المعرفة؛ على نحو جيد أو سيئ، وبسرعة أو ببطء، لا تتغير، تماما كما لا تتغير قدرة المجتمعات على صنع ثقافة أو رغبتها في تدميرها. إذا كان الذكاء لا يتغير مع التقدم في العمر، فإن هذا يعني أن التأثير البيئي - مثل التغذية والتلوث والإصابة بالأمراض - يحدث في سن مبكرة، على الأرجح في أثناء فترة الحمل. هذا ليس مثيرا للدهشة؛ فنحن نعلم أن معظم خلايا المخ تتجمع في سن الثالثة أو ما شابه. وفي أثناء فترة الطفولة اللاحقة يتشكل سلوكنا أكثر إلى حد ما بالعوامل البيئية؛ فتكون على الأرجح لمجموعات أقراننا التأثير نفسه الذي يلعبه والدانا. وبمجرد وصولنا إلى مرحلة البلوغ، نظل أذكياء أو أغبياء، أمناء أو مراوغين، عدائيين أو ودعاء، تماما كما كنا ونحن صغار. ولهذا فإن الرجال والنساء المبدعين الذين حققوا نجاحا في مجالهم - العلماء والكتاب الحاصلون على جائزة نوبل، على سبيل المثال - يواصلون العمل في السبعينيات والثمانينيات من عمرهم. لماذا يفعلون هذا؟ ألا يمكنهم الاعتماد على ما حققوه من نجاح؟ لا يمكنهم فعل ذلك؛ فالبحث عن أفكار جديدة، والرغبة في الإبداع تجري في دمائهم.
نامعلوم صفحہ