جوہر انسانیت
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
اصناف
أدين بالكثير لهيلين وبيل رامزي؛ لتوفيرهما جوا من الهدوء في منزلهما الإسباني متى احتجت إلى ذلك.
لندن وألمرية، 2003
تمهيد
ألف تشارلز باسترناك كتابا مثيرا للاهتمام يدور حول السعي المستمر، أحد أكثر السمات المحيرة في البشر، وربما الحيوانات الأخرى. وهو يتناول هذا الموضوع من منظور علم الأحياء الحديث، المبني في جزء كبير منه على المبدأ الذي سار عليه طوال القرن الماضي على الأقل؛ وهو أن الأحياء يمكن تفسيرها من منظور كيميائي، وأن الكيمياء يمكن تفسيرها من منظور فيزيائي. لكن من المعروف أن التفسير التحليلي للعمليات التي تتعرض لها العناصر الكيميائية وحده لن يقدم تفسيرا مرضيا أو عمليا يمكنه أن يؤدي إلى التطبيق أو التدخل، فلا بد أيضا من فهم التفاعلات المعقدة التي تحدث بمرور الوقت بين العمليات المنفصلة بعضها مع بعض، وطريقة التفاعل الكامل للكائن مع الثراء الهائل في بيئته ومع الكائنات الأخرى التي يقابلها، تلك التي تشبهه والتي لا تشبهه. يصف جورج بيريك في روايته المثيرة للاهتمام «الحياة: دليل المستخدم» (التي ترجمها دي بيلوس، كولينز هارفيل، لندن 1988) أحجية الصور المقطعة في شكل يعبر على نحو استعاري مفيد عن أخطار وجود علم اختزالي بالكامل؛ فالدراسة المتعمقة لجزء واحد من الأحجية لا تقدم أي دليل مقارنة بدراسة النمط بأكمله، وفقط عند الانتهاء من تكوين الصورة بأكملها ندرك أهمية إسهام كل جزء فردي فيها.
العلم هو وسيلة أساسية في السعي الإنساني الدائم، والممارسة العملية بطبيعتها تضمن ظهور ألغاز يجب حلها؛ فعملية الإجابة عن الأسئلة تؤدي إلى ظهور بيانات جديدة يمكن طرح أسئلة جديدة عنها؛ فعند وضع فرضية، يجب جمع بيانات جديدة من أجل اختبارها، ثم يمكن استخدام هذه البيانات فيما بعد لتقرير إما دعم الفرضية أو رفضها، إلا أن هذه البيانات الجديدة يكون لها استخدام آخر؛ فهي تمتلك خاصية فطرية - بسبب حداثتها - تتمثل في الحث على طرح أسئلة لم تطرح من قبل قط، وعادة تفوق الأسئلة التي تطرح تلك التي يجاب عنها، ومع زيادة المعرفة يماط اللثام عن عدد متزايد من الأمور المجهولة. كان الشعراء والكتاب الرومانسيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يخشون من أن العلم سيزيل الغموض من العالم؛ بسبب قدرته الشديدة على حل المشكلات. لكن ما كان بهم حاجة إلى الخوف؛ فقد كشف العلم وسيظل يكشف عن المزيد من الألغاز في الكون من حولنا - وهو الموضوع الأساسي لسعي الإنسان - بما يفوق قدرة البشرية على الإجابة عنها من عصرنا حتى نهاية وجودها في هذا الكون. لقد ارتكب فيكتور فرانكنشتاين في رواية ماري شيلي الخالدة خطيئة الغطرسة الخلاقة عندما حاول حل لغز الحياة من خلال خلق الوحش، ونجح جزئيا في محاولته هذه. إلا أن رواية «فرانكنشتاين» كانت قصة خيالية، ونحن ما زلنا لا نعلم كيف بدأت الحياة على الأرض أو في أي مكان آخر في الكون، ولا يرجع هذا إلى تقصير في المحاولات.
تكون السبل العلمية للسعي والاكتشاف عادة معقدة وتحدث بها تغيرات مفاجئة غير متوقعة. إنها تتسم بالسمات نفسها التي تجعل قصص المغامرات الخيالية ممتعة وسهلة القراءة. فكر في الأحداث غير المتوقعة التي حدثت في أثناء رحلة عودة أوديسيوس ورجاله من طروادة، وذلك اليوم الحافل المليء بالمعضلات غير المتوقعة، التي واجهها ليوبولد بلوم في أسفاره حول دبلن في نسخة جيمس جويس من مغامرات أوديسيوس. ورغم الخيال الغني والمبتكر للروائيين، فإن القصص الواقعية للاستكشاف والاكتشاف العلمي عادة ما تكون أغرب وأكثر استعصاء على التوقع من أي قصة خيالية. ويعد البحث الذي أجريته مع زملائي على اكتشاف فيروس التهاب الكبد «ب» مثال على هذه الطبيعة غير المتوقعة للبحث العلمي؛ فقد بدأنا البحث ونحن مهتمون بالتنوع الوراثي وغيره من أشكال التنوع الكيميائي الحيوي في البشر؛ الذي يؤثر على نحو متباين في قابلية الإصابة بالمرض، وخاصة في الاستجابات للعوامل الناقلة للعدوى. وكجزء من استراتيجيتنا البحثية، استخدمنا المصل الخاص بالمرضى الذين خضعوا لعملية نقل دم حتى نرى إذا تكون لديهم رد فعل تجاه بروتينات المصل التي حصلوا عليها في عملية نقل الدم ولم يرثوها أو يكتسبوها. وجدنا بالفعل اختلافات، ولكننا استطعنا أيضا التعرف على فيروس التهاب الكبد «ب» الذي كان موجودا في دم المتبرعين، حتى إن كانوا في هذا الوقت لم تظهر عليهم بعد أعراض المرض. أدى هذا الاكتشاف إلى حماية الإمداد بالدم ضد انتقال فيروس التهاب الكبد «ب»، وابتكار لقاح مضاد لهذا الفيروس وبدء أكبر برامج تطعيم في العالم. كما مكن كذلك من تحديد أن فيروس التهاب الكبد «ب» هو السبب الرئيسي في سرطان الكبد الأولي، وهو نوع من السرطان شائع للغاية خاصة في آسيا والدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى (يعتبر التهاب الكبد الفيروسي «ج» سببا مهما أيضا ). يعتبر لقاح فيروس التهاب الكبد «ب» أول لقاح يقي من السرطان، كما أن برنامج التطعيم العالمي قد بدأ بالفعل من أجل تقليل حالات الإصابة بهذا السرطان المميت. لم يكن من الممكن توقع مثل هذه النتيجة الطيبة في بداية هذه المغامرة العلمية كثيرة التعرجات.
يشير باسترناك إلى أن كثيرا من الحيوانات باحثة، بينما يقول في الوقت نفسه إن البحث هو ما يميز الإنسان عن الشمبانزي والحيوانات الأخرى. ما حل هذا التناقض الواضح؟ يأتي الاختلاف، على حد قوله، من قدرة الجنس البشري على السعي الذي لا ينتهي. يظهر هذا بوضوح في العلم الحديث؛ فوجود أدوات على درجة عالية من الدقة والثقة، مع وجود قياسات بالغة السرعة، يسمح بتراكم فعال لكميات كبيرة من البيانات. وبرنامج علوم الفضاء مثال جيد للغاية على قدرة البشر على زيادة قدرتهم على السعي المستمر؛ فقد شهدت العقود القليلة الماضية إطلاق أقمار صناعية وسفن فضاء ذات استخدامات عديدة لم يكن من الممكن تخيلها من قبل، ومن المزمع إطلاق أنواع أكثر إثارة. كذلك زارت بعثات روبوتية كافة كواكب مجموعتنا الشمسية عدا بلوتو، كما هبط البشر على القمر وأحضرت كيلوجرامات من العينات إلى الأرض من أجل دراستها، كما أرسل العديد من الأقمار الصناعية لتدور حول المريخ، وهبطت أخرى عليه، وأعادت إلينا صورا وقياسات. ومن المقرر إجراء برنامج مكثف للهبوط على المريخ يتمثل الهدف الأساسي منه في تحديد وجود مياه وحياة على هذا الكوكب حاليا أو ما إذا كانت موجودة في الماضي البعيد. هذا وتجري حاليا دراسة إرسال بعثة بشرية إلى المريخ رغم أن البعثة الفعلية تنظر نتائج الأبحاث التي ستجعل هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر آمنة، كما أن الأقمار الصناعية التي تراقب الأرض أمدتنا بفهم مفصل على نحو استثنائي لديناميكا المناخ وأحوال الأرض والبحار. لقد تواجد البشر في المدار القريب من الأرض منذ عدة سنوات على متن محطة الفضاء الروسية/السوفييتية مير، وحاليا على متن محطة الفضاء الدولية. وسيضم مشروع ناسا «الحياة مع نجم» أسطولا صغيرا من الأقمار الصناعية من أجل دراسة الشمس؛ نجمنا، وتحديد تأثيرها على مناخ الأرض ووسائل الاتصال، والأخطار التي قد تمثلها العواصف الشمسية على الأقمار الصناعية وشبكة الطاقة الكهربائية، والبشر في الرحلات الفضائية القريبة والبعيدة. من المذهل التفكير في هذا بوصفه خطوة عظيمة إلى الأمام في رغبة الإنسان في فهم طبيعة مركز الإمداد بالحياة في مجموعتنا الشمسية؛ الشمس التي لا تقهر، التي أعلن الإمبراطور أوريليان في عام 274 أنها رمز الألوهية العالمي.
أطلق ثلاثة من مراصد ناسا الكبرى، هي: تليسكوب هابل الفضائي المذهل (بل سيطلق تليسكوب فضائي أكبر حجما منه؛ هو تليسكوب جيمس ويب الفضائي، في خلال عقد أو أكثر)، ومرصد كومبتون لأشعة جاما، ومرصد تشاندرا الفضائي للأشعة السينية. ومن المقرر إطلاق تليسكوب فضائي للأشعة تحت الحمراء في مداره في عام 2003. كل هذه، وغيرها الكثير، من أدوات الملاحظة العلمية التي كانت مستحيلة قبل هذا الوقت، تعتبر أمثلة على قدرات البشر على توسيع نطاق المغامرة. تسمح هذه الأدوات بتدفق هائل للأفكار الجديدة من أجل إجراء مزيد من الدراسة المبنية على مشاهدات غير مسبوقة من قبل. لم تكن هذه المشاهدات ممكنة في أي وقت من قبل بسبب عدم توافر مثل هذه المنصات المرتفعة.
ما الحافز وراء عمليات البحث والسفر الحالمة والمكلفة هذه؟ بالطبع توجد نتائج جانبية تجارية مهمة؛ فبث الرسائل والصور والبيانات عبر الأقمار الصناعية، والملاحة باستخدام نظام تحديد المواقع الجغرافية، ومراقبة المرضى عن بعد في وحدات الرعاية المركزة، تعتبر كلها أمثلة على التطبيقات المهمة لبرنامج الفضاء. ومن المرجح أن تتولى الدول المهتمة بالفضاء قيادة عالم التجارة في هذا القرن والقرون القادمة. ورغم أن المساعي الفضائية عليها أن تركز على الهندسة والمشكلات الفنية حتى يمكن للأجهزة أن تحلق، فإن الهدف هو إثراء الفهم العلمي للطبيعة وإنجاز مشروعات علمية أساسية لم تكن ممكنة من قبل. إلا أن ثمة هدفا رئيسيا لبرنامج الفضاء، وغيره من البرامج المشابهة، يتمثل في إشباع قوة الفضول الدافعة التي تحرك البشر المتسمين بالسعي الذي لا نهاية له، وربما تعمل، كما يقول المؤلف، على تمييزهم عن الكائنات الحية الأخرى التي تتشارك معهم في كوكب الأرض.
باروخ إس بلومبرج (الحاصل على جائزة نوبل)
نامعلوم صفحہ