جوہر انسانیت
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
اصناف
كان الأدب الإغريقي مصدر إلهام لكثير من الثقافات الأوروبية التالية؛ فعلى سبيل المثال، يظهر أثره واضحا في القصائد الملحمية مثل «ملحمة السيد» في القرن الثاني عشر، أو ملحمة دانتي أليجيري «الكوميديا الإلهية»، التي كتبت في عام 1310 تقريبا. تحكي الأولى ملحمة الجندي الإسباني «السيد»، الذي ساعدته مآثره في دفع المورسكيين إلى خارج شمال إسبانيا نحو فالنسيا. وتحكي الثانية عن رحلة خيالية للمؤلف؛ عبر الجحيم، ثم في المطهر بين الجنة والنار، ثم أخيرا في الجنة؛
24
فكان في الجحيم بصحبة فيرجيل، وفي الجنة بصحبة بياتريس بورتيناري؛ حب حياته ومصدر الإلهام في حياته. ترك إرث الدراما الإغريقية أثره في الأدب الأوروبي لعدة قرون تالية، ووصل على الأرجح إلى أوج ذروته في مسرحيات شكسبير في أواخر القرن السادس عشر. بحث شكسبير عن موضوعات من العصور السابقة، لكن كانت حداثة لغته العامل الذي جعل أعماله تظل باقية. كتب بالشعر مثل معاصريه، لكن لماذا لم يكتب الكتاب المسرحيون والشعراء الغنائيون منذ عهد هوميروس حتى القرن الثامن عشر إلا بقافية؟ هل كانوا يسعون إلى تمييز كلام الآلهة والأبطال الخياليين عن الكلام العادي، وإلا ما كان الناس سيشعرون بالراحة؟ لندع علماء الأدب يتناقشون في هذا الأمر . ومن وجهة نظرنا في هذا السياق، أود الإشارة فقط إلى أن العصر الأوغسطي في منتصف القرن الثامن عشر هو الذي شهد بداية استخدام اللهجة العامية في الدراما ومعها جاء مولد الرواية.
نظرا لأن أيا من حضارات أمريكا الوسطى والجنوبية، بخلاف حضارة المايا، لم تشهد على ما يبدو اختراع نص مكتوب، يصعب قول الكثير عن لغتهم؛ فلم يكن لديهم أدب. ونحن بالطبع نعرف ما كان يتحدث به الناس في وقت حدوث الفتح الإسباني؛ من الآزتيك في المكسيك، وبقايا المايا في يوكاتان، والإنكا في بيرو. وعبر الاحتكاك الذي حدث بينهم وبين الغزاة الإسبان أمكن تسجيل قدر كبير من تاريخهم وأساطيرهم.
إذن من خلال دراسة اللهجة العامية في حضاراتنا الأساسية استطعنا تعقب أصل اللغات التي كان الناس يتحدثون بها في جميع أنحاء أوروبا وآسيا. تشمل هذه بالطبع اللغات المستخدمة حاليا في أمريكا؛ الإسبانية والبرتغالية والإنجليزية والفرنسية. وفيما يتعلق بأفريقيا، كانت اللغات الأساسية المستخدمة في شمال القارة هي اللغات الحامية السامية، أو الأفريقية الآسيوية؛ وتضم: العربية ولغة البربر والتشادية والكوشية والعبرية والمالطية. يتحدث البربر وحدهم أكثر من 20 لغة مختلفة، وقد كانوا قبل الفتح العربي في القرن السابع يعيشون في معظم شمال أفريقيا. كانت لغتهم الأصلية النوميدية، التي عثر على كتابة مميزة لها، وكانت تستخدم في نوميديا (ليبيا حاليا) منذ ألفي سنة، عندما كان جزء كبير من شمال أفريقيا خاضعا للحكم الروماني. يتحدث باللغة التشادية أولئك الذين يعيشون حول بحيرة تشاد، التي تقع على حدود جنوب شرق النيجر، وشمال شرق نيجيريا وحدود التشاد نفسها؛ واللهجة السائدة فيها هي الهوسا. أما الكوشية فيتحدث بها الناس في الأغلب في إثيوبيا والصومال. أما المجموعات اللغوية غير المرتبطة بأي من اللغات المذكورة حتى الآن فهي النيجر والكونغو، وهي أكبر المجموعات وتمثل اللغات المستخدمة في غرب أفريقيا ووسطها وجنوبها. والخوسية التي يتحدث بها البوشمان والهوتنتوت في شرق أفريقيا وجنوبها. واللغات النيلية الصحراوية المستخدمة في أوغندا وأجزاء من السودان وكينيا وتنزانيا.
25
تثبت حقيقة وجود هذا الكم الكبير من اللغات، كل منها تختلف عن الأخرى، في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى حقيقة وجود مجموعات عرقية متفاوتة في هذا المكان أكثر من تلك الموجودة في باقي أنحاء العالم مجتمعة، وأن عملية التواصل بينها حتى عصرنا الحالي كانت ضئيلة إلى أقصى حد. كما أن هذا التنوع، كما رأينا في فصل سابق، هو الذي يعطي مصداقية للرأي الذي يفترض نشأة الإنسان العاقل في أفريقيا. (2) العلم والفن
بما أن «الفن» يعرف بوجه عام بأنه مهارة، بما في ذلك المهارة الذهنية، فهو يضم المعرفة العلمية علاوة على المعرفة العملية. وبما أن الفأس الحجرية من المصنوعات، مثل الخاتم الذهب تماما، يمكننا القول إن الإنسان ظل يزاول الفن لأكثر من مليون سنة، منذ بدء اكتسابه المهارة اليدوية والفضول المتزايد. لكني اخترت استخدام هذه الكلمة بمعناها المحدود أكثر، للإشارة إلى ابتكار الأشياء التي تخدم في حد ذاتها أي هدف مفيد؛ ومن ثم أفصل الفن عن التكنولوجيا (الفصل التاسع). يتطلب الفن والعلم بحثا؛ عن الجمال والكمال في حالة الأول، وعن المعرفة والفهم في حالة الثاني. يشتمل العلم بالطبع على الفلسفة والعلوم، وسأخصص بعض الوقت للحديث عن الأولى لاحقا (الفصل العاشر)، ووقتا أكبر للحديث عن الثانية بعد ذلك (الفصل الحادي عشر)، وسنتحدث فيما يلي باختصار عن العلم.
يعتبر بعض الناس أن الفن لا يعتمد على الفضول العقلي، لكني لست متأكدا من هذا؛ فمعظم الفنانين العظماء كان ذكاؤهم فوق المتوسط، وكما علق عازف البيانو ألفريد برندل في لقاء له مؤخرا، فإن تفسير الفن - بصرف النظر عن تكوينه - يتطلب فضولا عقليا بالإضافة إلى تقنية للوصول إلى أعلى مستوى. وقد يعكس الفرق بين الحرفي والفنان درجة المدخلات العقلية. وفيما يتعلق بجودة الفن - الفن الجيد في مقابل السيئ، والرائع في مقابل المبتذل - فهي مسألة فردية في الأساس ولن أتحدث فيها. ما يعنينا في هذا السياق هو أن ممارسة كافة الفنون، سواء المدركة بالبصر أو السمع أو اللمس، تنتج من عملية البحث من جانب صانعها.
سبق الفن الزراعة؛ فثمة فكرة طرحت في القرن الثامن عشر مفادها أن الموسيقى الغنائية هي أقدم أشكال الكلام،
نامعلوم صفحہ