72

جواهر التفسير

جواهر التفسير

اصناف

إلى ما وراء ذلك من آيات الإمتنان، التي تعم المؤمن والكافر تارة، وتخص الكافرين تارة أخرى، أما ما قيل من أن هذه العطايا التي بسطها الله للكفار ليست إنعاما عليهم، وإنما هي استدراج ولا تساوى شيئا، إذا قيست بما ينتظرهم من عقاب، فالجواب عنه: أنه وإن كانت استدراجا فهي لا تنافي أن تكون إنعاما، كما نص عليه الكتاب في خطاب بني إسرائيل، والعقاب العظيم الذي ينتظر الكفار ليس مترتبا على النعم، وإنما هو مترتب على كفرهم بها وبواهبها سبحانه وتعالى، والكفر قد كان باختيارهم، ولم يكونا عليه مكرهين.

والنعمة عرفها بعض العلماء بأنها الحالة التي يستلذها الإنسان، وقسمها بعضهم إلى دنيوية وأخروية، والدنيوية إلى روحانية وجسمانية، فالروحانية نفخ الروح وإنارة العقل وإذكاء المشاعر، والجسمانية تكوين الجسم وتجهيزه بالطاقات المختلفة والحواس المتنوعة، والأخروية هي الفوز برضوان الله والسعادة بجواره، في جنات عدن، وهي تترتب على نعمة الهداية المترتبة على التوفيق لاستخدام العقل فيما يؤدي إلى الخير، وبهذا التقسيم يتضح لك أن من النعم ما يكون مشتركا بين المؤمن والكافر، ومنها ما يكون خاصا بالمؤمنين، والمنعم عليهم هنا هم المؤمنون، لأنهم الذين وفقوا لسلوك صراط الحق، المؤدى إلى رضوان الله عز وجل، وطريقهم هو طريق العز والنصر في الدنيا، والفوز والسعادة في الدار الآخرة، فإن الله سبحانه قد وعد بالاستخلاف والتمكين للمؤمنين الملتزمين لنهج الإيمان

وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا

[النور: 55].

{ غير المغضوب عليهم ولا الضآلين }

الجمهور قرأوا بجر { غير } وابن كثير قرأ بنصبها، وروى عنه الجر، ولا إشكال في قراءة النصب، لأن { غير } يلزمها التنكير، وإن أضيفت إلى المعارف كمثل، وذلك أنك إذا قلت: رأيت غيرك فكل، ما سوى المخاطب يحتمل أن يكون المراد، وكذلك إذ قلت: رأيت مثلك فإن الاعداد المحتمل قصدها من أمثاله لا تحصى، لكثرة ووجوه المماثلة، وعليه فالنصب هنا على الحال، وأما قراءة الجر فلعلماء العربية فيها رأيان: أولهما أن تكون { غير } بدلا من { الذين } أو بدلا من الضمير في { عليهم } والوجه الثاني ضعيف، وهذا الرأي مبني على جواز الإبدال بالمشتق وما في حكمه، ويرى أبو حيان ضعفه. ثانيهما: أن تكون { غير } صفة للذين وهو مبني على أحد أمرين إما اعتبار { الذين } في حكم المعرف بلام الجنس، وهو المعبر عنه بالمعهود الذهني، فإنه يكون معرفة بالنظر إلى مدلوله وله حكم النكرة بالنظر إلى قرينة البعضية المبهمة، ولذلك يعامل معاملتها في الوصف بالجملة وهى في حكم النكرة، نحو قول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

وإما اعتبار { غير } في حكم المعرفة، نظرا إلى وقوعها بين معرفتين متضادتين، وفي مثل هذه الحالة تكتسب التعريف، نحو قولك: إلزم العلم غير الجهل، وقولك: إرغب في الحياة غير الموت، فإنه لا ضد للعلم إلا الجهل، ولا ضد للحياة إلا الموت، وكذلك قول الله تعالى: { الذين أنعمت عليهم } فإن هؤلاء لا ضد لهم إلا ما جاء بعد { غير }.

وانتقد أبو السعود إعتبار { الذين } في حكم المعهود الذهني في الإبهام، لأنه لا معنى لأن يضاف بدل { الصراط المستقيم } إلى الموصول إلا لشهرته وتميزه، المنافيين للإبهام، فإن البدل يراد به إيضاح المبدل منه. أما الزمخشري فإنه سوغ كل واحد من الإعتبارين. وابن جرير اعتبرهما في حكم الوجه الواحد، وأضاف إليه وجها آخر وهو تقدير { صراط } مضاف إلى { غير } ، وفي هذا تكلف لا يخفى على متأمل ، وأنت إذا نظرت في الرأي الأول، وجدته لا يخلو من مسوغ، فإن توغل { غير } في الإسمية كاف لإعطائها بعض أحكام الجوامد كالبدلية، وإن كانت في حكم المشتق، والوصف أيضا ليس بالضعيف لإمكان اعتبار إكتساب { غير } هنا للتعريف بسبب وقوعها بين ضدين، وقد علمت مما نقلناه عن أبي السعود بطلان دعوى أن الإسم الموصول في قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } في حكم النكرة، وبهذا تعلم عدم صحة ما قاله العلامة الساليكوتي وغيره، في تسويغ تلك الدعوى مما حاصله أنه لا صحة لإرادة جنس المنعم عليهم من حيث هو إذ لا صراط له، ولا غرض يتعلق بطلب صراط من أنعم عليهم على سبيل الاستغراق، سواء أريد استغراق الأفراد والجماعات، أو المجموع من حيث المجموع، فالمطلوب صراط جماعة ممن أنعم عليهم بالنعم الأخروية وهم طائفة من المؤمنين لا بأعيانها، فإن نظر إلى البعضية المبهمة المستفادة من إضافة الصراط إليهم كالنكرة، وإن نظر إلى مفهومه الجنسي أي المنعم عليهم كان معرفة، نقل ذلك العلامة الألوسي ولم يعقب عليه إلا بقوله: ولا يخلو من دغدغة، وبطلانه يظهر من حيث أن صراط جميع المنعم عليهم صراط واحد، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله:

نامعلوم صفحہ